الدكتور ميخائيل مشاقة
وكان ميخائيل نبيهًا ذكيًّا متوقد الذهن، فتمكَّن من القراءة في مدة وجيزة، وكان له ميل طبيعي إلى الرياضيات، فتلقَّن الحساب البسيط عن أبيه، ثم تعلَّم مسك الدفاتر.
وكان على صغر سنِّه يُجالس كبار القوم ويستفيد من أحاديثهم، فسمع من يهود دير القمر أنهم يعرفون أوان الخسوف والكسوف قبل حدوثهما، فمال إلى استطلاع كيفية ذلك فلم يستطع، فازداد قلقه، وكان يعتقد مثل اعتقاد أكثر أهل تلك الأيام من أن علم الفلك ينبئ صاحبه بالغيب.
وفي سنة ١٧١٤م قدم بطرس النحوي خال صاحب الترجمة من دمياط إلى دير القمر، وكان بارعًا في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية والطبيعية، فانتهز ميخائيل تلك الفرصة وطلب إلى خاله أن يدرسه علم الفلك، فسُرَّ بطلبه وأخذ يدرسه باجتهاد، فاكتسب منه جانبًا كبيرًا بمدة قصيرة، فأحبه خاله محبة شديدة، وأعجب بذكائه وفطنه. وفي سنة ١٨١٧م ذهب ميخائيل إلى دمياط وتعيَّن كاتبًا في محل عمه هناك، وكان كبير النفس لا يقنع بأقل من الاستقلال، فما لبث زمنًا حتى تعاطى التجارة بنفسه، واكتسب ثروة صغيرة.
واتفق أنه طالع سنة ١٨١٨م كتاب سياحة الفيلسوف فولني وآراءه، فوقع في حالة التردد من أمر الدين، وصار ذلك شاغلًا لأفكاره.
ومن غريب أخلاقه وحميدها أنه لم يكن يرى شيئًا أو يسمع به إلا أحب استطلاع كنهه، وكانت له ثقة تامة بقواه العقلية؛ ولذلك كان يعتقد أنه يقدر أن يتعلم كل ما يريده.
ويحكى أنه حضر عرسًا في مدينة دمياط كانت تصدح فيه الموسيقى، فسأله أحد الحاضرين عن لحن هل يعرفه، فأظهر البعض الآخر استخفافًا به لأنه لا يعرف الألحان، فثارت في رأسه الحمية، وعزم من تلك الساعة أن يدرس فن الموسيقى، ففعل وتمكَّن منه، حتى ألَّف فيه رسالة بديعة بعد أن أتقن الضرب على سائر آلاته.
وفي سنة ١٨٢٠م ظهر في دمياط وباء الطاعون، فرجع ميخائيل إلى دير القمر وهو لا يفتر عن المطالعة، وكان يطالع الجبر والمقابلة بنفسه.
وبعد ذلك انتدبه الأمير بشير الكبير ليكون مدبرًا عند أمراء حاصبيا، فأكرموا مثواه ووهبوه بقاعًا واسعة في جهات الحولة ونهر اللدان وقرية في قضاء القنيطرة؛ وهذا يدلنا على مقدار ما كان من إعجابهم به وبأعماله، ولكنه أصيب بمرض سنة ١٨٢٨م فاضطُر لأن يعود إلى دير القمر للمعالجة، فتعالج خمسة أشهر كان في أثنائها يلاحظ العلاج الذي كان يتناوله، ويودُّ لو أنه يعرف صناعة الطب جريًا على طبيعته — كما قدمنا. فحالما نقه من مرضه عكف على مطالعة ما وصلت إليه يداه من الكتب الطبية حتى فهم أكثرها، ولكنه عجز عن إدراك كثير من مصطلحاتها، وكان المتقدم ذكره قد عاد إلى دير القمر فأفهمه إياها، واستعان أيضًا بطبيب آخر إيطالي كان هناك.
وفي سنة ١٨٣١م جاء إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير بجنوده لافتتاح عكا، وكان بينه وبين الأمير بشير تحالف، فجاء الأمير لمعاضدته في ذلك الحصار، وقدم ميخائيل مشاقة برفقة الأمير؛ ومن ثَمَّ انضم إلى الجنود المصرية ورافقها إلى دمشق وحمص يطبِّب جرحاها والمصابين بالكوليرا (الهواء الأصفر)، ثم رجع إلى دير القمر. وقد لحقه بسبب حروب إبراهيم باشا خسائر جسيمة مالية، حتى اضطُر للتطبيب بالأجرة، وكان قبل ذلك يُطبب مجانًا. ونزح إلى دمشق وأقام فيها، واغتنم وجود الدكتور كلوت بك الشهير هناك مع الحملة المصرية، فطالع ما نقصه من الطب عليه، فتمكَّن من تلك المهنة حتى ولته الحكومة رئاسة أطباء دمشق.
ولم يكن يقنع بعلمٍ دون آخر، فلمَّا تمكَّن من الطب طلبت نفسه شيئًا آخر، فدرس المنطق وتوسَّع فيه، وعندما خرجت الجنود المصرية من سوريا تعيَّن مترجمًا للسير وود الذي أُرسل قنصلًا لدولة إنكلترا في دمشق.
وفي سنة ١٨٤٦م قدم الديار المصرية وواظب على ممارسة العمليات الجراحية في مدرسة قصر العيني حتى نال الدبلوما الطبية مع لقب دكتور، ثم عاد إلى دمشق، وتحرَّكت أفكاره في أثناء ذلك حركة دينية، فجعل يتردد بين الديانة المسيحية وما ذهب إليه فولتير حتى وقع على كتاب البينة الجلية، فأخذ يراجع فيه وفي غيره لعله يهتدي إلى ما يريح ضميره من التردد، ثم أخذ يطالع كتبًا جدلية بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت، وجرى بينه وبين البطريرك مكسيموس مظلوم إذ ذاك مجادلات طويلة انتهت بانحيازه إلى طائفة البروتستانت، وصار من أكبر المدافعين عنها وعن تعاليمها تكلمًا وكتابة.
وفي سنة ١٨٥٩م تعيَّن فيس قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في دمشق، وفي السنة التالية كانت الثورة المشهورة، بل المذبحة المعلومة في دمشق وغيرها من سوريا، فأصاب الدكتور مشاقة جراحٌ كثيرة، ولولا مساعدة الأمير عبد القادر الجزائري ما نجا من القتل، ولكنه تمكَّن بمساعدته من الالتجاء إلى مكان طبَّب فيه جراحه حتى شُفي.
وبقي هذا الرجل عاملًا في الطب والسياسة والديانة والفقه والحساب وسائر أنواع العلوم حتى كانت سنة ١٨٧٠م، فأصيب بفالج بجانبه الأيمن، فانقطع عن أشغال القنصلية، فأحيلت لولده نصيف بك.
أما هو فلم ينفك عن العمل في بيته، ولم يكن يخلو منزله من الزائرين على اختلاف الأجناس والطبقات لمشاهدته وتحقق ما سمعوه عنه، وقد أتيح لنا الحظ بزيارته سنة ١٨٨٣م في منزله بدمشق، فإذا به رجل ذو هيبة ووقار يُجلِّله الشيب، يلبس العمامة والجبة، طويل القامة، كبير الجثة، لطيف الحديث، واسع الاطِّلاع، كثير الترحيب بزائريه كسائر أهل دمشق، وقد اطَّلعنا على كثير مما كتبه ولم يطبعه من المؤلفات، وفي جملة ذلك رسالة في الألحان الموسيقية العربية، ومطوَّل في الحساب والمعين على حساب الأيام والأشهر والسنين، مذيل بجداول لمدة مائة سنة تحتوي على مطابقة أيام الشهور العربية والرومية والقبطية والعبرانية والهجرية، ومواقع كسوف الشمس والقمر لطول دمشق وعرضها، وغيرها.
أما الكتب التي طُبعت من مؤلفاته فأكثرها ديني جدلي، وفي جملتها كتاب سمَّاه البرهان على ضعف الإنسان، جوابًا لصديق له كان تابعًا لتعاليم فولتير، وقد طبعت مجلة المشرق رسالته في الصناعة الموسيقية. ومن مؤلفاته «الجواب على اقتراح الأحباب»، وفيه ترجمة أسرته وحوادث أيامه، قد طُبع مؤخرًا باسم «مشهد العيان».
وكانت وفاته في السادس من شهر يوليو (تموز) سنة ١٨٨٨م في دمشق الشام، وله من العمر تسع وثمانون سنة، قضاها في العمل والاجتهاد وخدمة بني الإنسان.