الشيخ محمد العباسي المهدي١
هو ابن الشيخ محمد أمين المهدي، مفتي الديار المصرية الأسبق، المتوفى سنة ١٢٤٧ﻫ، نجل المغفور له شيخ الإسلام الشيخ محمد المهدي.
ولد صاحب الترجمة سنة ١٢٤٤ﻫ، وتوفي والده وهو ابن ثلاث، وأخوه الشيخ محمد عبد اللطيف المهدي ابن خمس، وكان لأبيهما شركة مع والي مصر الأسبق المرحوم إبراهيم باشا في مصنوعات القصر من أقمشة وغيرها من تجارة الأقطار السودانية، وبعد والد المترجم حصرت المعية تركته باعتبار أنه مدين. وقد استمر المترجم وأخوه في اضطهاد وضيق عيش بسبب ذلك حتى تأهلا لطلب العلم بالأزهر الشريف، واجتهدا في تحصيله على المرحوم الشيخ السقا والشيخ البلتاني والشيخ خليل الرشيدي، ثم لما ظهر الحق للمغفور له إبراهيم باشا في أمر إدانة والد المترجم أفرج عن التركة، واستدعى المترجم وأسدل عليه خلعة الإفتاء في محفل من الأكابر والعلماء، ونزل بموكب حافل في ذي القعدة سنة ١٢٦٤ﻫ، وكان حين ذاك يحضر مقدمة السعد على الشيخ السقا.
ومما استلفت أنظار الجناب العالي إلى إعادة تلك المناصب العالية إلى ذلك البيت أن شيخ الإسلام في الآستانة أوصى المرحوم إبراهيم باشا بنجلي المرحوم محمد أمين المهدي مفتي مصر الأسبق؛ لما كان يعهده في أبيهما من الأمانة وحسن المعاملة والحماية عن الدين.
وحيث كان عمر المترجم إذ ذاك إحدى وعشرين سنة قد عين أستاذه الشيخ خليل الرشيدي أمينًا للفتوى، ولحداثة سِنه أيضًا لاقى من أهل صناعته ما دعاه إلى التحري والتحرز، حتى أصبح أجدر أئمة عصره بهذه المكانة الرفيعة علمًا وسياسة.
ومن جليل مقترحاته أنه اخترع تطبيق الوقائع على النصوص الشرعية، كما يشهد بذلك كتابه «الفتاوى المهدية».
ثم ظهرت فيه الكفاءة التامة لأعظم وظائف الإسلام؛ لِمَا كان له من الإدارة ولين العَرِيكة والاقتدار العلمي والحزم والدهاء، فأسدلت عليه شياخة الإسلام مع الإفتاء في عهد المغفور له إسماعيل باشا في منتصف شهر شوال سنة ١٢٨٧م، فدبر نظامها وأعاد لها ما انحل من مرتباتها إلى أن ظهرت الفتنة العرابية، فعزل عن شياخة الإسلام لتوقفه عن التوقيع على طلب عزل الخديوي السابق توفيق باشا، بعد أن بذل من الحزم والدهاء والسياسة والشهامة ما حير به الألباب، ولم يتمكن أحد من أن يمسه بسوء مع أهل تلك الفتنة من الاستبداد والانتقام من وضيع ورفيع، ومن حسن تدبير المترجم ظل ناعم البال محبوبًا لدى الأكابر والأمراء.
ثم بعد ما خمدت نار الثورة، وراقت سماء السياسة، وانجلت تلك الأباطيل، وكانت الدائرة على أهل التضليل، أعيدت إليه شياخة الإسلام بالاستحقاق، واستمر هكذا مقلَّدًا بكلتا الوظيفتين حتى عزل عنهما لمعارضته الحكومة فيما خالف الشريعة الغراء في عهد المرحوم الخديوي السابق توفيق باشا يومئذ، وأعيدت شياخة الإسلام للشيخ الإمبابي، وقلد الإفتاء الشيخ البنا.
وكان الشيخ البنا المذكور شديد الثقة باقتدار المترجم في العلم، وغَيْرته على الدين، حتى كان إذا سألته الحكومة أن يقضي في أمر مهم أعلنها بأنه لا يقول في الأمر شيئا إلا بعد أن يعرضه على المترجم، فكانت الحكومة تلح عليه في الطلب، وتقول له: أنت المفتي الرسمي لا هو، فكان يجيب: وإن كنت ذلك إلا أنه هو صاحب القول في الدين، واستمر ذلك إلى أن عاد الإفتاء إلى المترجم بعد قليل، واستمر معه إلى أن اعتراه مرض المنية، وقد عين في أثناء تمرضه الشيخ حسونة النواوي وكيلًا عنه، ثم أصيلًا بعد حياته، واستمر نحو سنتين، وعزل عنه وتقلده المرحوم الشيخ محمد عبده.
وقد كان المترجم صاحب الحق دون غيره في تعيين القضاة الشرعيين والمفتين (بخلاف الآن؛ فإن الحقانية هي صاحبة الحق وحدها)، وكان يعين الأَكْفاء الغيورين، ولذا كان يذب عن حقوقهم في كل ما يرى فيه مساسًا لكرامتهم؛ فقد أتاه الشيخ حسن العدوي مستغيثًا به حينما استصدر شيخ الإسلام الشيخ مصطفى العروسي أمر المغفور له إسماعيل باشا بإبعاده، فتوسط له في العفو.
وقد كان المترجم (رحمه الله) شديدًا في الدين، لا يقول غير الصدق، ولا يحيد عن الحق، لا تثنيه المرهفات، ولا تورطه المرجفات؛ كم رأى في سبيله من العقبات فأزالها بسيف هذا الدين، وكم اؤتمن على أرقى المناصب فأداها بالأمانة، وكم هدده الأمراء بالقتل والنفي فلم يُجْدِهِمْ منه شيء، ولم يَرَ غير تعزيز الإسلام ملاذًا لتطهير ذمته وشفيعًا له عند ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
طلب منه المرحوم عباس باشا الأول فُتيا بأن ما بأيدي عائلة محمد علي باشا الأكبر من أطيان وأملاك هو حق لبيت مال مصر؛ إذ هو حاصل لهم من مال المصريين، لما ظنه الوالي من أحقية بيت المال به، فلم يُفْتِهِ، بل قال: «لا يُسأل المالك مِنْ أين مَلَكَ»، وقد جوز ذلك وأفتاه به بعضهم، ولما كان من الرسميات إفتاؤه تولى الطلب، وهو لا يتحول عما أجاب به، إلى أن أمر بنفيه في شهر رمضان إلى أبي قير، حيث كان بها الوالي يومئذ، وكرر عليه الطلب فأجابه أخيرًا: «إن الأمير يأبى أن أترك الشرع حتى يقال عني غيَّر أحكام الله وأهان الشريعة السمحاء، ومع ذلك أنا قابل النفي والقتل في سبيل تعزيز ديني»، فلما رأى الوالي أن ذلك غير مُجْدٍ، وأن المترجم مخلص لدينه ولا غرض له غير إعلاء كلمته، أعاده إلى مصر وأنعم عليه؛ إقرارًا بأحقية ما فعل، وجزاءً له على ما أصاب، وبهذا كان بينه وبين الأمراء المودة المكينة بعد عرفانهم بقيمته؛ فقد كان بينه وبين سعيد باشا مودة يُضرب بها المثل، وخلع عليه الخلع الجزيلة، ومنحه المنح الجليلة.
وقد كان المترجم عضوًا في المجلس العلمي مع شيخه الشيخ السقا والشيخ العروسي والشيخ البقلي، وكان إسماعيل نائبًا عن الوالي سعيد باشا، وقد صادفهم أمور معضلة قد توقف هو وحُماة الدين الأعضاء المذكورين عن التصديق عليها؛ لجنوحهم عن الأغراض والسير على غير نمط الشريعة الإسلامية.
وقد كانت عضوية هؤلاء الأفاضل سببًا عظيمًا في معرفة الخديوي الأسبق إسماعيل باشا قدر رجال الدين وقدر المترجم، حتى ثبت مودة المترجم في فؤاده.
ومما رفع مكانته لدى الأمير المذكور أنه أراد إلحاق الأوقاف الأهلية بالأوقاف العمومية حينما كان ناظرها، وأراد أن يستعيض أربابها ما يكلف معاشهم، وسأله الفتيا بالجواز حتى عظم الأمر لدى الأمير المذكور، وتجمهر المخالفون له، إلى أن توالت إليه الرسائل وازداد التهديد، فأعلن المترجم أنه ليسهل عليه تجرده مما يملك وما ورث عن آبائه من أن يعلن أنه حكم بما لم ينزل الله، وأنه حابى بدينه، أو راعه التهديد فراعى جانب المخلوق أو أخذته في الدين لومة.
فبعد ذلك دعاه الوالي وعقد مجلسًا تحت رئاسته ليقف على حقيقة الخلاف، فحضر المترجم ودار حديث الشيخ مع مخالفيه الواحد بعد الواحد، حتى أجمع الجميع وأقروا بخطئهم، فازدادت مكانته رفعة، وشكره الوالي لمحافظته على حقوق الشرع الشريف، وألغى إفتاء غيره، وصار المترجم مورد استشارة الحكومة في المهمات، حتى أوصى المرحوم إسماعيل باشا نجله المرحوم توفيق باشا بالمحافظة على المترجم، واستشارته في المعضلات؛ لأنه رجل الدولة والدين.
ثم إن إسماعيل باشا شرع في بيع شركة إلهامي باشا لرغبته في أطيانها لدَيْن غير مستغرق، فتوقف معه المترجم، وأورد إليه سبيلًا حلًّا حتى ينال قصده بما هو أطهر وأطيب عند الله، فأشار باقتران ولي العهد بكريمة المدين، وقد رأى الوالي هذه الطريقة أنسب وأحفظ فاتبعه. وهكذا صار المترجم طول عمره في دفاع عن الدين؛ خصوصًا في وظيفة الإفتاء التي استمرت معه اثنتين وخمسين سنة. وأما الشياخة فاستمرت ثماني عشرة سنة، ثم أصيب بنقطة وهو يتوضأ لأداء فريضة الجمعة، وأحيلت وظيفة الإفتاء إلى شيخ الجامع بصفته وكيلًا عنه كما ذكر، وقد كان ملازمًا لأداء الفريضة جماعة طول عمره حتى في أيام مرضه الذي لازمه أربع سنين، حتى مات في ليلة الأربعاء ١٥ رجب سنة ١٣١٥ﻫ لاثنين وسبعين من العمر.
وأشهر مؤلفاته كتاب «الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية»، وهو كتاب مطول في الإفتاء، طبع بمصر في سبعة أجزاء، وهو مشهور ومتداول.