مارون النقاش
ولد (رحمه الله) في صيدا سنة ١٨١٧م، وتربَّى في بيروت، وكان من حداثته ميالًا إلى العلم، فأتقن الآداب اللسانية وغيرها؛ كالصرف والنحو والعروض والبيان والمنطق. وأخذ في نظم الشعر وهو في الثامنة عشرة، وتعلم الحسابات التجارية على الأصول الإفرنجية، وعلَّمها لكثيرين، فكان إمام هذا الفن في بيروت، وتعلَّم أيضًا القوانين التجارية، وكان التجار يرجعون إلى رأيه فيها، وأتقن اللغة التركية والإيطالية والفرنساوية، وكان له ولع بالموسيقى، وارتقى في مبدأ عمره إلى رئاسة كتَّاب جمرك بيروت، ثم انقطع للتجارة إلى آخر حياته.
وكان فيه ميل إلى السفر مع صعوبته في ذلك الحين، فساح في سورية كلها، ثم جاء الإسكندرية ومصر سنة ١٨٤٦م في أواخر أيام محمد علي، وشخص منها إلى إيطاليا، وهي يومئذ لا تزال أكثر ممالك أوروبا علاقة بالشرق، وحضر فيها تمثيل الروايات على المراسح، فأدهشه ما في ذلك من اللذة والفائدة بتمثيل العبرة حتى يراها الناس رأي العين. وخطر له أن ينقل هذا الفن إلى العربية لفائدة أبناء وطنه، وأخذ في العمل حال رجوعه إلى بيروت، فضم إليه جماعة من أصدقائه الشبان النجباء الأدباء، وأخذ يعلمهم التمثيل، وألَّف لهم رواية «البخيل»، وهي أول رواية تمثيلية أُلِّفت في اللغة العربية، فعلَّمهم أدوارها حتى أتقنوها، ومثلوها في بيته سنة ١٨٤٨م في ليلة حضرها قناصل المدينة وأعيانها، فأعجبوا بما شاهدوه من دقة التمثيل وإتقان التأليف مع حداثة هذا الفن، فشاع خبر ذلك حتى تناقلته الصحف الإفرنجية، فزاد نشاطًا وإقدامًا، فألَّف رواية «أبي حسن المغفل» أو «هارون الرشيد»، مثَّلها في بيته أيضًا في أواخر سنة ١٨٥٠م، ودعا إليها والي سورية وبعض الوزراء ورجال الدولة، وكانوا — يومئذٍ — في بيروت، فأعجبوا به وأثنوا على نشاطه، فلما تحقق نجاح عمله أنشأ مرسحًا خاصًّا بالتمثيل بجانب منزله خارج باب السراي بفرمان سلطاني — وقد تحول بعد موته إلى كنيسة عملًا بوصيته.
وفي هذا المرسح شخَّص رواية الحسود السليط، وهي كثيرة الفكاهة والعبرة، وكان مع ذلك يتعاطى أشغاله التجارية، وإنما يشتغل بالتمثيل حبًّا في الفن، وكذلك سائر أصدقائه الممثلين، وكانوا في بادئ الرأي يتزلَّفون إلى الناس ويتملقونهم ليحضروا تمثيلهم، ثم صار الناس يتقاطرون إليهم، وقد نبغ منهم بعد ذلك جماعة من كبار الوجهاء وأهل الأدب، ولو مد الله بأجل النقاش لكان لفن التمثيل شأن آخر، ولكنه توفي سنة ١٨٥٥م في طرسوس، وكان قد ذهب إليها لبعض أشغاله التجارية، وهو لم يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره.
فخلف النقاش في أهل بلاده حب التمثيل، ورغَّب بعض أدباء بيروت في هذه الصناعة، فجعلوا يمثلون الروايات في المراسح الخصوصية أو المدارس الكبرى أو المراسح العمومية؛ وأشهرها مرسح سورية، ولا يزال باقيًا إلى اليوم، ومن قدماء المشتغلين بالتمثيل في سورية بعد النقاش سعد الله البستاني، مثَّل رواية انتظم في سلكها جماعة من نوابغ الشبان — يومئذٍ — ومنهم الآن غير واحد من العلماء وأهل الوجاهة.