هو جميل بن نخلة المدوَّر، وُلد في بيروت ببيت مجدٍ وأدب، وخدم آداب هذا اللسان خدمة
حسنة يذكرها له التاريخ ما بقيت اللغة العربية، نعني كتابه «حضارة الإسلام في دار
السلام»، فإنه من الآثار الباقية، وقد مثل به ما بلغت إليه الدولة العباسية من أسباب
الثروة والترف والعز والسؤدد، برسائل على لسان رحالة فارسي قدِم بغداد في أوائل تلك
الدولة، فلقي المهدي والرشيد وغيرهما، ووصف حال تلك الدولة سياسيًّا واجتماعيًّا
وأدبيًّا وتجاريًّا على أسلوب بليغ تلذ مطالعته، وأشار في الحاشية إلى المآخذ التي نقل
عنها. من ذلك قوله على لسان ذلك الرحالة يصف دار الخلافة وداخلية بيت الرشيد:
لقد مضى بي في بغداد بعد العودة من خراسان نحوٌ من ست سنين، ما زلت منقطعًا
فيها إلى البرامكة، وحافظًا لمقامي في الدولة تحت ظلهم وعنايتهم، وكنت أتردد في
خدمتهم إلى دور الخلافة فأقف على أحوال الرشيد في داخليته وأهل بيته، فرأيته —
أعزه الله — صالح السيرة، شديد الإعراق في الدين، محافظًا على أوقات الصلاة
١، وشهود الصبح لأول وقتها، يصلي في كل يوم وليلة مائة ركعة، لا
يتركها إلا لعلة تطرأ عليه، وأذكر أنه لما حصل في العام لزْنَةٌ وغلاء سعر
للناس، واشتد الكرب عليهم اشتدادًا عظيمًا، أمرهم بكسر الملاهي وكثرة الدعاء والتوبة
٢؛ فذلك دليل فيه على حسن العبادة، أو مظهرٌ يروم منه تأييد الدولة
بإيهام الأئمة والعلماء أن الإسلام مغتبط بمناحيه.
ولئن كنت رأيت له في تدبير المملكة ذلك التصرف الجميل فإني ما وجدته له في
تدبير أهل بيته ومواليه، وإنما يرجع الرأي في ذلك إلى زوجه أم جعفر، وهي أنفذ
نساء العباسيين كلمة في الدولة؛ إذ كانت خير بنات بني هاشم، وقد ربِّيت على
مهاد الدعة والدلال، كما يشير اسمها إليه، فإنها سميت بزبيدة لغضاضة بدنها
٣، وكان جدها أبو جعفر يرَقِّصها تهللًا بها
٤، وينظر إلى غضاضتها وملاحتها فسماها بزبيدة لذلك، فلما بنى بها
الرشيد، ووجدها طرفةَ حديث ومصدرَ رأيٍ جميل، لم يرَ بُدًّا من الانقياد إليها في
قضاء جميع ما ترومه من الحوائج
٥، حتى إذا مكَّنها من بيوت المال أنفقت من سعةٍ ما ينيف عن ثلاثين
ألف ألف دينار، فبنت مسجدًا مباركًا على ضفة دجلة بمقربة من دور الخلافة يسمى بمسجد زبيدة
٦، ومسجدًا ساميَ الحُسن في قطيعتها المعروفة بقطيعة أم جعفر
٧ بين باب خراسان وشارع دار الرقيق
٨، وحفرت العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، ومهدت الطرق لمائها في
كل خفضٍ ورفعٍ وسهلٍ ووعرٍ
٩، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلًا إلى مكة
١٠، فبلغ جملة ما أنفقت عليها ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار
١١، وهذا من الأعمال التي لم تباشرها امرأة في الإسلام إلا الخيزران
أم الرشيد؛ فإنها عمرت كثيرًا من المساجد
١٢ أيضًا، وبَنَتْ دار ابن يوسف بمكة التي ولد فيها النبي
ﷺ
مسجدًا جزيل البركة
١٣، وتوفرت عندها الأموال حتى بلغ الذي خلفته مع ما توسعت فيه من
النفقة مائة ألف ألف درهم
١٤، فإن لم يكن لزبيدة من الأموال الخاصة ما يبلغ هذا القدر الجسيم
فإن لها بالسياسة رأيًا يسمو بها إلى التداخل في أمور الدولة كأفطن ما يكون من
الرجال.
وقد صيَّر الرشيد الأمر في داخلية بيته بعد زبيدة إلى مسرور خادمه العبد
١٥، وهو حاجبه وسيد مواليه
١٦، وله في قصور الخلافة دواوين يقيم فيها حوزته من خدم وحرس وغلمان،
والكاتب له هو زياد بن أبي الخطاب
١٧، يقيم بمقربة من مجلس يوسف بن القاسم صاحب ديوان الإنشاء، والذي قام
١٨ بين يدي الرشيد حين أخذت له البيعة على المسلم. وفي ذلك دليل على
مكان كتابه من الشرف وعلو المرتبة، ولا غروَ فإن له من نفاذ الكلمة في الدولة ما
ليس للأمراء والحكام مثله؛ إذ كان سيد دور الخلافة والحارس لها، لا يدخلها شيء
ولا يخرج منها شيء إلا بعلمه وإذنه، وكثيرًا ما كنت أرى الملوك يتزلفون
بالهدايا إليه ليخاطب الرشيد في حاجاتهم؛ إذ ليس في أهل بيته من يتجرأ عليه سواه
١٩، حتى كان إذا ركب لا يجسر أحد على سؤاله إلى أين يذهب غيره
٢٠.
وإلى مسرور هذا الخصي الأمر فيما هو خاص بالسراري والقيان، وإنهن لكثيرات في
دار الرشيد، يبلغن زهاء ألفي
٢١ جارية، يرفلن في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر … غير
أن المقدم عليهن ثلاثٌ أهداهن إليه الفضل بن الربيع: سحر وضياء وخنث ذات الخال،
لهن صورة تستنطق الأفواه بالتسبيح، وعيون لا ترتد إلا باقتناص النفس، وهن
اللواتي يهواهن ويقول فيهن الشعر
٢٢؛ ومن ذلك قوله:
أخذتْ سحرٌ ولا ذنبٌ لها
ثلثي قلبي وتِرْباها
الثُّلُثْ
إن سحرًا وضياءً وخنث
هن سحرٌ وضياءٌ
وخنثْ
وكنت إذا حضرت مجلسه وهن يغنين له من وراء الستارة، ومعهن غانية منقطعة إلى
حمدونة بنته يقال لها دقاق، لم يطق الستر أن يحجبهن عن نظره، فيخرجهن إليه
ويقول: والله، لا صبر لي على الحجاب، وإنما هو ضعف يميل بي مع هوى
النفس.
أما حريم الخلافة فإنه دوائر كبيرة لا اتصال لها في بعض، ولكل هاشمية من بنات
الخلفاء دائرة منفردة عمَّا سواها من الدوائر، وأعظمها دائرة أم جعفر، ودائرة
أولاد المهدي، ودائرة أولاد الهادي، ودائرة أولاد الرشيد من غير زبيدة زوجه،
ولهن جميعًا من الخدم والغلمان والخصيان ما ينتهي إليه إسراف الملوك في السعة،
ويتجلى به جمال السلطان بالزينة والإشراق، وحسبي من انغماسهن في النعيم وتقلبهن
على مهاد الدعة والرخاء أنهن يجلسن على فُرُش الحرير، ويتخذن الْمِخَدَّات حشوها من
الورد النثير …
وكنت أرى الجواري من خدم الحاشية يلبسن الوشي المنسوج بالذهب، ويتخذن العصائب
مكللة بالجوهر. وهذه هي الزينة التي عمَّت نساء القصر؛ اقتداءً بِعُلَيَّة أخت
الرشيد؛ إذ كانت أول من اتخذ العصائب لعيب في جبينها، فسترته بها، فكان ذلك
أحسن ما ابتدعته النساء، ثم اتخذها بعدها سحاء جارية إسحاق النديم، وفريدة ومنة
من مغنيات البرامكة، حتى انطلق استعمالها في جميع النساء، وصرن يكتبن عليها
الكلام الذي يروق لأهل الهوى …