علي باشا مبارك١
ولد في قرية برنبال الجديدة من مديرية الدقهلية سنة ١٢٣٩ﻫ، واسم والده الشيخ مبارك بن مبارك بن سليمان بن إبراهيم الروجي، وابتدأ في تعلُّم القراءة والكتابة على رجل من أهل القرية أعمى، ثم نزحت العائلة إلى ناحية الحماديين فلم يَطِب لهم المقام فيها، فارتحلوا إلى عرب السماعنة بالشرقية، ولم يكن عندهم فقهاء، فأنزلوا والد صاحب الترجمة منزل الإكرام، وصار مرجعهم إليه في الأمور الدينية؛ لأنه كان صالحًا تقيًّا متفقهًا، فاعتنى بتربية ولده بنفسه، ثم عهد تعليمه إلى معلم اسمه الشيخ أبو خضر في مكان قرب برنبال، لا يذهب إلى والده إلا كل يوم جمعة، فختم القرآن بسنتين، ولكنه ترك معلمه لكثرة ضربه له وجعل يقرأُ على والده.
على أَنَّ كثرة أشغال الشيخ مبارك حملت صاحب الترجمة على اللهو واللعب حتى نسي ما كان قد تعلَّمه، فأشفق والدُهُ عليه؛ لئلا يعيش بغير تعلُّم، فأراد إجبارَه على العود إلى معلمه فأبى خوف ضربه، فتوسط له أشقاؤُهُ لدى والده، فسأله عما يريد تعلُّمه، ففضَّل العدول عن الفقه ورغب في الكتابة؛ لِمَا كان يرى من حُسن زي الكتَّاب وهيبتهم، وكان لوالده صديقٌ يتعاطى الكتابة في القسم بناحية الأخيوة، فعهد إليه تعليمه، فأنس عليٌّ به وألفه حتى اختلط بعائلته، فرأى حالته الداخلية غير ما كان يراه منه في الظاهر، واتفق أنه سأله مرة كم يجمع الواحد والواحد، فأجابه «اثنين»، فضربه بمقلاة البن فشجَّ رأسه، وكان ذلك في محضر من الناس، فشقَّ ذلك على عليٍّ، فغادره وسار إلى والده يشكوه إليه، فنقم عليه والدُهُ فَفَرَّ من البيت إلى المطرية جهة المنزلة ملتجئًا إلى خالة له هناك.
ثم سعى له بعضُهُم في أن يكون كاتبًا لدى مأمور زراعة القُطن في أبي كبير، فحضر بين يدي المأمور؛ واسمه عنبر أفندي، فإذا هو حبشي اللون، لكنه سمح الوجه، ورأى المشايخ والحكام وقوفًا بين يديه، فتأخر حتى انصرفوا ثم دخل عليه، وقبَّل يده، فخاطبه بكلام رقيق عربي فصيح، والتمس خدمته عنده على أن يدفع إليه ٧٥ قرشًا شهريًّا مع كفاءته من العيش، فسُرَّ عليٌّ بذلك، ولكنه عجب لحال هذا المأمور المخالفة لسواد وجهه؛ لاعتقاده أَنَّ الحكام لا يكونون إلا من الأتراك.
وما زال يتحرى الأسباب التي جعلت ذلك العبد حاكمًا حتى علم أخيرًا أنه معلِّم في مدرسة قصر العيني، وأن تلك المدرسة تعلِّم الخط والحساب واللغة التركية، فسأل إذا كان يجوز للفلاحين الانتظام فيها، فقيل له إنما يدخلها مَن ساعدته الوسائط، فاتقدت في قلبه نار الغيرة، ومال بكلِّيته إلى الدخول في تلك المدرسة على بُعدها عن مقره وقلة وسائطه، فاستأذن رئيسَه يومًا مدَّعيًا الذهاب إلى بيت أبيه، فأذن له فغادر البلدة، والتقى في قرية بني عياض بطريقه بتلامذة مدرسة الخانقاه، فأراد أن يدخلها؛ لعلمه أن تلامذة قصر العيني إنما ينتخبونهم من هذه المدرسة، فأجبره والده أن لا يفعل، واختطفه قهرًا وحمله إلى بيته، وعهد إليه رعاية الماشية، ولكن ذلك لم يحوِّلْه عن عزمه، ففرَّ ذات ليلة حتى جاء المدرسة، ودخلها ولم يخرج منها ليلًا ولا نهارًا؛ خوفًا من أن يلقاه والدُهُ فيختطفه ويرجع به إلى البيت.
ولم يكن والده يكره تعليمَه، ولكنه يودُّ بقاءه قريبًا منه، ثم جاء بعد ذلك ناظرُ تلك المدرسة لانتخاب أنجب التلامذة وإدخالهم في مدرسة قصر العيني — ولم تكن فيها دراسةُ الطب بعد — فكان عليٌّ من المنتخبين؛ لذكائه وفطنته، فدخل تلك المدرسة سنة ١٢٥١ﻫ، وسِنُّهُ ١٢ سنة فقط.
وكانت معاملةُ التلامذةِ هناك سيئةً ومهينة جدًّا، والطعام تافهًا قبيحًا، فأوقع صاحب الترجمة في مرض الجرب، واشتد عليه، فعلم والده بذلك فأراد استخراجه من المدرسة بالحيلة؛ لأنهم لم يأذنوا له بإخراجه، فلم يرضَ عليٌّ، بل فضَّل البقاء في المدرسة؛ رغبة في إتمام علمه، فقبَّله والده وودَّعه وهما باكيان.
وفي السنة التالية سنة ١٢٥٢ﻫ نقه من مرضه وعاد إلى دروسه، ولكن محمد علي باشا أمر بأن تجعل مدرسة قصر العيني لتعليم صناعة الطب، فنقل تلامذة العلم منها إلى مدرسة أبي زعبل، وكانت العلوم الرياضية لديه إلى ذلك الحين كالطلاسم لا يفهم لها معنًى؛ لتعقدها وسوء طرق تدريسها، فاعتنى ناظر تلك المدرسة المرحوم إبراهيم بك رأفت بإلقاء تلك الدروس بنفسه، يشرحها للتلامذة بأبسط عبارة — قال صاحب الترجمة: «وكانت طريقتُهُ هذه باب الفتوح عليَّ.»
وأخذ عليٌّ من ذلك الحين يذوق لذة العلم على أنواعه، ثم انتخب فيمن انتخب لمدرسة المهندسخانة، فدرس فيها خمس سنوات.
وفي سنة ١٢٦٠ﻫ عزم المغفور له محمد علي باشا على إرسال أنجاله إلى فرنسا للتعلُّم، فانتخب عليٌّ في جملة تلك الإرسالية، فأقاموا في باريس سنتين ثم أُرسل بعضهم — وفي جملتهم هو — إلى متس، وقد تقلَّد كلٌّ منهم رتبة الملازم، فأقاموا في هذه أيضًا سنتين، درسوا فيها فَنَّ الحرب وما يتعلق به.
ثم لَمَّا توفي المغفورُ له محمد علي باشا وتولى عباس باشا استقدم الإرسالية إلى مصر، وأنعم على صاحب الترجمة ورفاقه برتبة يوزباشي، وأُلحق هو بالجيش المصري، وقائده إذ ذاك سليمان باشا الفرنساوي الشهير، ثم انتدبه المغفور له عباس باشا الأول ليكون في لجنة الامتحانات التي عيَّنها لامتحان مهندسي الأرياف، فقام بتلك المهمة حق القيام.
وفي سنة ١٢٦٦ﻫ أوعز إليه عباس باشا أن ينظم أُسلوبًا للمدارس مع الاقتصاد بالنفقة، فنظمه وقدَّمه إليه، فأعجبه وأنعم عليه بمقابل ذلك برتبة أميرالاي، ولكنه طلب إليه أن يتولى نظارة تلك المدارس بنفسه، فاهتم بذلك أشد الاهتمام، ولم يكتفِ بالإدارة، ولكنه كان يؤلِّف بعض الكتب اللازمة للتدريس، وأتى إلى المدرسة بمطبعة حجر لطبع الكتب، وكان يراقب سير المدارس جيدًا من النظافة والترتيب وطرق التعليم، وألَّف في العمارة كتابًا للتعليم (لم يُطبع).
وما زالت الحال كذلك حتى تولى المغفور له سعيد باشا، فوُشي إليه به، ففصله من نظارة المدارس، وبعث به في الحملة التي سارت لمحاربة روسيا مع الدولة العلية سنة ١٢٧٠ﻫ، فسافر وقاسى أهوالًا كثيرة، وعاد سالمًا، وعند عودته كان في جُملة من أُخلي سبيلهم من العسكرية، فعاد إلى مسكن حقير أوى إليه لا يملك شيئًا، ولم يلتفت إليه أحد ممن كانوا له أصدقاء وقت الرخاء.
مكث سنين في هذه الحال حتى أنف المناصب والرتب، وأَلِف العزلة والسكنى بعيدًا عن الناس، وعزم على العود إلى بلدته، وفيما هو في ذلك صدر الأمر بفرز ضباط الجهادية لانتقاء الصالحين منهم للخدمة، فكان هو من المختارين، فتقلَّد منصب معاون في نظارة الجهادية، ثم تعيَّن وكيلًا لمجلس التجار، ثم مفتشًا لنصف الوجه القبلي، ثم أُقيل من هذه المناصب وتبرَّع بتعليم الضباط والصف ضباط القراءةَ والكتابة والهندسة، وفي أثناء ذلك ألَّف كتابًا في الهندسة سمَّاه «تقريب الهندسة»، وكتابًا آخر في الاستحكامات، وآخر سمَّاه تذكرة المهندسين.
ثم رُفِتَ فضاقت ذاتُ يده، حتى عزم على معاطاة التجارة، فاشترى جانبًا من الكتب كانت الحكومة عرضتها للمبيع بأثمان بخسة، فاشتراها وباعها، فربح منها ربحًا حسنًا، ولكنه ما زال قانطًا مما كانت تطمح إليه أنظارُهُ من المناصب بسبب تغيُّر سعيد باشا عليه بما وشي به إليه — كما قدمناه — فلما توفي سعيد باشا سنة ١٢٧٩ﻫ وخلفه الخديوي الأسبق إسماعيل باشا، تجدَّدت آماله، وألحقه إسماعيل باشا بمعيته، ثم عيَّنه في نظارة القناطر الخيرية، وكانت لا تزال في حاجة إلى المهندسين، فأجرى فيها عدة إجراءات.
وفي سنة ١٢٨٢ﻫ بُعث به للنيابة عن الحكومة الخديوية في المجلس الذي تشكَّل لتقدير الأراضي التي هي حق شركة خليج السويس، على مقتضى القرار المحكوم به من إمبراطور فرنسا، فقام بتلك المأمورية حق القيام، فأُحسن إليه برتبة المتمايز، وأنعمت عليه الدولة الفرنساوية أثناء ذلك برُتبة (أوفيسيه ليجون دونور).
وفي سنة ١٢٨٤ﻫ عُهدت إليه وكالة ديوان المدارس، ثم انتدبه الخديوي للسفر إلى باريس في مهمة مالية، فاستفاد من سفره هذا فوائدَ جمَّة، واجتلى أهم المتاحف والآثار والمدارس، وبعد عودته بقليل أُنعم عليه برتبة ميرميران، وأُحيلت إلى عهدته إدارة السكك الحديدية المصرية، وإدارة ديوان المدارس، وديوان الأشغال العمومية، ونظارة الأوقاف، مع بقائه على نظارة القناطر الخيرية، ولا يَخفى ما يقتضي للقيام بكل هذه الأعمال من الهمة والنشاط والقدرة، فكان يعمل ليله ونهاره حتى لا تفوته فائتة، وفي أثناء ذلك سعى في نقل المدارس من العباسية إلى درب الجماميز في القاهرة، حيث لا تزال إلى اليوم، وأسَّس الكتبخانة الخديوية، وهي أيضًا هناك إلى هذه الغاية، وأنشأ كثيرًا من المدارس الأميرية المنظمة في البنادر الكبيرة بالوجهين القبلي والبحري، وأنشأ مدرسة دار العلوم، يتخرج فيها المعلمون ويتعلمون طُرُق التعليم والعلوم العالية، ومعرضًا للآلات الطبيعية وغيرها من أدوات العلوم الرياضية؛ لكي يتمرَّن عليها التلامذةُ فتكون معارفُهُم مبنيةً على المشاهدة والاختبار، ووجَّه التفاته إلى الأوقاف، فأصلح كثيرًا فيها، ودبَّر أملاكها ورتَّب حساباتها.
وأما أعمالُهُ مما يتعلق بديوان الأشغال فكثيرة؛ منها تنظيم شوارع القاهرة وتوسيعها كما هي الآن، ومن الشوارع التي فُتحت على يده شارع محمد علي وميدانه، وشوارع الأزبكية وميدانها، وما يحيط بعابدين من الشوارع ونحوها، وباب اللوق، وكانت جهات الفجالة والإسماعيلية تلالًا وآكامًا قذرة فأنعم بها الخديوي الأسبق على الناس فمهدوها، وبنوا فيها القصور والحدائق حتى صارت كما نراها الآن.
وفي عهده بُني كوبري قصر النيل الباذخ المتين، وتنظَّمت الجزيرة، وأُنشئتْ فيها الشوارع المحفوفة بالأشجار، وجلبت المياه إلى القاهرة بواسطة الشركة، وأُنشئ كثيرٌ من الجسور والترع في جهات القُطر؛ كترعة الإبراهيمية والإسماعيلية، وفي عهد تولِّيه الأشغال أيضًا تم فتح قنال السويس رسميًّا، ودُعي الملوك لحضور الاحتفال بذلك، فكانت الأعمال اللازمة للقيام بمعدات ذلك الاحتفال منوطة به، فأُهدي إليه بعد الاحتفال نيشان غران كوردون من النمسا، ونيشان كوماندور من فرنسا، والغران كوردون من بروسيا.
وبقيت عهدة تلك الإدارة بيده إلى سنة ١٢٨٨ﻫ، ثم فصل عنها لخلاف حدث بينه وبين ناظر المالية إذ ذاك، وتعيَّن ناظرًا للمكاتب الأهلية، ثم استقل ديوان الأشغال فتعيَّن وكيلًا له، ثم تعيَّن في مناصب أخرى حتى سنة ١٨٧٧م، عندما ترتب مجلس النظار وصارت إدارة أعمال الحكومة منوطة به، فتألَّف المجلس تحت رئاسة نوبار باشا، وتعيَّن صاحب الترجمة ناظرًا على المعارف والأوقاف، فبذل جهده في توسيع نطاق المعارف، فأنشأ مدارس كثيرة في الوجه البحري، حتى كانت حادثة تذمُّر الجهادية، ثم سقوط الوزارة النوبارية، وتألَّفت وزارة أخرى لم تدُم طويلًا لانفصال الخديوي الأسبق وتولي المرحوم الخديوي السابق، وفي مدته هذه أيضًا أجرى إصلاحات كثيرة؛ وخصوصًا في الرَّي.
وعقب تولي المغفور له الخديوي السابق الحادثة العرابية، وكان فيها صاحب الترجمة من المحافظين على ولاء الجناب الخديوي، وطالما حثَّ الناس على الرضوخ والإذعان ولم تنجح مساعيه، فلما انقضت تلك الأزمة بالاحتلال الإنكليزي وتشكَّلت الوزارة، تقلَّد هو نظارة الأشغال، ونال رتبة روملي بيكلر بيكي سنة ١٨٨٢م، وعاد إلى اهتمامه في الري وما يتعلق به من بناء الجسور والحيضان وحفر الترع وتوزيع الماء، وفي أواخر تلك السنة سقطت تلك الوزارة وتنصَّبت الوزارة النوبارية وبقيت إلى سنة ١٨٨٨م، ثم استعفت وقامت الوزارة الرياضية، فعهدت فيها نظارة المعارف إلى صاحب الترجمة، فأجرى في المعارف هذه المرة أيضًا إصلاحات جمَّة، ثم اعتزل الأعمال، وما زال حتى توفاه الله.
مؤلفاته
لصاحب الترجمة مؤلفاتٌ مفيدةٌ تقدَّم ذكر بعضها، وأشهرُ ما بقي منها كتاب «الخطط التوفيقية»، طُبع بمصر في عشرين جزءًا، وهو تكملةٌ لخطط المقريزي ومؤلَّف على مثالها، ومنها كتاب علم الدين، وهو عبارة عن رواية أدبية عمرانية في عدة أجزاء.