ترجمته
هو أصغر أولاد المرحوم الطيب الأثر الشيخ ناصيف اليازجي، وُلد في بيروت في بيت
الشعر واللغة والإنشاء، فرضع آداب اللغة العربية مع اللبن، وقد قال الشعر وهو صبي
ولم يدخل المدرسة. على أنه لم يدخل المدارس إلا بعد أن أخذ طَرَفًا من الأدب، وقد درس
الطبيعيات والرياضيات في مدرسة الأميركان في بيروت، وبرع فيها ونظمها في الشعر.
وقدم ١٨٨١م مصر، وتعرف فيها بجماعة من أهل العلم، فنال حظوة لدى الأمراء والوزراء
وأنشأ مجلة «مرآة الشرق»، لم يصدر منها إلا بضعة أجزاء. ثم ظهرت الثورة العرابية
فعاد إلى مسقط رأسه، فانتدبته المدرسة الكلية الأميركية والمدرسة البطريركية لتعليم
اللغة العربية للصفوف العالية فيها.
وفي سنة ١٨٨٦م أصابته علة في الصدر عجز عن مداواتها الأطباء، ولما فرغت حيل
العقاقير وصفوا له تبديل الهواء في وادي النيل، فعاد إلى مصر وطبع فيها ديوانه
المسمى «نسمات الأوراق»، وفيه نخبة منظوماته، وهي على ما طبع عليه (رحمه الله) من
القريحة الشعرية.
واشتد عليه الداء في أثناء ذلك، فأشير عليه بالعودة إلى لبنان، فعاد وأقام في
عبيه أشهرًا، ثم نزل إلى الحدث، وما زال فيها حتى توفاه الله في ٢٣ يناير سنة
١٨٨٩م، ونقلت جثته إلى بيروت، ودفنت فيها بمحفل حافل. وكان (رحمه الله) شاعرًا
مطبوعًا، سريع الخاطر، حاد الذهن، متوقد القريحة، كثير الرواية، متفننًا في أساليب
الإنشاء، قريب البرهان مع لطف المحاضرة وسمو الآداب.
مؤلفاته
أكثر مآثره المنشورة شعرية؛ أشهرها رواية «المروءة والوفاء»، وهي رواية تاريخية
تمثيلية شعرية غنائية، دلَّ فيها على مقدرته في النظم وسعة معرفته بالأنغام. أساسها
حكاية حنظلة الطائي مع الملك النعمان في عصر الجاهلية، فمثل فيها فضائل المروءة
والوفاء تمثلًا واضحًا. وصدَّرها بقصيدة طويلة بيَّن فيها الأحوال التي يجب اتباعها
في هذا النوع من الروايات. وقد أتمَّ نظمها سنة ١٨٧٦م، فبلغت أبياتها نحو ألف بيت
جمعت بين المتانة والسهولة. وقد مثلت هذه الرواية في بيروت سنة ١٨٧٨م، وشهدنا ما
كان من إعجاب البيروتيين بها، وتصفيقهم المتواصل في أثناء تمثيلها. وقد طبعت في
بيروت سنة ١٨٨٤م، وفي مصر سنة ١٩٠٢م.
وعني (رحمه الله) أيضًا في تنقيح كتاب كليلة ودمنة المشهور، وفسَّر الغريب من
ألفاظه، وضبطه بالشكل الكامل، ووقف على طبعه، فجاء أضبط نسخ هذا الكتاب
المعروفة.
ومما طبع من ثمار قريحته ديوان «نسمات الأوراق» — المتقدم ذكره، وفيه أكثر ما
نظمه من تهانٍ ومراثٍ وتواريخ ومدائح وحكم وآداب فيما يزيد على ٢٦٠٠ بيت — سنأتي
على أمثلة منها.
ومن مؤلفاته التي لم تطبع «كتاب الوسائل إلى إنشاء الرسائل»، وهو مجموع ما ألقاه
على تلامذته في المدرسة البطريركية من الرسائل وأصول الإنشاء، وهو يعلِّم فيها هذا
الفن على أسلوب يتدرج فيه الطالب من الكتابة البسيطة إلى أعلى طبقة من الإنشاء.
والكتاب لا يزال خطًّا في المدرسة المذكورة.
ومنها «الصحيح بين العامي والفصيح»، وهو معجم لم يسبقه أحد إلى مثله، جمع فيه
مرادفات الألفاظ العامية من اللغة الفصحى، وقد رأيناه (رحمه الله) وهو يعنى في جمع
تلك الألفاظ يوم جاء مصر للمرة الثانية، وتوسَّمنا في ذلك التأليف فائدة كبيرة لشدة
حاجة الكتاب بنوع خاص إليه. وكان قد مثل بعضه للطبع فاشتدت عليه وطأة الداء، فانقطع
عن العمل، فتوقعنا أن لا يحرمنا شقيقه الشيخ إبراهيم صاحب الضياء من إتمامه، لكنه
لم يفعل، ولا نعلم مصير ذلك الكتاب.
أما شعره، فأحسن ما يقال في وصفه أن نأتي بأمثلة منه، قال من قصيدة قدم بها
روايته المشار إليها إلى شقيقه المشار إليه:
لما وجدتك مثل بحر زاخرٍ
ألقيت بين يديك بعض جواهري
هاتيك جوهرةٌ لديَّ وإن تكن
صدفًا لدى دُرٍّ بلجك فاخر
نزر المقل أجلُّ في عينيه من
وفرٍ لدى عين الغني القادر
تخذت لياليَّ الطوال محابرا
وسوادها اتخذته حبر محابر
ووهبتها إنسان عيني فاغتدت
دعجاء إذ كحلت بإثمد ناظري
عذراء لكن لا أقول فريدة
للعقد إن العقد ليس بحاضري
لم ينسج الشعرا على منوالها
إذ ليس معناها بقلب الشاعر
حاشاك والإطلاق أضيق حيزًا
من أن يحيط بك احتياط الدائر
شعرية لا نثرَ فيها وهي من
بعض الوجوه ترى كنثر الناثر
وقال من قصيدة بعث بها إلى صديقه المرحوم أديب إسحاق بالقاهرة:
تلك العيون منوننا فكأنما
قد كلفتها قتلنا الأيامُ
ولربما نام الزمان هنيهةً
عنا وتلك تصيب وهي نيامُ
وإذا رأت في النوم طيف خياله
فتكت به ولو انها أحلامُ
طمعت بخضرتها العيون وما درت
أن السموم تكنها الأدسامُ
ولرب حلو في المرارة مودع
كالحبر فيه ثنا الأديب يقام
متنبه الأفكار يقظان الحجى
حتى لأعجب منه كيف ينامُ
فإذا تروَّأ كاتبًا فجميعه
فكر فتوشك تفصح الأقلامُ
وقال يمدح المرحوم شريف باشا وزير مصر من قصيدة:
قد قام في دست الوزارة فاكتسى
شرف العلى وبه تشدد أزرهُ
ولكل ما يولي الشريف مشرفٌ
كالنهر يكسبه التدفق بحرهُ
وغدا زمام الدهر طوع بنانه
إذ بات مكشوفًا لديه سرهُ
وهو الذي ضبط البلاد بكفه
لما حوى ما عنه ضاقت صدرهُ
يرنو بفكرته فيوشك ما يرى
بالعين منه أن يراه فكرهُ
وقال من قصيدة في رثاء المرحوم المعلم بطرس البستاني:
أجرى اليراع عليك دمع مداده
فكسا به القرطاس ثوب حدادهِ
وبه نخط لك الرثاء من الأسى
فهو المقيم على عهود ودادهِ
فكم بميدان الطروس هززتهُ
حتى جعلت الرمح من حسادهِ
إن كان يبكيك اليراع بدمعه
فلقد بكاك حزيننا بفؤادهِ
يا صاحب الفضل الذي لو أننا
نبكي به لم نخش وشك نفادهِ
يا قطر دائرة المعارف والحجا
ومحيط فضلٍ فاض في إمدادهِ
فإذا المحيط بكاك لم يك دمعه
دون المحيط يزيد في إزبادهِ
يبكي الحساب عليك متخذًا له
دمعًا يسيل عليك من إعدادهِ
خدم البلاد وليس أشرف عنده
من أن يسمَّى خادمًا لبلادهِ
ومحبة الأوطان كان يعدها
مما يدور عليه أمر معادهِ
وقال من قصيدة يرثي بها المرحوم أديب إسحاق:
أخلق بجسمك أن يبيت كليلا
عن جهد نفسك أن يموت عليلا
نهكته نفسك في المطالب والعلى
حتى تمنى للفراق سبيلا
يا راحلًا أبكى عليه محابرًا
ومنابرًا ومحاجرًا وطلولا
ترثيك أقلامٌ يكون صريرها
نَوْحًا عليك من الأسى وعويلا
وهي التي قد كن بين بنانها
قضبًا وكان صريرهن صليلا
ولعل مثلك ليس يوجد عندنا
حتى نرى لك منك عنك بديلا
يروي مآثر عنك يقصر دونها
صوغ القوافي في ثناك طويلا
ويعدُّ ما أحصيته في مدة
قصرت ففات العرض منها الطولا
إن كان قلَّ مدى حياتك عندنا
فقليل مثلك لا يعد قليلا
فلقد ملأت به السماع جرائدًا
وقصائدًا ورسائلًا وفصولا
ما بين شرق في البلاد ومغرب
لم تألُ فيه تغربًا ورحيلا
مستصحبًا لك همة نفاذةً
وعزيمة مثل الحسام صقيلا
وقريحة وقَّادة وبصيرة
نقادة تستوضح المجهولا
وقال من قصيدة رثا بها المرحوم سليم البستاني وقد توفي فجأة:
وهو الموت إلا أن خطبك أعظم
ورزؤك في الأرزاء أشجى وأجسمُ
ومن فلتات الدهر أمرك أنه
لا شفق في أمثال هذا وأرحمُ
لك الله ميتًا كالقتيل ولم يسل
له من دم لكن مدامعنا الدمُ
وإن نحن طالبنا المنايا بثأره
رمتنا، وقالت من يطالب عنكمُ
وإن نحن عاتبنا الزمان بفعله
قرعنا سماعًا ما له من يترجمُ
فعدنا وقد خبنا من الدهر مأملًا
ننوح على ما كان منه ونلطمُ
كذا الدهر إلا أن من زاد همه
وقصر عن تفريجه يتظلمُ
فقدنا بني الأوطان عضوًا مكرمًا
كجسم مضت منه يد فهو أجذمُ
ألا إننا في فقده اليوم أسرةٌ
وأوطاننا في نوحه اليوم مأتمُ
على مثله يبكى وهيهات مثله
فتى طاب منه القلب واليد والفمُ
قال يمدح المرحوم الدكتور فانديك إثر مرض شفي منه على يده:
لو استطعت جعلت البرق لي قلما
والجو طرسا وحبري الغيث حين همى
ورحت أملأ آفاق السماء ثنًا
عليك منتثرًا طورًا ومنتظما
يا كنز فضل وعلم لا نفاد له
مع أنه لزم الإنفاق والكرما
إن النفيس عزيز قد ينال وقد
بذلته بيننا غنمًا لمن غنما
كالشمس تعطي سناها كل ذي بصرٍ
وربما كان لا يدري له قيما
نبغي مبالغة في الشعر فيك فلا
نستطيع ذاك ولا نقضي الذي لزما
والشعر لا بد فيه من مبالغة
إلا بوصفك فهو الغالب الكلما
أنت الطبيب لأجساد العباد وللـ
ـعقول والأنفس اللاتي اشتكت سقما
والفيلسوف الذي أحصى العلوم وقد
أسالها منهلًا للمشتكين ظما
تدعى الحكيم وإن نعنِ الطبيب وإن
لا نعنِه فصحيح فيك كلهما
يا مغفِلًا نفسه في جنب منفعة
للآخرين جزيت الخير والنعما
كأنما الناس طرًّا عيلة لك من
شكا فإنك معه تشتكي ألما
وكتب من القاهرة وهو مريض إلى بعض أعزائه في بيروت:
قل صبر الفؤاد والشوق غالب
والضنى وحده لذا الشوق غالبْ
غالب السقم مني الشوق حتى
بات قلبي ميدان كل محاربْ
غلب السقم بانحيازي إليه
وانثنى الشوق إنما غير هاربْ
لم أقل هاربًا ومن لي بهذا
فهو طي الفؤاد ضربة لازبْ
غير أني قسمت قلبي فكان الـ
ـسقم في جانب وشوقي بجانبْ
كلما حن مني القلب قال الـ
ـعقل مهلًا فأنت لست بصاحبْ
وعسى الله أن يصير بي بل
بكثيرين ذلك الظن خائبْ
وإذا لم يكن فقد قام عذري
أنني قد عملت ما هو واجبْ
ويكون هذا البعاد ابتداءً
لبعاد هذا له لا يقاربْ
غير أني أرى لليلي فجرًا
ربما كان صادقًا غير كاذبْ
ليس من عائق لهذا ولا ذا
فبكل من الخواطئ صائبْ
كيف يُشفى مَن كلُّ حين يرى المو
ت وغِربانه عليه نواعبْ
خاف من موته فمات من الخو
ف كثير فثق وطاوع وناصبْ
وقال مؤرخًا ميلاد غلام اسمه فضل الله سنة ١٨٧٥م:
أتى لبني الطوا غلام بوفده
نشرنا برود الأنس في كل محضرِ
فوافى الهنا يدعو أباه مؤرخًا
لقد حل فضل الله عندك فأبشرِ
وكتب على إحدى صوره:
لما تملكتم على قلبي ولم
أطمع له من عندكم بمعادِ
أهديتكم رسمي لكيما تجمعوا
ما بين جسمي عندكم وفؤادي
وكتب:
لك مني أثر العين التي
لك فيها أثر في كل أين
فتقبله ولو كنت امرأً
ليس يرضى أثرًا من بعد عين
وكتب:
رسم إليك بعثته وأنا
أهوى لو أن مكانه الجسمُ
إن كان ذلك ليس يمكنني
يا حبذا لو أنني رسمُ
وكتب:
بعثت لكم موهوم شخصي ممثلًا
وشخصكم في مقلتي ظل بالوهم
لعلي من الوهمين أجني حقيقةً
فرسمًا ترى ذاتي وذاتًا يرى رسمي
وقال في ضارب عود:
وضارب عود قد أزاغ عيوننا
ببرقين من تلك البنان وذي الكف
تنازعه آذاننا وعيوننا
فهذي إلى كحل وتلك إلى شنف