بيت طراد عائلة شهيرة في بيروت، وفيها جماعة من أرباب الثروة والتجارة، ورجال الأدب
والشعراء، ومن شعرائهم أسعد طراد، وُلد في بيروت سنة ١٨٣٥م، وليس فيها من المدارس —
يومئذٍ — ما يستحق الذكر، فأرسله والده إلى المدرسة الأميركية في عبيه بلبنان، فتلقى
فيها مبادئ العلم وبعض العلوم العالية، وقرأ العلوم العربية على أشهر الأساتذة. وكان
مفطورًا على الشعر منذ حداثته، فأكثر من الترداد إلى المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي، ونظم
قصائد عديدة في مواضيع تحدَّى فيها شعر الشيخ من السهولة والمتانة.
وتقلَّب (رحمه الله) في مناصب الحكومة العثمانية، وكان موضع ثقة أولي الأمر لنزاهته
ونشاطه. وفي سنة ١٨٧٢م برح سورية وجاء القطر المصري، وأقام به يتعاطى التجارة في
الإسكندرية وزفتى والمنصورة إلى أن توفاه الله سنة ١٨٩١م، فعني ابن أخيه الخواجة فضل
الله طراد بجمع ما تيسر من قصائده، فجمع نحوًا من ألف وخمسمائة بيت، طبعها في كتاب وقف
على طبعه ورتَّبه نجيب أفندي طراد، وهذه أمثلة منه:
قال من قصيدة مدح بها الشيخ ناصيف اليازجي:
إلى كم فؤادي يطلب العشق والحبَّا
ولم أرَ إلا الوجد والوعد والعتبا
عرفت بأن لا يعرف الود والوفا
لديك ولا يدري المحب له ذنبا
غزالة أنس بات قلبي لها حمى
عليه عيوني قد غدت تمطر السحبا
تصيد ولكن لا تصاد على المدى
وتسبي قلوب العاشقين ولا تسبى
تقول اصطبر فالصبر للقلب واجب
ولم تبق لي للصبر يوم النوى قلبا
أأطمع منها بالوصال ولم أكن
سمعت بخود في الورى رحمت صَبا
وقد خاف نومي أن يبيت بمدمعي
غريقًا فقد عاف التواصل والقربا
وقد جزمت عن ناظري اليوم وجهها
وحلت فؤادي ترغب السلب والنهبا
نصبت لها قلبي لترفع جزمها
فقد علَّمتني الرفع والجزم والنصبا
قد انتسبت للعرب من أبدعوا الوفا
سأشكو جفاها للذي أورث العربا
إلى اليازجي اليوم تسعى ركابنا
كأهل الظما من بحره نطلب الشربا
لئن دثرت كتب الألى قد تقدموا
من العرب هذا صدره جمع الكتبا
وأصعب شيء عنده منع فضله
وأهون شيء أن يحل لك الصعبا
على أي شيء نحوه جئت سائلًا
فقبل سؤال منك تنظره لبى
وقال من قصيدة أجاب بها الشيخ محمد عاقل بالإسكندرية:
هيهات يسلم من جفونك عاشق
وهي التي بالسحر تفتن بابلا
أترى لمن أشكو الحبيب ولا أرى
لي من قضاة الحب شخصًا عادلا
يا عاذلي في حبه مهلًا فما
من عاشق قبلي أطاع العاذلا
إني قتيل في الغرام على رضى
وبمهجتي أخفيت ذاك القاتلا
وله قصيدة رنانة وصف فيها الاختراعات الجديدة، نقتطف منها قوله:
واترك حدوج المالكية إنها
ملكت حشاك بخِدرها مصفودا
ما بالحدائج والهوادج ما ترى
في عصرنا في قطر مصر جديدا
وجِّه لحاظك للبخار وقل له
إني أرى ماءً يجرُّ حديدا
وانظر لسلك البرق والتلفون كم
قد قرَّبا ما كان منك بعيدا
غنَّت سليمى في الحجاز فأطربت
مع بُعدها أهل العراق نشيدا
ولسوف إن رقصت بمصر فقد نرى
في أصبهان لقدها تأويدا
ألهِ الفؤاد بذكر ذاك وذا وذا
عجبا وهاك الطائر الغرِّيدا
يهدي إليك مع البريد بوصفه
فكأنما حمل البريد بريدا
يصف البريد ببره وببحره
وبجوه متنوعًا معدودا
ذاك الصديق الصادق الخل الذي
لا يعرف التأجيل والتعريدا
ويريك منه بوصفه خلًّا يرى
حفظ الأمانة سنة وعهودا
حمل السفاتج والنضار لأهلها
وسرى بحول الله يطوي البيدا
يطوي القفار فكم عليه حلة
منها وكم منه بها أخدودا
متفرع في أرض مصر كنيلها
يسقي التجارة سقي ذاك صعيدا
أبدًا يطوف بها كصاحب كرمة
يهدي لكل محطة عنقودا
وقال يرثي الشيخ حسنين شيخ الزاهدين بالمنصورة:
سرى الحسنين اليوم يغتنم الأجرا
من المسجد الأقصى فسبحان من أسرى
وعن جانب النيل ارتقى نحو جنة
جرت تحتها الأنهار جلَّ الذي أجرى
بكته بنو المنصورة اليوم حسرة
فكم عمها لطفًا وأكسبها نصرا
أراهم يبكون الدما وكأنني
أراني من آماقهم أعصر الخمرا
ينوحون شيخ الزهد والنسك والتقى
ومَن عمهم بالفضل عمهم برا
وسحَّت عيون الأفق حتى كأنما
منيته قد أبكت الأنجم الزهرا
فريدا وحيدًا قد قضى العمر زاهدا
ولازم في أيامه الفقر والقفرا
عن الوابل استغنى بظل قناعة
في كسرة عما استعز به كسرى
وقال يرثي المرحوم سليم بسترس المتوفى في لندن:
خلِّ الحزين اليوم في حسراته
ودع العزاء لمن يعي كلماته
واطرح أحاديث السلو اليوم عن
دنف يخاف عليك من صعداته
دنف غرام البين لم يترك له
من قلبه إلا صغار فتاته
نشوان كأس نوائب الدنيا على
أنواعها حسب اختلاف سقاته
ولكل بلوى أنَّة في صدره
فتعد ما تحويه من أناته
ومن قصيدة رثا بها المرحوم سمعان كرم بالإسكندرية يخاطب الموت:
ويلاه لا يمحي خط القضاء ولو
مهما امحى منك مما خط تبيانا
وألف ويلاه كم برَّحت في مهج
يا موت فتكًا وكم فرَّحت أجفانا
وكم ظلمت ولم ترحم نواح أخٍ
على أخيه وكم يتمت ولدانا
وكم جمعت بدار اللحد من نفر
جمع الفراق وكم فرقت إخوانا
وكم أسرت غداة الروع من ملك
بين الجنود وكم عطلت تيجانا
وكم غلبت بدار الأسر متخذًا
نوائب الدهر أجنادًا وسجانا
وكم مشيت على هام المشاة وكم
ألقيت عن صهوات الخيل فرسانا
ما خفت مجدًا ولا جاهًا ولا شرفًا
ولا سموًّا ولا قدرًا ولا شانا
ولم تبالِ بأبطال الرجال ولو
شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا
ولا قبلت شفيعًا لو عزمت على
فتكٍ ولو كان ريًّا بنت مروانا
كم شاخ جيلٌ فجيلٌ وانقضى ومضى
وأنت فيك الصبا يزداد ريعانا
أفنيت عادًا وشيبانًا وجرهمة
وتغلبًا وبني بكر وغسانا
وعشت في كل نفس كنت تسلبها
رغمًا وما زلت بالأرواح ريانا
حتى متى وإلى كم لا تموت ودع
ليوم موتك كي يبكيك إنسانا
هيهات ينظر موت الموت ذو رمق
من الورى أكسبته النفس وجدانا
فحيُّنا موته حي بصاحبه
ما لم يمت لم يجد للموت هجرانا
وميتنا موته ميت قضى معه
كأنه وكأن الموت ما كانا
يا أيها الميت لا موتًا يعاد فكن
من بعد ذا في سرير الملك سلطانا
مهما تبددت لا تخشَ الفناء فقد
صادفت في فسحات الكون خزانا