محمود باشا سامي البارودي
أصله
والبارودي صاحب الترجمة من مولَّدِي الجركس بمصر، ويؤخذ من صحيفة كانت عنده، نشرتْها مجلة المنار، أنه ينتسب إلى نوروز الأتابكي الملكي الأشرفي، ولعله أحد رجال الأشرف قايتباي المحمودي المتوفي سنة ٩٠١ﻫ. ونستغرب ثبوت هذه النسبة للأسباب التي قدمناها من ضياع اسم العائلة عندهم، حتى نوروز هذا فإنه لا ينتسب إلى أبيه وإنما يعرف بانتسابه إلى الملك الأشرف، ومنها اسمه «الملكي الأشرفي».
وقد كان في هذا العصر جماعة يعرفون بهذا الاسم، كل منهم ينتسب إلى صاحبه؛ مثل نوروز المنصوري نسبة إلى الملك المنصور، ونوروز التمرعلائي الأشرفي برسباي نسبة إلى الملك الأشرف برسباي، وقس على ذلك. وقد بلغنا نقلًا عمن عرف البارودي وعاشره أنه كان شديد الحرص على معرفة نسبه وتتبعه إلى أصله، فبذل مبلغًا طائلًا من المال في سبيل البحث عنه في أنحاء القطر، ومراجعة النصوص، والسؤال من أهل العلم والسن — قالوا إنه أنفق في ذلك نحو ثلاثة آلاف جنيه.
على أننا لا نرى لصحة هذه النسبة البعيدة أو فسادها دخلًا في تقدير فضل الرجل؛ لأن المرء بأصغريه، وبما يحدث على يديه. ولكن المشهور أن الفقيد هو محمود باشا سامي بن حسن بك حسني، وكان أبوه هذا من أمراء المدفعية في الجيش المصري، وجده عبد الله بك الجركسي من الكشاف في أوائل عهد محمد علي، والكاشف يشبه مأمور المركز اليوم، وإنما أضيف اسمهم لفظ البارودي نسبة إلى إيتاي البارود؛ لأنها كانت في التزام أحد أجداده في عصر الالتزامات.
نشأته الأولى
ولد صاحب الترجمة في سراية بباب الخلق سنة ١٨٤٠م، وتلقى مبادئ العلم في المدارس الحربية التي أنشأها محمد علي، وخرج من المدرسة سنة ١٨٥٥م في أوائل ولاية سعيد باشا. وكان من نعومة أظفاره ميالًا إلى الأدب والشعر، فرغب في آداب اللغة العربية فأحرز منها شيئًا كثيرًا، وظهرت ثمار قريحته، وامتاز شعره بالسهولة والبلاغة من عهد شبابه، على قلة النابغين من الشعراء في ذلك الحين، فهو من أقوى أركان النهضة الشعرية الأخيرة بمصر.
وكان مع ذلك كبير المطامع في طلب العلى — وذلك نادر في الشعراء لرقة إحساسهم ولف مزاجهم وانصراف قرائحهم إلى الخيال — ولم يبالِ بركوب البحار في طلبها، فرحل إلى الآستانة يلتمس بها منصبًا. وكان يتكلَّم التركية، وهي لغة أهل الطبقة العليا بمصر في ذلك الحين ولا تزال عند بعضهم إلى الآن، فانتظم في كتابة السر بنظارة الخارجية. وكانت اللغة التركية — يومئذٍ — في إبان نهضتها، فتبحر في أدبها وشعرها حتى نظم فيها القصائد، وتعلم الفارسية لمطالعة آداب الفرس وأشعارهم ونفسه تحِن إلى مصر حنين كل من يقيم فيها ويتعود ماءها وإقليمها، فاتفق أن الخديوي إسماعيل باشا شخص إلى الآستانة سنة ١٨٦٣م على أثر ارتقائه الأريكة الخديوية، فدخل صاحب الترجمة في بطانته، ورجع معه إلى مصر، وعاد إلى الخدمة العسكرية، فترقى في سنة واحدة إلى رتبة بيكباشي، وانتدب مع جماعة من الضباط لمشاهدة بعض الحركات العسكرية في فرنسا، وسافر منها إلى لندرا، وعاد إلى مصر فرقاه الخديوي سنة ١٨٦٥م إلى رتبة قائمقام في آلاي الفرسان، ثم إلى رتبة أميرالاي.
سيرته السياسية
لو أردنا تفصيل ما تقلَّب فيه من المناصب لطال بنا الكلام، فنقول بالإجمال إنه ذهب في جملة الجيش المصري الذي أرسلته مصر لمساعدة الدولة العلية في إخماد ثورة كريد سنة ١٨٦٨م، ولما رجع ألحق بالحرس الخديوي (الياوران)، فأحبه إسماعيل وزاده من قربه، فجعله كاتب سره الخاص، ثم عاد إلى العسكرية بعد سنتين. وكان الخديوي ينتدبه في كثير من الأمور الهامة إلى الآستانة وغيرها، حتى إذا انتشبت الحرب بين الدولة العلية والروس سنة ١٨٧٧م أنفذت مصر نجدة من جيشها كان المترجم في جملتها مع فرقته، وعند رجوعه رقي إلى رتبة لواء.
ولم تمنعه رتبه العسكرية من الخدمة في المناصب الإدارية، فعيِّن سنة ١٨٧٩م مديرًا للشرقية، واضطربت مصر يومئذ، وهي السنة التي أقيل فيها إسماعيل، فسبق إقالته إثارة الخواطر بالمنافسة التي جاشت في نفوس الأمراء على الولاية، وبما كان من تداخل الدول الإفرنجية بشئون مصر الإدارية، فانتدبت الحكومة صاحب الترجمة لرئاسة الضبطية، فحفظ الأمن وهدأ الخاطر. فلما أقيل إسماعيل وتولى المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق أعاده إلى المناصب الإدارية، فجعله وزيرًا، وقلَّده نظارة الأوقاف، فأصلح شئونها ونظَّمها.
والمرء يتقلب في مناصب شتى، ولا بد من شيء يعلق به ذهنه مما ترتاح إليه نفسه أو يدفعه إليه ميله، ولهذا الميل دخلٌ كبير في شئون الأمم؛ لأن الملك أو الأمير إذا كان ميالًا — مثلًا — للعلم نشَّط أهله ورفع شأنه، وإذا كان من أهل اللهو رغب الناس في الملاهي، ويقال نحو ذلك في سائر المناصب الإدارية. وقد تقدَّم أن المترجم كان مغرمًا من صغره بالعلم والأدب، فاهتم في أمر الكتب المبعثرة في المساجد، وجمعها في مكان واحد، فلما أخذ المرحوم علي باشا مبارك في إنشاء دار الكتب الخديوية كانت هذه الكتب من جملة ما نقلوه إليها.
فلما تحركت الخواطر، وهبَّت النفوس في الثورة العرابية، كان لصاحب الترجمة شأن كبير في ذلك، والناس بين متهِم ومبرِّئ. وخلاصة رأينا في المترجم أنه كان من جملة المنشطين للحزب الوطني في مطالبهم سرًّا؛ لأنه كان ناظرًا للأوقاف — كما تقدم — فكان يحضر مجلس النظار وهواه مع العرابيين، وهو يعتقد أن مطالبهم عادلة، ورجال المطامع يغتنمون هذه الفرص لنيل المناصب الكبرى، وكثيرًا ما كانت أمثال هذه الحركات سببًا في انتقال الملك من دولة إلى دولة إذا وافقت الأحوال وتوافرت الرجال، وفي تاريخ مصر أمثلة كثيرة من هذا النوع.
أما المترجم فقد كان طامعًا في منصب الوزارة وما وراءه، فكان ينقل إلى عرابي ورفاقه من قرارات ذلك المجلس وأبحاثه ما يتعلق بهم؛ ليحذروه أو يتهيئوا للقائه مما يطول شرحه، وقد نجح فيما كان يؤمله، فتولى نظارة الجهادية، ثم رئاسة النظار، فكان له النفوذ الأعظم في تلك الثورة، وأما عرابي فقد تصدر لها وتظاهر بها عن صدق نية وبساطة، وهي بالحقيقة نهضة سياسية عمرانية لو أحسن أصحابها استخدامها، أو لو تصرفوا فيها بالحكمة والتؤدة لعادت بالنفع على الحكومة والأهالي، ولكنهم اختلفت أغراضهم، وتباينت مطامعهم، وغفلوا عن العواقب، ولم يكن ليغفل عنها الدرب الحازم، ولكن قدر فكان.
فلما دخل الإنكليز مصر وقبضوا على العرابيين وحاكموهم كان صاحب الترجمة من جملة الذين حكم عليهم بالنفي إلى سيلان مع زعيم الثورة، وما زال هناك حتى أرجع في جملة الذين أرجعوا منذ بضعة أعوام، واختصه الجناب الخديوي بإرجاع حقوقه ورتبته، وظل بين أهله وذويه حتى توفاه الله في ١٢ ديسمبر سنة ١٩٠٤م، وقد كُفَّ بصره.
هذه خلاصة سيرته السياسية، وأما سيرته الأدبية فمجملها أنه كان محبًّا للأدب، مطبوعًا على الشعر، وشعره من الطبقة الأولى بين شعراء العصر بمصر، وكلهم يعترفون له بالتقدم والفضل، وله منظومات رنانة سارت بذكرها الركبان، ومنها ما جرى مجرى الأمثال، وفي جملتها قصيدة في السيرة النبوية تدخل في نحو ست مائة بيت على روي البردة، مطلعها:
وإليك أمثلة مما بلغ إلينا من منظوماته، قال في وصف الليل من قصيدة بعث بها من جزيرة سيلان إلى الأمير شكيب أرسلان:
وقال من قصيدة يعزي بها رصيفنا خليل أفندي مطران صاحب الجوائب المصرية عن فقد عمه حبيب باشا:
ونظرا لما فطر عليه من الميل إلى الجندية فقد أجاد كثيرًا في نظم الفخريات، ومنها أبيات يتمثل بها الناس، كقوله من قصيدة عارض بها قصيدة أبي فراس:
وقوله من قصيدة أخرى:
ومن هذا القبيل قوله من قصيدة يصف بها الحرب بجزيرة كريد:
وله من الشعر الوصفي قصيدة يصف بها عصفورًا على غصن، وقد أبدع فيه، قال:
وكان إذا عارض المخضرمين أو الجاهلين جاء نظمه مثل نظمهم متانة وعلوًّا، فمن قصيدة عارض بها دالية النابغة الذبياني قوله في وصف الفرس:
وله من قصيدة نظمها في منفاه يصف به حاله هناك:
وقال من قصيدة يصف بها حرب الروس:
وختم شعره بأبيات شعرية وهي:
ونظرًا لمنزلته الرفيعة في نفوس الشعراء فقد اجتمعوا على ضريحه في الإمام الشافعي يوم الأربعين من وفاته ورثوه وأبَّنوه مما لم يسبق له مثيل، إلا ما يقال عن توافد الشعراء لرثاء المعري على قبره.