الجزء السادس

الجزء ٦(أ)

في النهاية، الأهم من أي نتيجة مُحددة هو الروح التي أعاد بها فايرشتراس تعريف النهايات والدوال المتصلة. ويُقصَد بذلك التزامه بتأسيس تعريفه على الدقة والحقائق الدامغة وغير ذلك. ويُعدُّ مصطلح «حوسبة التحليل» لفايرشتراس حرفيًّا ومُعبِّرًا عن مضمونه تمامًا؛ فهو لا يهدف فقط إلى استبعاد المفاهيم الهندسية والاستقراء الحَدْسي من البراهين، ولكن يهدف أيضًا إلى تأسيس كل الرياضيات ما بعد حساب التكامل والتفاضل على نظام الأعداد الحقيقية بالطريقةِ نفسِها التي يرتكز بها الحساب على ذلك. ولكن نظام الأعداد الحقيقية يعني خط الأعداد الحقيقية لا يخلو تمامًا — كما رأينا — من الإشكاليات المتعلقة باللانهائية.

تناولَ مُؤرِّخو الرياضيات هذا الأمر بطرقٍ شتَّى، كما نرى — على سبيل المثال — في مقولة كلاين: «كان فايرشتراس هو أولَ مَن أوضحَ أنه لإرساء خصائص الدوال المُتصلة بدقةٍ كان لا بدَّ له من نظرية الاتصال الحسابي.» أو في مقولة بيل: «إنَّ الأعداد غير النسبية التي أعطتنا مفاهيم النهايات والاتصال، التي انبثقَ عنها التحليل، يجب إحالتها؛ لأسبابٍ دامغة غيرِ قابلة للجدل، إلى الأعداد الحقيقية.» والنتيجة هي المُفارقة التي أشرْنا إليها في نهاية الجزء ٥: اتضح أنَّ مفهوم النهايات الدقيق لفايرشتراس، الذي فيما يبدو قضى نهائيًّا وبالتبعية على الحاجة إلى مقادير من قبيل و في التحليل، هو نفسه يتطلَّب نظريةً واضحة ودقيقة في الأعداد الحقيقية؛ أي الأعداد الصمَّاء واتصال خط الأعداد الحقيقية. وانظر أيضًا ما قاله فيلسوفُ الرياضيات إس لافين: «أعادت هذه النظرية على الفور تقديمَ الأعداد غير المُنتهية إلى التحليل. وحلَّت ببساطةٍ اللانهائيةَ الجديدة من المجموعات الكبيرة بشكلٍ لا نهائي محلَّ اللانهائية القديمة للأعداد فوق المُنتهية والأعداد غير المنتهية.»
الحقيقة أنَّ هناك العديدَ من الأسباب المترابطة المختلفة التي جعلت الأعداد غير النسبية/الحقيقية الآن مشكلةً مُلحَّة تتصدر المشهد. أحد هذه الأسباب، كما سبق أن أشرنا، يتعلق بالأسُس. وثمة سببٌ آخر يتضمَّن التطبيقات: اتضح أن البرهان باستخدام و الذي قدَّمه فايرشتراس وظهر في نهايات المسائل المُستقاة من الواقع الفعلي كانت في الغالب أعدادًا غير نسبية، وهو ما جعل فكرة تحديد لكل أصعبَ بكثير. بالإضافة إلى أنَّ هناك المسألةَ العامة لتقارُبِ متسلسلة فورييه التي ذكرناها سلفًا، وفقد الثقة في مُسلَّمات إقليدس، وغير ذلك. هناك أيضًا حقيقة أن التأكيد الجديد للرياضيات على الدقة والترابُط المنطقي إنما يُلقي الضوء على مشكلةٍ منطقية في أسلوب معالجة الجذور الصمَّاء للأعداد الصحيحة منذ أن تناولتها لأول مرة الأخوية الدينية الفيثاغورية في الجزء ٢(ﺟ). وكان هذا التناوُل — كما رأينا — من منظور هندسي، أي في صورة مقادير غير قابلة للقياس و ونسب يودوكسوس، وغير ذلك، وظلَّت التعريفات المُستخدَمة للجذور الصماء في الرياضيات هندسيةً منذ ذلك الحين. ظهر هذا الأسلوب في مصطلحات بي راسل الواضحة:

غيرُ منطقي للغاية؛ لأنه إذا كان تطبيق الأعداد على فراغٍ [هندسي] يُفترَض أنْ يُسفِر عن أي شيءٍ ما عدا المصدوقات (الافتراضات التي تكون صحيحةً دائمًا بغضِّ النظر عن صحة الافتراضات المُكوِّنة له)، فلا بدَّ من تحديد الأعداد المُطبَقة على نحوٍ مستقلٍّ. وإذا كان لا يُمكن إعطاءُ تعريفٍ سوى التعريف الهندسي، فلن تُوجَد على الأرجح مثلُ هذه الكيانات الحسابية التي يُزعَم أن التعريف يُوضحها.

وهذا نقاشٌ يطول شرحُه ولكن يُمكنك على الأقل معرفة المغزى والاتجاهِ العام.

وعليه، فإنَّ ما حدث هو أنَّ في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر بدأ العديد من علماء الرياضيات في محاولة وضع نظرياتٍ دقيقة عن الأعداد غير النسبية/الحقيقية. ونذكر من بين الأسماء الكبيرة هنا دبليو آر هميلتون وإتش كوساك وكيه فايرشتراس وإف ليندمان وإتش سي آر ميراي وجي كانتور وإتش إي هاينه وآر ديديكند. ولكَ أن تُخمِّن بأيِّهم نَهتم.

أولًا، يبدو أنه من خلال العمل على الأفكار التي استعرضها فايرشتراس في محاضراته في جامعة برلين، حاول بعض تلاميذه وأتباعه استخدام تعريفاته الأساسية لتعريف العدد غير النسبي على أنه، في جوهره، نهاية نوع مُعين من المتسلسلة غير المُنتهية من الأعداد النسبية. أسلوب التعريف تقنيٌّ ومُتخصِّص بدرجةٍ كبيرة، ولكن لحُسن الحظ أننا لسنا في حاجة إلى الخوض في ذلك؛ لأن النظرية حسَبما اتضح ليست صحيحة؛ فهي مبنية على الاستدلال الدائري.١ ذلك لأن نهاية الأعداد غير النسبية التي أشار إليها فايرشتراس لا يُمكن أن يكون لها وجودٌ منطقيًّا حتى يُوجدَ تعريفٌ للأعداد غير النسبية. كلمة «وجود» هنا تعني بدقةٍ ما كان راسل يعنيه أعلاه حين قال: «لن تُوجَد مثلُ هذه الكيانات الحسابية التي يُزعَم أنَّ التعريف [الهندسي] يُوضحها.» وأنْ تستخدم مفهوم «عدد غير نسبي» على نحوٍ مترابط لتعريف «العدد غير النسبي» لا يعدو أن يكون أكثرَ من تعريفك كلمة «أسود» على نحوٍ مترابط بأنه «لون كلب أسود». ومن ثمَّ، مختصرُ القول إنَّ جهود فايرشتراس لم تصِل في الواقع إلى شيءٍ.

ظهرت نظرية جي كانتور عن الأعداد الحقيقية في سياق بحثه عن شيءٍ ما يُسمَّى مُبرهنة الوحدانية للمتسلسلات المُثلثية، وثمة أسبابٌ وجيهة للتريُّث بعضَ الشيء في الحديث عنها.

إنَّ النظام الأكثر فاعليةً وتميُّزًا وغرابةً في تعريف الأعداد غير النسبية هو ذلك الذي يعود إلى جيه دبليو آر («ريتشارد») ديديكند ١٨٣١–١٩١٦ الذي كان يصغُر فايرشتراس باثني عشر عامًا ولكنه يُشبهه كثيرًا. كان شخصًا دمثًا، سويًّا من الناحية النفسية، أمضى مُعظم حياته في التدريس في الجامعات التقنية في مدينتَي برونزفيك وزيورخ. ظلَّ أعزب٢ طوال حياته وكان يعيش مع أخته. عاشَ ديديكند عُمرًا مديدًا وكان محبوبًا جدًّا حتى إنه يظهر في كل مناحي الرياضيات الحديثة: تلميذ دركليه وجاوس في جوتينجن، ومحرِّر «نظرية الأعداد» لدركليه، وصديق عُمر ريمان، وشبيه فايرشتراس، ومن أوائل مَن تعاونوا مع إل كرونكر في الهندسة الجبرية، وصديق جي كانتور ومعاونه، ولم يكن كانتور بالشخص الذي يُمكن أن يُصادقه المرءُ بسهولة. وإحدى الروايات المُفضَّلة بين مؤرخي الرياضيات أنَّ ديديكند عاشَ حياةً طويلة للغاية، لدرجة أنَّ «التقويم الرياضي» الشهير لتيوبنر ظلَّ يُعلن وفاة ديديكند في يومٍ مُحدد في عام ١٨٩٩، حتى إنَّ ديديكند في النهاية بعث برسالةٍ إلى المُحرِّر ذات عام يُبلغه أنه ما زال على قيد الحياة، بل والأكثر من ذلك أنه قضى ذاك اليوم بالتحديد «في حوارٍ مُشوِّق حول «النظام والنظرية» مع ضَيفي على الغداء وصديقي المُوقَّر جورج كانتور من مدينة هالَ.»
نُشِرَ مقال ديديكند الشهير «الاتصال والأعداد غير النسبية»٣ في عام ١٨٧٢. وكان في جزءٍ منه ردًّا على تعريف كانتور نفسِه للأعداد غير النسبية، الذي ظهر كجزء من بحثٍ مُطوَّل عن مبرهنة الوحدانية في تاريخ سابق من ذلك العام. ولكن من الواضح أن ديديكند كان قد وضعَ نظريته الأساسية في عام ١٨٦٠، وعلى غرار فايرشتراس (ولكن على نحوٍ مغاير لكانتور) لم يكن مُتحمسًا جدًّا لنشر أبحاثه. استقى ديديكند حافزه، تمامًا مثل فايرشتراس، من تدريس حساب التفاضل والتكامل للمدارس الثانوية؛ إذ ازداد عدمُ اقتناعه باستخدام مفاهيمَ هندسية غير مُعرَّفة لتعريف النهايات والاتصال. ولكن بدلًا من التركيز على حوسبة النهايات، ذهب ديديكند إلى ما هو أعمقُ من ذلك، إلى المشكلة الأصلية التي شغلت زينون والأخوية الدينية الفيثاغورية ويودوكسوس وأرسطو وبولزانو، وعكف على دراسة التحليل منذ النظرة الأساسية. وكانت المشكلة الأساسية هي كيفية التوصُّل إلى نظرية حسابية ١٠٠٪ عن «الاتصال البحت»، كما في الحركة والبنى الهندسية المُتصلة مثل الخطوط والمساحات والحجوم،٤ الذي يُفترَض أنه موضوعٌ يُعنى به في المقام الأول حساب التفاضل والتكامل، ولكنه لم يُعرَّف أبدًا بالقدْر الكافي من الوضوح والدقة الذي يجعل براهينه وجيهةً حقًّا.
الكيان الذي اختاره ديديكند لتمثيل الاتصال الحسابي هو خط الأعداد الحقيقية القديم الجيد، الذي ينبغي مع ذلك أن نُطلِق عليه خط الأعداد؛ إذ لم يُصبح من الأصح من حيث الدقةُ أن نُسمِّيَه «خط الأعداد الحقيقية» إلا بعد وضع ما يُسمَّى بمسلَّمة كانتور — ديديكند (أسمَّاه ديديكند )، وحسبما تذكُر من الجزء ٢(ﺟ) فهو مُرتَّب ومُتناهي الكثافة ومُمتد، ويُمكنك استخدامُه لتمثيل الأعداد النسبية عن طريق تعيين نقطة فريدة على الخط لكل عددٍ نسبي. ومع ذلك، فإن السبب الرئيسي في أن التحليل يتطلَّب أكثرَ من الأعداد النسبية هو أن خط الأعداد، مثل جميع الخطوط، مُتصلٌ على نحوٍ لا تجده في مجموعة الأعداد النسبية. ويرجع الأسلوب الذي صاغَ به ديديكند هذا إلى الإغريق «ومع ذلك، فإنَّ الأهم حقًّا هو حقيقة أنَّ هناك عددًا لا نهائيًّا من النقاط في الخط المستقيم لا تُناظر أي عددٍ نسبي.» حيث استشهدَ بعدها بمثال على قُطر مربع الوحدة القديم. ومن ثمَّ، كانت استراتيجيته ببساطة هي شرح ما الذي يجعل متصلًا وبدون فراغات بينما مجموعة الأعداد النسبية ذات الكثافة اللانهائية ليست كذلك. وبالطبع، كان يعلم كما هو معلوم لنا جميعًا وقتها أن السبب هو الأعداد غير النسبية، لكنَّ أحدًا لم يستطع أن يُعرِّفها تعريفًا مباشرًا. وعليه، سيتقمَّص ديديكند هنا شخصية سقراط ويُباشر عمله كما لو أنه لم يسمع أبدًا بالأعداد غير النسبية ويتساءل ببساطة: ما الشيء الذي يُلازمه تمامًا اتصال ويُعدُّ جزءًا لا يتجزَّأ منه؟٥ وكانت إجابته عن هذا السؤال هي ما جعلت خط الأعداد الحقيقية واقعًا رياضيًّا، وأثبتَ — بالتعاون مع كانتور — أنَّ مجموعة الأعداد الحقيقية تُكوِّن سلسلة متصلة.

الجزء ٦(ب)

جزء تكميلي

إنَّ أداة ريتشارد ديديكند، المعروفة الآن ﺑ «حدود ديديكند»، لإنشاء خط الأعداد الحقيقية بارعة وغريبة للغاية، وقبل الخوض في تفاصيلها المُعقَّدة يجدُر التنويهُ إلى أنَّ اهتمام ديديكند بمعالجة اللانهائي الفعلي هو ما مكَّن برهانه من المرور. وكما ذكرنا في الجزء ٥ وفي مواضع أخرى، فإنَّ أحد الأسباب التي جعلت مفهوم النهايات يلقى قَبولًا ورواجًا كبيرًا في التحليل أنه توافقَ جيدًا مع الفكرة القديمة للانهائي الاحتمالي، ويبدو أن فكرة أن اللانهائية شيءٌ يُمكنك «الاقتراب منه» دون الاضطرار حقًّا إلى بلوغه مُستقاةٌ تقريبًا من كتاب «الميتافيزيقا». ويتضح احتفاءُ الرياضيات الضِّمني بتمييز أرسطو في نصٍّ يُستشهَد به كثيرًا ويرجع إلى سي إف جاوس (نعم: جاوس أستاذ ديديكند) حوالي عام ١٨٣٠:

أعترضُ على استخدام مقدار لا نهائي على أنه كيان فِعلي؛ فهذا غير جائز أبدًا في الرياضيات. اللانهائي ما هو إلا أسلوبٌ في الحديث، حيث يتحدَّث المرءُ على الأرجح عن النهايات التي يُمكن أن تقترب منها بعضُ النِّسَب حسب المطلوب، بينما يُسمَح للآخرين بالزيادة دون قَيد.

ومن دواعي المفارقة بالطبع أنه بعد عَقدَين فقط من تخليص فايرشتراس للنهايات من آخر الأجزاء الغامضة المتعلقة باللانهائية بدأنا نرى كبار علماء الرياضيات الذين لم يتبنَّوا فقط اللامُتناهي الفعلي، بل استخدموه أيضًا في براهينهم. وكان ديديكند واحدًا منهم. ولا يبدو أنه اقتنع بما قاله كانتور أو بولزانو أو غيرهم عن اتساق المجموعات غير المنتهية. كان ديديكند، مثلما أوضحنا في الجزء ٢(أ)، من أتباع أفلاطون. ومن الواضح أنه كان يعتقد أن الحقيقة الرياضية ليست تجريبية بقدْر ما هي معرفية:

إنَّ ما أعنيه عند الحديث عن الحساب (الجبر والتحليل) كجزءٍ من المنطق هو التلميح إلى أنني أفترضُ أنَّ مفهوم الأعداد مُستقلٌّ تمامًا عن مفاهيم أو بديهيات الفراغ والزمن؛ أنني أفترض أنه نتيجة مباشرة لقوانين التفكير (أي المبادئ العقلية).

أو ربما يكون من الأفضل أن نُسمِّيَه فينومينولوجيا، إذ إن التمييز بين حقائق الرياضيات على أنها إبداعات في مقابل اكتشافات لم يكن بالأمر المهم من وجهة نظر ديديكند: «الأعدادُ هي إبداعاتٌ حرَّة للعقل البشري؛ فهي تُستخدَم كوسيلةٍ لفهم الفرق بين الأشياء بسهولةٍ ووضوح أكبر.»

أو انظر إلى ذلك. في مقال مُصاحِب لبحث «الاتصال والأعداد غير النسبية»، الذي يُترجَم عادةً إلى «طبيعة الأعداد ومعناها»،٦ عرضَ ديديكند برهانًا مُميَّزًا لنظريته «النظرية ٦٦، تُوجَد نظم غير مُنتهية»، الذي سار على النحو التالي: «إنَّ عالَم أفكاري،٧ أي مُجمَل من كلِّ الأشياء التي يُمكن أن تكون أفكاري، لا نهاية له. فإذا كان يُشير إلى عنصرٍ من ، إذن فإن الفكرة ، أي إنَّ يمكن أن تكون إحدى أفكاري، هي نفسها عنصرًا من ، …» وهكذا؛ أي إن المتسلسلة غير المنتهية ( + [ هي إحدى أفكاري] + [« هي إحدى أفكاري» هي إحدى أفكاري] + …) موجودة في عالَم الأفكار، وهو ما يستلزم أن يكون عالَم الأفكار في حدِّ ذاته لا مُتناهيًّا. وفيما يخصُّ هذا البرهان، لاحظ (أ) كيف أنه يُشبه كثيرًا أفكار زينون عن الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق الذي سبقت الإشارة إليه في الجزء ٢(أ)، و(ب) كيف أنه يُمكننا بسهولة الاعتراضُ بأنَّ البرهان قد أوضحَ فقط أن عالَم أفكار ديديكند «لا مُتناهٍ احتماليًّا» (وبمفهوم أرسطو تمامًا للمصطلح)، حيث لا أحدَ يستطيع فعليًّا أن يجلس ويُفكر في متسلسلة غير منتهية كاملة من الأفكار على غرار ( )، أي إن المتسلسلة هي تجريدٌ تام.
الفكرة هي أن برهان ديديكند في «الطبيعة والمعنى» لن يُقنع أيَّ شخصٍ ليس لديه استعدادٌ بالفعل للإقرار بوجود٨ نظم/متسلسلات/مجموعات غير مُنتهية فعليًّا … وهو ما كان عليه كلٌّ من ديديكند وكانتور بالتأكيد. ولكن، على خلاف ديديكند، كان كانتور يميل إلى تقديم نفسه على أنه يُجَرُّ جرًّا للخوض في اللانهائيات الفعلية، كما في المثال التالي:

إنَّ فكرة النظر إلى المُتناهي في الكبر ليس فقط في صورة مقدارٍ يزيد بلا حدود وفي الصورة الوثيقة الصِّلة بالمتسلسلات غير المنتهية المُتقاربة … ولكن أيضًا لمعالجته رياضيًّا بواسطة الأعداد في الصورة المُحدَّدة للَّامُتناهي المُطلق قد فُرِضَت عليَّ فرضًا بحُكم المنطق، ورغمًا عن إرادتي تقريبًا حيث كان ذلك على خلاف العادات التي تعلقَت بها على مدى سنواتٍ عديدة من الجهد العلمي والأبحاث.

يُعزى هذا الاختلاف في أسلوب العرض في جزءٍ منه إلى أنَّ جي كانتور كان أكثر بلاغةً من ديديكند، ويُعزى في جزءٍ آخر إلى أنَّ كانتور كان عليه أن يتصدَّر الصفوف الأولى في معركة الرياضيات حول اللانهائية، وتصدَّر هذه الصفوف بالفعل، على نحوٍ لم يفعله ديديكند أبدًا.

ومع ذلك، فثمة شيءٌ آخر ينبغي وضعه في الاعتبار، وهو أن رياضيات الأعداد فوق المنتهية لكانتور سوف ينتهي بها المطاف إلى تحجيم اعتراضاتٍ أرسطية تمامًا على غرار الاعتراض (ب) أعلاه على برهان ديديكند، حيث إنَّ نظرية كانتور ستُشكِّل الدليل المباشر على أن المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي يُمكن فهمها ومعالجتها والتعامل معها بواسطة العقل البشري، تمامًا مثلما يُتعامَل مع السرعة والعجلة باستخدام حساب التفاضل والتكامل. ومن ثمَّ، ينبغي الإشادة مقدمًا بأنه مهما كانت النظُم غير المنتهية مجردة، فمن المؤكَّد أنها بعد كانتور لم تكن مجردة على النحو غير الحقيقي/المصطنَع الذي كانت عليه وحيدات القرن.

نهاية «جزء تكميلي»

الجزء ٦(ﺟ)

عودة إلى مناورة ديديكند الافتتاحية في الاستفسار عمَّا يُميز اتصال خطِّ الأعداد . حسبما تبيَّن، حاول كلٌّ من جاليليو ولايبنتس وبولزانو افتراضَ أن اتصال يعتمد في الواقع على الكثافة اللانهائية للنقاط التي تُشكِّله؛ أي على حقيقة أنَّ بين أي نقطتَين على خط الأعداد دائمًا ما تستطيع إيجادَ نقطة ثالثة. ومع ذلك، كما رأينا، تنطبق السمةُ نفسُها على جميع الأعداد النِّسبية على الصورة ،٩ وحيث إنَّ (١) كل عدد نسبي يُمكن كتابته على الصورة ،١٠ و(٢) نعلم أن مجموعة جميع الأعداد النسبية ليست متصلة، وديديكند رفض فكرة أنَّ اتصال يُلازِم أيَّ نوع من الكثافة أو «المَعيَّة/التلازم»: «من الواضح أنَّ إبداءَ ملاحظاتٍ غامضة بشأن علاقة الاتصال غير المنقطع في أصغر أجزاء خط الأعداد لن يُسفِر عن شيءٍ على الإطلاق، فالمسألة هي الوقوف على صفة الاتصال المُحدَّدة التي يُمكن أن تكون هي الأساسَ للوصول إلى استنتاجاتٍ سليمة.»
كانت ضربة ديديكند المُوفقة هي تحديد هذه «الصفة المُحدَّدة» ليس في كثافة أو ترابطه، ولكن في خاصية مقابلة، وهي قابلية التجزئة/القسمة، التي هي بدورها إحدى النتائج المُترتبة على أن خط الأعداد مرتَّب ومتتابِع؛ أي على أن كل نقطة على خط الأعداد تكون على يمين كلِّ نقاط الأعداد الأصغر منها، وعلى يسار كل نقاط الأعداد الأكبر منها. وهذا يعني أننا نستطيع أن نتخيَّل عند أي نقطة مُعينة على خط الأعداد أنها قَسَّمت١١ خط الأعداد إلى جزأَين؛ أي إلى مجموعتَين غير مُنتهيتَيْن غير مُتقاطعتَين،١٢   على اليسار و على اليمين، حيث كل عددٍ نِسبي في أكبرُ من كل عددٍ نسبي في . يتضمَّن مقال «الاتصال والأعداد غير النسبية» (الذي جاء، كما ذكرنا، مُسهبًا على نحوٍ غير معتاد بالنسبة إلى مقال رياضي مُتخصِّص) فقرةً على هامش الموضوع، يسلك فيها ديديكند كلَّ مسلك، ويتظاهر بالاعتذار عن النحو الذي قد تبدو عليه فكرة التقسيم سخيفةً وبديهية، على سبيل المثال: «سوف يستاء غالبية قُرَّائي عندما يعرفون أن سرَّ الاتصال سيُفشَى من خلال هذه الملاحظة العادية المُبتذَلة.» والملاحظة التي يُشير إليها النقيض المنطقي لجملة قابلية التجزئة/القسمة المُوضَّحة أعلاه، وهي أنَّ:

إذا كانت كلُّ نقاط الخط المستقيم تقع في فئتَين اثنتين بحيث تكون كل نقطةٍ في الفئة الأولى على يسار كل نقطةٍ في الفئة الثانية، فهناك إذن نقطةٌ وحيدة هي التي تنقسم عندها كلُّ النقاط إلى فئتَين، وهذا يقسم الخطَّ المستقيم إلى جزأَين.

ومعنى هذا أنك بتحديد عناصر وحدود المجموعتَين و تستطيع تحديدَ قيمة النقطة التي نُقسِّم عندها إلى و . وكما سوف تذكُر من الجزء ٢(ﺟ)، فإنَّ تحديد نقطة يعني تحديد عدد.

أحد الاعتراضات التي أُثيرَت في هذا الصدد أنَّه بما أنَّ الخط المَعنيَّ هو خط الأعداد وتُعيَّن عليه فقط الأعدادُ النسبية، فمن الإنصاف أن نسأل كيف سيُساعد حَدٌّ في تحديد الأعداد غير النسبية، التي هي بالطبع «سرُّ اتصال» خط الأعداد الحقيقية. وإنَّ القول بأن كلَّ عددٍ نسبي سيُناظر حَدًّا ما لكن ليس كلُّ حَدٍّ سيُناظر عددًا نسبيًّا قد يبدو كما لو كان إعادة تأكيد، على أننا لا نستطيع تحديد الأعداد غير النسبية بدلالة أعدادٍ نسبية. والإجابة هي أن ديديكند استطاع حرفيًّا تحديد كل عددٍ غير نِسبي من خصائص المجموعتَين اللَّتين يُقسِّم الخطَّ إليهما. وفيما يلي آلية ذلك.

افترض أنَّ حدًّا على خط الأعداد يقسِّم المدى اللانهائي الكامل من الأعداد النسبية إلى مجموعتَين و بحيث تكون كلُّ العناصر في المجموعة أكبرَ من كل العناصر في المجموعة . وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا، فَكِّر أيًّا من و ستحتوي على أكبر/أصغر عناصر.١٣ تُوجَد ثلاثة احتمالات فقط، بناءً على مكان الحَدِّ وطريقة تحديده، واحتمالٌ واحد فقط منها يُمكن أن يكون صحيحًا. الاحتمال (١) = المجموعة تحتوي على عنصر أكبر (كالحال، على سبيل المثال، إذا كانت المجموعة للحَدِّ تحتوي على كل الأعداد النسبية ، والمجموعة تحتوي على كل الأعداد النسبية )، الاحتمال (٢) = المجموعة تحتوي على عنصر أصغر (كالحال، على سبيل المثال، إذا كانت المجموعة للحَدِّ تحتوي على كل الأعداد النسبية )، الاحتمال (٣) = لا يُوجَد عنصر أكبر في المجموعة ولا عنصر أصغر في المجموعة .

جزء تكميلي صغير

بما أن هذه هي الخيارات الثلاثة الوحيدة، ربما لاحظتَ على الأرجح أنه يستحيل أن تتضمَّن المجموعة عنصرًا أكبر؛ لأن تتضمَّن كل شيءٍ بدءًا من الحَدِّ إلى ، والخط بمفهوم ديديكند هو خط الأعداد الحقيقي، ويحتوي أيضًا على الأعداد النسبية المُمتدة إلى اليسار بدءًا من ؛ ومن ثمَّ فإن تتضمَّن كل شيءٍ من إلى الحَدِّ، ولا يمكن أن يكون بها عنصر أصغر. ورغم ذلك، إذا تساءلتَ لماذا لا يُوجَد احتمالٌ رابع يُفترَض وجود عنصر أكبر في وعنصر أصغر في ، فثمة أسلوب سهل لإثبات استحالة ذلك. إنَّه برهانٌ بنقض الفرض؛ ولذا نفترض أنه يُوجَد عنصر أكبر وعنصر أصغر . ولكن هذا يعني أنه سيُوجَد عدد نسبي معين، يُساوي ، يكون أكبر من وأصغر من ، ومن ثمَّ لا يُمكن أن يكون عنصرًا في أيٍّ من أو . ولكن و حسب تعريفهما تحتويان معًا على كل الأعداد النسبية. وعليه، فإن الاحتمال الرابع مُتناقض.

ولكن لماذا إذن لا يكون الاحتمال الثالث مُتناقضًا أيضًا بنفس الطريقة؟

نهاية «جزء تكميلي صغير»

•••

ذكرنا على نحوٍ غير رسمي أن مثال ديديكند بخصوص الاحتمال (٣) عبارة عن حَدٍّ تحتوي المجموعة له على كل الأعداد النسبية السالبة وكل الأعداد النسبية المُوجبة بحيث تكون ، والمجموعة له تحتوي على كل الأعداد النسبية المُوجبة بحيث تكون . إذا كان من الممكن إثباتُ عدم وجود عددٍ نسبي يُناظر هذا الحَدَّ، فسنكون حدَّدنا عددًا غير نِسبي مُعينًا، وهو في هذه الحالة العدد غير القابل للقياس أبدًا .١٤
رأينا في الجزء ٢(ﺟ) برهانًا على أن ليس عددًا نسبيًّا،١٥ ونستطيع أن نُسلِّم جدلًا بصحة هذا الأمر. لكن ديديكند لم يُسلِّم بالأمر، وقدَّم برهانه الخاص على أنَّ الحَدَّ في المثال الوارد في الاحتمال ٣ لا يُناظر أي عددٍ نسبي. وهو ما سوف نستعرِضه هنا. لعلَّنا نرغب جميعًا الآن في أخذ نفَس عميق للحظة والاسترخاء واستعادة حالة اليقظة والاهتمام. البرهان الذي قدَّمه ديديكند هو برهانٌ بنقض الفرض؛ ومِن ثمَّ يبدأ بافتراض أنَّ هناك فعلًا عددًا نسبيًّا يُناظر الحَدَّ في الاحتمال (٣). وإذا كان هذا العدد النسبي موجودًا، إذن طبقًا لتعريف المجموعة ، فإن إما أن يكون أكبر عنصرٍ في المجموعة ، وإما أن يكون أكبر من أي عنصرٍ في (بمعنى أنه يقع في المجموعة ). وفي كلتا الحالتين، أي عددٍ أكبر من (وليكن ) — طبقًا للتعريف — سوف يكون قطعًا في المجموعة ، وهو ما يعني أن يجب أن يكون . وبذلك، إذا كان لأي مناسب يُمكننا إيجاد أكبر من حيث ، فإن الافتراض الأوَّلي بأن عدد نسبي سيتمُّ نقضه.
وعليه، سلِّم جَدَلًا بالتعريف الوارد أعلاه لكلٍّ من و ، وعرِّف عددًا موجبًا على أنه يُساوي ، وعرِّف كذلك على أنه يُساوي . قد يبدو التعريف الأخير غريبًا بعض الشيء، لكن يُمكنك التحققُ بسهولةٍ أنه بمعلومية التعريف الأصلي وقيمة ، فإن سيكون أكبرَ من ، ومن ثمَّ يظلُّ الافتراض الحاسِم بأن محافظًا على صحته. والآن نستعرض بقية البرهان وهو مجرد جزءٍ من مُقرر الرياضيات القديم المُمل للصف الثامن:
  • (١)
  • (٢)
    . بما أن طبقًا للتعريف أكبر من ، فإنَّ ، ومن ثمَّ ، ومن ثمَّ
  • (٣)
    . بضرب البسط والمقام لهذا المِقدار الأكبر ليكون هو المقام المشترك، نحصل على
  • (٤)
    . وبما أنَّه، طبقًا للتعريف، ، فمن الواضح إذن أن ، وعليه بتعويض المقدار في (٤) يصبح
  • (٥)
    ، وهو ما يُصبح بعد توزيع الثوابت
  • (٦)
    ، وهو ما يُصبح بعد توزيع في الحد الثاني
  • (٧)
    ، وهو ما يُختصَر بديهيًّا إلى
  • (٨)
    ، وهو نفسُه
  • (٩)
    ، وبمعلومية أنَّ طبقًا للتعريف أكبر من ، سيكون هذا المقدار دائمًا أصغر من . وعليه، فمن خلال الخطوات من (١) إلى (٩) (مع تركيز خاص على (١) و(٣) و(٩))، نكون قد أثبتْنا أنَّ
  • (١٠)
    ، وهو ما يعني طبقًا لقانون التعدِّي أنَّ
  • (١١)
    ، وهو المطلوب بالضبط لنقض الفرض الأوَّلي بأن الحَدَّ يُناظر عددًا نسبيًّا . أي إنه لا يُناظر عددًا نسبيًّا . وهو المطلوب إثباته.
وعقب البرهان مباشرةً، كتب ديديكند: «بالنظر إلى خاصية أنَّه ليس كل الحدود (التقسيمات) تنشأ بواسطة أعداد نسبية، نستنتج أنَّ النطاق الذي يتضمَّن كلَّ الأعداد النسبية مُنفصل أو غير متصل.» ولكن هذا ليس كل ما في الأمر. فقد سمحت فكرة الحَدِّ (التقسيم) بتعريف الأعداد غير النسبية بدلالة الأعداد النسبية، وهذه هي الطريقة الوحيدة لوضع نظرية استنتاجية دقيقة ١٠٠٪ عن الأعداد الحقيقية. والتعريف كالتالي: العدد غير النسبي هو قيمة نقطةٍ ما ينقسم عندها خطُّ الأعداد بواسطة حَدٍّ ما إلى مجموعتَين مُنفصلتَين تمامًا هما المجموعة والمجموعة بحيث لا تشتمل المجموعة على عنصرٍ أكبر ولا تشتمل المجموعة على عدد أصغر.١٦ هذا التعريف هو ما أدى إلى ظهور السلسلة المُتصلة — أي مجموعة كل الأعداد الحقيقية — وحوَّل خط الأعداد إلى خط الأعداد الحقيقية.١٧ ومن الأمور اللطيفة والرائعة أن أسلوب ديديكند قد استخدم ما جعل الأعداد الصماء غامضةً للغاية — وهو تناظُرها لنقاط غير مُسمَّاة على خط الأعداد — كجزءٍ من تعريفها الدقيق.

الجزء ٦(د)

بالطبع، تفترض أيضًا نظرية ديديكند وجود المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي. والأكثر من الافتراضات أنَّ التعريف الاصطلاحي للعدد الحقيقي — من خلال فكرة الحَدِّ (التقسيم) — قد أصبح كالتالي: «زوج مُعين من المجموعات غير المنتهية ذو خصائص مُعينة». ويُوجَد هنا عدد من أوجه الغرابة المُحتمَلة التي ينبغي ملاحظتها. أولًا، نظرًا إلى حساسية الرياضيات الطويلة الأمد التي كثيرًا ما يُشار إليها تجاه اللانهائيات الفعلية، ربما يُنظَر إلى نظرية ديديكند على أنها ببساطة عبارة عن مُبادلة مقدارٍ من النوع غير القابل للتعريف بمقدارٍ آخر، أي على أنها استحضارٌ — بغرض إرساء الأعداد الصمَّاء وتعريفها — للفكرة الغامضة بأنها ليست مجموعة واحدة وإنما مجموعتان كبيرتان على نحوٍ لا يُمكن تصوُّره ومع ذلك مُرتَّبتَين بدقة، كلٌّ منهما غير مُنتهية نوعًا ما ولكنها محدودة بطرُق خاصة للغاية. وهو ما قد يُفاجئك كونه شديد الشَّبَه بما ذهب إليه زينون مرةً أخرى. وإن كان الأمر كذلك، فاحتفظ بهذه الفكرة جيدًا.

وجه الغرابة الثاني: إذا كنتَ مُصغيًا على غير العادة ولا يعتريك الملل، فربما تكون قد لاحظت تشابهًا لافتًا بين نظرية ديديكند وفكرة يودوكسوس النيدوسي عن عدم القابلية للقياس الهندسي السابق ذكرها في الجزء ٢(د). وفيما يخصُّ هذا التشابُه، يُرجى استرجاع الجزء ٢(د) أو مراجعته وملاحظة كيف أن مفهوم الحَدِّ (التقسيم) قد ساعد الآن في توضيح الدور الذي لعبه تعريف يودوكسوس لفكرة «النسبة» في تحديد الأعداد غير النسبية: العدد المكتوب على صورة النسبة هو عدد غير نسبي (أي إن و غير قابلَيْن للمقايسة) فقط عندما تكون، لأي عددٍ نسبي ، عبارة الفصل أو صحيحة،١٨ أي عندما . ليس ثمَّة اتهام هنا بأن ديديكند قد سرق فكرة يودوكسوس أو حتى أنه كان بالأحرى يعرف مَن هو. انظر، على سبيل المثال، مقدمة مقال «طبيعة الأعداد ومعناها» التي يُشير فيها ديديكند إلى التعريف الخامس ليودوكسوس في كتاب «الأصول» دون أي وعيٍ واضح على معرفته بالمصدر الذي استقى منه إقليدس هذا التعريف. يُبرز هذا الاستشهاد الاختلاف الكبير بين ديديكند ويودوكسوس، وكذلك بين الرياضيات لدى الإغريق والتحليل الحديث:
إذا نظر المرءُ إلى العدد غير النسبي على أنه النسبة بين مِقدارَين قابلَين للقياس،١٩ فهل هذه الطريقة [= طريقة ديديكند] في تحديده المذكورة سلفًا بأوضحِ أسلوب٢٠ في التعريف الشهير الذي قدَّمه إقليدس عن تساوي نِسبتَين (كتاب «الأصول»، الجزء الخامس، مُسلَّمة ٥).
يكمن الاختلاف في الجملة الافتتاحية «إذا … مقدارَين قابلَين للقياس». كان يودوكسوس وإقليدس (مرة أخرى) عالمين في الهندسة، وكانت مسألة الأعداد غير النسبية بالنسبة إليهما تخصُّ مقاديرَ هندسية مثل الخطوط/المساحات/الحجوم. في حين كان مشروع ديديكند بأكمله (على غرار ما كان، مرةً أخرى، مع فايرشتراس) يهدف إلى الخروج تمامًا من عِلم الهندسة وتأسيس التحليل كليًّا في عِلم الحساب.٢١ وهذا هو السبب الذي جعل ديديكند يقول مرارًا وتكرارًا إن خط الأعداد والنقاط الهندسية في نظريته للتقسيم كانا لأغراض الترفيه ليس إلا. في الواقع، تتضمَّن مقدمته المشارُ إليها أعلاه واحدةً من أكثر الجُمَل إثارة على الإطلاق عن جماليات الحوسبة، وهي: «من الأمور الجميلة بوجهٍ خاص أنني أرى فيما يبدو أن المرء يُمكنه المضيُّ قُدُمًا نحو إنشاء نطاق الأعداد المتصل البحت، من دون أي اعتبارٍ للمقادير القابلة للقياس، وفقط من خلال نظامٍ مُتناهٍ من خطوات التفكير البسيطة.»
على الجانب الآخر، من الجيد أن نتساءل عما إذا كان من المقبول القولُ بأن استخدام المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي في تعريفٍ رياضي ينطوي فقط على «نظام متناهٍ من خطوات التفكير»، وهو ما يعود بنا إلى الموضوع الذي ذكرناه قبلَ فقرتَين من هنا. إذا اعترضتَ على استخدام المجموعات غير المُنتهية في تعريف دقيق؛ لأنك تشعر أن هذه المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي غير حقيقية/غير جائزة رياضيًّا، فإنك تُحاكي إذن فكر أرسطو/جاوس، وسيكون من أوائل المؤيدين لك البروفيسور إل كرونكر (١٨٢٣–١٨٩١)، الذي كان — كما ذُكِر من قبل — مُعلمَ كانتور في وقتٍ ما، ثم صار بعد ذلك عدوَّه اللدود والشخص الذي يرى بعضُ المؤرخين أنه السبب الوحيد تقريبًا الذي دفعه إلى الجنون، والذي (= كرونكر) كان على الأغلب أول «عالِم حَدْسي» في تاريخ الرياضيات، وذهب إلى أن الأعداد الصحيحة هي الشيء الوحيد الحقيقي رياضيًّا لأنها الشيء الوحيد «الواضح للحَدْس» وهو ما يعني أن الأعداد العشرية والأعداد غير النسبية وبالتأكيد المجموعات غير المنتهية؛ جميعها وحيداتُ قرنٍ رياضية. وفي الغالب، فقد اختُزِل كرونكر في تاريخ الرياضيات في مقولته: «الأعداد الصحيحة وحدَها هي من خلق الله، وكلُّ ما عداها هو من صنع البشر.» تمامًا مثلما حُصِرَ دالمبير في مقولته: «امضِ قُدمًا فحسْب، وسوف يأتيك اليقين.» وأرخميدس في كلمته المشهورة: «وجدتُها!».٢٢ يُوجَد ما هو أكثر مما تريد على الأرجح معرفته عن إل كرونكر والحَدسيَّة في بضع فقراتٍ أدناه، أما الآن فيكفي أن تعرف أنه مثلما كان فايرشتراس وديديكند وآخرون يُريدون استبعاد الهندسة من التحليل وتأسيس كل شيءٍ على نظام الأعداد الحقيقية، ذهب كرونكر إلى ما هو أبعدُ من ذلك، وأراد أن يُؤسِّس التحليل فقط على الأعداد الصحيحة وعلى الأعداد النسبية المكتوبة على صورة نِسبة بين عددين صحيحَين.
والآن، نعود إلى الاعتراض الخاص بعدم إمكانية استخدام مجموعاتٍ غير منتهية في تعريفٍ ما على نظرية ديديكند للأعداد الحقيقية. هناك طريقتان على الأقل للردِّ على هذا الاعتراض. تتمثل الطريقة الأولى في القول بأن (انظر الحاشية السُّفلية رقم ٢١) نظرية ديديكند لا تُطالبنا في الواقع بمعالجة المجموعات غير المنتهية بمفهوم «المعالجة» الخاصِّ كما ورد في الجزء ١. وعلى وجه التحديد، لا يفترض أسلوب الحَد (التقسيم) اللانهائيات الفعلية بقدْر ما يفترضها المقدار . وهو ما يعني أن المجموعتَين غيرَ المُنتهيتَيْن و في نظرية ديديكند مُجردتان وافتراضيتان تمامًا: لسنا مُضطرِّين إلى عدِّهما أو رسمهما أو حتى التفكير فيهما خارج نطاق معرفة أن وتحديد العنصر الأكبر مقابل العنصر الأصغر مقابل عدم تحقُّق أيٍّ من الحالتَين.
إذا كنتَ غيرَ مقتنعٍ بهذا الرد وما زلت تشعر أن كلَّ ما يفعله تعريف ديديكند الذي يُفترَض أنه دقيق هو مبادلة الغموض الرياضي للأعداد غير النسبية بالغموض الرياضي للمجموعات غير المُنتهية، فمن المُستحسَن إذن توضيح أنه في الوقت الذي ظهر فيه مقال «الاتصال والأعداد غير النسبية»، بدأ جي إف إل بي كانتور في نشر بحثه الذي أزال غموض المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي التي افترضها ديديكند. وكما توقَّعنا مُقدمًا في الجزأَين ١ و٤، كان ظهور كانتور وديديكند المتزامن تقريبًا في الرياضيات بمثابة تَكرار إلى حدٍّ ما لظهور كلٍّ من نيوتن ولايبنتس، وهو ما كان علامة مؤكَّدة على أن الوقت أصبح مواتيًا للمجموعات من النوع اللانهائي. وممَّا لا يقلُّ إثارةً عن ذلك الأسلوب الذي تتداخَل به أبحاث الرجلَين، على غرار لوحات إيشر المُستوحاة رياضيًّا التي يُمثل من خلالها المفارقات الرياضية عن طريق الفن.٢٣ استطاع كانتور تعريف وإرساء مفهومَي «المجموعة غير المنتهية» و«العدد فوق المنتهي» وصياغة أساليب دقيقة للجمع بين الأنواع المختلفة من اللانهائيات والمقارنة بينها، وهذا تحديدًا هو الجزء الذي يتطلَّب دعمًا بالأدلة في تعريف ديديكند للأعداد غير النسبية. وبالمقابل، أوضحَ أسلوب الحَدِّ (التقسيم) أن المجموعات من النوع اللانهائي الفعلي يمكن أن تكون ذات فائدة حقيقية في التحليل. وبعبارة أخرى، فإنه بقدْر ما يجب أن تظل اللانهائيات مجردةً حسيًّا وإدراكيًّا؛ فمن الممكن على الرغم من ذلك أن تكون في الرياضيات بمثابة تجريداتٍ واقعية بدلًا من أن تكون مجرد شطحات خيالٍ غريبة ومتناقضة.٢٤
كما أن التوقيت كان غريبًا في الغالب. كانت المرة الأولى التي علِم فيها ديديكند بوجود جي كانتور في مارس ١٨٧٢، عندما قرأ مقاله «حول توسيع نطاق فرضية من نظرية المتسلسلات المُثلثية»٢٥ في دورية علمية كبيرة بينما كان بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقاله «الاتصال والأعداد غير النسبية»، الذي وضع في المسوَّدة الأخيرة منه اقتباسًا عن كانتور وفقرة «شكر وامتنان» ﻟ «هذا المؤلف العبقري» الذي جاءت نظريته عن الأعداد غير النسبية في بحثه «… متوافقة، ناهيك عن أسلوب العرض والتقديم، مع ما أسميته جوهر الاتصال.» ثم التقيا مُصادفةً في وقتٍ لاحق من العام نفسِه في ملاذٍ لقضاء العطلات في سويسرا. اصطدم كلٌّ منها بالآخر حرفيًّا. كان كانتور دكتورًا في جامعة هاله وكان ديديكند يُدرِّس في المدارس الثانوية في برونزفيك.٢٦ تصادقا بمجرد أن التقيا، وشرعا في تبادل الخطابات، وكثير من نتائج كانتور الأكثر أهميةً على الإطلاق صيغت في هذه الخطابات. لكن لم يحدُث قط أن تعاون الاثنان معًا تعاونًا حقيقيًّا، ووقع صدام كبير على ما يبدو بينهما في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما خدع كانتور ديديكند بأن عرض عليه وظيفة أستاذ بجامعة هاله وريتشارد ديديكند رفضها (وإنْ كان من المُفترض أنهما قد تصالحا في نهاية المطاف بالنظر إلى لقاءات الغداء الكثيرة التي جمعت بينهما خلال عام ١٨٩٩). مرةً أخرى، نحرص على تخطي مُعظم هذا النوع من المعلومات الشخصية.

الجزء ٦(ﻫ)

جزء تكميلي يتضمَّن معلومات شبه إضافية

كانت نظرية جي كانتور عن الأعداد غير النسبية، التي كما ذكرنا نُشِرت غالبًا في مقال عام ١٨٧٢ «حول … المتسلسلات»، مُعقدة تقنيًّا ومن ثمَّ أقل أهميةً عن بحثه الأكبر عن نظرية المجموعات التي هي جزءٌ منه،٢٧ وبناءً على نسبة (الاهتمام/الإنهاك) الكلية لديك ربما لا ترغب فيما هو أكثرُ من المرور سريعًا وسطحيًّا على التعليق التالي، الذي يشغل حيزًا بلاغيًّا صعبًا وصُنِّفَ على أنه معلومة شِبه إضافية.
نهاية «جزء تكميلي يتضمَّن معلومات شبه إضافية»

•••

كان اهتمام كانتور بتعريف الأعداد غيرِ النسبية في حدِّ ذاتها أقلَّ من اهتمامه بابتكار أسلوب يُمكنه من خلاله تعريفُ كل الأعداد الحقيقية، النسبية وغير النسبية، بنفس الطريقة. وكان كانتور في الواقع أول مَنْ قدم إلى الرياضيات فكرة مجموعة مكوَّنة من كل الأعداد الحقيقية تتضمَّن كلًّا من الأعداد النسبية والأعداد الصماء (وهو ما اعترض عليه ديديكند لأسبابٍ مُبهمة). من الواضح أن نظرية كانتور تعتمد على المجموعات غير المنتهية أيضًا، ولكنها كانت بالنسبة إلى كانتور أشبهَ بمجموعاتٍ غير منتهية من متتابعاتٍ غير منتهية من الأعداد النسبية. ومن هنا يأتي جزءٌ من صعوبة نظريته. ويكمن جزءٌ آخر في أن كانتور كان يريد استخدام فكرة فايرشتراس عن الأعداد غير النسبية كنهاياتٍ دون مسألة الدوران في حلقة مُفرغة التي ذكرناها في الجزء ٦(أ)، وهو ما أدَّى به إلى استخدام المُتتابعات المتقاربة بدلًا من المتسلسلات.

وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا، فإنَّ كانتور لكي يتلافى الاستدلال الدائري العقيم في تعريف فايرشتراس استخدم حقيقة أن (١) كلَّ الأعداد الحقيقية يُمكن تمثيلها بواسطة أعدادٍ عشرية لا نهائية (هذه الأعداد العشرية النسبية دائمًا إما أن تُكرِّر الجزء الدوري الأساسي بها (كما في الحاشية السُّفلية رقم ١٠ في الجزء ٦(ﺟ)) وإما أن تنتهي بعددٍ لا نهائي من الأصفار أو التسعات (وهو ما يُكافئ، بالرجوع إلى المناقشة المطروحة في الحاشية السُّفلية رقم ٣٥ في الجزء ٢(ﺟ)، المقدار الكامل ))، وحقيقة أن (٢) الأعداد العشرية اللانهائية هي بمثابة نهاياتٍ للكسور العشرية. (لقد درستَ الكسور العشرية في الصف الرابع أو الخامس، وهي الطريقة التي نُعلِّم بها الأطفال فَهْم الأعداد العشرية بدلالة الكسور الاعتيادية، كما على سبيل المثال في . وفيما يلي مثالٌ آخر حيث يتضح أن التحليل الحديث يُشكِّل أساس عِلم الحساب لدى النشء: القاعدة العامة هي أنَّ أي عددٍ عشري لا نهائي يُمكن تمثيله على صورة متسلسلة غير منتهية متقاربة ، التي يبلغ مجموعها/تتقارب إلى العدد العشري الأصلي؛ أي إن العدد العشري هو نهاية المتسلسلة.)٢٨ وبعد ذلك، من خلال توظيفٍ ذكي للرياضيات وعِلم الدلالات، استطاع كانتور تجميع كلِّ الأعداد العشرية في بوتقة واحدة بملاحظة أنَّ تقارُب أي متتابعة٢٩ من الأعداد النسبية يُكافئ في معناه إمكانية تمثيلها بواسطة عددٍ عشري لا نهائي، وبذلك يكون هذا العدد العشري مُعرَّفًا رياضيًّا بواسطة المتتابعة.

(معلومة إضافية: إذا كانت الفقرة أعلاه تبدو مراوغةً ومُلتفَّة، فإنه يُمكننا اختزال الحجة في قياسٍ منطقي بسيط: «بما أنَّ (١) كل الأعداد قابلة للتعريف بواسطة أعداد عشرية و(٢) كل الأعداد العشرية قابلة للتعريف بواسطة متتابعات، (٣) فإن كل الأعداد قابلة للتعريف بواسطة متتابعات.» وهو أمرٌ صحيح تمامًا.)

على ضوء هذا كلِّه، تتمثل فكرة كانتور الأساسية في أنَّ متتابعة غير منتهية من الأعداد النسبية تُعرِّف عددًا حقيقيًّا إذا كانت المتتابعة تتقارَب بحيث تكون لأي قيمة اختيارية ٣٠ أي، إذا كان الفرق بين أي حَدَّين مُتتاليَين يقترِب من الصفر٣١ كلما تقدَّمت لمسافة أبعد وأبعد في المتتابعة (وهذه بالطبع هي آلية عمل الأعداد العشرية: بالوصول إلى المنزلة العشرية رقم ، يُمكن أن يُصبح الفرق بين القِيَم المتتابعة تقريبًا). ويُسمِّي كانتور المتتابعات التي تسلك هذا المَسلك بالمتتابعات الأساسية، وتنصُّ نظرية كانتور للأعداد الحقيقية على أن كل عددٍ حقيقي يُعرَّف بواسطة متتابعة أساسية واحدة على الأقل.
ثمَّة اعتراضان على هذه النقطة. إذا استوقفك هذا لكونه ضَربًا من الاستدلال الدائري أو المصادرة على المطلوب أن يُعرِّف كانتور «العدد الحقيقي» بأنه ذلك العدد الذي يُعرَّف بواسطة متتابعة أساسية — مثلما تُعرِّف «الكلب» بأنه ذلك الذي يُعرَّف بتعريف لفظة «كلب» — فلا بدَّ إذن أن نُوضح معنى «يُعرِّف» فيما يخصُّ نظرية كانتور. الفعل «يُعرِّف» يعني ببساطة «هو» أو «يساوي». أي إنَّ ما يُتيح للنظرية تلافيَ الدوران في حلقةٍ مفرغة هو أن المتتابعة الأساسية ذات الصلة «هي/تساوي» العدد الحقيقي، مثلما أنَّ «هو/يساوي» والدالة المُثلثية «هي/تساوي» مفكوك متسلسلتها المتقاربة. على الجانب الآخر، بما أنَّ الأعداد الحقيقية تشمل كلًّا من الأعداد النسبية وغير النسبية، فربما تتساءل عمَّا إذا كانت مُتتابعات كانتور الأساسية من الأعداد النسبية يُمكنها أيضًا تعريف الأعداد النسبية، وكيف، أو عمَّا إذا كانت الفكرة منطقية في الأساس. والإجابة هي أن الفكرة منطقية ويُمكن للمتتابعات الأساسية حقًّا تعريف أعدادٍ نسبية: شرط كانتور هو أنه عندما كل حَدٍّ بعد من حدود المتتابعة الأساسية يُساوي إما أو ، فإن المتتابعة تُعرِّف (= تكون هي) العدد النسبي .٣٢
ولكي تكون النظرية قابلةً للتطبيق حقًّا، كان على كانتور أن يُوضِّح كيفية إثبات الخصائص الحسابية وتنفيذ العمليات الأساسية على متتابعاته الأساسية والأعداد الحقيقية التي تُعرِّفها. ونتناول فيما يلي مِثالَين من الشروح التي استعرضها في بحثه، حيث نفترض أن العددَين الحقيقيَّين هنا هما و :
  • (أ)
    بما أنه تبيَّن أنك تستطيع تعريف نفس العدد الحقيقي عن طريق أكثرَ من متتابعة أساسية واحدة،٣٣ فإن قاعدة كانتور تنصُّ أنَّ متتابعتَين أساسيتَين و تُعرِّفان نفسَ العدد الحقيقي إذا كان وإذا كان فقط يقترب٣٤ من عندما يقترب تئول إلى .
  • (ب)
    لإثبات العمليات الحسابية الأساسية، لنفترض أن و متتابعتان أساسيتان يُعرِّفان و على التوالي. أثبتَ كانتور (بأسلوب مُتخصص مليء بالرموز، وهو ما حذفناه هنا) أنَّ ( ) و( ) هما أيضًا متتابعتان أساسيتان، ومن ثمَّ يُعرِّفان العددَين الحقيقيَّين و . في بُرهانه أنَّ هي متتابعة أساسية تُعرِّف ، الشرط الوحيد هو أن لا يُساوي بالتأكيد .
وختامًا، لعلك لاحظتَ اعتراضًا آخر مُحتملًا، وهو اعتراضٌ سفيه إلى حدٍّ ما. وربما يكون الشيء الوحيد الأكثر إثارة للإعجاب عن نظرية كانتور للأعداد الحقيقية وإمكانية تعريفها عن طريق متتابعاتٍ أساسية — الذي جعل ديديكند يُلقبه بالعبقري — هو أسلوب كانتور في تجنُّب الاعتراض الهدَّام المُتمثل في الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق الذي بدَت نظريته في البداية أنها عُرضةٌ له. ذلك لأنه إذا كانت متتابعات أساسية من الأعداد النسبية تُعرِّف الأعداد الحقيقية، فماذا عن مُتتابعات أساسية من الأعداد الحقيقية (= كلًّا من الأعداد النسبية وغير النسبية)؟ يمكنك بسهولة إنشاءُ متتابعة من الأعداد الحقيقية تتقارَب وفقًا لمواصفات كانتور، وكثيرٌ من أنواع المتسلسلات المُثلثية تتقارب بالفعل. هل نحن في حاجة إلى ابتكار فئة من الأعداد جديدة تمامًا لتكون بمثابة نهاياتٍ لهذه المتتابعات من الأعداد الحقيقية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فسوف نحتاج مع ذلك إلى فئة أخرى لتكون بمثابة نهاياتٍ للمتتابعات الأساسية من تلك الأعداد الجديدة، ثم فئة أخرى … وهكذا دواليك؛ وسيكون هذا تَكرارًا لحجة «الرجل الثالث» لأرسطو. إلا أنَّ كانتور ردَّ على هذا بإثبات٣٥ النظرية التالية: إذا كانت هي متتابعة من الأعداد الحقيقية بحيث إن لأي قيمة اختيارية — بمعنى إذا كانت متتابعة أساسية صحيحة من الأعداد الحقيقية — فثمة عددٌ حقيقي وحيد ، تُعرِّفه متتابعة أساسية من العدد النسبي ، بحيث إن . بعبارة أخرى، استطاع كانتور أن يُوضح أن الأعداد الحقيقية نفسها يمكن أن تكون بمثابة نهاياتٍ لمتتابعاتٍ أساسية من الأعداد الحقيقية، بمعنى أن نظام التعريفات الخاص به منغلقٌ على ذاته ونوعٌ من برهان الارتداد اللانهائي المنافي للمنطق.

الجزء ٦(و)

حسبما أشرْنا في الجزء ٦(د)، كانت نظريات ديديكند وكانتور تتعارض مع مبدأ آخر لكرونكر، يُعرَف غالبًا ﺑ «الإنشائية» أو «البنائية»، والذي سوف يُصبح جزءًا كبيرًا من الحَدْسية ومن الخلافات والقضايا الجَدلية التي أثارتها نظرية المجموعات بشأن الأسس الفلسفية للرياضيات.٣٦ ويتَّسِم هذا كلُّه بالصعوبة والتعقيد الشديدَين، ولكنه مهم. ومن ثمَّ، سوف نستعرض فيما يلي المبادئَ الأساسية للإنشائية حسبما طبَّقها كرونكر وقنَّنها كلٌّ من جيه إتش بوانكاريه وإل إي جيه براور وغيرهما من الشخصيات الكبرى في الحَدسية: (١) أيُّ نظرية أو عبارة رياضية تكون أكثر تعقيدًا أو تجريدًا من العمليات الحسابية البسيطة القديمة على الأعداد الصحيحة يجب أن تُشتَق (أي «تُنشَأ») صراحةً من العمليات الحسابية الخاصة بالأعداد الصحيحة من خلال عددٍ محدود من الخطوات الاستنتاجية تمامًا. (٢) البراهين الصحيحة الوحيدة في الرياضيات هي براهينُ إنشائية، بمعنى أن البرهان يُقدِّم وسيلة لإيجاد (أي «إنشاء») الكيانات الرياضيات التي يُعنى بها أيًّا ما كانت.٣٧ وفيما يخصُّ ميتافيزيقيا الرياضيات، فإنَّ الإنشائية بذلك هي النقيض المباشر للأفلاطونية: باستثناء الأعداد الصحيحة على الأرجح، لا تُوجَد حقائقُ رياضية بمعزل عن العقل البشري. وفي الواقع، فيما يتعلق بكرونكر ومَن تلاه، فإن القول بأن كِيانًا رياضيًّا مُعينًا «موجود» يُعادل حرفيًّا القولَ بأنه في مقدور البشر إنشاؤه بالورقة والقلَم في غضون فترةٍ زمنية محدودة.
ومن ثمَّ، يُمكنك ملاحظة أن أتباع المدرسة الإنشائية سوف يُواجهون مشكلةً كبرى فيما يخصُّ النظريات والبراهين التي تتضمَّن اللانهائية والمجموعات غير المنتهية والمتتابعات غير المنتهية وهكذا — لا سيَّما عندما تكون هذه المقادير غيرُ المنتهية معروضةً بوضوح على أنها فعلية. وفيما يتعلق بتقسيمات ديديكند وحدوده، على سبيل المثال، من الواضح أن عيوب الإنشائيين ونقائصهم ستكون في مأزقٍ صعب منذ البداية. فالأمر لا يقتصر فقط على عدم وجود الأعداد غير النسبية فعليًّا، ولا على استخدام ديديكند للبرهان بنقض الفرض لإثبات أن بعض التقسيمات (الحدود) لا تُناظر أعدادًا نسبية. بل هناك أيضًا المسألة الكاملة لتعريف عددٍ ما بدلالة مجموعاتٍ غير مُنتهية من أعدادٍ أخرى. وأحد الأسباب هو أن ديديكند لم يُحدِّد القواعد الرياضية التي يستطيع المرءُ بموجبها اشتقاق المجموعتَين و . وهو يقول ببساطة إنه إذا كان خطُّ الأعداد يُمكن تقسيمه إلى ، دون إعطاء أي طريقةٍ أو خطوات يُمكن للمرء بموجبها أن يُنشئ فعليًّا هاتَين المجموعتَين، وهما مجموعتان لا يُمكن فعليًّا إنشاؤهما أو التحققُ منهما على أية حال، بما أنهما غير مُنتهيتَين. وبينما نحن نتحدَّث عن هذا الموضوع، دعونا نطرح تساؤلًا: ماذا تعني كلمة «مجموعة» بالضبط من الناحية الرياضية المُتخصصة، وما هي خطوات إنشائها؟ وهكذا.
يُقدِّم السؤال المُركَّب الأخير للإنشائيين (الذي لم يستطع ديديكند الإجابة عنه باعتراف الجميع)٣٨ مثالًا أوليًّا على عبقرية جي كانتور الابن اللافتة للنظر وعلى الأسباب التي جعلته يستحقُّ لقب «مؤسِّس نظرية المجموعات». تذكَّر ما ورد في الجزء ٣(ﺟ) عن كيف أنَّ كانتور قد أخذ ما كان يُعتبر سمةً متناقضة ولا يُمكن التعامل معها إطلاقًا للانهائية — وهو أن التجمع/الفئة/المجموعة غير المنتهية يُمكن وضعُها في تناظُر أحادي مع مجموعتها الجزئية — وتحويلها إلى تعريف رياضي مُتخصص للمجموعة غير المنتهية. لاحظ كيف أنه فعل نفس الشيء هنا، بتحويل ما يبدو أنه اعتراضات هدَّامة إلى معايير دقيقة، عن طريق تعريف مجموعة على أنها تجمُّع أو مجموعة من كياناتٍ منفصلة تُحقِّق شرطَين: (١) يتعامل العقل البشري مع على أنها تجمع و(٢) ثمة قاعدة معينة أو شرط معين يُمكن للمرء من خلاله تحديد ما إذا كان ، لأي كيان، عنصرًا من عناصر أم لا.٣٩

لا شكَّ أنَّ هذا التعريف لم يظهر فجأةً على حين غِرة. من المناسب الآن مراجعةُ المحتوى الوارد في الجزء ٥(د) عن تقارب المتسلسلات المُثلثية، وإمكانية التمثيل، ونظرية التوطين لريمان، وغيرها، لنعرف من أين جاءت حقًّا أبحاثُ كانتور حول الأعداد الصمَّاء والمجموعات.

هوامش

(١) أول عالم رياضيات أوضح ذلك هو: البروفيسور جي إف إل بي كانتور.
(٢) م. إ.: معلومة غريبة ولكنها متداولة: كبار الفلاسفة على مرِّ التاريخ تقريبًا لم يتزوَّجوا. وكان هايدجر هو الاستثناءَ الحقيقي الوحيد. بينما انقسم علماء الرياضيات العِظام في موضوع الزواج إلى نِصفَين ما بين مُتزوج وأعزب، وهو ما زال أقلَّ من المتوسط بين عموم الناس. ولا يُوجَد تفسيرٌ مُقنِع لذلك، ومن ثمَّ لكَ مطلق الحرية أن تفترض ما تريد.
(٣) م. إ.: Stetigkeit und irrationale Zahlen، الذي وردت ترجمته الإنجليزية في بحث ديديكند «مقالات حول نظرية الأعداد»، انظر ثَبْت المراجع. (دعونا نُنوِّه هنا أيضًا أن بحث ديديكند، على الرغم من عُمقه، كان واضحًا ومُستساغًا، وقلَّما تطلَّب ما هو أكثر من الإلمام برياضيات المرحلة الثانوية. وهو في ذلك يختلف عن أبحاث كانتور، التي كانت تميل إلى الغموض في لغتها ورمزيتها.)
(٤) كان فايرشتراس، على الجانب الآخر، مُهتمًّا في الأساس بالاتصال من حيث علاقتُه بالدوال، وهو ما اعتمد في النهاية على الاتصال الحسابي (كما أشار كلاين في بداية الجزء ٦(أ)) ولكنه لا يزال أمرًا مختلفًا.
(٥) إذا كان استخدام ديديكند لخط الأعداد الهندسي في وضع نظرية عن الاتصال لا تمتُّ إلى الهندسة بصِلةٍ؛ يبدو مصادرةً على المطلوب أو استدلالًا دائريًّا عقيمًا، فاعلم أن خط الأعداد ما هو إلا أداةٌ إيضاحية، وهي الأداة التي تخلَّى عنها ديديكند بعد ذلك في بحثه «الاتصال والأعداد غير النسبية» لصالح «أي نظام مرتَّب» من الأعداد. وحتى عندما طرح ديديكند فكرة الخط، أعربَ عن ذلك بوضوح حين قال: «سيكون من الضروري أن نُبرز بوضوح الخصائص الحسابية الصِّرفة المناظرة؛ حتى لا يبدوَ الأمر كما لو أنَّ الحساب في حاجةٍ إلى أفكار دخيلة عليه.»
(٦) م. إ.: يرجع هذا البحث إلى أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر، ويتألف من ١٧١ نظرية وبرهانًا بالإضافة إلى «ملاحظة أخيرة» واحدة. وبموجب هذا، لست في حاجة إلى العنوان الألماني. والنسخة الإنجليزية هي النصف الآخر من كتاب «المقالات» المُشار إليه في الحاشية السُّفلية رقم ٣ أعلاه.
(٧) مترجَمة حرفيًّا عن الكلمة الألمانية Gedankenwelt التي يُكافئها باللغة الإنجليزية thought-world.
(٨) وهو ما يعني رياضيًّا أنه على الرغم من عدم وضوح ما إذا كان «النظام اللانهائي» الذي أشار إليه ديديكند في البرهان يُمثَّل على أنه كيانٌ رياضي تمامًا أو على أنه كيانٌ أعمُّ على غِرار ما جاء في نظرية المُثل لأفلاطون، وهو ما يُمثل مشكلةً أُخرى في حُجته.
(٩) م. إ.: لعلك تذكُر أن برهان في الجزء ٢(ﻫ) للنقطة الثالثة كان يتضمَّن المسافات على خط الأعداد، وهو ما قد يبدو تَكرارًا إلى حدٍّ ما في السياق الحالي، الذي نتناول فيه صيغةً حسابية تمامًا لإيجاد القيمة الوسيطة (قيمة المُنتصف). خذ أيَّ عددَين نسبيَّين متتاليين واكتُبهما على صورة كسور، وليكن مثلًا العددين و ، ثم ضاعِف الحدود الأربعة، وهو ما يسمح تلقائيًّا بحيِّز تكامل بين البَسطَيْن — و — حيث يُمكن إدخالُ قيمة المنتصف .
(١٠) م. إ.: ثمَّة خوارزمية مُسلية لمن يرون هذا الموضوع مُسلِّيًا: أي عددٍ نسبي مكتوب على صورة عددٍ عشري مُنتهٍ أو دوري يمكن تحويله إلى الصورة عن طريق (١) ضرب العدد العشري في حيث عدد الأرقام في الجزء الدوري المُتكرِّر للعدد العشري (على سبيل المثال، عدد الأرقام في الجزء الدوري المُتكرر من العدد هو ، وعدد الأرقام في الجزء الدوري المُتكرر من العدد هو 3) ثم (ب) طرح العدد الأصلي من المقدار في (أ)، ثم (ﺟ) قِسمة الناتج على ، ثم (د) اختصار الناتج بحذف العوامل المشتركة. مثال: ، إذن ، إذن .

ومن ثَمَّ، ، وهو ما يُختصَر إلى .
(١١) الفعل الألماني الذي استخدمه ديديكند هو geschnitten (الاسم منه هو schnitt)، التي يُمكن فيما يبدو أن تُشير إلى أي شيءٍ بدءًا من القَطْع إلى الحَد، وهو كلمة مادية ومُحدَّدة جدًّا، ومن المُسلِّي أكثر أن نقولها بدلًا من كلمة cut.
(١٢) م. إ.: ترجمة «الاتصال والأعداد غير النسبية» استخدمت كلمة classes التي كانت المصطلح الأصلي في الرياضيات لكلمة «مجموعات». يميل كلٌّ من كانتور وراسل وآخرون إلى استخدام كلمة class، وإن كان في الحقيقة أحيانًا ما يَستخدِم كانتور أيضًا كلماتٍ تُترجَم إلى «مُتعدِّد» أو «تجمُّع». ومن ثمَّ، اتفقنا نحن المؤلفين على الاكتفاء فقط باستخدام كلمة «مجموعة» من الآن فصاعدًا.
(١٣) إذا عاودت الاطلاع على هذا الجزء، فلاحظ مدى التشابُه بينه وبين أفكار كانتور عن رُتَب المجموعات غير المنتهية في الجزء ٧(ﺟ).
(١٤) م. إ.: مثال ديديكند الحقيقي في «الاتصال والأعداد غير النسبية» كان أكثر تجريدًا واستخدم حقيقة أنه إذا كان عددًا صحيحًا موجبًا وليس هو مربعَ أي عددٍ صحيح، فإنه يُوجَد عدد صحيح موجب بحيث ، وهو ما أصبح الآن قضية أساسية مطلوبًا إثباتُها في نظرية الأعداد. أراد ديديكند برهانًا عامًّا، مجردًا تمامًا؛ لأن هدفه الحقيقي كان «إثبات أن هناك عددًا لا نهائيًّا من الحدود (التقسيمات) التي لا تنشأ عن أعدادٍ نسبية». ومع ذلك، فإن بُرهانه صعب للغاية ويعتمد على نظرية الأعداد بدرجةٍ تجعله لا يُناسب أهدافنا هنا. ولذا، كلُّ ما سنفعله أننا سوف نستخدم ونطلب منك أن تثِق في أن هذا الناتج يُمكن تعميمه ليشمل كلَّ الأعداد غير النسبية (وهو ما يُمكن بالفعل).
(١٥) م. إ.: انظر أو تذكَّر الشرح الخاص بعدم قابلية للمقايسة في الجزء ٢(ﺟ).
(١٦) م. إ.: من هنا جاء تعريف د. جوريس في قاعة الدرس للعدد الأصم على أنه schnittsandwich الذي من الواضح أنه شرَحَه باستفاضةٍ كبيرة لتلاميذه.
(١٧) فيما يخصُّ المعلومة الواردة في الجزء ٦(أ): فكرة أن النقاط على خط الأعداد الحقيقية يمكن وضعها في تناظُرٍ أحادي مع مجموعة كل الأعداد الحقيقية هي ما يُعرَف الآن بمُسلَّمة كانتور – ديديكند.
(١٨) م. إ.: بمفهوم المنطق، تكون عبارة الفصل صحيحة إذا كان أحد حَدَّيها على الأقل صحيحًا.
(١٩) هذا هو المصطلح الذي استخدمه ديديكند للمقادير الهندسية.
(٢٠) هكذا قيل.
(٢١) م. إ.: من أوجه الاختلاف ذات الصلة بين ديديكند ويودوكسوس هو أسلوب تناولهما للمجموعات غير المُنتهية في نظرية كلٍّ منهما. تذكَّر في الجزء ٢(د) أن خاصية الاستنفاد ليودوكسوس تضمَّنت المجموعات غير المُنتهية بمفهوم متتابعاتٍ غير منتهية من بواقي عمليات الطرح، وذلك بالطبع باستثناء أن عمليات الطرح هنا من مقادير هندسية وأن اللانهائية احتمالية فقط — كما في (ارجع إلى الصفحة ٨٥، كتاب «الأصول»، الجزء ١٠، الفرضية ١)، وهذا هو الأسلوب الذي تعامَل به التحليل قبل ديديكند مع البواقي اللانهائية للاستنفاد.
من المنظور الرياضي والميتافيزيقي، تُعدُّ وجهة نظر ديديكند على النقيض تمامًا من وجهة نظر يودوكسوس. فقد اعتبر ديديكند الخط الهندسي/النقطة الهندسية في نظريته على أنهما أداة نظرية وتوضيحية فقط: لا يُهم ما إذا كنتَ تستطيع حقًّا إنشاء خط أعداد كامل أو قياس الأطوال الفعلية اللازمة لعزل النقطة . ما يُهم فعلًا — ويراه ديديكند فعليًّا وغير احتمالي — بما أنَّ في النهاية «الأعداد هي إبداعات حرة للعقل البشري»، والوجود الرياضي هو «نتيجة مباشرة لقوانين التفكير»، هو المجموعتان غير المنتهتَين: التي تتضمن جميع عناصر حيث ، و التي تتضمن جميع عناصر حيث . ومن ثمَّ، فإن هذه اللانهائيات — وليس أي أشكال أو مقادير هندسية — هي ما كانت أساسيةً بالنسبة إلى نظرية ديديكند.
(٢٢) م. إ.: يختصُّ العمل الكبير الآخر عن كرونكر بردِّ فعله تجاه برهان إف ليندمان عام ١٨٨٢ بأن هو عدد غير نسبي ومُتسامٍ (وهو البرهان الذي سدَّد في النهاية طعنةً في قلب مسألة «تربيع الدائرة» القديمة لدى الإغريق). والقصة هي أن كرونكر اقترب طواعيةً من ليندمان في إحدى الندوات وقال بجدية شديدة: «ما فائدة برهانك اللطيف عن ؟ لماذا تُهدِر وقتك في مسائل كهذه، ما دامت الأعداد غيرُ النسبية غيرَ موجودة أصلًا؟» ولم يُدوَّن ردُّ ليندمان على ذلك.
وقد سبق أن عرضنا نبذة سريعة عن إل كرونكر الإنسان من الميلاد إلى الوفاة. وبوصفه كان واحدًا من كبار علماء الرياضيات القلائل الذين كانوا أيضًا رجالَ أعمال بارِعين، جنَى كرونكر ثروةً طائلة في الخدمات المصرفية، حتى إنه في الثلاثين من عمره استطاع أن يتقاعد ويُكرِّس حياته للرياضيات البحتة. وأصبح أستاذًا في جامعة برلين، التي عُرِفت بهارفرد الألمانية، حيث كان أيضًا طالبًا مُتميزًا ونابغًا بها. وفيما يخصُّ الأبحاث، التي هي موضوعٌ يطول شرحه، فقد كان غالبًا عالِمًا بالجبر، ونظرًا إلى أن تخصُّصه كان في حقول الأعداد الجبرية، التي هي قصة يطول شرحها، وكذلك اكتشافه الأكثر شهرة، دالة دلتا لكرونكر، التي توقعَت بطريقة ما العملياتِ الحسابيةَ الثنائية للنظام الرقمي الحديث. ونظرًا إلى كونه رياضيًّا جادًّا ومُتسلقَ جبال، كان كرونكر رشيقًا ومفتول العضلات، ودائمًا ما كان يهتم بتصفيف شعره وملبسه ويرتدي الحُليَّ والإكسسوارات. كان لطيفًا في أسلوبه، على ما يبدو، وإن كان حادًّا مثل سمكة البيرانا في الطرائق الرياضية والأكاديمية. كان نشيطًا للغاية وذا صلةٍ بذوي الشأن في مجتمع الرياضيات ككل. إنه من نوع الزملاء الذين لا تُفضل أن يكونوا أعداءً لك لأنك تجده في كل لجنة وفي كل مجلس تحرير. حليفه الأساسي: واضِع نظرية الأعداد إي إي كومر. عدوه الأساسي قبل كانتور: فايرشتراس الذي عدَّدنا صفاته من قبل فقُلنا إنه كان طويلًا وأشعثَ الرأس ورابط الجأش. وغالبًا ما تُوصَف النقاشات الجدلية بين كرونكر مقابل فايرشتراس بصورة كلب شيواوا سريع يركض وراء كلب دانماركي ضخم. سبب الكراهية: (١) تخصُّص فايرشتراس هو الدوال المُتصلة التي يراها كرونكر ضربًا من الخداع وعاقبتها وخيمة. (٢) يعتقد كرونكر أن برنامج «حوسبة التحليل» لفايرشتراس لا يقترب بما يكفي من المدى المطلوب، انظر النصَّ الرئيسي أدناه. حلم كرونكر الكبير: تأسيس التحليل بأكمله على الأعداد الصحيحة. تعتبر الآن أنطولوجيا الرياضيات شديدة التحفُّظ لكرونكر باكورة الحَدْسية والإنشائية، رغم أنها لم تلقَ أي مؤيدين آخرين حتى بوانكاريه وبراور، وهو ما سوف نتحدَّث عنه باستفاضة في الجزء ٧.
(٢٣) م. إ.: كان د. جوريس يجب أن يقول إن فايرشتراس وديديكند وكانتور قد شكَّلوا معًا مُتسلسلاتهم المُتقاربة الخاصة، حيث قدَّم كلٌّ منهم بدوره ما كان يحتاجه الآخر لجعل محاولاته قابلة للتطبيق.
(٢٤) غنيٌّ عن القول إنه كان هناك علماء رياضيات في أواخر القرن التاسع عشر لم يقتنعوا بأيٍّ من هذا. ولم يكن كرونكر إلا واحدًا فقط منهم.
(٢٥) = العنوان بالألمانية Über die Ausdehnung eines Satzes aus der Theorie der trigonometrischen Reihen، وهو أول مقال مُهم لكانتور وسوف نتطرَّق إليه في كثيرٍ من الجزأين التاليَين.
(٢٦) م. إ.: معلومة مُثبتَة للدكتور جوريس: أكثر ما كانت تشتهر به مدينة برونزفيك هو عجينة الساندويتش البرونزفيكية المحبوبة على نحوٍ لا يمكن تفسيره، والذي يُشبه نوعًا ما فطيرة الباتيه، وكان جميع الحاضرين في قاعة الدرس خلال تدريس وحدة ديديكند وكانتور يُدعَون (إمعانًا في الإشادة والتقدير) إلى تجرِبة القليل منها على رقائق بسكويت القمح.
(٢٧) من الأمور الأكثر صلةً بموضوعنا أن نظرية كانتور عن الأعداد غير النسبية لم تكن جيدةً بنفس القدر الذي كانت عليه نظرية ديديكند. فقد كانت نظرية ديديكند أبسط وأكثر تأنقًا و(من دواعي المُفارقة) حقَّقت استفادة أكبرَ من المجموعات غير المنتهية.
(٢٨) م. إ.: ستُلاحظ على الأرجح بعض أوجه التشابه المُميَّزة بين هذا المحتوى الخاص بالكسور العشرية وما جاء في الجزء ٥(ﻫ)، البند (١)، حول تقريب الأعداد النسبية عن طريق متسلسلات قوى مُتقاربة من أعدادٍ نسبية أخرى. ومن منظورٍ بلاغي، دعونا نعترف مرةً أخرى أننا إذا كنا نسعى إلى الدقة التقنية بدلًا من التقدير العام، فإن كل هذه الأنواع من العلاقات سوف نتتبعها/نشرحها كاملةً، وإن كان هذا الكُتيب بأكمله سيكون عندئذٍ أطولَ وأصعب بكثير، وسيكون الأمل المعقود على خلفية القارئ وصبره أعلى كثيرًا. ومن ثمَّ، سيكون الأمر برُمته عبارة عن سلسلة مُستمرة من المبادلات والمقايضات.
(٢٩) م. إ.: ومن غير الضروري قطعًا أن نؤكِّد مجددًا أن المتسلسلة ما هي إلا نوعٌ معين من المتتابعة.
(٣٠) م.إ.: إذا كنتَ قد لاحظت مدى التشابُه بين هذا وشرط كوشي للتقارُب في الجزء ٥(أ) (انظر مسرد المصطلحات الثاني، وتحديدًا «المعادلات التفاضلية» النقطة (ب))، فيُمكنك أن تفهم السبب في أن كانتور لم يقُل إن المتتابعة تُعرِّف عددًا حقيقيًّا إذا وإذا فقط كانت تتقارَب بهذه الطريقة، ولكن إذا كانت تتقارَب فحسْب.
(٣١) وبالطبع، في هذا اختزال. ففي المقال الحقيقي «حول … المُثلثية»، سار كانتور على نهج برنامج فايرشتراس وتجنَّب مصطلح «يقترب من» لصالح رمز الصغير القديم، ومن ثمَّ تُعرَّف نهاية المتتابعة تقنيًّا طبقًا للقاعدة بأنه لكل قيمة مُعطاة، يمكن لعددٍ محدود فقط من الحدود المتتالية للمتتابعة ألا يكون الفرق بين كل حدٍّ منها والآخر بمقدار قيمةٍ ما حيث .
(٣٢) م. إ.: مثال على متتابعة أساسية حيث ؛ مثال حيث
(٣٣) في الواقع، عدد لا نهائي من المُتتابعات الأساسية، وإنْ كان البرهان معقدًا للغاية حتى إننا لن نخوض فيه.
(٣٤) اختزالٌ مرة أخرى. نفس ما قُلناه مع العبارة التالية له.
(٣٥) مرةً أخرى، بعيدًا عن نطاق الموضوع، قد يتطلَّب الأمر بضع صفحات أخرى ومسرد مصطلحات آخر كاملًا لتوضيح ذلك. سوف نُخصِّص وقتًا أطول للحديث عن براهين كانتور الشكلية حول اللانهائية في الجزء ٧ كما هو.
(٣٦) م. إ.: يستخدِم بعض مؤرخي الرياضيات «الإنشائية» بمعنى الحَدْسية والعكس صحيح، أو يستخدمون أحيانًا الإجرائية بمعنى كلٍّ من الإنشائية والحَدْسية — بالإضافة إلى «التقاليدية» أو «الاصطلاحية» المشابهة لذلك والمختلفة نوعًا ما — ويُمكن أن يُصبح الأمر برمته متداخلًا للغاية ومُستهجَنًا تمامًا. من الآن فصاعدًا، سوف نُصنِّف المدارس والمذاهب المختلفة بأسلوبٍ بسيط غير صادم قدْر الإمكان. (يُرجى أيضًا ملاحظة أننا لن نُناقش من كل المناظرات والحجج الحَدْسية أكثر ممَّا يتعلق مباشرةً بمُهمتنا وغايتنا من النقاش. وبالنسبة إلى القراء الذين لديهم اهتمام خاص بجدل ما وراء الرياضيات (أو الرياضيات المنطقية ومنطق الرياضيات نفسها) الذي بدأ مع كرونكر وانتهى مع هدم الأساسيات لجودل في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، يسرُّنا أن نقترح عليهم قراءة كتاب مانسكو «من براور إلى هيلبرت»، أو كتاب إس سي كلين «مقدمة إلى ما وراء الرياضيات»، أو كتاب إتش فايل «فلسفة الرياضيات والعلوم الطبيعية»، وجميعها موجودٌ في ثَبْت المراجع.)
(٣٧) ثمة تطابقٌ لُغوي مُثير للاهتمام في فكرة كرونكر عن البرهان الإنشائي/البنَّاء. إلى جانب الدلالات الحرفية من قبيل «يتضمن إنشاءً فعليًّا.» يمكن أن تعني كلمة «إنشائي» بالنسبة لنا «غير هدَّام». كما في «جيد» بدلًا من «سيئ»، و«بِنَاء» بدلًا من «هَدْم». وفي الواقع، فإنَّ النوع الرئيسي من البرهان الهدَّام هو البرهان بنقض الفرض، ومن المؤكَّد أن الإنشائية لا تَعتبِر البرهان بنقض الفرض من أساليب البراهين الصحيحة. ومع ذلك، يتمثل السبب الحقيقي في أن البرهان بنقض الفرض يعتمد منطقيًّا على قانون الوَسط المُستبعَد (أو الثالث المرفوع)، الذي بموجبه (كما نذكر من الجزء ١(ﺟ)) كلُّ فرضية رياضية تحتمل شكليًّا إحدى الحالتين: إما أن تكون صحيحة، أو إن لم تكن صحيحة، فإنها خطأ. يرفض الإنشائيون (لا سيَّما غريب الأطوار المُفتقر إلى روح الدعابة إل براور) قانون الوسط المُستبعَد كمُسلَّمة رسمية، ويرجع ذلك بصفةٍ رئيسية إلى أن قانون الوسط المُستبعَد لا يُمكن إثباته طبقًا لمفاهيم الإنشائية؛ أي لا يُوجَد أسلوبُ حسم معين يُمكنك بموجبه التحققُ مما إذا كانت ، لأي فرضية ، صوابًا أم خطأً. وبالإضافة إلى ذلك، تُوجَد كل أنواع الفرضيات الرياضية المهمة — مثل حَدْسية جولدباخ، وإثبات أنَّ ثابت أويلر عدد غير نسبي، وفرضية الاتصال لكانتور — التي إما أنه لم يكن من الممكن إثباتُها بعد، وإما أنها قد تبدو غيرَ قابلة للإثبات طبقًا لقانون الوسط المُستبعَد. وغير ذلك من أمور. (لاحظ أيضًا، من قبيل المعلومة الإضافية، أنَّه مهما بدت الإنشائية غريبة أو مُتشدِّدة، فإنها لا تخلو من التأثير والقيمة. وكان لتركيز الحركة على أساليب الحسم أهميته في ظهور المنطق الرياضي وتصميم الحواسيب، كما أن رفضها لقانون الوسط المُستبعد يُعدُّ جزءًا من الأسباب التي يُنظَر على ضوئها إلى الحَدْسية على أنها أصل المنطق المُتعدِّد القيمة، بما في ذلك المنطق الضبابي أو الترجيحي الذي هو ضروري جدًّا في مجال الذكاء الاصطناعي وعلم الوراثة والنظم غير الخطية وغيرها. (ثمة معلومة إضافية مهمة جدًّا بخصوص هذا البند الأخير، وهي أن القرَّاء الذين لديهم خلفية واسعة بالرياضيات ولديهم مُتسعٌ كبير من الوقت ينبغي لهم الاطلاع على كتاب «المجموعات الضبابية والمنطق الضبابي: النظرية والتطبيقات» لمؤلِّفَيْه كلير ويوان، المشار إليه أيضًا في ثَبْت المراجع.))
(٣٨) مع أنه لم يكن بكل إنصافٍ نطاق اختصاصه.
(٣٩) م. إ.: سوف نذكر المزيد من التفاصيل/المعلومات حول هذا التعريف في الجزء ٧(أ). أما الآن، فيُمكننا أن نسوق مثالًا جيدًا على المجموعات بمجموعة كل الأعداد غير النسبية، لا سيَّما أننا قد رأينا بالفعل ديديكند يشرح بالتفصيل إجراءً واضحًا جدًّا لتحديد ما إذا كان أي عددٍ مُعطًى غير نسبي أم لا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤