الرسالة الحادية عشرة
لماذا لا أكتب إليك؟ أنت حازم مفكر، وتسأل مثل هذا السؤال البسيط! قد تكون حسبتني سعيدًا، وإنني بالاختصار قد وجدت شخصًا آخَر، صديقًا أعز منك، وإنني لقيت، لست أدري مَن …
من الصعب جدًّا أن أخبرك بالتفصيل كيف عرفت أقدسَ بنات جنسها، إنني سعيد، سعيد فوق الوصف؛ فلذا لا أستطيع أن أحدثك بكل شيء.
هي مَلَك، بل معبودة، ولكن … هذه ألقاب ستقول إن كل محب يهبها جزافًا لحبيبته، إنها الكمال كله، ولكنني لا أستطيع وصف هذا الكمال، ولا أقدر أن أصف مبلغ افتتاني به.
هذه البساطة مع فهْم يبز صفاؤه كل صفاء! هذا اللطف وهذه الرشاقة! هذه الدعة وهذه العواطف. كلا كلا، إنْ هذه إلا تعبيرات واهية لا تظهر في ثناياها حقيقة طبيعتها في المستقبل، ولكن لا الآن، فربما لن تسنح لي فرصة أخرى.
بل اسمع الحقيقة، إنني منذ بدأت أكتب هممت مرارًا بإلقاء القلم والإسراع إلى إلقائها، عقدت نيتي هذا الصباح على إمضاء سحابة اليوم بمنزلي، على أنني بالرغم من هذا طالما نظرت من النافذة لأرى إذا كانت الشمس لا تزال طالعة.
عبثًا أحاول العمل بالعكس، ذهبت لزيارتها، نعم يا صديقي وعدتُ الآن، والآن سأتتبع كتابتي وأنا أتناول طعام الإفطار. آهٍ ما أجمل رؤيتها مع إخوتها وأخواتها الصغار، رؤيتها … ولكنني إذا استمررت على هذا الحال فسوف لا تعلم شيئًا، بل ستكون في النهاية كما كنت في البداءة، سأحاول أن أصلح هذا التخبط، وأن أخبرك الخبر بنظام، فأعرني التفاتك:
ذكرت لك في كتاب ماضٍ تعرُّفي إلى نائب الأمير ودعوته إياي لزيارة مملكته الصغيرة، كما أسمي بحق مسكنه الحالي، ولقد تأخرتْ زيارتي طويلًا، حتى إنني لم أكن لأقوم بها لولا الصدفة التي كشفتْ لي عن الكنز الذي يَخْبَؤه هذا المكان. وافقت على الاشتراك في حفلة قروية إجابةً لطلب بعض شبان البلدة، واتفقت مع فتاة على أن تكون رفيقتي، وهي لطيفة المحضر ذات حسن عادي، ولو أنها تفخر به كثيرًا. واتفقنا على أن أصحب رفيقتي وإحدى قريباتها في مركبة، ونمر بشارلوت التي وعدت بحضور المرقص. وفي الطريق إلى بيت النائب أخبرتني صاحبتي أن علي الآن انتهاز الفرصة لرؤية فتاة جميلة جدًّا، قائلة: «سأقدمك إليها يا سيدي.» فقالت قريبتها: «ولكن حذارِ من الافتتان بها!» فسألتها: «ولمَ؟» فأجابت صاحبتي: «لأنها مخطوبة إلى شاب هو في الحقيقة جدير بها، وقد تُوفي والده فجأة، فذهب ينظم شئونه ويسعى وراء مركز في البلاط.» فلم أعبأ بكل هذا؛ لأنني أيها الصديق لم أمِل لامرأة قط منذ فقدتُ ليونورا، ولما وصلنا المنزل كانت الشمس تتوارى وراء قمم الجبال، واشتدت الحرارة واحتبس النسيم، وتجمَّع في الأفق غمام ينذِر بدنو العاصفة، وأدركت السيدتان الخطر وخافتا أن تشوب صفوهما المنتظر شائبة، وكان عليَّ أن أقشع مخاوفهما، فتظاهرت بالسكون وعدم المبالاة، وهدَّأتهما قائلًا إنني أدرى بتقلبات الجِواء، وإنه لن يقع شيء مما يَرهبان. وتركت المركبة، وجاءت وصيفةٌ ترجونا انتظار مولاتها قليلًا، ولما تخطيت الساحة المؤدية إلى الدار المنفردة، وصعدت بعض درجاتٍ قادتني إلى الردهة، شهدت بها ستة أطفال لا يتجاوز أكبرهم الحادية عشرة، ويبلغ أصغرهم عامين، يلعبون ويتواثبون حول فتاة متوسطة القامة، رشيقة الهندام، ترتدي ثوبًا بسيطًا أبيض ذا أشرطة قرنفلية يضرب لونها إلى الصفرة، وكان بيدها رغيف من الخبز تقسمه مع قطعة من الزبدة بين الصغار أقسامًا متناسبة بطريقة حلوة شيقة، وكان كل منهم يبسط يده ينتظر نصيبه فيأخذه ويصيح: «شكرًا لك، شكرًا لك.» ثم يسرع إلى الباب ليرى الجماعة والمركبة التي ستحمل عنهم شارلوت، ورأتني فاعتذرت بأدب لتأخرها قائلة: «إنني آسفة جدًّا يا سيدي لأنني حمَّلتك مشقة النزول من المركبة، وحمَّلت السيدتين عبء الانتظار، ولكن تأهُّبي السريع لارتداء ملابسي قد أنساني بعض شئون منزلية، والأطفال لا يرضون بالعشاء إلا إذا تناولوه من يدي.» فتمتمتُ مجيبًا ببضع كلمات لا أذكر منها شيئًا؛ فقد أُخذت بحديثها ورنات صوتها وتناسق شكلها، ولم أفِق عن دهشتي حتى أسرعت إلى غرفة أخرى تطلب المِهواة والكفوف. وكان الأطفال أثناء غيابها يسترِقُون النظر إليَّ ويتهامسون، فاقتربت من أصغرهم، وكانت تلوح عليه علائم الذكاء، فتجنبني، وكانت شارلوت إذ ذاك عائدة، فقالت له: «تعالَ يا لويس. اقتربْ ولا تَخفْ من ابن عمك.» فمدَّ يده إليَّ وقبَّلته بانعطاف، وفي طريقنا إلى المركبة التفت إليها قائلًا: «ابن عم! وهل تَعُدِّينني إذًا جديرًا بشرف الانتساب إليك؟» فابتسمت ابتسامة ذات معنًى قائلة: «لي أولاد عمٍّ عديدون، وإنه ليسوءني إذا كنتَ أقلهم جدارة واستحقاقًا.» ولما هممنا بالرحيل طلبتْ إلى صوفيا — وهي البنت الكبرى — أن تُعنَى بالأطفال، وأن تجلس إلى والدها، بمجرد وصوله إلى المنزل. ثم أمرت الصغار أن يطيعوا صوفيا كما يطيعونها هي، فأذعنوا ووعدوا بالطاعة، إلا فتاة صغيرة ذكية الفؤاد، لم تتجاوز السادسة، فإنها قالت عابسة: «ولكن الأخت صوفيا ليست بالأخت شارلوت، ونحن يجب أن نحب الثانية أكثر من الأولى.» ووثب الصبيان الكبيران فتمسَّكا بمؤخر المركبة، وأذنت لهم شارلوت إجابةً لرغبتي بمرافقتنا إلى آخر الغابة، على شريطة ألا يزايلا مكانهما، وأن يبقيا متأدبين، ولكنَّا لم نكد نأخذ مقاعدنا ويحيي السيدات بعضهن بعضًا، حتى استوقفت شارلوت المركبة، وطلبت بلطف إلى أخويها أن يتركاها، ورجواها أن يقبِّلا يدها قبل الرواح فأذنت لهما، وكانت قُبلة الأكبر ملأى بحب ابن الخامسة عشرة، وقُبلة الأصغر بحنوٍّ وانعطاف يليقان بسنيه، ثم سألتهما أن يذكراها لدى الباقين.
وأذهلتني دقة ملاحظاتها، وصواب أحكامها، فلم أستطع إخفاء عواطفي؛ لقد اشتعلت الجذوة في فؤادي، وأخاف أن يذهب بها لهبها قريبًا. ثم أخذت تبدي آراءها في مؤلفات أخرى، خصوصًا «كاهن واكفيلد» بسداد وحصافة أظهرت بلا ريب تحمسي في الموافقة على أقوالها وتحيزي لذلك، ولكنها وحدها قد امتلكت لبي حتى لم أعد أشعر بوجود غيرها في المركبة، ومع ذلك فإن شارلوت كانت توجِّه الحديث إلى السيدتين. ونظرت إليَّ قريبة صاحبتي نظراتٍ معنوية، أفصحت عن ريبها وشكوكها، بيد أنني لم أبالِ بها. ثم انتقل الحديث إلى الرقص، فقالت شارلوت إنه وإن كان نوعًا من اللهو يندد به الكثيرون، ولكنها شخصيًّا تميل إليه، فإذا ما انتابها قلق أو همٌّ عارضٌ أسرعت إلى آلتها العازفة، فدقَّت عليها بعض رقصات ريفية تسترجع بها الصفاء والنشاط. يا لله! لقد سحرني جمالها، فلم تتحول عيناي عنها، بل إن نغمات صوتها العذب قد أسكرتني فلم أفقهْ شيئًا، وطاش بلبي إعجابي بعينيها المتلألئتين وقَدِّها الرشيق، ولما وقفت المركبة نزلتُ منها فاقد الحس ضائع العقل، ولم أُفِق إلا في غرفة الاجتماع؛ حيث وجدت نفسي في وسط المدعوين، ورافق شارلوت والسيدة الأخرى صاحباهما اللذان كانا ينتظرانهما بالباب، وصحبت كذلك رفيقتي، ثم بدأ المرقص بعد دقائق، وتناوب السيدات الرقص معي، ولاحظت أن الدميمة والعادية كانتا أشدهن كلفًا بالإطالة، وبدأت شارلوت ترقص مع صاحبها رقصة ريفية، ثم أتت لترقصها معي. آه! إنه ليستحيل عليك أن تتصور مقدار السرور الذي فاض عليَّ، بل آه لو رأيتها راقصة! فشهدت الخفة والسهولة اللازمتين لكل راقص، ورأيت ذلك القوام البديع، والحركات الرشيقة المنتظمة!
«ألبرت؟ وهل أجرؤ فأسألك مَن هو ألبرت؟» وكادت شارلوت تجيبني فتشفي غلتي، لولا أن اضطررنا أن نفترق بحكم نظام الرقصة، ولاحظت عند التقائنا ثانية غمًّا طارئًا يظلل محيَّاها، ولما تناولت يدها لأصحبها إلى الخارج أعدتُ السؤال فأجابت: «ليس ثَمَّةَ داعٍ لكتمان الحقيقة، إن ألبرت سيدٌ نبيلٌ قد عُقِد لي عليه.» فذكرت الآن ما خبَّرتني عنه السيدتان في المركبة، على أنه لم يؤثر فيَّ حينذاك؛ لأنني لم أكن رأيت شارلوت بعدُ، ولم تمر ببالي تلك الفكرة التي طعنت فؤادي، وتملكتني الحَيرة، وعلتني كآبة أنستني ما أنا فيه، فأحدثت ارتباكًا كبيرًا في نظام جماعة الراقصين بأغلاط كثيرة كانت تستدركها شارلوت بحَذْق ومهارة، فتعيدنا إلى الصواب.
واعترض رقصنا بعد ذلك برقٌ يأخذ بالأبصار، هو ما قرأناه من قبلُ في جبين السماء، وما حاولت أن أصوره للسيدتين نتيجة الحر الشديد، وعلا هزيم الرعد صوت الموسيقى فأخفاه، وهلعت سيدات ثلاث فتركن المرقص هاربات وتبعهن رفاقهن، ثم عمَّ المكانَ الذعرُ وساد الهرج فصمتت الموسيقى. ومن المعلوم أننا ننظر إلى الخوف بأكثر من حقيقته إذا فاجأنا في ساعة سرور؛ لأن الذهن الذي كان منصرفًا إلى الحبور واللهو يصبح سريع التأثر بالمزعج المفاجئ، متهيئًا للانفعالات؛ ولذا فإن الانقلاب من الفرح إلى الحزن يكون هائل الأثر فيه؛ فلا بِدْع إذًا إن ازدادت مخاوف السيدات باشتداد العاصفة وتقدمها، وجلستْ أثبتُهنَّ جَنانًا موليةً ظهرها إلى النافذة، وجعلت أصابعها في أذنيها، تتقي قعقعة الرعد وخطف البرق كأنما ذلك مجديها نفعًا، وركعت ثانية أمام الأولى، وتمتمت صلاة قصيرة، ثم أخفت وجهها في حِجرها، وأسرعت ثالثة فتوسطتهما ممسكةً بهما، والدموع تهطِل من عينيها، وكان بعضهن يتوق إلى الرَّوْح لبيوتهن، واستطير لُبُّهن رَوْعًا، حتى صمَّت آذانهن عن سماع نصائح رفاقهن الذين كانوا يسترِقُون من بين شفاههن تلك التنهدات الواهية الرقيقة الصاعدة إلى السماء، وانسحب رجال أنذال ليدخنوا غير عابثين بشيء، وتمالك باقي الجماعة روعهم أخيرًا، فتلوا تلو ربة الدار، وتبعوها إلى مخدع قد أُحكم إغلاق نوافذه فلا يُسمع فيه الدوي الهائل إلا ضئيلًا. ولما دخلناه صفَّتْ شارلوت المقاعد في دائرة ودَعتنا للجلوس، مقترحةً دعابات صغيرة، يكون لنا فيها تسلية ولهو، وكان تكلُّف بعض السيدات في إجابة الاقتراح ظاهرًا، كما كان البعض يتوق إلى البدء فيه، واتفقنا على لعبة العد التي بينتها شارلوت قائلة: «سأسير من اليمين إلى اليسار وأنتم جلوس، فتَعْدُون متواترين مسرعين، وجزاء مَن يقف أو يخطئ لطمة على أذنه.» وبدأت تدور منبسطة الذراعين، فكان عملها مسريًا الهمَّ، مروحًا عن البال، فصاح الأول: «واحد»، وتلاه الثاني: «اثنان»، فالثالث: «ثلاثة» وهكذا، حتى انتظم خطاها، ثم أوضعت في سيرها، ففرطت من أحدنا غلطة كان جزاؤها لطمة، وضحك آخر فأصابه ما أصاب أخاه، وهكذا ظلت شارلوت ترسل اللطمة إثر اللطمة، وهي تزيد في سرعتها تدريجًا، فكان من نصيبي لطمتان سُررت بهما كثيرًا؛ لأنني تصورتهما «أشد» من غيرهما. ثم فاض الضحك على الجميع فغلبهم، واختلط عليهم العد، وبذلك انتهت الدعابة دون أن ندرك الألف.
وكانت العاصفة قد هدأت كثيرًا، وبدأ المدعوون يكونون شراذم عدة، وكانت أفكاري لا تزال منصرفة إلى منحًى واحد، فتبعت شارلوت إلى غرفة الاجتماع، وحدثتني في الطريق قائلة إن اللطمات التي جادت بها على اللاعبين نتيجة هفوة أو إغفال لم يُقصد بها إلا تبديد مخاوفهم، وتسكين روعهم، وإنها وإن كانت من قبل أيضًا فزعة منزعجة، إلا أنها بتشجيعهم قد شجعت نفسها.