الرسالة الثانية
ما أهدأ عقلي الآن! فهو ساكن سكون الفجر الذي يزيد في حلاوة هذه العزلة. إنني أبدأ حياتي وحيدًا في هذا الفضاء الذي خُلق لقلوب مثل قلبي، وإن هذه الوحدة لتروِّح عن نفسي كثيرًا حتى أرى الحياة الآن ألذ وأشهى من العمل؛ فقد أهملتُ الدرس، وطرحتُ كل أسباب مسرَّاتي السابقة، وكذلك نبذت ريشتي، ومع ذلك فإنني أجيد التصوير أكثر من ذي قبل. وحين تنفح الغمامة أغصان واديَّ الصغير برذاذها اللؤلُئِي، وحين تحجبني الأشجار المحيطة بي عن شمس الظهيرة، التي ترسل قبسًا من أشعتها ينير محرابي المحبوب؛ أتمشى أحيانًا تحت القباب المظلة مفكرًا، ثم أتمدد على الحشائش الطويلة بقرب الهدير الهامس، معجبًا بمختلف الأنواع من أبناء الطبيعة، فهنا آلاف من النباتات الصغيرة، وثَم آلاف من الحشرات الضئيلة التي تعيش عليها.
إن هذه الكائنات التي كانت يومًا ما أدنى من أن تَلفت نظري، صارت الآن مسرحَ عنايتي، فأومن بتلك القوة الإلهية التي خلقتْنا، والتي ترعانا عنايتها الأبدية. وإذا ما خيَّم الظلام ساحبًا أذياله على هذه المناظر، استعدتُ كلَّ ما مرَّ بي من عجائب الكون، حتى ليفعل بي التأثيرُ ما يفعله مرأى صورة عشيقة محببة، فيملؤني بفرح خفي، كثيرًا ما ينقلب فجأة إلى تعبُّد وصلاة.
آه أيها الصديق! إنني لَأودُّ أن يطاوعني البيان، فأشرح تمامًا ما يجول بخاطري، وأعبِّر عمَّا أشعر به وأحسُّ، ولكن عبثًا ما أحاول، إن الكلمات الحقيرة لتعجز عن التعالي إلى هذه الأفكار، فإنَّ سموَّها يدهش ويلجم.