الرسالة الثالثة
كل ما حوالَيَّ يُشعِر بقداسة سماوية، والعامل في ذلك أحد اثنين: إما قوة سحرية فتانة خفية، أو تأثير شعورٍ حيٍّ دقيقٍ. وإنَّ حُسنًا لا يُقاوَم يَجرني جرًّا إلى لزوم ينبوع ماء صافٍ، يتفجَّر من صخرٍ في مَغَارٍ يُهبط إليه بنحو العشرين درجة من أسفل تلٍّ؛ فإن جدارَ الماء المتداعي، وأشجارَ الصَّنَوبر التي تحنو عليه فتظله، والنَّسيم المنعش، وخريرَ الماء، وتَداعُبَ الأغصانِ الموسيقيَّ الحلو؛ كل هذا يحرِّك في فؤادي أسمى وأرقى العواطف، فأقضي هناك ساعة من كل يوم. وإلى هذه العين تفِد الفتيات من البلدة ليحملن الماء — عملٌ قد اشترك فيه قُدُمًا بناتُ العامة وبناتُ الملوك، فما أطهر وما أنفع! وأنا أتصور الآن كل عادات العصور المنقرضة، فيُخيَّل إليَّ أنني أشهد أسلافنا يُبرمون المعاهدات والمحالفات بجانب النوافير، بدافع حُب الخير المزعوم، ويُخيَّل إليَّ أنني أرى الحاج الفقير، وقد نال منه قيظ الصيف ومَلكَه الجَهْد، يستريح على ضفة الجدول، أو يغتسل بمائه البلوري، فينعش جسمه ويسترد قواه.
أعلم أيها الصديق أن الرجل قد أنهكته رحلة صيف سحيقة ركب فيها قدميه، ثم أطفأ جذوة ظمئه بشربة باردة من الينبوع، لا يختلف عني في شيء من شعوري وأفكاري.