الرسالة التاسعة والثلاثون
وا لوعتاه أيها الصديق! ما كان أوحشها من ليلة تحملتها، ولكنها مرَّت، وأنا في انتظار الأشد والأسوأ. لن أراها قط قط، آه لو كان صديقي هنا، فارتميت بين ذراعيه الأمينين، وأطلقت العِنان لفؤادي المفعم، ولتناولت من عطفه الشافي! إنني أبذل جهدي في حفظ نشاطي، وأحاول استعادة هدوئي وسكينتي، أنتظر بنافد الصبر ضوء الصباح؛ لتحملني جياد البريد التي طلبت إعدادها بعيدًا عن هذا المكان، وشارلوت الآن نائمة مستريحة، ليت شعري أتدري أنها لن تراني أبدًا، أبدًا بعد الآن!
فارقتها فجأة، وكان لي من الثبات ما استطعت به كتمان ما اعتزمت عنها، مع أننا قطعنا بالحديث معًا زهاء الساعتين، آه ما كان أبهى وأرق حديثها! وكان ألبرت قد وعد أن يلقاني في الحديقة مع شارلوت بعد تناول العشاء توًّا، وكنت واقفًا على الشرفة تحت شجر الأبي فروة المظل، أعجب بالشمس الراحلة، فلم أرفع عنها عينيَّ حتى غابت. في هذا المكان طالما اجتمعت بشارلوت — وكنت به ولوعًا قبل تعارفنا — فكان استحسانها له جميل الوقع لدي عند بدء صداقتنا، وكما كانت رغباتنا متماثلة كان ودادنا متبادلًا. والمسرح الذي يراه الإنسان من هذه الأشجار كبير واسع، ولكنني أذكر أنني وصفتها لك قريبًا، وخصوصًا تلك الشجيرات الباسقة التي تسد المنتهى، وكيف يُظلِم الطريق تدريجًا بين أكتاف الغابة المجاورة، حتى ينتهي في مخبأ من الأشجار المظلة فيكون معتزلًا جميلًا. بل إنني لأذكر تلك الكآبة الحلوة، أحسست بها لأول مرة انتحيت فيها هذه الخلوة الهادئة، وكان ذلك في منتصف النهار، وربما كان إنذارًا خفيًّا بأنها قد تكون في المستقبل مشهدًا للألم والهناء.
وقضيت نحو نصف الساعة أفكِّر حزينًا في رحلتي وأوبتي، ثم سمعتهما يقتربان فأسرعت ألقاهما، وتناولت مرتجفًا يد شارلوت فقبَّلتها، وبلغنا طرف الشرفة، فرأينا القمر بنقابه الفضي يعلو وراء الشجيرات التي تزين ذرى الجبل، وتناول حديثنا مواضيعَ عامة، حتى بلغنا المنتهى المظلم من الطريق، فدخلت أولًا شارلوت إلى هذا المكان الذي أحبه وجلست، ثم جلس ألبرت إلى جانبها، واخترت مجلسي إلى جانبها الآخر، ولكن عقلي كان منزعجًا مضطربًا حتى لم أُطِق القعود، فنهضت واقفًا أمامها، ثم تمشيت روحة وجيئة، ثم عدت فجلست على أشد ما يكون من الانفعال، وأشارت شارلوت إلى آثار نور القمر الظاهرة بآخر الغاب، وقد زاد في بهائه الظلام المحيط به، وترجم سكون المكان ووحشته عن أحزان نفسي، أواه يا صديقي! لقد كان ذلك هائلًا مخيفًا.
ثم تكلمت شارلوت أخيرًا قائلة: «كلما سرت في ضوء القمر ذكرت مَن كانوا أعزاء لدي وهم الآن لا شيء، ثم تحوم برأسي أفكار الموت، وما بعد الموت.» وأكملت حديثها بصوت ينبئ عن رقة ذلك الفؤاد: «بلى سنحيا بلا ريب فيما بعد، ولكن كيف يا فرتر؟ هل يرى كلٌّ منا الآخر؟ وهل يذكره؟ ماذا ترى؟» فأجبت مادًّا إليها يدي، والدموع تطفر من عيني: «شارلوت، سنلتقي ثانية، وأؤكد لكِ هنا وفيما بعد.» ولم أستطع أن أزيد. آه يا صديقي! لقد كان سؤالًا قاسيًا في الوقت الذي كانت تلتهم فيه نفسي أفكارُ فراقٍ طويلٍ، وعادت شارلوت تقول: «آه! ليت شعري أيشعر هؤلاء الأعزاء الذين أحببناهم، والذين لا نفتأ نجل ذكراهم في حالتهم السعيدة الآن؛ باهتمامنا بهم، وباللحظات الهانئة التي قضيناها معهم! ويُخيَّل لي أنني أرى شبح أمي الحبيبة يحوم حولي حين أجلس في مساء هادئ مع هؤلاء الأطفال الأطهار، الذين خلفتهم وراءها رمزًا حلوًا لها، حين يلتفون حولي بشغف كما كانوا يفعلون معها، هناك أرفع عيني إلى السماء، ثم أصلي متوسلة أن تشرف من مأواها السموي، فترى أنني قد قمت وفية بالوعد الذي وعدتها في دقائقها الأخيرة بأن أكون لهم أمًّا. وطالما هتفت: يا أعز الأمهات عفوَك إذا لم أكن لهم كلَّ ما كنتِ أنت، وا حزناه! ليس في استطاعتي أن أكون لهم كلَّ ما كانت، ولكنني أبذل ما في وسعي، إنني أُطعمهم وأُلبسهم، ثم أنا أُحبهم وأحنو عليهم وأُعنى بتهذيبهم. آه لو استطاعت أمي الحبيبة أن تشهد هذه الأُلفة الخالدة بيننا، إذًا لأسدت الحمد خالصًا لذلك الإله السموي، الذي صلَّت إليه على فراش الموت صلاتها الحارة كي يمنحنا السعادة.» واستمرت في كلامها هذا، ولكن عبثًا أحاول أن أعيد كل تلك العواطف الشريفة. إن اندفاق العبقرية الممتلئ حياةً لا يعبِّر عنه المتشدقون الجامدون.
وهنا قاطعها ألبرت ممتلئًا عواطفَ ورقةً: «يا حبيبتي شارلوت، إنك تكبِّدين نفسك تأثرًا شديدًا، إن هذه التذكارات حلوة رقيقة، ولكنني أناشدك الله ألا تفكري فيها طويلًا.» فأجابت: «آه يا ألبرت! أنت تذكر بملء الشعور تلكم الليالي الهادئة حين كنا نجلس ثلاثتنا إلى مائدتنا الصغيرة، وقد نام الأطفال، ولم يعُد أبي بعدُ. وكنتَ في أكثر الأحايين تمسك بيدك كتابًا، ولكن قلَّ ما تَهَبه من عنايتك، فمن ذا الذي لا يفضل حديث تلك المرأة الذكية الفؤاد، ذلك الحديث المثقف على أكبر المجلدات تسلية، وكانت رقيقة رءوفة، هاشة الوجه، سعيدة بواجباتها المنزلية، بل إن السماء لتشهد كم مرة جثوت فيها، وتوسلت طالبة من القوى السموية أن تمنحني ولو بعض طيبتها وصلاحها.»
فارتميتُ على قدميها، وأمسكتُ بيديها فغسلتُهما بالدموع قائلًا: «آه! شارلوت، شارلوت! إن بركات الله وأمك لا تزال مسبغة عليك.» فأجابت وهي تضغط على يدي المبلَّلة كَيَدِها بالدموع: «آه يا فرتر! ليتك عرفتها؛ فقد كانت جديرة حتى بصداقتك.» فجمدتُ في مكاني؛ إذ لم أتلقَّ أبدًا من قبلُ مديحًا شعرت به بهذه القوة، وأكملت حديثها: «وقد اختطف الموت هذه المرأة الفاضلة في صدر حياتها، ولمَّا يبلغ أصغرُ أطفالها الستة الشهور، وفي أثناء مرضها القصير كانت رابطة الجأش مستسلمة، وكان همها الوحيد أسرتها، وخصوصًا أصغر أطفالها، ولما أحست بدنو ساعتها الأخيرة، طلبتْ إليَّ أن آتي بهم إليها فأطعتُ، والتفَّ الصغار الأطهار حول فراشها، لا يعرف أصاغرهم الخسارة الواقعة بهم؛ أما الكبار فقد ملأ قلوبهم الحزن، فغلبهم على أمرهم، ثم رفعتْ يديها الواهيتين إلى السماء، تبتهل بحرارة إلى الله القدير أن يكون أبًا لهم، وقبَّلتهم بالتوالي، ثم صرفتهم والتفتت إليَّ قائلة: «شارلوت! كوني لهم أمًّا.» فأعطيتها يدي أؤكِّد لها صامتةً طاعتي لها «إنك تعدين بالجلل العظيم يا بنيتي — بحنو الأم، بعناية الأم — ولكن حبَّك البنوي يحملني على الاعتقاد بأنكِ ستكونين كفؤًا للشعور الأموي، كوني بهم رفيقةً محبةً كما كنتِ بي أنا، قومي بالواجب نحو أبيك، وكوني له في موضع الزوجة الأمينة، بل كوني مسرَّة أيامه المدبرة.» ثم استفسرت عن زوجها، ولكنه — وقد شعر بالكنز الذي يكاد يفقده — كان قد خلا إلى نفسه يبكي في الخفاء مطلقًا العِنان للألم الذي يفت في فؤاده، وكنتَ يا ألبرت في مخدع أمي حينذاك، وسمعَتْك تتحرك، فلما علمتْ بوجودك، ألحَّتْ عليك في الدنو منها، ثم نظرتْ إلى كلينا بسكون تام، ورضًى ظاهر قائلة: «ستكونان معًا سعيدين، إنني لأرى ذلك».» وقاطعها ألبرت وقد ضمها إليه بإخلاص قائلًا: «بلى يا حبيبتي شارلوت، إننا سعيدان وسنكون كذلك.» حتى ألبرت الهادئ المفكر حرَّكه وصفُها المؤثر؛ أما أنا فقد فقدت حواسي تقريبًا. ثم استمرت: «آه يا فرتر، لقد اختُطفت هذه المرأة الفاضلة المحبوبة من بين أسرتها. يا للسماء! أهكذا نفترق عمن نحب ونعز كل الإعزاز، ويُخيَّل إليَّ الآن أنني أسمع نحيب الأطفال المفجع الذين حزنوا مدة لفقد أمهم المحبة، قائلين إن «الرجل الأسود» اختطف منهم أمهم العزيزة.»
وتركت شارلوت مقعدها، وكنت ثائر العواطف، ولكنني بقيت جالسًا ممسكًا بيدها، فصاحت: «يجب أن نذهب؛ فقد تأخر الوقت.» وحاولتْ أن تنسحب، ولكنني بقيت قابضًا على يدها، وقلت: «سيرى كلٌّ منا الآخر ثانية، وسنلتقي فيما بعد. بلى ومهما كانت مراكزنا، فسيرى ويعرف كلٌّ منا الآخر فيما بعد. إنني ذاهب وبما أنه عليَّ أن أذهب فسأذهب راضيًا، ولكنني لا أقول «إلى الأبد» إن ذلك يكسر قلبي. الوداع يا شارلوت. وأنت يا ألبرت! سنلتقي ثانية.» فأكملت شارلوت وهي تبتسم: «نعم، وغدًا كما أظن.»
أواه يا صديقي! إن «غدًا» كان خنجرًا في فؤادي.
يا لنفسي! إنها لم تكن تدري متى تسحب يدها، وانطلقا في الطريق، وقمت مسرعًا فأتبعتهما عيني في ضوء القمر، ثم انطرحت على الأرض وأطلقت لعواطفي الهائجة العِنان، وأخيرًا نهضت فجأة، فركضت إلى الشرفة، ووقفت تحت ظل أشجار الزيزفون، فلمحت ثوبها الأبيض يتموج قرب باب الحديقة، فمددت ذراعي ولكن عبثًا، لقد ذهبت واختفت الساحرة في لحظة.