الرسالة الأربعون
وصلت إلى هنا الليلة الماضية، وها أنا منجز وعدي في الكتابة إلى صديقي بأسرع ما أستطيع. السفير مصاب بالنقرس، وهذا المرض لا يزيد من «الحلاوة الطبيعية» في خلقه؛ فهو أبدًا شكس الخلق، منكود الطلعة، وقد زادت عبوسته في الأيام الأخيرة كثيرًا، وأرى بكل جلاء أن حظي سيحفظ لي تجاريبَ قاسية، بيد أنني لن أجبن أو أخاف، بل سأتعلم النشاط قليلًا. لا أتمالك نفسي من الابتسام للكلمة الأخيرة التي سقطت من قلمي؛ فإن قليلًا من ذلك النشاط الذي أحتاج إليه جد الحاجة الآن يجعلني أسعدَ الناس. ولكن أأيأس من كفاءتي وما منحتنيه الطبيعة وأمامي مَن هم أقلُّ مني مواهبَ وقوةً، يسيرون ينفخهم تيه الطاووس الفارغ، وليس لهم ما يدلون به اللهم إلا ريشهم المموه؟ أيها الإله القدير لمَ لمْ تقرن تلك الصفات التي أعطيتنيها بالثقة بالنفس والرضى بها؟ ولكن يُخيَّل إليَّ أن صديقي يهتف بي: صبرًا صبرًا يا فرتر، إن الزمان يلد المعجزات، وقد تتغير الأشياء. حقًّا إنني أعترف بصحة ما يقول صديقي؛ لأنني منذ اضطررت للاختلاط بالبيئة التي هنا، منذ سنحت لي فرصة التطلع في أفكارها وسيرها وأحاديثها بدأ الاطمئنان والراحة يعودان إليَّ، وبما أننا بالطبيعة نقارن أنفسنا بمختلف الكائنات التي نجدها في هذه الحياة، فإن سرورنا أو حزننا ينشأ عن الحاضر أمامنا. الوحدة مربية الأفكار المحزنة المظلمة، التي فيها يميل الخيال دائمًا إلى التحليق في الفضاء بأجنحته الجبارة الجريئة، ويتغذى بمثل هذه الأفكار الوهمية، فيخلق كائنات لا وجود لها، حتى نرى أنفسنا بالمقارنة معها منحطين خاملين. وتظهر كل الأشياء بأكثر من أهميتها الحقيقية، ويظهر بعض الناس خيرًا منَّا وهو ليس كذلك، وهذه العملية العقلية طبيعية؛ فإننا دائمًا نجد في أنفسنا نقائص جمة، كما نجد للغير صفات ليست فيه، وكذلك نصور لأنفسنا بطلًا ما وهو في الحقيقة ليس إلا شخصًا وهميًّا، ابن خيالنا ووليد تصورنا.
ومن جهة أخرى، إذا صوَّبنا أفكارنا إلى نقطة واحدة وثابرنا بحماس في السبيل الذي ارتأيناه، فكثيرًا ما نجد، رغم الحنق والغيظ، أننا — ولو غيرنا دائمًا في دفتنا — قد تقدمنا عن الغير مسافات شاسعة بمعاونة التيار والريح. وإن الحكم الذي نصدره على أنفسنا بالنسبة إلى هذا الغير، سواء أكنا معه متساويين أم وراءه أم أمامه؛ يكون عادلًا.