الرسالة الثانية والأربعون
٢٤ ديسمبر
لقد صح ظني، فمن المحال اتفاقي والسفير، هو دون ريب أسرع مَن عرفتُ غضبًا، أحمق الرأي،
غريب الشكل، جامد كالعانس،
١ وكيف يرضى بالناس وهو لا ترضيه نفسه قط؟ أريد إتمام الأعمال بنظام وسرعة،
حتى بإنجازها أنتهي منها، ولكن هذا لا يلائم طريقته، إذا قدمت له مسودة أعادها وعليها:
«واثق أنها تقوم بالغرض، ولكني أفضِّل أن تراجعها؛ فقد تجد بها ما يستحق الإصلاح، أو
تفكِّر في استبدال عبارة بأنسب منها، أو كلمة بما هو أشد وقعًا.» ويفرغ ذلك صبري، فألعنه
وألعن ملاحظاته، ويجب ألا تُغفل نقطة واحدة، أو حرف عطف واحد، أما تغيير الوضع في
الكلمات — أسلوبي الكتابي المحبوب — فلا يحتمله، كل رأي يجب أن يكون طبق الأسلوب الرسمي
القاطع، فإن خالف ذلك رُفض بلا إمهال، وأنت يا صديقي، يا مَن تعرف مقتي لهذه القواعد
القاسية، تستطيع إذًا أن تتصور العذاب الذي أحتمله مع رجل كهذا، ولولا معرفة الكونت
المحبوبة لَمَا وجدت لي عزاءً. وقد أكد لي بإخلاص منذ أيام بغضَه لبطء هذا «الرجل
العظيم» وحرصه، قائلًا لي: «إن هؤلاء الناس لا يجعلون كل شيء مملًّا لهم فقط، بل لكل
من
احتكَّ بهم، ولكننا يجب أن نذعن لهم، كالرحَّالة الذي يضطر لصعود الجبل، ولو لم يعترضه
لكان طريقه أقصر وأسهل، أما والحال كما هي فعليه أن يجتازه صابرًا.» وقد رأى الأبله
تعلُّق الكونت بي فزاد غمه وضجره، وهو يتحيَّن كل فرصة لتحقيره أمامي، ولكنني أدفع عنه
بالطبع، فأزيد في استيائه. ورأيت أمس أنه وجَّه إحدى طعناته إلى الكونت، كما قصدني بها؛
فقد قال: «إن الكونت يصلح جدًّا للأعمال العامة في الدنيا، فأسلوبه جيد، وكتابته سهلة،
ولكن تعلُّمه — كبعض «عظماء النابغين» — سطحي.» وكانت لصوته رنة خاصة، شفعها بنظرة ذات
معنًى كأنه يقول: «آمل أن تشعر بما أقول.» ولم يقرصني تهكمه لأنني أحترم نفسي. إنني
أحتقر الرجل الذي يفكِّر مثله ويعمل عمله، ومن يجادل هؤلاء الأشقياء؟ وعلى أية حال فقد
أجبته ببعض الحدة قائلًا: إن الكونت رجل فاضل، جدير بكل احترام لسيرته وفطنته، وإنه هو
الشخص الوحيد ممن عرفت الذي يسمو بنبوغه الواسع عن الناس العاديين، مع امتلاكه النشاط
الضروري للعمل والجد، فكان هذا في رأيه مما لا يُفهم. وخفتُ أن يستمر في قدحه لرجل أفضل
منه بكثير، فيزيد من استيائي؛ ولذا انسحبت في الحال.
أنا أحمد لك، لكَ أيها الصديق عبوديتي هذه؛ فقد رضيت لإلحاحك المتواصل، ونصحك الشديد
لي
بالنشاط، أن أحني عنقي لهذا النير الممقوت. النشاط! إنني لأرضى بعشر سنوات أقضيها في
هذه السفينة
٢ الملعونة المقيَّد بها الآن، إذا لم يكن الرجل الذي يزرع البطاطس ويحملها
إلى السوق أشد مني نفعًا وأكثر نشاطًا. وما أعظم الحَنَقَ! ما أعظم الخمولَ الكريه
المنتشر في الجماعات المهذبة! فشد ما يدأبون متطلعين إلى التقدم عن الغير! وما أحقر
وأجشع هذه العاطفة تتجلى في كل ما يعلمون! وهنا الآن سيدة وقد أصمت الناس بتحدثها عن
أسرتها وما تملك من واسع الضِّياع، ولو شهدها غريب وسمع تفاخرها لحسبها مجنونًا قد اختلط
عقله بحيازة رتبة أو لقب غير منتظر. ومما يزيد في السخرية منها أنها مع ذلك كله ليست
إلا
كاتبة لنائب أعمال في الجهات المجاورة. وليت شعري كيف يتعلم الإنسان أن يكون محتقرًا
بهذه الدرجة!
كل يوم أيها الصديق أرى أكثر من ذي قبل سخف الحكم على الناس بقياسهم بنا؛ إذ إنه من
الصعب أن أخفض من نيران تخيلاتي والعواصف الثائرة بفؤادي. إنني أدع الناس راضيًا، يسلكون
ما يختارون لأنفسهم من السبل، وأرغب في الوقت عينه أن أعمل طبق أميالي، وأن ما يسوءني
جد
الإساءة هو ذلك التميز المضحك بين أبناء البلد الواحد، أنا أعلم كل العلم أن عدم التساوي
في الصفات ضرورة لازمة، كما أعلم النفعَ الذي يجره ذلك على نفسي، ولكنني لا أرضى بصد
اليسير
من السرور، تهَبُه هذه الدنيا المملوءة بالآلام.
تعرَّفت في إحدى جولاتي الأخيرة إلى فتاةٍ تُدعى الآنسة بوير، لطيفة، أنيسة المعشر،
بسيطة اللباس، وديعة الأخلاق، رغم تكلُّف جيرانها وتمسُّكهم بالتقاليد المرسومة، وقد
سُرَّ كلٌّ منَّا بمعرفة صاحبه لأول مرة التقينا فيها، ورغبت إليها قبل الافتراق أن تسمح
لي بزيارتها في منزلها، فأجابتني إلى ذلك بأدب صادق، حتى أخذت أتحيَّن الفرص الملائمة
بفارغ الصبر، وهي ليست بابنة هذه البِقاع، ولكنها نزيلتها منذ زمن قريب مع عمَّتها التي
خلا وجهها من أي أثر للُّطف، حتى نفرتُ منها لأول ما رأيتها، ولكنني عاملتها بكل عنايةٍ
مرضاةً لابنة أخيها، وطالما وجهت إليها الحديث، وقد حزرت في أقل من نصف ساعة ما حدثتني
عنه الآنسة من أن عمتها الكهلة ذات ثروة قليلة وعقلٍ أقل، لا يسرها شيء غير رضاها الخفي
بتعديد أسلافها وذكْر مناقبهم، وأن مولدها الشريف واقٍ لها، وهذا ما تحيط به نفسها من
السياج، وأن لهوها الوحيد هو أن تقف في شرفتها، تطل باحتقار ملكي على كل الرءوس الوضيعة،
في زعمها، التي تمر من تحتها. وكان لها في أيامها الغابرة بعض الحسن، ولكن عز حياتها
قد
بُدد على مَهَل، وطالما لعب هواها بأفئدة الشبان، وكذلك كان عصرها الذهبي، فلما طاح
جمالها اضطرت أن تقبل ضابطًا طاعنًا في السن، وترضخ لطبعه الكئيب، وكذلك كان «عصرها
النحاسي»، وهي الآن أرمل مهملة، ولولا لطف ابنة أخيها لهُجرت كل الهجر، وهذا ما قد يُسمى
ﺑ «عصرها الحديدي»!