الرسالة الرابعة والأربعون
من هذا الكوخ الحقير الذي أسكنه، والذي كان لي خير ملجأ أحتمي به من عاصفة ثائرة جائرة، أخاطب الآن عزيزتي شارلوت.
لم أتمكن قط من الكتابة إليك أثناء إقامتي في مدينة «د…» المكتئبة المحزنة، بين أناس أغراب؛ أغراب لأنهم يجهلون ميولي وعواطفي، ولكنني في اللحظة التي دخلت فيها هذا المكان المنفرد، والبرد والثلوج تصطدم بنافذتي الصغيرة، عُدت إليك وإلى نفسي، فما وطئت المكان حتى اندفعت صورتك أمام عيني، وملأت فؤادي ذكرى شارلوت، إيه أيتها الذكرى المقدسة الحلوة! أيتها القوى الرحيمة! ألا من عود لتلك اللحظة الأولى التي رأيتك فيها!
ولم أجد مَن تطبق عليه صفاتك خلا واحدة «الآنسة بوير»، بلى يا شارلوت، إنها تشبهك تمامًا إذا كان ثَمَّةَ مَن يشبهك. قد تقولين: «إيه لقد تعلم المديح الباهر.» وهذا حق؛ فقد صرت مؤدبًا إلى النهاية في الأيام الأخيرة؛ إذ عجزت عما يفضل ذلك، والسيدات يقلن إنني أضرب في الذكاء بسهم وافر، وإنني منعدم النظير في المداهنة، وستضيفين إلى ذلك «والكذب أيضًا»؛ لأن الاثنين مترافقان، على أنني أردت أن أقول بعض الشيء عن الآنسة بوير؛ ذلك أنها رقيقة الشعور سامية الذكاء؛ صفتان تظهران في عينيها الزرقاوين اللطيفتين، ومركزها عبء ثقيل عليها؛ فهو لا يرضى قط ميولها. تحتقر فراغ الحياة الزاهية، وكثيرًا ما نقضي الساعات معًا نتحدث عن السرور والسعادة اللذين تبعثهما المناظر الخلوية، ونفكر فيك أثناء حديثنا؛ لأن الآنسة بوير لا تعرفك فقط بل تجلك إجلالًا خالصًا، لم يبعثه بنفسها مؤثرٌ ما، وهي تعجب بك وتُسر دائمًا متى ذُكر اسمك.
آه لو كنت معكِ الآن في ذلك المخدع الصغير المحبوب؛ حيث يلعب حولنا أخواتك وإخوتك الصغار الأعزاء! وإذا ما أتعبوك أخذتُ ألقي عليهم بعض القصص، فيلتفون حولي وكلهم إصغاء وشوق.
آذنت الشمس بالمغيب، وأشعتها الرائحة تتألق على الثلوج التي تغطي الفضاء الفسيح، وقد هدأت العاصفة، فعليَّ أن أعود إلى سجني المظلم. الوداع! هل ألبرت معكِ؟ ومَن هو لكِ الآن؟ ما أحمقني! فلمَ أسأل هذا السؤال؟!