الرسالة الثامنة والأربعون
ذكرت لكَ وكررت تقدير الكونت ومشايعته لي، تناولت طعام الغداء معه أمس، وهو اليوم الذي يلتقي فيه بمنزله كلَّ ذوي المراكز العالية، ولم أفطن قطُّ إلى الجماعة وإبعادهم أتباعَهم في ذلك الوقت. وذهبنا بعد الطعام إلى البهو نتحدَّث ونتمشَّى، وكان الكولونيل «ب» يزور الكونت أيضًا، فدخل معنا في حلبة الحديث، وكذلك قضينا الوقت حتى أقبل النبلاء، ويعلم الله أنني لم أكن مستعدًّا البتة حين دخلت لادي «س» — أشرف السيدات وأنبلهن — مصحوبةً بزوجها وابنتها — فتاة خرقاء ذات خصر قصير وصدر منبسط — فمرت بي ناظرةً إليَّ باحتقار وصلف شديد، وعزمت على مغادرة المكان لاحتقاري أمثالَ هؤلاء، ولم يبقَ عليَّ إلا البقاء لاستئذان الكونت الذي كان مشغولًا بالتحيات الواهنة العقيمة. ودخلتْ في هذه اللحظة الآنسةُ بوير، فتأخَّرتُ قليلًا لأحادثها؛ لأن وجودها يسرُّني دائمًا، وكنتُ مستندًا على مؤخر مقعدها، فلحظتُ أخيرًا أن هناك هرجًا لم أرَه في أول الأمر قلَّل من لطفها ورقَّتها، وأدهشني هذا التغيُّر الفجائي، ففكرت قائلًا: «أمِنَ الممكنِ أن تكون هي أيضًا كباقي الجماعة؟» وساءني ذلك، وكدت أنسحب لولا شوقي إلى تعرُّف السبب.
ووصل الآن باقي الجماعة، وكان بينهم بارون معروف بسترته القديمة المحبوبة وكونت آخَر، يظهر اختلاف ملابسه العتيقة عن أزياء اليوم أيما ظهور. وحادثت كلَّ مَن أعرف منهم، فلاحظت أنهم يتباعدون، وأدهشني جدًّا سلوك الآنسة بوير، وشغل هذا كلَّ التفاتي؛ فلم ألاحظ — كما أخبرتُ منذ ذلك الوقت — أن السيدات يتهامسْنَ فيما بينهن، وأن هذا الهمس قد انقلب طنينًا بين السادة الرجال، ويظهر أنه كان بين السيدة «س» والكونت مناقشةٌ حارة في الموضوع، وأخيرًا أخذ بيدي الكونت إلى جانبٍ من الغرفة، وقال لي بمنتهى الرقة: «أنت تدري خرقَ التقاليد، وهنا بعضٌ ممَّن لا يرضيهم وجودك، وأنه لَيحزنني جدًّا …» فقلت: «أرجوك عفوًا؛ فقد كان من الواجب أن أفطن إلى ذلك، ولكنني واثق أن كرم نفسك سيتجاوز عن هذا السهو، ولقد كان في عزمي الانصرافُ منذ حين طويل، ولكنَّ شيطاني اعترضني.» وابتسمتُ منحنيًا، وانصرفتُ بعد أن صافَحَني بإخلاص نمَّ عن صفاء قلبه، وانحنيتُ أيضًا للسادة «النبلاء»، وأسرعتُ إلى مركبتي الخفيفة، ميمِّمًا قريةً مجاورة؛ حيث شهدتُ غروبَ الشمس من قمةِ تلٍّ هناك، وتلهَّيتُ قليلًا بمطالَعة هومر، وكان ما قرأت بالصدفة ذلك الوصف الجميل لمقابلة ملك إثاكا الكريمة للرُّعاة المخلِصين. وبعد أن متَّعت نفسي بذلك عُدتُ أدراجي، ودخلت قاعة العشاء في المساء، فلم أجد إلا بضعة أنفار يتلهَّوْن بالنرد، فحيَّاني ألديهيم «الرقيق»، وهمس في أذني قائلًا: «لقد كانت حادثة سيئة، وهكذا اضطرك الكونت إلى مغادرة الجماعة!» فأجبت: «الجماعة! لقد سررتُ جدًّا بمفارَقتهم.» وهكذا كان.
والشيء الوحيد الذي يغضبني هو الخبر الوَقِح الذي انتشر، ثم أخذتُ أفكِّر في المسألة بجد، وخُيِّل إليَّ أن الكل ينظرون إليَّ وأنا جالس إلى المائدة بشأن الحادثة، فآلمني هذا في أعماق فؤادي، وحيثما ذهبت الآن أسمع الناس يرثون لي، ويقول أعدائي الظافرون: «هكذا يقع أبدًا لهؤلاء الناس الوضيعين المتظاهرين باحتقار المراكز، وهم مع ذلك يسعَوْن للظهور والشهرة.»
أواه! إنني لَأمزِّق فؤادي! إن الجَلَد يجب أن يكون عنصرًا جوهريًّا في الفلسفة؛ فلو أننا لا نلقى السفاسف، على العموم، إلا بالسخرية، ولكنها إذا أنتجت عواقبَ سيئة كانت خطيرة، وإذا استخدمتها الدناءة المنقبة لأغراضها كانت أصلًا للغم والحزن.