الرسالة الخامسة
لقد عرفني وأحبني عامة الناس هنا، وخصوصًا الأطفال، مع أنهم عند بدء تكلُّمي معهم وتعرُّفي بهم شكُّوا في إخلاصي، وعاملوني بجفاء، ولكنني لم أتعالَ عن التقرُّب إليهم وخطْب مودتهم. من هذا تحققتُ شيئًا طالما لاحظته، وهو أن الطبقة العالية تميل كثيرًا لأن تجعل بينها وبين مَن هم أقل منها مسافة وبينًا، كما لو كان تواصُل الطرفين مفسِدًا لعظمة الأولين هادمًا لأُبَّهتهم. ولكن ما أكبر صلف، بل جهل، ذلك السيد النبيل، يتنازل من عليائه في وقت ما، فيتواضع مع الرجل العامي البسيط، ثم يهمله ويحتقره في أوقاتٍ أخرى! إن هذه الحياة لن تعرف المساواة، بل إن الرجل الذي يظن أنه يحرز ميزة خاصة ومركزًا واحترامًا بتجنبه غيرَه، لهو أحط شأوًا من الجبان، يتفادى العدو خوفَ وثوبه عليه.
في ذات يوم كنت عند الينبوع، فرأيت فتاة على الدَّرَج الأسفل ودلوها بجانبها، تنتظر إحدى رفيقاتها لتعاونها في رفعه إلى رأسها، فابتدرتها بالتحية قائلًا: «اسمحي لي يا عزيزتي أن أعاونك في رفعه.» فاحمرَّت خجلًا وأجابت متأدبة: «كلا يا سيدي.» ولكنني نبذت التقاليد والعادات وساعدتها، فشكرتني بابتسامةٍ كانت لي خيرَ جزاء.