الرسالة الثامنة
أنت تعرف تعلُّقي بأماكن خاصة، وحبي للمعتزلات المنفردة، وولعي بتنظيم هذه المناظر وجعلها موافِقةً لطباعي وأميالي. وجدت هنا بمقاطعة والهيم، على بُعد فرسخ من المدينة، مسكنًا صغيرًا هو طِبق مشتهاي، يقوم على جانب تل جميل يشرف على كل الخلاء المجاور؛ أما ربة الدار فعجوز طيبة غريبة الأطوار، تقدم لي النبيذ والجِعَة والقهوة والشاي، ولكن ما يأخذ بمجامع قلبي هنا شجرتا زيزفون أمام الكنيسة، تظللان بفروعهما المنتشرة الممشى الصغير الذي يحيط به جم مناظر خلوية رائعة، بل إنك لا تستطيع أن تتصوَّر مكانًا أشد عزلة وأكثر جمالًا، وإنني لأرسل لصاحبة الدار في طلب مقعد ومنضدة، وهنا في هذه الوحدة الحلوة أشرب قهوتي وأقرأ هومر.
إلى هذا المكان المهجور قادتني الصدفة أثناء تَجوُّلي بعد ظهر يوم ما، وكان يومًا جميلًا، والفلاحون منتشرون يعملون في حقولهم، وكان هناك صبيٌّ صغير في حوالي الرابعة من سنيه، جلس على الأرض يحمل طفلًا لم يجاوز شهره السادس، وقد احتضنه إلى صدره، وجعل له من ساعديه مقعدًا، وكان يجيل عينيه السوداوين البراقتين فيما حوله من خضرة ونضرة، محتفظًا بجلسته كي لا يُقلِق وديعته الصغيرة، أخذ مني هذا المشهد الجامع بين الطهر والحب، فاقتعدتُ محراثًا قبالته، وأخذتُ — يملؤني السرور — أصوِّر بقلمي الرصاص هذه الصورة الجميلة، صورة الحنان الأخوي. ثم أضفت إليها ما عرض لي هناك من سياج، وباب مخزن للحبوب، وبعض أدوات للفلاحة غير منتظمة، فوجدتُ أنني قد أخرجت في ساعة صورة ناطقة كاملة الحسن، دون أن أستعين بتفنن أو ابتكار، وهذا ما يقوي فيَّ عزيمتي السابقة، وهي الالتجاء إلى الطبيعة؛ فهي مع بساطتها لا يفنى كنزها، ولا يفرغ بهاؤها، بل إنها لقادرة أبدًا على أن تمنح المصوِّر، وتلهم الشاعر موضوعاتٍ جديدة، وأن تعلي وتزيد من قدْر ما يخرجان. إن أسباب التقيد بالقواعد ضعيفة ضعف أسباب التمسك بقوانين الاجتماع، دعني أسلِّم أن الفني الذي يتمشَّى على القاعدة لا يُنتِج قط شيئًا رديئًا جدًّا أو قبيحًا، كما أن الرَّجل المقيَّد بالقانون وقواعد التربية لا يقترف ذنبًا ضد المجموع أو ضد جاره. ولكن ليقل الناس ما يشاءون في الدفاع عن القواعد والقوانين، إنهم يحاولون أن يفسِدوا ويحجِبوا وجه الطبيعة الحقيقي ومظاهرها الصحيحة، ربما تقول إنهم يقلِّمون الأفرع الزائدة عن الحاجة، فيمنعون تشوه الشكل، فاعلم أنني يجب أن أصر على القول بأنهم يحبسون النبوغ، وأن خسارة هذا الجمال الذي يفسدونه لا يعدله بوجه من الوجوه الخطأ الذي يصلِحونه.
لنقارن العقل بالحب، ولنفرض أيها الصديق أن شابًّا أحب فتاة وأخلص لها، فجعل أفكاره وقفًا عليها، ووهبها كل عنايته، وبذل غاية المجهود وكل الوسائل ليبرهن لها على أنها متمناه الوحيد، ومركز ولهه وشغفه، ثم جاءه فيلسوف ربما ناطحت شهرته الجوزاء، فنصح له قائلًا: «يا صديقي الصغير، الحب عاطفة تطفر من الطبيعة، ولكنها يجب أن تُحدَّ وتُقيَّد، وإن وقتك جله يجب أن يستنفد في أمور الحياة، أما ساعات فراغك فتلهبها لحبيبتك، ولتكن هداياك متناسبة مع دخلك وفي أوقات معينة.» فإذا قبِل الشاب هذه النصيحة الحكيمة حبَّذ رأيه، وصوَّب عمله، ولكن لم يبقَ لحبه إلا ظل ضئيل، وهكذا حال المصور المحفوف بالقواعد، وقد يكون عمله صحيحًا ولكنه لا يكون ممتلئًا بالروح والحياة.
والعبقرية تيار جارف، تنحدر أمواجه المتدافعة إلى أمام فتذهل الناس، ولكن رجالًا ذوي حيلة ومكر يمتلكون الشواطئ، فيرابطون عليها، ويعترضون الأمواج بما لهم من قوة المقاومة، وهم هنا قد شيَّدوا المباني وزرعوا الحدائق، ولكنهم خافوا تفوُّق الغير، فاضطروا أن يدافعوا عن عملهم المنظَّم بالخنادق والسدود، وأن يصدوا كل جدير مستحق، وبذلك يَقُون أنفسهم الخراب والسقوط.