الرسالة الحادية والثمانون
أرى أن مصيري قد قُرِّر، وكل شيء يأتمر ليزيد من غمي ويُومِئ إلى حظي القابل.
واقتربت امرأة عجوز وهي تصيح: «هنري، هنري! أين كنت؟ لقد بحثت عنك في كل مكان، تعالَ فقد جُهِّز الغداء.» وسألتها عما إذا كان ولدَها، فأجابت: «بلى، ولدي التاعس المسكين؛ لقد أراد الله أن يرمينا بهذا البلاء.» فتساءلتُ عما إذا كان مضى عليه وقتٌ طويل في هذه الحالة، فأجابت: «لقد مضت ستة شهور على وجه التقريب وهو ساكن كما هو، الحمد لله، وكان قضى عامًا كاملًا، وهو هائج مقيَّد بالسلاسل في مستشفًى للمجانين، أمَّا الآن فهو لا يُتعِب ولا يضرُّ أحدًا، على أن حديثه كله عن الملوك والإمبراطرة. لقد كان شخصًا فاضلًا، وعضدني فيما مضى، وكان يكتب بخط جميل، ولكنه انقلب فجأةً كئيبًا منقبضًا، وأُصيب بحُمى محرقة، ثم صار مجنونًا هائجًا، وهو الآن كما ترى.» فقاطعتها بالاستفسار عن الزمن السعيد الذي أشار إليه، فأجابت وعلى شفتَيْها ابتسامةُ رحمة: «آه! يا لولدي المسكين! لقد كان ذلك يا سيدي حين كان هائجًا مقيَّدًا، وهو لا يفتأ ينعى ذلك الزمن.» فدهشت وألقيت في يدها بعض المال، ثم افترقنا.
وحين أسرعت عائدًا في طريقي كنت أقول لنفسي: «لقد كنت سعيدًا، لقد كنت حينذاك كالسمكة في الماء، أهذا مصير الإنسان؟ أيكون سعيدًا فقط قبل أن يبلغ العقلَ وبعد أن يفقده؟ يا للشقي المسكين! ومع ذلك فإنني أحسدك على حالك، أنت مليء بالآمال، تذهب لتجمع الأزهار لمليكتك في الشتاء، ثم لا تجد أزهارًا فتستاء، ولا تستطيع أن تفسِّر استياءك. أما أنا فأسير بلا أمل ولا غاية، ثم أعود كما كنت، ويظهر لخيالك المختلط أنه إذا نقدتك الهيئة الممثلة لَكنتَ رجلًا ذا قيمة، ومن حُسْن حظك أنك لا تستطيع أن تعزو آلامَك إلى أي قوة غريبة، أنت لا تعلم، أنت لا تشعر أنَّ كل ألمك يخرج من عقلٍ هائج ومخٍّ مختبل، وأن كل ملوك العالم ليس في مُكْنَتهم أن يساعدوك.
فَلْيموتوا بلا أمل أولئك الذين يستطيعون أن يضحكوا من المريض يسافر إلى الينابيع البعيدة ليزيد فقط من شكواه، وليجعل الموت أشدَّ إيلامًا! أو مَن ينتصرون على النفس اليائسة التي تحجُّ إلى الأرض المقدسة لتخفِّف من وخز الضمير ولتهدئ الفكر. إن كل خطوة من الطريق الوعر الذي يمزِّق قدمَيْه بلسمٌ لفؤاده، وكل ليلة من رحلته تدنو به من الأمل والعزاء. أفتجرءون أن تسمُّوا هذا إسرافًا، أنتم يا مَن ترفعون أنفسكم على أرجلٍ من خشبٍ لتُلْقوا خُطبًا زاهرة؟ إسراف! يا للسماء! أَلَا يكفي حظنا المقسوم من الشقاء دون أن تزيده حماقة جيراننا المزعجة؟ إن الكَرْم المقوي النافع، والنبات الشافي، والعون والصحة المنجية؛ كلها ترتيبات إلهية، يا أبانا القادر على كل شيء، والذي لا أعرفه، أنت يا مَن كنتَ تبدِّل وحشةَ روحي انتعاشًا، لِمَ نبذتَني؟ استدعِ عبدَك الهائم، وألقِ على فؤاده العزاء؛ إن روحي ظمأى وراءك، ولا تستطيع تحمُّل صمتك، وهل يغضب والدٌ من ولده الذي يدخل فجأةً إلى حضرته، فيتعلق بعنقه صارخًا: اغفر لي يا أبي العزيز؛ لأنني اقتضبت رحلتي وعُدت قبل وقتي المحدد، لقد وجدت العالم في كل مكان سواء، العمل والعناء والسرور والجزاء، كلها لم أعبأ بها، في حضرتك فقط توجد الهناءة، وأنا أبحث عن حضرتك، وَلْتكن العاقبة كما تكون.»