من المؤلِّف إلى القارئ
كي نضع للقارئ بيانًا أكثر ارتباطًا عن أيام فرتر الأخيرة، لزم علينا أن نعترض سيرَ رسائله بروايةٍ قصيرة، جُمِعت معلوماتها من النائب الشيخ، وألبرت وشارلوت وخادمه، والقوم الذين ساكَنَهم.
أما الوَجْد المنكود الذي نزل بفرتر من شارلوت، فقد قلَّل على مهلٍ من الوفاق الذي كان في البداءة بينها وبين ألبرت، وكان حبُّ الزوج خالصًا، بيْدَ أنه معتدل، وقد ذهب به تدريجًا غرامُه بالعمل، ولكنه لم يشعر، ولم يفكِّر قطُّ أن هناك بوْنًا كبيرًا بين أيام الخِطبة وأيام الزواج. على أن تعلُّق فرتر الظاهر بزوجه سبَّب له قلقًا خفيًّا؛ فإن ذلك التعلُّق لم يكن تعدِّيًا على حقوقه وحسب، بل تأنيبًا مضمرًا لإهماله إياها، وزادته قلقًا وانزعاجًا المصاعبُ المتزايدة في وظيفته وكسبه المتضائل.
أمَّا الحزنُ المخيِّم على فكر فرتر فقد أخمد نارَ عبقريته، وحرَمَه من نشاطه وسرعة خاطره، فجعله بطيئًا خاملًا في الجماعة، وكانت شارلوت تراه كلَّ يوم، وأثَّر فيها بالطبع تغيُّره السريع، فصارت بدورها خاملةً مفكِّرة، وحسِبَ ألبرت تلك الكآبة تأثيرَ شغَفِها المتزايد بمُحِبِّها، بينا عَزَاه فرتر إلى إهمالِ زوجها الظاهر لها، وجعل فقدانُ الثقة التي كانت دائمًا بين هذين الصديقين اجتماعَهما معكَّرًا، فلا يدخل ألبرت إلى غرف زوجه قط حين يعلم أن فرتر هناك. ولحظ فرتر استياءَه فسعى جهده عبثًا ليوقف زوراته كُلِّيةً، وصار لا يرى شارلوت إلا إذا علم أن زوجها مشغول، وزادت هذه الزيارات السرية في قلق ألبرت وغَيرته، فانتهز فرصةً أخبر فيها زوجه أنه إذا كان محتمًا عليها لقاء فرتر بحكم المجامَلة، وجب عليها أن تغيِّر من معامَلتها له، وألَّا تَقْبل زياراته بهذه الكثرة، وفكَّر المنحوس فرتر حوالي هذا الوقت في الانتحار، وكان هذا موضوع تفكيره منذ عهد بعيد، خصوصًا بعد عودته من جوار شارلوت، وكانت الفكرة محبَّبةً إليه أبدًا، ولكنه لم يُرِد أن يقترف هذا العمل الجدي بتسرُّع وطيش؛ فقد صمَّم أن يكون رجلًا بعزم، ولكن بهدوء.
وفي الثاني من ديسمبر زار شارلوت كالعادة، فوجد بأسرتها اضطرابًا كبيرًا، وأخبره أكبر إخوتها أن السبب في هذا الارتباك العام كارثةٌ محزنة حلت في الليلة الماضية؛ فقد قُتِل فلاح، ولم يهتم فرتر في بادئ الأمر بالخبر كثيرًا، فدخل إلى الغرفة التي كانت بها شارلوت، ورآها تلحُّ بجدٍّ على أبيها، الذي كان مهتمًّا بالبحث في ظروف هذا القتل، ألَّا يحاول الخروجَ محتجةً بمرض الأخير القاسي، وأسفَرَ البحث عن أن الجثة وُجِدت في الفجر أمام باب منزل، أمَّا الجاني فلم يُعرف بعدُ، ولكنَّ هناك شكوكًا كبيرة؛ فقد كان المقتول خادمًا لأرملةٍ كان لها في السابق خادمٌ ترك خِدمتَها باستياءٍ ظاهر، وذُعِر فرتر لهذا الخبر، فقام مسرعًا وهو يقول: «أممكنٌ هذا؟! يجب أن أذهب إلى والهيم.» وازدادت وساوسه، وبدأ يوقن أن ذلك الشاب الفلاح الذي لقيه مرارًا، والذي مال إليه كثيرًا هو الجاني التاعس.
وما وصل إلى الفندق الذي كان محوطًا بسكان البلدة، حتى سمع ضجيجًا عامًّا، ورأى على مسافةٍ قومًا مُدجَّجين بالسلاح، بينا ارتفعت الأصوات بأن الجاني قد قُبض عليه، وتحقَّقت الآن رِيَب فرتر؛ فقد كان هو الشاب الذي يهوى الأرملة، والذي لقيه منذ غير بعيد هائمًا، وعلى وجهه نظرات الغضب المنكتم واليأس الخفي. واقترب من السجين قائلًا: «أيها الشقي المسكين! ماذا صنعت؟» فنظر إليه الشاب نظرةً عادية هادئة، وظل ساكتًا بضع دقائق، ثم صاح أخيرًا: «لن ينالها أحد، لن يملكها غيري قط.» واقتادوا السجين إلى الفندق، ورحل فرتر على عَجَل.
وهاجه هذا المنظر المحزن فاشتدَّ غمه إلى حدٍّ لا يُوصف، وصحبتْ عطفَه الذي أثاره الغم رغبةٌ لتنجيةِ المحبِّ المسكين، ورآه عاثرَ الحظ حتى حسِبَه بريئًا وهو جانٍ. وأثَّرت فيه هذه الفكرة حتى خال في مُكْنَته إظهار براءته، فعاد بأقصى ما استطاع من سرعة، ودخل غرفة النائب خائر القوى لا يكاد يقوى على التنفس؛ ليحادثه في صالح السجين. ولقي ألبرت هناك فجأة، فزاده هذا اللقاء غير المنتظر انزعاجًا، على أنه حاوَلَ أن يجمع قواه، وبدأ يدافع بحماسٍ عن الدافع للشاب إلى جنايته، وفي أثناء شفاعته الحارة القصيرة، هزَّ النائب رأسه كثيرًا، ثم قاطَعَه أخيرًا بتعنيفٍ حادٍّ لدفاعه عن قاتل، قائلًا: «إذًا فلا فائدة من القانون، ليس ثَمَّةَ أمنٌ إذا وقعتْ مثلُ هذه الرحمة المخطئة. وفوق هذا، فعليَّ القيام بواجبات المحقِّق، وسيأخذ القانون مجراه الرسمي.»
واستمر فرتر في دفاعه رغم هذا التثبيط، حتى لمح إلى أنه في المستطاع إعطاء الشاب فرصة للفرار، وأن يقدِّم هو يد المساعدة في ذلك، وهنا أظهر ألبرت الذي كان صامتًا مصغيًا كل هذه الأثناء آراءَه المطابِقة لرأي النائب، والتي خيَّبت فرتر حتى ترك الغرفة في أشد التهيُّج، والشيخ يقول: «ذلك محال، يجب ألَّا يُنجَّى.»
ويظهر من خلال رسالته الآتية عظيمُ الأثر الذي ألقته على ذهنه هذه الكلمات، وقد كُتِبت هذه الرسالة دون شك في اليوم نفسه، ووُجِدت بين أوراقه بعدُ.