الرسالة التاسعة
٢٧ مايو
أضلتني حالتي الخيالية التي كنت فيها بالمجازات والفلسفة الكلامية، فنسيتُ كل النسيان
أن أُتمِّم الحديث الذي أردت أن أدلي به إليك في رسالتي الماضية. جلست ساعتين كاملتين
على المحراث، مأخوذًا بتلك الأفكار والتصوُّرات التي فاضت بها رسالتي، وجاءت قُبيل
المساء امرأة في مقتبل العمر تعتضد سلة، تبحث عن الطفلين اللذين لم يبرحا مكانهما، فنادت
من بعيد: «فيليب! إنك لصبي وديع.» ولحظتني، فتقدمتُ إليها متسائلًا عمَّا إذا كان
الطفلان المحبوبان ولديها، فأجابت: نعم. ثم نفحت أكبرهما بكعكة، وأخذت الأصغر بين
ذراعيها، فقبَّلته بحبٍّ أمويٍّ صادق، والتفتت إليَّ قائلة: «قد استودعت فيليب هذا
الصغير يا سيدي، ريثما أذهب إلى البلدة مع ولدي الآخر لأبتاع خبزًا وسكرًا وهذا الإناء
الفخار، لأصنع فيه حساءً لعشاء الطفل الصغير، فإن أخاه الشقي الأكبر قد كسر الإناء
القديم أمس بينما كان يتخاصم مع فيليب على قطعة من الفطير كانت فيه.» فسألتها عن ولدِها
الآخر، وبينا كانت تخبرني أنه يجتاز المراعي ببعض الإوز إلى البيت، ظهر الولد يثب فرِحًا
حاملًا لأخيه غصنًا من شجرة بندق، وقد فهمتُ أثناء حديثها أنها كانت ابنة ناظر مدرسة
القرية، وأن زوجها سافر إلى هولندا بعد وفاة عمه، ليضع يده على ممتلكات له هناك قائلة:
«لأنه لم يصله ردٌّ قط على ما كان يرسل من الكتب بخصوص هذا الأمر، فخاف ضياع ماله بلعبة
أو حيلة، ورأى لزوم وجوده هناك، فرحل ولم أتلقَّ منه للآن خبرًا.» وفارقتُ هذه المرأة
الصالحة آسفًا، وأعطيتها كروتزر
١ لتبتاع به كعكة للصغير، وأعطيتُ آخر للولدين.
حقًّا أيها الصديق، ليس ثَمَّةَ شيء يهدِّئ الفكر المضطرب كرؤية مثل هذه الأم السعيدة،
التي مع ضيق دائرة حياتها تعيش بهدوء حلو لا تعنى بالماضي أو المستقبل، بل توجِّه كل
همِّها إلى الحاضر. تتوالى عليها الأيام دون أن تترك أثرًا، والأوراق المتساقطة لا توحي
إليها إلا فكرًا واحدًا هو اقتراب الشتاء.
ترددت منذ ذلك الحين على هذا المكان، وعرفتُ الأولاد وعرفوني جيدًا، فإذا ما تناولت
قهوتي أعطيتهم قطعة من السكر، وفي المساء أشركهم في اللبن والخبز والزبدة، وأنفحهم في
كل
يوم أحد بكروتزر، وإذا كنت منصرفًا إلى الصلاة، أعطتهم إياه ربةُ الدار بناءً على أمري،
وقد حُزتُ ثقتَهم، فهم يُسرُّونَ إليَّ كل أمورهم ومطالبهم، ويدهشونني بصفائهم، خصوصًا
إذا كان معهم رفاق لهوهم الصغار. وخشيت أمهم في بداءة الأمر أن يكونوا عليَّ متطفلين،
ولكنني أقنعتها بعكس ما تظن، وجعلتها بعد عناء قليل تمنحهم ملء حريتهم، فتتركهم يسرون
ما
يشاءون.