الرسالة التسعون
شارلوت العزيزة
لقد قُضِي الأمر، وصمَّمتُ على الموت، وها أنا أخبرك بذلك بملء الهدوء والتروِّي دون أي تهيُّج فجائي، أي غضب مشتعل.
يا أعز النساء وأجملهن! قبلَ أن تقرئي هذه السطور، ستُوارى رُفاتِ البائس المسكين الهامدة في قبرٍ بارد، البائس الذي كانت سعادته الكبرى في دقائقه الأخيرة أن يناجيك. آه! يا لها من ليلةٍ هائلة قضيتها، ليلةِ قلقٍ وانزعاجٍ متواصل! على أنني أسميتها ليلة مباركة؛ لأنها أبعدتْ كلَّ مخاوفي، ووطَّدت عقلي المذبذب؛ بلى فأنا مصمِّم على الموت.
أمسِ حين تركتُك كانت حواسِّي كالعناصر معقودةً بالغيوم مضطربة، وكان قلبي حزينًا بلا أمل، بلا شعاع واحد من السرور، وكان كل جثماني باردًا كالثلج. ووصلت مأواي بالجهد، فدخلت غرفتي وارتميت على ركبتي، وساعدتني السماء للمرة الأخيرة بمخلص لي من الدموع الغزيرة. وهزَّ نفسي المعذَّبة ألفُ رأيٍ وألفُ اقتراح، وأخيرًا تأصَّلت فيَّ تلك الفكرة التي طالما خطرتْ لي؛ فكرةُ الموت.
ليس هذا باليأس، ولكنه اعتقاد بأن الحياة لا تستحق الحياة؛ لقد أتممتُ آلامي دون ريب؛ لأن كأس الحزن قد طفح، وقد وصلت الآن إلى الغرض، ويجب أن تحصل التضحية في سبيل السعادة. بلى يا شارلوت العزيزة، سعادتك أنت. أحد ثلاثتنا يجب أن يموت، فهل يتردد فرتر في أن يكون ذلك الواحد؟ آه أيها الملَك المحبوب، لقد خامَرَ هذا العقلَ الشارد المسيطر عليه الغضبُ والجنون أكثرَ من مرةٍ فكرةٌ هائلة شيطانية؛ فكرةُ قتلِ زوجك! فمن العدل إذًا أن أموت.
وفي الساعة العاشرة من الصباح نادى فرتر خادمه، فأمره أن يرتِّب ملابسه، وأن يطلب بيان معامَلاته، وأن يعيد بعض كُتُبٍ قد أُعيرت في الخارج، وأن يوزِّع مرتَّبَ شهرين على الفقراء الذين تعوَّدوا منه عطاءً أسبوعيًّا؛ لأنه بعد بضعة أيام سيرحل رحلة طويلة.
وتناوَلَ طعام الإفطار في غرفته، ثم امتطى جوادًا إلى دار النائب ولم يجده، فتمشَّى وحده في الحديقة، وعكف يستعيد ذكريات مؤلمة، وكان الأطفال في شوقٍ إليه، فعبثوا بوَحْدته راقصِين لاعبين حوله، وهم يقولون إنهم بعدَ غدٍ، وغدًا، ويومًا آخَر، سيتناولون هدايا الميلاد من أختهم. ثم بدءوا كما توحي إليهم خيالاتهم المحببة يصوِّرون له ما ينتظرون من الأشياء المدهشة. فصاح: «غدًا، ويومًا آخر!» ثم تهيَّأ للرواح، وضمَّهم واحدًا بعد الآخَر بحنوٍّ كبير، واستوقفه أصغرهم، قائلًا إن أخاه الأكبر قد كتب أبيات تهنئة لطيفة جدًّا بالعام الجديد إلى جميع الأصدقاء، وإنها ستُقدَّم في يومِ رأس السنة إلى الوالد، وإلى ألبرت، وإلى شارلوت، وإلى فرتر. وأثَّر فيه هذا كثيرًا، وخانته شجاعته فأعطى كلًّا منهم هدية، وسألهم أن يقدِّموا إلى والدهم كثيرَ احتراماته، وفارَقَهم منفعلًا جدَّ الانفعال.
وعاد إلى منزله، فطلب من الخادم أن يبقي النار مشتعلة، وأن يضع الكُتبَ والتيل في قاع الحقيبة وفوقها ملابسه. ويظهر أن الرسالة التالية إلى شارلوت كُتِبت في ذلك الوقت.