الفصل الأول
اليوميات
بورتو برايا – ريبيريا جراندي – غبار جوي يحوي نقاعيات – سلوكيات البزاقة البحرية والحبَّار – صخور جزيرة سانت بول (غير البركانية) – قشور مفردة – الحشرات: أول مستعمري الجزر – فرناندو نورونيا – باهيا – صخور مصقولة – سلوك سمك النيص – الطحالب الخيطية البسيطة (كونفيرفا) والنقاعيات المحيطية – أسباب تغير لون مياه البحر.
***
سانت ياجو – جزر الرأس الأخضر
بعد أن عطَّلتنا الأعاصير الجنوب غربية القوية مرتين، أبحرت سفينة «البيجل» التابعة للأسطول الملكي البريطاني، وهي سفينة شراعية ذات صاريَيْنِ تحمل عشرة مدافع، تحت قيادة الكابتن فيتزروي من البحرية الملكية، من ديفونبورت في ٢٧ ديسمبر عام ١٨٣١. كان هدف الرحلة هو استكمالَ مسح منطقة باتاجونيا وأرخبيل أرض النار (أو تييرا دل فويجو) الذي بدأه الكابتن كينج بين عامي ١٨٢٦ و١٨٣٠، ومسح سواحل تشيلي وبيرو وبعض جزر المحيط الهادي، وإجراء مجموعةٍ من القياسات الكرونومترية حول العالم. وصلنا إلى جزر تينيريفي في ٦ يناير، لكننا لم نرسُ على اليابسة خوفًا من الإصابة بالكوليرا؛ وفي الصباح التالي شاهدنا شروق الشمس من وراء خط الأفق الجبلي لجزر الكناري الكبرى، وفجأة لمعت قمة تينيريفي بينما كانت الأجزاء السفلى منها محجوبة بالسحب التي تشبه نُدَف الصوف. كان هذا أول يوم من أيامٍ عدة مبهجة لا تُنسى. في ١٦ يناير ١٨٣٢، رسونا في بورتو برايا الواقعة في جزيرة سانت ياجو التي تعتبر كبرى جزر أرخبيل الرأس الأخضر.
عدنا إلى فيندا لتناول العشاء بينما تجمَّع عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال، كلهم فاحمو السواد، يشاهدوننا. كان رفقاؤنا مبتهجين للغاية وكان كل ما نفعله أو نقوله يعقب بضحكاتهم العذبة. وقبل أن نغادر البلدة، زرنا الكاتدرائية. لا تبدو فخمة كالكنيسة الأصغر حجمًا لكنها تحوي أُرغُنًا صغيرًا يصدر أصواتًا نشازًا على نحو غريب. أعطينا القس الأسود بضعة شلنات، بينما ربَّت الإسباني على رأسه قائلًا بصراحة شديدة إن لونه لم يصنع أي فارق. عدنا بعدها بأقصى سرعة يمكن للأحصنة الصغيرة السير بها إلى بورتو برايا.
في يوم آخر، ذهبنا إلى قرية سانت دومينجو الواقعة بالقرب من مركز الجزيرة. كانت ثمة بضع أشجار متقزمة من الأكاسيا نامية في سهل صغير عبرناه، وكانت قممها منحنية بفعل الرياح التجارية المستمرة على نحو فريد؛ حتى إن بعضها كانت جذوعها منحنية بزاوية قائمة. كانت أفرع الأشجار تتجه تحديدًا إلى ما بين الشمال والشمال الغربي والجنوب الغربي، ولا بد أن هذه الدوَّارات الطبيعية تشير إلى الاتجاه السائد لقوة الرياح التجارية. لم يكن سيرنا قد ترك إلا أضعف الأثر على التربة الجدباء؛ حتى إننا فقدنا الأثر وذهبنا إلى فوينتيس. لم نكن نعرف أننا متجهون إليها إلا بعد وصولنا وكنا سعداء بغلطتنا هذه. كانت فوينتيس قرية جميلة بها جدول مياه صغير، وكان كل شيء يبدو مزدهرًا للغاية، فيما عدا من كانوا أولى أن يكون هذا حالهم وهم سكانها. فكان الأطفال السود عراةً تمامًا ويبدون في أسوأ حال، ويحملون حزمًا من حطب النار يعادل حجم الواحدة منها نصف جسد أي طفل منهم.
بالقرب من فوينتيس، رأينا قطيعًا كبيرًا من الدجاج الحبشي يضم حوالي خمسين أو ستين دجاجة. كان الدجاج حَذِرًا للغاية ولم يكن من الممكن الاقتراب منه. كان يتجنبنا كطيور الحَجَل في يوم مطير من سبتمبر، حيث كان يركض ورءوسه منتصبة لأعلى؛ وإذا سعينا للإمساك به فرَّ في الحال.
كانت المناظر الطبيعية في سانت دومينجو تتسم بجمال غير متوقع بالمرة من واقع الطابع الكئيب السائد في بقية الجزيرة. كانت القرية تقع أسفل وادٍ تحيط به أسوار مسننة وعالية من الحمم البركانية المتراصة. كانت الصخور السوداء تعطي تباينًا من أروع ما يكون مع النباتات ذات اللون الأخضر الزاهي، والتي تنمو على ضفتي جدول صغير من المياه الصافية. وتصادف أن كان اليوم يوم عيد مهم وكانت القرية مليئة بالبشر. خلال عودتنا مررنا بمجموعة من الفتيات السوداوات يصل عددهن إلى عشرين فتاة يرتدين ملابس ذات ذوق مميز؛ كانت بشرتهن السوداء وأرديتهن البيضاء كلون الثلج المصنوعة من الكتان تبدو أكثر جاذبية بفعل تباينها مع العمامات الملونة والأوشحة الكبيرة الفضفاضة. بمجرد اقترابنا، التفتن جميعًا فجأة ناظرات إلينا، وبينما كانت الأوشحة تغطي الأرض كنَّ يغنين أغنية مثيرة بحماس شديد ويضربن سيقانهن بأيديهن بين الحين والآخر على إيقاعها. ألقينا لهن بعض العملات استقبلنها بضحك هستيري ثم تركناهن وقد تضاعف ضجيج غنائهن.
في صباح أحد الأيام، كانت السماء صافية على نحو استثنائي والحدود الخارجية للجبال البعيدة شديدة الوضوح أمام صفحة من السحب الشديدة الزرقة. من واقع المنظر، ومن الحالات المماثلة التي تحدث في إنجلترا، خمَّنت أن الهواء مشبع بالرطوبة. غير أن الواقع كان العكس تمامًا. كانت قراءة مقياس الرطوبة تعطي فارقًا يصل إلى ٢٩٫٦ درجة بين درجة حرارة الجو والنقطة التي يتكون عندها الندى. وكان هذا الفارق تقريبًا ضعف ما رصدته في صباح الأيام السابقة. وكانت هذه الدرجة غير المعتادة من جفاف الجو مصحوبة بومضات برق متواصلة. أليس من غير المعتاد إذن أن نجد هذه الدرجة من الصفاء الجوي في طقس كهذا؟
كانت جيولوجية هذه الجزيرة هي أكثر الأجزاء إثارة في تاريخها الطبيعي. فبمجرد دخول الميناء، يمكن رؤية شريط أبيض أفقي تمامًا يواجه الجُرْف البحري يمتد لبضعة أميال بمحاذاة الساحل ويرتفع فوق سطح المياه بنحو خمس وأربعين قدمًا. عند فحصها وُجِد أن هذه الطبقة البيضاء تتكوَّن من مادة كِلْسية وتحوي بداخلها قواقع عدة يوجد معظمها، إن لم يكن كلها، الآن على الساحل المجاور. وتوجد هذه الطبقة فوق صخور بركانية قديمة وقد كانت مغطاة بفيض من البازلت الذي لا بد أنه دخل البحر عندما كانت الأرض البيضاء المغطاة بالقواقع قابعة في قاعه. من المثير للاهتمام تتبع التغيرات التي سببتها حرارة الحمم البركانية المتدفقة، على الكتلة الهشة القابلة للتفتيت، التي تحولت أجزاء منها إلى حجر جير بلوري، بينما أجزاء أخرى تحولت إلى حجر مرقط متماسك. أينما يختلط الجير بشظايا الرماد البركاني في قاع المجرى المائي، فإنه يتحول إلى مجموعات من الألياف المشعة الرائعة الجمال تشبه معدن الأراجونيت. ترتفع مِهاد الحمم البركانية على هيئة أراضٍ منبسطة تنحدر انحدارًا بسيطًا نحو الداخل، من حيث تدفقت فيضانات من الحجارة المصهورة في البداية. وخلال الحقب التاريخية المسجلة، لم تظهر أي علامات على نشاط بركاني، على ما أعتقد، في أي جزء من سانت ياجو. وحتى الفوهات البركانية يمكن بالكاد اكتشافها على قمم التلال الحمراء العديدة المكونة من رماد البراكين، مع ذلك يمكن التعرف على مجارٍ أحدث عهدًا على الشاطئ، حيث تُكوِّن مسارات من المنحدرات أقل ارتفاعًا، لكنها تمتد لما قبل تلك المنحدرات التي تنتمي لسلسلة أقدم من المجاري؛ ومِن ثَمَّ فإن ارتفاع المنحدرات يعطي مقياسًا مبدئيًّا لعمر هذه المجاري.
خلال إقامتنا، لاحظت عادات بعض الحيوانات البحرية. كانت إحدى البزاقات البحرية الضخمة المسماة «ابليسيا» شائعة جدًّا؛ إذ كان طول هذه البزاقة يصل إلى خمس بوصات، وكان لونها مائلًا للاصفرار مشوبًا بالقرمزي. على كل جانب من جانبي جزئها السفلي، أو الأقدام، يوجد غشاء عريض يعمل أحيانًا، فيما يبدو، كمهواة؛ إذ يسمح بتدفق تيار من المياه داخل الخياشيم الظهرية أو الرئة. يتغذى هذا النوع من البزاقة على الطحالب البحرية الرقيقة التي تنمو بين الصخور في المياه الطينية والضحلة، ووجدت داخل بطونها عدة حصوات صغيرة كما في قانصة الطيور. عندما تتعرض هذه البزاقة لما يقلقها، تفرز سائلًا رائقًا للغاية ذا لون أحمر يميل للأرجواني يعكر المياه حولها لمسافة نحو قدم. إلى جانب هذه الحيلة الدفاعية، تفرز إفرازًا قارصًا ينتشر فوق جسدها يسبب إحساسًا بالوخز الحاد يشبه ما تفرزه الحوصلاء أو قناديل البارجة البرتغالية.
كانت سمكة الحبار تلك تستعرض مهارتها في تغيير ألوانها كالحرباء خلال السباحة والسكون في قاع البحر على حد سواء. وقد استمتعت أيما استمتاع بما رأيته من فنون التخفي المتنوعة من كائن حي وحيد كان يبدو مدركًا تمامًا أنني أراقبه. كان يبقى ساكنًا لفترة من الوقت ثم يتقدم خلسة لمسافة بوصة أو بوصتين كقط يتعقب فأرًا، وكان يغير لونه أحيانًا، ثم يظل يتقدم حتى يصل إلى جزء أكثر عمقًا لينطلق فجأة كالسهم تاركًا أثرًا داكنًا من الحبر ليخفي الحفرة التي زحف إليها للاختباء بها.
أثناء بحثي عن الحيوانات البحرية، وكان رأسي يعلو الساحل الصخري بمسافة قدمين، اندفعت المياه أكثر من مرة في وجهي وصاحبها صوت صرير طفيف. في البداية لم أستطع تخمين السبب وراء هذا، لكني أدركتُ لاحقًا أن الحبَّار هو الذي قادني بما فعله إلى اكتشافه رغم اختبائه في حفرة. لا شك أن الحبار يمتلك قوة دفع المياه، وبدا لي أنه بالتأكيد يجيد التصويب باستخدام الأنبوب الذي يقع في الجانب السفلي من جسده. ونظرًا إلى الصعوبة التي تواجه هذه الحيوانات في حمل رءوسها، فلا يمكنها الزحف بسهولة عندما توضع على اليابسة. وقد لاحظت أن أحدها، وكنت قد احتفظت به في قمرتي الخاصة في السفينة، يطلق وميضًا فسفوريًّا طفيفًا في الظلام.
•••
«صخور سانت بول»، أثناء عبورنا الأطلنطي صباح السادس عشر من فبراير، اقتربنا من جزيرة سانت بول. كانت الجزيرة عبارة عن تجمع من الصخور يقع عند درجة صفر و٥٨ دقيقة شمالًا و٢٩ درجة و١٥ دقيقة غربًا. تبعد الجزيرة ٥٤٠ ميلًا عن ساحل أمريكا و٣٥٠ ميلًا عن أرخبيل فرناندو نورونيا. كانت أعلى نقطة في الجزيرة ترتفع عن مستوى البحر بخمسين قدمًا فقط، وكان محيطها بالكامل أقل من ثلاثة أرباع الميل. كانت هذه الجزيرة الصغيرة ترتفع فجأة من أعماق المحيط. لم يكن تكوينها المعدني بسيطًا؛ ففي بعض الأجزاء كانت الصخور تتكون من الصوان وفي أجزاء أخرى كانت تتكون من الفلسبار أو سليكات الألمنيوم، يتخلَّلها عروق رفيعة من صخور السربنتين. كانت الحقيقة المثيرة للاهتمام أن كل الجزر الصغيرة العديدة، التي تبعد عن أي قارة، في المحيطات الهادي والأطلنطي والهندي، باستثناء جزر سيشيل وهذه الجزيرة الصخرية الصغيرة، كما أعتقد، مكونة إما من شعاب مرجانية وإما من حمم بركانية. كان من الواضح أن الطبيعة البركانية لهذه الجزر المحيطية امتداد لهذه الحقيقة، وكنتيجة لتلك الأسباب نفسها، سواء كانت كيميائية أو ميكانيكية، فإن معظم البراكين النشطة الآن تقع إما بالقرب من سواحل البحار وإما في وسط البحر مثل الجزر.
وجدنا على جزيرة سانت بول نوعين فقط من الطيور: الأخبل والأبله أو الخطَّاف. ينتمي الأول لفصيلة الأطيشيات والآخر إلى فصيلة طيور الخرشنة. كان كلاهما يتميَّز بالوداعة والحُمق وكانا غير معتادين بالمرة على رؤية الزوَّار لدرجة أنه كان بمقدوري قتل أي عدد منهم بمطرقة الصخور الخاصة بي. تضع أنثى الأخبل بيضها على الصخور العارية، على عكس أنثى الخطاف التي تصنع عشًّا بسيطًا للغاية من الطحالب البحرية. بجانب هذه الأعشاش المتعددة، وُضِعت سمكة صغيرة طائرة جلبها الذكر لأنثاه على ما أظن. كان من المثير للضحك مشاهدة سلطعون كبير سريع الحركة (من نوع جراسبوس)، والذي يسكن التجاويف الصخرية، وكيف يقوم بسرقة هذه الأسماك بسرعة من جانب العش بمجرد إزعاجنا للأبوين. وأخبرني السير ويليام سيموندس، وهو من القلائل الذين رسوا على هذه الجزيرة، أنه رأى أفراد السلطعون وهي تجر الأفراخ الصغيرة من أعشاشها وتأكلها. لم يكن ثمة نبات واحد ينمو على الجُزَيِّرَة، ولو حتى نبات الأُشْنة؛ ولكنها كانت مسكونة بالعديد من العناكب والحشرات. أعتقد أن الكائنات التالية تكمل قائمة الحيوانات البرية التي تعيش فوق الجزيرة: نوع من الذباب (من عائلة طفيليات الطيور) التي تعيش فوق جسد الأخبل، وقُرَادة لا بد أنها جاءت إلى هنا كطفيل يعيش على أجسام الطيور، وعُثَّة بنية صغيرة تنتمي لنوع يتغذى على الريش، وخُنْفَساء (من فصيلة الرواغة) وقمل الخشب وجدتهما تحت الرَّوْث، وأخيرًا عدد من العناكب التي أعتقد أنها تفترس هذه الكائنات الضئيلة وآكلات جيف الإوزيات. ربما لا يكون الوصف المتكرر للنخيل المهيب المنظر والنباتات الاستوائية الأخرى المثيرة للإعجاب ثم الطيور وأخيرًا البشر، الذين يستوطنون جميعًا هذه الجُزَيِّرَات المرجانية بمجرد تكوُّنها في المحيط الهادي، وصفًا صحيحًا؛ وأخشى أن أفسد هذا الاعتقاد بأن أذكر أن العناكب والحشرات الطفيلية والطفيليات التي تتغذى على الريش والدنس يفترض حتمًا أن تكون هي أول من استوطن هذه الجزر المحيطية الحديثة النشأة.
كذلك توفر أصغر صخرة في هذه البحار الاستوائية موطنًا لعدد كبير من الأسماك، من خلال تهيئة الظروف لنمو أنواع لا تحصى من الطحالب البحرية والحيوانات التي تتكاثر لا جنسيًّا. ظل هناك صراع مستمر بين البحارة في قواربهم وأسماك القرش، على من منهم يقتنص الجزء الأكبر من الغنائم التي تلتقطها صنانير الصيد. وقد سمعت أن صخرة بالقرب من جزر برمودا، تقع على بعد عدة أميال وسط البحر وعلى عمق كبير، اكتُشفت لأول مرة عن طريق ملاحظة وجود أسماك في المنطقة المجاورة لها.
•••
•••
بمحاذاة ساحل البرازيل بالكامل على امتداد ٢٠٠٠ ميل على الأقل، وبالطبع إلى جانب جزء كبير من اليابسة، تتكوَّن الصخور الصلبة، أينما وجدت، من الجرانيت. إن ظروف هذه المنطقة الشاسعة من حيث بنيتها التي تتكوَّن من مواد يعتقد معظم الجيولوجيين أنها تبلورت عندما تعرضت للحرارة تحت ضغط تثير عدة تساؤلات مثيرة للفضول. هل حدث هذا التأثير تحت أغوار محيط عميق؟ أم امتدت طبقات لتغطيها فيما سبق ثم اختفت؟ هل يمكننا أن نصدق أن أي قوة، تعمل لفترة تقل عن اللانهاية، يمكنها تعرية الجرانيت على امتداد آلاف الفراسخ المربعة؟
ذات يوم كنت أتسلَّى بمراقبة سلوكيات أسماك النيص التي اصطيدت وهي تسبح بالقرب من الساحل. من المعروف أن هذه السمكة ذات الجلد الرخو المتهدل تملك قدرة استثنائية على نفخ جسدها حتى تتحول إلى شكل شبه كروي. وبعد إخراجها من المياه بوقت قصير، ثم وضعها في المياه مرة أخرى، تتشرب كمية كبيرة من المياه والهواء بواسطة الفم وربما كذلك بواسطة الفتحات الخيشومية. تحدث هذه العملية بوسيلتين: ابتلاع الهواء ثم دفعه إلى داخل تجويف الجسد ومنع عودته مرة أخرى بواسطة انقباض عضلي يمكن رؤيته بوضوح من الخارج، لكن المياه تدخل في تدفق هادئ ورقيق من خلال الفم والذي يظل مفتوحًا على اتساعه وثابتًا بلا حراك؛ ومِن ثَمَّ لا بد أن تعتمد هذه الحركة الأخيرة على المص. يتسم الجلد حول البطن بأنه أكثر تهدلًا من جلد الظهر؛ ولذلك فإنه خلال عملية التمدد والانتفاخ، يصبح السطح السفلي منتفخًا أكثر من السطح العلوي؛ ونتيجة لهذا تطفو السمكة وظهرها للأسفل. يشكِّك الفرنسي كوفييه في قدرة سمكة النيص على السباحة في هذه الوضعية؛ لكنها لا تستطيع فقط التحرُّك للأمام في خط مستقيم، بل يمكنها الاستدارة لتتجه إلى أي من الجانبين. وهذه الحركة الأخيرة تتم بمساعدة الزعانف الصدرية فقط؛ إذ يُطوى الذيل ولا يُستَخدَم. وبطفو الجسم بكل هذه الكمية من الهواء، تصبح فتحات الخياشيم مفرغة من المياه، لكن يجري فيها تيار مائي دائم يدخل من خلال الفم.
بعد بقائها لفترة قصيرة من الزمن في حالة الانتفاخ، تُخرِج السمكة الهواء والماء من الفم والفتحات الخيشومية بقوة كبيرة. يمكنها أن تلفظ، متى أرادت، كمية محددة من المياه؛ ولذا يبدو من المحتمل أنها تمتص هذه المياه جزئيًّا من أجل تنظيم جاذبيتها الخاصة. تمتلك سمكة النيص وسائل دفاعية عدة. فيمكنها العض بشكل حاد، ونفث المياه من فمها لمسافة ما، بالتزامن مع إصدار صوت غريب بتحريك فكيها. عند انتفاخ جسدها، تنتصب الحليمات التي تغطي جلدها وتصبح مدببة، لكن أغرب ما يميِّزها هو أنه عند الإمساك بها يفرز جلد البطن مادة قوية ذات لون أحمر قرمزي من أجمل ما يكون؛ تلطخ العاج والورق على نحو دائم، حتى إن اللون يحتفظ ببريقه حتى اليوم، لكني أجهل تمامًا ما طبيعة هذا الإفراز ونفعه. وقد سمعت من د. آلان من فوريس أنه كثيرًا ما كان يعثر على سمكة النيص منتفخة وتطفو على قيد الحياة داخل معدة أسماك القرش، وفي مرات عديدة كان متأكدًا من أنها كانت تنهش ليس فقط طبقات المعدة، بل جانبي الوحش الضخم مما يتسبب في مقتله. من كان يتخيل أن سمكة رخوة صغيرة الحجم مثل هذه يمكنها تدمير مثل هذا القرش الضخم المتوحش؟!
•••
بالقرب من جزيرة كيلينج المرجانية، في المحيط الهندي، لاحظت العديد من التجمعات الصغيرة للطحالب الخيطية البسيطة تمتد إلى بضع بوصات مربعة، تتكوَّن من خيوط أسطوانية طويلة شديدة الرقة؛ حتى إنها بالكاد يمكن رؤيتها بالعين المجردة، تختلط بأجسام أكبر منها نسبيًّا، يتخذ طرفاها شكلًا مخروطيًّا على نحو انسيابي. ويظهر اثنان منها في الشكل الوارد أدناه متحدين معًا. تختلف أطوالها من أربعة بالمائة إلى ستة بالمائة من البوصة وقد تصل حتى إلى ثمانية بالمائة من البوصة، بينما يتراوح قطرها بين ستة من الألف وثمانية من الألف من البوصة. كان هناك غشاء أخضر فاصل، يتكوَّن من مادة حُبيبية، وكان أثخن ما يكون في المنتصف، يمكن رؤيته بالقرب من أحد طرفي الجزء الأسطواني. أعتقد أن هذا هو الجزء السفلي من كيس رقيق للغاية عديم اللون يتكون من مادة لُبِّية، تبطن الغلاف الخارجي، لكنه لا يمتد إلى داخل الأطراف المخروطية. في بعض عينات الطحالب الخيطية، تشغل كرات صغيرة تامة الاستدارة من المادة الحُبيبية الضاربة إلى البني الأغشية الفاصلة، وشاهدتُ العملية الغريبة المثيرة للفضول التي أنتجت بها هذه الكرات. جمعت المادة اللبية التي تُكوِّن البطانة الداخلية فجأة نفسها لتشكل خطوطًا، اتخذ بعضها شكلًا ينبثق من مركز مشترك، ثم بدأت بحركة سريعة وغير منتظمة في الانكماش؛ حتى إنه في غضون ثانية واحدة كانت كلها متحدة في شكل دائرة صغيرة تامة شغلت موضع الغشاء الفاصل في أحد الأطراف الخاصة بالغلاف الخارجي الذي أصبح مفرغًا تمامًا الآن. كان تكوين الدائرة الحُبيبية يتسارع بسبب أي أذى عارض يلحق بها. يمكنني أن أضيف أنه كثيرًا ما كان زوج من هذه الأجسام يرتبط بعضهما ببعض كما هو مبين في الصورة أعلاه، مخروطًا بجوار مخروط، عند الطرف الذي يوجد به الغشاء الفاصل.
في البحر المحيط بأرض النار، وعلى مسافة ليست ببعيدة من اليابسة، رأيت خطوطًا ضيقة من المياه بلون أحمر زاهٍ تتكون من عدد من القِشْرِيَّات التي تشبه في شكلها إلى حد ما القريدس العملاق. كان البحارة يسمونها طعام الحيتان. لا أعرف ما إذا كانت الحيتان تتغذى عليها أم لا، لكن في بعض أجزاء الساحل تستمد طيور الخرشناوات والغاقيات والأسراب الضخمة من الفُقْمة الكبيرة البطيئة الحركة؛ غذاءها الأساسي من تلك السلطعونات السابحة. يعزو البحارة دائمًا تغير لون مياه البحار إلى بيض السمك، لكنني وجدت أن هذا صحيح فقط في حالة واحدة. على بُعد عدة فراسخ من أرخبيل جالاباجوس، عبرت السفينة ثلاثة شرائط ضيقة من مياه داكنة اللون تميل للصفرة أو كلون الطين؛ وكانت هذه الشرائط بطول بضعة أميال في حين لم يتجاوز عرضها بضع ياردات فقط، وكانت منفصلة عن المياه المحيطة بحد متعرج لكنه واضح. كان لونها هذا يُعزى إلى كرات هلامية صغيرة قطرها خُمس بوصة وكانت كل واحدة منها تحوي بُيَيْضاتٍ دائريةً دقيقة، من نوعين متمايزين: الأول يميل إلى الحمرة ويختلف شكله عن الآخر. لا يمكنني تخمين لأي نوعين من الحيوانات كانت تنتمي هذه البُيَيْضات. يقول الكابتن كولنت إن هذا المشهد شائع جدًّا في جزر جالاباجوس، وإن اتجاه مجموعات البُيَيْضات يشير إلى اتجاه تيار المياه؛ غير أنه في الحالة المذكورة، كانت الرياح هي ما حدد اتجاه صف البُيَيْضات. المشهد الوحيد الآخر الذي لا بد من الإشارة إليه هو طبقة زيتية رقيقة على سطح المياه تتلون بألوان قزحية. وقد رأيت جزءًا كبيرًا من المحيط مغطًّى بهذه الطبقة على ساحل البرازيل. وعزا البحارة هذا إلى الجثة المتحللة لأحد الحيتان ربما كان طافيًا على مسافة ليست ببعيدة. لا أذكر هنا الجسيمات الهلامية الدقيقة التي تتناثر كثيرًا على امتداد سطح المياه، والتي سيشار إليها فيما بعد؛ لأنها لم تكن من الوفرة بما يكفي لإحداث أي تغيير في لونها.
ثمة حدثان يبدوان مثيرين للاهتمام فيما سبق: الأول، كيف تحافظ الأجسام المختلفة التي تشكل النطاقات ذات الحواف المحددة على تماسكها معًا؟ في حالة السلطعونات الشبيهة بالقريدس، كانت حركاتها متزامنة كما لو كانت مجموعة من الجنود، لكن هذا لا يمكن حدوثه عن طريق حركة إرادية كما في البُيَيْضات أو طحالب الكونفيرفا، ومن غير المحتمل أيضًا أن يحدث بين النقاعيات. الظاهرة الثانية، ما الذي يتسبب في طول وصغر قطر هذه النطاقات؟ لقد كان شكلها يشبه إلى حد بعيد ما قد يُرى في أي سيل جارف عندما يفكك مجرى المياه الزبد المتجمع في الدوامات إلى خطوط طويلة، ما يدفعني إلى عزو ذلك الأثر إلى مفعول مشابه إما لتيارات الهواء أو البحر. ومن منطلق هذا الافتراض، يجب أن نؤمن بأن الأجسام المختلفة المتعضية تنتج في أماكن محددة ملائمة، وتتحرَّك من أماكنها هذه بفعل اتجاه حركة الرياح أو المياه. ومع ذلك، أعترف بوجود صعوبة كبيرة في تخيل أن أي بقعة يمكنها أن تكون محل ميلاد ملايين الملايين من الحييوينات والطحالب الخيطية؛ فمن أين تأتي الجراثيم إلى مثل هذه النقاط؟ بعد أن نشرت الرياح والأمواج الأجسام الأبوية عبر المحيط الشاسع، ولكن لا توجد أي فرضية أخرى يمكنها أن تفسر لي تجمعهم على هذه الهيئة الخطية. يمكنني أن أضيف ما أشار إليه سكورسبي من أن المياه الخضراء التي تزخر بالكائنات المحيطية توجد دائمًا في جزء محدد من المحيط المتجمد الشمالي.