الفصل الثاني عشر
فالبارايزو – رحلة إلى سفح جبال الأنديز – بنية الأرض – صعود جبل الجرس في كيوتا – حطام كتل الأحجار الخضراء – الوديان الشاسعة – المناجم – أحوال عمال المناجم – سانتياجو – ينابيع كايكيونيس الساخنة – مناجم الذهب – الطواحين – الأحجار المثقوبة – عادات الأسد الجبلي – طيور التوركو والتاباكولو – طيور الطنَّان.
***
وسط تشيلي
نكتشف من موقعها أن المدينة تتكوَّن من شارعٍ واحدٍ طويلٍ متشابك يمتد متوازيًا مع الشاطئ، وحيثما انحدر وهْدٌ، تصطف البيوت على جانبَيه. تنقسم التلال المستديرة، المحصَّنة جزئيًّا فقط بنباتاتٍ شحيحةٍ جدًّا، إلى عدد لا حصر له من أخاديدَ صغيرة، تبرز فيها تربةٌ حمراءُ زاهية على نحوٍ فريد. ولهذا السبب، ومع وجود بيوتٍ بيضاءَ منخفضةٍ ذات أسطحٍ مكسوَّة بالقراميد، ذكَّرني المشهد بمدينة سانت كروز، في جزيرة تينريف. وفي اتجاه شمالٍ شرقي، تظهر لمحاتٌ خلَّابة لسلسلة جبال الأنديز؛ إلا أن هذه الجبال تبدو أكبر كثيرًا عند النظر إليها من التلال المجاورة؛ فالمسافة البعيدة التي تقع عندها هذه الجبال يمكن ملاحظتها بوضوحٍ أكثر من هذا الموضع. ويبدو بركان أكونكاجوا رائعًا على نحوٍ استثنائي. فلهذه الكتلة المخروطية الضخمة غير المنتظمة ارتفاعٌ أكبر من ارتفاع بركان تشيمبورازو؛ ومن القياسات التي أجراها الضباط في سفينة البيجل، يتضح أن ارتفاعها لا يقلُّ عن ٢٣ ألف قدم. ورغم ذلك، يُعزى الجزء الأكبر من جمال سلسلة الجبال — عند النظر إليها من هذه النقطة — إلى الأجواء التي تُشاهَد من خلالها هذه الجبال. فكم كان رائعًا حين تغرب الشمس في المحيط الهادي، أن تشاهد إلى أي مدًى يمكن تمييز الخطوط الكفافية المحزِّزة لهذه الجبال بكل وضوح، بالإضافة إلى مدى تنوُّع ورِقَّة درجات ألوانها.
حالفني الحظ حين وجدتُ السيد ريتشارد كورفيلد، وهو زميل دراسة وصديقٌ قديم، يعيش هنا، والذي أدين له بالكثير لحسن ضيافته وكرمه وتوفير إقامةٍ ممتعة لي أثناء توقُّف سفينة البيجل بتشيلي. والتجاور اللصيق لمدينة فالبارايزو ليس مثمرًا للغاية بالنسبة إلى عالِم الطبيعة؛ فأثناء فصل الصيف الطويل، تهبُّ الرياح باستمرار من جهة الجنوب، بعيدًا عن الشاطئ قليلًا؛ ومن ثم لا تتساقط الأمطار أبدًا في هذه المنطقة؛ بينما خلال شهور الشتاء الثلاثة، تكون الأمطار غزيرة بما يكفي. ونتيجة لذلك، تكون النباتات شحيحةً للغاية؛ فباستثناء بعض الأودية العميقة، لا توجد أشجار، وتتناثر حشائشُ قليلةٌ وبضع شجيراتٍ قصيرة عبر أجزاء التلال الأقلِّ انحدارًا. عندما نفكر في أنه على بُعد ٣٥٠ ميلًا إلى الجنوب، يختفي هذا الجانب من سلسلة جبال الأنديز وراء إحدى الغابات الكثيفة، يصبح التباين ملحوظًا جدًّا. لقد خرجتُ في عدة نزهاتٍ طويلة لجمع عينات من تاريخ الطبيعة. تعتبر المنطقة ملائمة لممارسة الرياضة. ويوجد فيها الكثير من الزهور الجميلة للغاية، ومثلما هي الحال في معظم المناطق الأخرى ذات المناخ الجاف، تتميز النباتات والشجيرات بالروائح النفَّاذة والمميزة؛ حتى إن ملابس المرء تصير معطَّرة بمجرد المرور بخفَّةٍ خلالها. لم أكفَّ عن التعجب مما لاقيته؛ فكان كل يومٍ مقبل جميلًا كاليوم الفائت. يا له من فارق يصنعه المناخ في الاستمتاع بالحياة! ويا لها من أحاسيسَ متعارضةٍ تلك التي تُخالج المرء حين يرى الجبال السوداء مغلفة بالسحب جزئيًّا ثم يرى سلسلة جبال أخرى مغلفة باللون الأزرق الفاتح لضوء النهار في يوم صحو رائع! فقد يخالجك إحساسٌ مهيب للغاية تارة، وتارةً أخرى إحساس بالبهجة والحياة السعيدة.
•••
•••
إن تشيلي، كما قد تظهر في الخرائط، هي عبارة عن شريطٍ أرضيٍّ ضيق يقع بين سلسلة جبال والمحيط الهادي؛ ويمتدُّ عبر هذا الشريط نفسه عدةُ سلاسل من الجبال، تسير بالتوازي في هذه المنطقة مع سلسلة جبال الأنديز العظيمة. وبين هذه السلاسل الخارجية والسلسلة الرئيسة، تمتدُّ سلسلة متعاقبة من الأحواض المستوية — المتصلة عادة بعضها ببعض من خلال ممراتٍ ضيقة — نحو الجنوب، وفي هذه الأحواض تقع المدن الرئيسة مثل سان فيليبي وسانتياجو وسان فرناندو. ليس لديَّ أدنى شك في أن هذه الأحواض أو السهول، بالإضافة إلى الوديان المستعرضة (مثل وادي كيوتا) والتي تربط البلاد بالساحل، هي قيعان لخُلْجانٍ صغيرةٍ قديمة وخُلْجانٍ عميقة، كتلك التي تقطع كل أجزاء أرخبيل أرض النار والساحل الغربي. لا بد أن تشيلي كانت فيما سبق تتشابه مع أرض النار في تكوين الأرض والمياه. وقد كانت مظاهر التشابه تتضح على نحوٍ مدهش أحيانًا عندما كان ركامٌ مستوٍ من الضباب يُغطِّي جميع الأجزاء السفلية من البلاد، كأنه ستار؛ فكان الضباب الأبيض الملتفُّ في الوهاد يوضح الشروم والخُلْجان على نحوٍ جميل، وفي أجزاءٍ متفرقة تظهر رابيةٌ منعزلة تَبيَّن أنها كانت موجودة هنا منذ زمن كجزيرةٍ صغيرة. ويضفي التباين بين هذه الأودية المستوية والأحواض والجبال غير المنتظمة طابعًا مميزًا للمشهد بدا لي جديدًا ومثيرًا جدًّا.
ونظرًا للانحدار الطبيعي لهذه السهول نحو البحر، يسهل ريُّها للغاية؛ ومن ثم تتمتع بخصوبةٍ فريدة. ولولا هذه الطبيعة، لما أنتجت الأرض أي شيء يُذكَر؛ إذ تبدو السماء صافية بلا أي غيوم طوال فصل الصيف. تنتشر الشجيرات والأشجار القصيرة عبر الجبال والتلال، وباستثناء هذا فالنباتات شحيحة للغاية. ويمتلك أصحاب الأراضي في الوادي قطعةً محددة من الأراضي العشبية المرتفعة، حيث تستطيع ماشيتهم نصف البرية، بأعدادها الكبيرة، العثور على عشبٍ وفير. ويُقام كل عام «سوق ماشية» كبيرة، حيث تُنقل كل الماشية وتُحصى وتوسَم بعلامة ويُعزل عددٌ معيَّن لتسمينه في الحقول المروية. يُزرع القمح بكثافة إلى جانب كميات لا بأس منها من الذرة الهندية؛ غير أن ثمة نوعًا مُعيَّنًا من الفاصوليا يُعدُّ مصدر الغذاء الرئيس للعمال. وتنتج البساتين وفرةً فائضة من الدُّرَّاق والتين والعنب. ومع توافر كل هذه المميزات، كان من المفتَرض أن يتمتع سكان البلاد بمزيد من الرخاء أكثر مما هم عليه بالفعل.
•••
نزعنا السروج عن الخيول بالقرب من ينبوع المياه وأخذنا الاستعدادات لقضاء الليلة. كانت الأمسية رائعة، والأجواء صافية للغاية؛ لدرجة أنه كان يمكن تمييز صواري السفن الراسية على خليج فالبارايزو، رغم أنها على بُعد مسافة لا تقل عن ٢٦ ميلًا بحريًّا، بكل وضوح كخطوطٍ سوداءَ صغيرة. وبدت سفينةٌ شراعية كانت تنعطف إلى الجانب الآخر كنقطةٍ بيضاءَ ساطعة. ويُبدي جورج أنسون، في رحلته البحرية حول العالم، دهشته الشديدة من المسافة التي اكتُشِفت منها سفنه على السواحل، إلا أنه لم يضع في حسبانه بالقدر الكافي ارتفاع الأرض وشفافية الهواء.
كان مشهد غروب الشمس مهيبًا ومتألقًا؛ فبدت الأودية مظلمة، بينما احتفظت القمم الجليدية لجبال الأنديز بظلالٍ خفيفة من اللون الأحمر الداكن. عندما أظلمت الأجواء، أشعلنا النيران أسفل تعريشةٍ صغيرة من الخيزران، وقلينا لحم الشاركي (أو شرائح اللحم البقري المجفَّف)، وتناولنا مشروب المتة، وشعرنا براحة كبيرة. ثمة سِحر يفوق الوصف في العيش في الهواء الطلق. كانت أمسيةً ساكنة وهادئة، باستثناء ما كنَّا نسمعه من وقت لآخر من الضوضاء الصاخبة التي يحدثها البيزكاتشا الجبلي والصياح الخافت لطائر السُّبَد. إلى جانب هؤلاء، يتردد عددٌ قليل من الطيور، وكذلك الحشرات، على هذه الجبال الجافة الجدباء.
•••
قضيْنا اليوم على قمة الجبل، ولم أستمتع مطلقًا من قبلُ بيوم كما استمتعت في ذلك اليوم. بدت تشيلي، وهي مُحاطة بجبال الأنديز والمحيط الهادي، كما تبدو على الخريطة تمامًا. وزاد الاستمتاع بالمشهد، الذي كان جميلًا في حدِّ ذاته، بالتأملات الكثيرة التي نشأت من مجرد رؤية سلسلة جبال كامبانا والسلسلة الموازية الأصغر حجمًا، ووادي كيوتا الفسيح الذي يخترقها مباشرةً. من ذا الذي يستطيع أن يُحجم عن الإعجاب بالقوة التي نصبت هذه الجبال، بل والإعجاب أكثر بما استُغرِق حتمًا من دهور لا تُحصى لتحطُّم كتلٍ كاملة منها ونقلها وتسويتها؟ من الجيد في هذه الحالة أن نستحضر في أذهاننا الطبقات الحصوية والرسوبية الشاسعة في باتاجونيا، التي لو تراكمت على سلسلة الجبال، لزاد ارتفاعها عدة آلاف من الأقدام. حين كنت في ذلك البلد، كنت أتساءل كيف يمكن لأي سلسلة جبال أن تفرز مثل هذه الكتل، دون أن يمحى أثرها تمامًا. أما الآن، فلا يجب أن نعكس تساؤلنا، ونتشكك فيما إذا كان في مقدور الزمن، بكل قوَّته، أن يُفتِّت الجبال — حتى سلاسل الجبال العملاقة — إلى حصًى وطين.
كان شكل جبال الأنديز مختلفًا عما كنتُ أتوقعه؛ فقد كان الخط السفلي من الثلوج أفقيًّا بالطبع، وحتى هذا الخط بدت القمم المستوية لسلسلة الجبال متوازية تمامًا. وعلى فواصلَ متباعدةٍ فقط، كانت مجموعة من النقاط أو شكلٌ مخروطي يظهر موضعًا وُجِدَ عنده أحد البراكين، أو الموضع الذي يوجد عنده الآن. وعند هذا المكان، كانت سلسلة الجبال تشبه جدارًا ضخمًا صلبًا، يُتوِّجها برج هنا وهناك، لتصنع بذلك حصنًا منيعًا للمنطقة.
تعرضت جميع أجزاء التل تقريبًا لمحاولات التنقيب عن مناجم الذهب المفتوحة؛ إذ لم تترك الرغبة العارمة في التنقيب عن الذهب موضعًا في تشيلي بدون فحص ومعاينة. قضيت الأمسية مثلما قضيت سابقتها بالحديث مع رفيقيَّ حول النار. غير أن الفرسان (الهياسوس أو الجواسوس) في تشيلي، والذين يناظرون الجاوتشو في سهول البامبا، أناسٌ مختلفون للغاية. كما أن تشيلي أكثر تحضُّرًا من الأخيرة؛ ونتيجة لذلك فقد السكان الطابع الفردي إلى حدٍّ كبير. والتدرجات الاجتماعية ملحوظة بقوة أكبر بكثير؛ فالهياسوس في تشيلي لا يرون أحدًا ندًّا لهم مطلقًا؛ ولقد اندهشتُ كثيرًا حين وجدت أن رفيقيَّ لا يروق لهما تناول الطعام معي في الوقت نفسه. وهذا الشعور بعدم المساواة هو نتيجةٌ حتمية لوجود الأرستقراطية القائمة على الثروة. ويُقال إن عددًا قليلًا من مُلَّاك الأراضي الكبار يحققون من خمسة إلى عشرة آلاف جنيه إسترليني سنويًّا، وهو تفاوت في الثراء أعتقد أنه لا يُضاهى في أي دولة من الدول القائمة على تربية الماشية في شمال جبال الأنديز. ولا يلقى الرَّحَّالة هنا تلك الحفاوة المطلَقة المتمثلة في رفض أي مبالغَ ماليةٍ مقابل أي خدمات؛ ولكنهم مع ذلك يعرضون هذا بمنتهى السخاء حتى إنه لا يوجد أدنى حرج من قبوله. سيُرحِّب بك كل بيت في تشيلي تقريبًا لقضاء ليلة به، ولكن يُتوقع منك أن تترك النَّزْر اليسير في الصباح؛ حتى الأثرياء منهم يقبلون تقاضي شلنَين أو ثلاثة. والجاوتشو نبلاء، رغم أنهم قد يكونون متوحِّشين؛ في حين أن الهياسوس أفضل منهم في جوانب قليلة؛ ولكن في الوقت نفسه هم أشخاصٌ عاديون وسوقيون. ويختلف الاثنان في عاداتهم وملبسهم، رغم أن سلوكهم واحد، والسمات المميِّزة لكلٍّ منهم منتشرة في بلديهما. يبدو الجاوتشو وكأنه جزء من حصانه، ويستهجن بذل أي جهد إلا عندما يكون على صَهْوة جواده؛ بينما الهياسوس قد يُستأجر للعمل في الحقول. يعيش الأول على الغذاء الحيواني تمامًا، بينما يعيش الأخير على الغذاء النباتي بالكامل تقريبًا. نحن هنا لا نرى الأحذية البيضاء الطويلة والسراويل الواسعة والتنانير القرمزية، ذلك الزي الرائع المميز لسكان البامبا؛ فالسراويل المعتادة هنا محمية بغطاءٍ صوفيٍّ أسود وأخضر، غير أن عباءة البونشو منتشرة بين أهل المنطقتين. أكثر ما يعتزُّ به الهياسو هو المهماز الذي يتميَّز بحجمه الكبير على نحوٍ مبالَغ فيه؛ فقد قمت بقياس أحدها ووجدت «قطر» شوكة المهماز ست بوصات، والشوكة نفسها تتكون من حوالي ٣٠ سنًّا مدبَّبًا. وركاب السرج له نفس الأبعاد؛ فكل ركاب يتكون من قطعةٍ خشبيةٍ منحوتةٍ مربعة الشكل ومجوَّفة؛ ورغم ذلك تزن ثلاثة أو أربعة أرطال. لعل الهياسوس التشيلي أكثر تمرُّسًا من راعي الجاوتشو في ربط الوهق أو اللازو؛ ولكن بسبب طبيعة البلاد، فهو لا يعرف استخدام البولاس.
•••
هذه المناجم هي مناجم نحاس، ويُشحن المعدن الخام كله إلى مدينة سوانزي ليتم صهره هناك؛ لذا تتسم هذه المناجم بطابعٍ انعزاليٍّ هادئٍ استثنائي، مقارنة بتلك الموجودة في إنجلترا؛ فلا يوجد هنا دخان أو أفرانٌ عالية أو محركاتٌ بخاريةٌ عظيمة تقطع عزلة الجبال المحيطة.
وتشجِّع الحكومة التشيلية، أو بالأحرى القانون الإسباني القديم، البحث عن المناجم بكل الطرق الممكنة. ويمكن للمكتشف العمل على منجمٍ موجود في أي أرض بدفع خمسة شلنات، وقبل سداد هذا المبلغ يمكنه حتى أن يجرب العمل في حديقة شخصٍ آخر لمدة عشرين يومًا.
من المعروف تمامًا الآن أن الطريقة التشيلية للتعدين هي الأرخص على الإطلاق. ويقول مُضيفي إن التحسينَين الأساسيَّين اللذين أدخلهما الأجانب هما، أولًا: الاختزال من خلال التحميص المسبق لبيريت أو كبريتيد النحاس، وهو المعدن الخام المنتشر في مقاطعة كورنوال؛ ولذا فوجئ عمال المناجم الإنجليز فور وصولهم من التخلص منه باعتباره عديم الفائدة. ثانيًا: تفتيت صخور السكوريا أو الجفاء وإزالتها من الأفران القديمة، ومن خلال هذه العملية تُستعاد جزئيات المعدن بوفرة. في الواقع، لقد رأيت بغالًا تحمل إلى الساحل حمولة من خبث هذه الأفران لنقلها إلى إنجلترا. غير أن الحالة الأولى هي الأكثر غرابة على الإطلاق. كان عمال المناجم التشيليون مقتنعين تمام الاقتناع بأن بيريت النحاس لا يحتوي على أي جزيئات من النحاس؛ حتى إنهم سخروا من جهل الإنجليز، الذين سخروا منهم بدورهم، واشتروا منهم أغنى مواردهم المعدنية مقابل بضعة دولارات. ومن الغريب جدًّا أنه في دولةٍ مُورِسَ فيها التعدين على نحوٍ موسَّع على مدار عدة سنوات، لم تُكتشف طريقةٌ بسيطة للغاية مثل التحميص الخفيف للمعدن الخام للتخلص من الكبريت قبل صهره. أُدخلت عدة تحسيناتٍ مماثلة على بعض الآلات البسيطة؛ ولكن حتى يومنا هذا يزيح الرجال المياه من بعض المناجم من خلال رفعها عبر مدخل المنجم باستخدام قربةٍ جلدية!
يبذل العاملون الكادحون جهدًا شاقًّا للغاية في عملهم، ويُتاح لهم وقتٌ محدود لتناول وجباتهم؛ وخلال فصلَي الصيف والشتاء يبدءون العمل مع بزوغ ضوء النهار ويغادرون بحلول الظلام، ويتقاضون جنيهًا إسترلينيًّا واحدًا في الشهر. ويوزع عليهم الطعام، فتتكون وجبة الإفطار من ١٦ ثمرة تين ورغيفَين صغيرَين من الخبز، بينما تتكون وجبة الغداء من الفاصوليا المسلوقة، أما وجبة العشاء فتتكون من حبوب القمح المحمَّص والمجروش. ونادرًا ما يذوقون اللحم؛ فمع تقاضيهم ١٢ جنيهًا سنويًّا، يكون عليهم أن يكسوا أنفسهم ويعيلوا أسرهم. أما عمال المناجم الذين يعملون في المنجم نفسه فيتقاضون ٢٥ شلنًا شهريًّا، ويُقدم لهم قطعةٌ صغيرة من اللحم المقدَّد، ولكن هؤلاء الرجال لا يبرحون مساكنهم المعزولة الكئيبة إلا مرةً واحدة فقط كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.
في أثناء إقامتي هنا، استمتعت تمامًا بتسلق هذه الجبال الضخمة. كانت جيولوجيا المكان مثيرة للاهتمام جدًّا، كما كان متوقعًا. وتبين الصخور المهشَّمة والمسفوعة بالحرارة، التي تتخلَّلها خنادق لا حصر لها من الأحجار الخضراء، حجم الاضطرابات التي حدثت في وقت سابق. كان المشهد مشابهًا كثيرًا للمشهد بالقرب من جبل الجرس بكيوتا؛ جبالٌ جرداءُ قاحلة، يتخلَّلها على مسافاتٍ بعيدة شجيراتٌ شحيحة الأوراق. كان الصبار، أو بالأحرى الصبير، منتشرًا هنا بأعدادٍ كبيرةٍ جدًّا. وقد قمت بقياس نبتة صبار ذات شكلٍ دائري، وكان محيطها، بالأشواك، يبلغ ست أقدام وأربع بوصات. يتراوح طول الصبار الأسطواني الشكل الشائع، من النوعية ذات الأفرع، بين ١٢ و١٥ قدمًا، ويتراوح محيط الأفرع (بالأشواك) بين ثلاثة وأربعة أقدام.
حالَ تساقطُ الثلوج الكثيف على الجبال، خلال اليومين الأخيرين، دون الخروج في بعض النزهات الممتعة. حاولت الوصول إلى بحيرة يعتقد الأهالي، لسبب غير مفهوم، أنها لسان من البحر، وأثناء أحد مواسم الجفاف الشديد، اقتُرِح محاولة شق قناة منها من أجل توفير المياه، إلا أن القس أعلن — بعد المشورة — أن الأمر في غاية الخطورة؛ لأن من المحتمل أن تغمر المياه تشيلي بأسرها لو تم ربط البحيرة بالمحيط الهادي كما كان يُعتقد بوجه عام. صعدنا إلى ارتفاعٍ كبير؛ إلا أننا علقنا في الركام الثلجي؛ ما حال دون الوصول إلى هذه البحيرة الرائعة، وواجهنا بعض الصعوبات أثناء العودة. ظننت أننا فقدنا خيولنا حتمًا؛ إذ لم يكن ثمة وسيلة لتخمين مدى عمق الركام، وعجزت الدواب عن التحرك إلا قفزًا عند قيادتها. وأنذرت السماء السوداء بأن عاصفةً ثلجيةً جديدة في طريقها للتجمع؛ ومن ثم سعدنا كثيرًا حين فررنا. وبحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى قاعدة الجبال، بدأت العاصفة، ومن حسن حظنا أن هذا لم يحدث قبل ثلاث ساعات خلال النهار.
•••
•••
مكثت أسبوعًا في مدينة سانتياجو واستمتعت بوقتي كثيرًا. في الصباح، كنت أتَّجه إلى أماكنَ كثيرةٍ بالسهل، وفي المساء أتناول العشاء مع العديد من التجار الإنجليز المشهورين في هذا المكان بكرم الضيافة. كان من أحد مصادر المتعة المؤكدة تسلُّق الربوة الصخرية الصغيرة «سانت لوسيا» التي تبرز في وسط المدينة. لا شك أن المنظر الطبيعي مذهل إلى أقصى حد ومميز للغاية، كما قلتُ من قبلُ. ولقد علمت أن هذه السمة نفسها هي قاسمٌ مشترك بين المدن الموجودة على الرصيف المكسيكي الكبير. ليس لديَّ تفاصيل للإدلاء بها عن المدينة؛ فهي ليست رائعة للغاية أو كبيرة للغاية مثل بيونس أيرس، إلا أنها مبنية على الطراز ذاته. وصلت إلى هنا عبر جولة نحو الشمال؛ لذا عزمت على العودة إلى مدينة فالبارايزو عبر رحلةٍ أطول قليلًا جنوب الطريق المباشر.
•••
•••
ذات يوم، سرتُ عبر الوادي حتى وصلتُ إلى أبعد منطقةٍ آهلة بالسكان. بعد تلك النقطة بمسافةٍ قصيرة، ينقسم وادي كاشابوال إلى وَهْدَين عميقَين هائلَين يخترقان مباشرةً سلسلة الجبال الضخمة. تسلقتُ جبلًا مرتفعًا، يبلغ ارتفاعه على الأرجح أكثر من ٦٠٠٠ قدم. هنا، وكما هو الحال في أي مكانٍ آخر في الواقع، تعلن المناظر الطبيعية الأكثر إثارة عن نفسها. كان أحد هذين الوهدَين هو مدخل عصابة بنشيرا إلى تشيلي ومنها اجتاحت البلد المجاور. هذا هو الرجل نفسه الذي هاجم مزرعة في ريو نيجرو كنتُ قد وصفتها من قبلُ. كان شخصًا مارقًا نصف إسباني حشد مجموعةً كبيرة من الهنود واتخذ لنفسه موقعًا بالقرب من أحد المجاري المائية في سهول البامبا، وعجزت جميع القوات التي أُرسِلت لتعقُّبه عن اكتشاف المكان. ومن هذا الموضع، اعتاد شنَّ هجماته المباغتة، ومن خلال عبور سلسلة الجبال من خلال طرق لم تُرتدْ حتى الآن، نهب بيوت المزارع وساق الماشية إلى موقعه السري. كان بنشيرا فارسًا متمكنًا، جعل كل من حوله بالقدر نفسه من التمكن؛ إذ كان دائمًا يطلق النار على من يتردد في اتباعه. وقد شن روساس حرب إبادة ضد هذا الرجل وضد القبائل الهندية الهائمة.
•••
عندما وصلنا إلى المنجم، ذُهلتُ من شحوب الكثير من الرجال، واستعلمتُ من السيد نيكسون عن ظروفهم. يقع المنجم على عمق ٤٥٠ قدمًا، ويجلب كل رجل حجرًا يزن حوالي ٢٠٠ رطل. ويضطرون إلى تسلق الثقوب المتعاقبة المحفورة في جذوع الأشجار، والتي وضعت في خطٍّ متعرج أعلى مدخل المنجم بهذه الحمولة. حتى الشباب الأمرد، الذين تتراوح أعمارهم ما بين ثمانية عشر وعشرين عامًا، بأجسادهم ذات البناء العضلي الضعيف، يصعدون (وهم عراة تمامًا باستثناء السراويل) بهذه الأحمال الثقيلة من نفس العمق تقريبًا. حتى الرجل القوي، الذي لم يعتدْ هذا العمل المرهق، يتصبَّب عرقًا غزيرًا جدًّا من مجرد الصعود بجسده إلى أعلى. ورغم هذا العمل الشاق للغاية، يعيشون على الفاصوليا المسلوقة والخبز. وقد يُفضِّلون تناول الخبز وحده، إلا أن سادتهم — فور اكتشافهم أنهم لا يستطيعون العمل بكد بالاكتفاء بهذا — كانوا يعاملونهم مثل الخيول ويجعلونهم يتناولون الفاصوليا. والأجور هنا أعلى نوعًا ما من أجور العمال في مناجم جوجيل؛ إذ تتراوح بين ٢٤ و٢٨ شلنًا في الشهر. ويتركون المنجم مرةً واحدة كل ثلاثة أسابيع ليمكثوا مع أُسرهم لمدة يومَين. يبدو ذلك أحد القوانين الصارمة للغاية لهذه المناجم؛ إلا أنها تخدم مآرب السيد. والطريقة الوحيدة لسرقة الذهب هي إخفاء قطع من المعدن الخام، والخروج بها عندما تُتاح الفرصة. وعندما يكتشف المشرف قطعةً مخبأة على هذا النحو، تُخصم قيمتها بالكامل من أجور جميع العمال الذين يضطرون إثر ذلك لمراقبة بعضهم البعض على غير اتفاق بينهم.
عندما يُرسَل المعدن الخام إلى الطاحونة، يُطحَن إلى مسحوقٍ ناعم، وتزيل عملية غسله جميع الجسيمات الأخفِّ وزنًا، وفي النهاية تؤمِّن عملية خلط المعادن أو التملغم مسحوق الذهب. تبدو عملية الغسيل، عند وصفها، عمليةً سهلة للغاية؛ ولكن من الرائع أن ترى كيف أن المواءمة الدقيقة لتيار المياه مع الكثافة النوعية للذهب تفصل الشوائب المسحوقة عن المعدن بسهولة. يُجمع الحمأ الذي يمر من المطاحن في أحواض؛ حيث يترسَّب فيها ويُفرَغ من حين لآخر، ويُكدَّس في كومة. بعد ذلك يبدأ قدرٌ كبير من التفاعل الكيميائي، وتتفتَّت على السطح أملاح من مختلف الأنواع، وتصير الكتلة صلبة. وبعد أن يُترك لمدة عام أو عامَين، ثم يُعاد غسله مرةً أخرى، ينتج الذهب؛ وربما تُعاد هذه العملية ست أو سبع مرات؛ إلا أن كمية الذهب تصير أقل في كل مرة والفواصل الزمنية تكون أطول (لتوليد المعدن، على حد قول السكان). وما من شك أن التفاعل الكيميائي، الذي سبق ذكره آنفًا، يحرر في كل مرة الذهب النقي من مركَّبٍ ما. إن اكتشاف طريقة لإحداث هذا قبل عملية الطحن الأولى سيرفع بلا شك من قيمة خام الذهب عدة أضعاف. ومن الغريب أن تكتشف كيف أن جزيئات الذهب الدقيقة، في ظل تبعثرها المتبعثرة وعدم قابليته للتأكسد والصدأ، تتكدَّس في النهاية بكمياتٍ كبيرة إلى حدٍّ ما. بعد وقتٍ قصير من حصول بعض العمَّال بالمنجم — عاطلين عن العمل — على تصريح لنبش الأراضي حول المبنى والطاحونة، قاموا بغسل التراب الذي تم جمعه؛ ومن ثم حصلوا على ذهب بقيمة ثلاثين دولارًا. ويُعدُّ هذا مكافئًا دقيقًا لما يحدث في الطبيعة. فنجد الجبال تعاني من التدهور وتتعرض للتعرية، وكذلك العروق المعدنية التي تحتويها هذه الجبال. وتتحول أقسى الصخور إلى خبأ دقيق، وتتأكسد المعادن العادية، ويختفي كلاهما؛ إلا أن الذهب والبلاتين وبعض المعادن الأخرى تكاد لا تفنى، وتغوص إلى القاع بسبب أوزانها، وتترسب هناك. وبعد أن تمر الجبال كلها عبر هذه الطاحونة، وتُغسل بيد الطبيعة، يصير المتبقي محتويًا على رواسبَ معدنية، ويجد المرء أن الأمر يستحق أن يتمم مهمة فصل المعادن.
وبقدر ما تبدو المعاملة التي يلقاها عمَّال المناجم سيئة، فإنهم يستسيغونها ويتقبَّلونها عن طيب خاطر؛ لأن ظروف العمَّال الزراعيين أسوأ بكثير؛ فأجورهم أقل، ويعيشون على نحو شبه حصري على الفاصوليا. ولا بد أن هذا الفقر يرجع بصفةٍ أساسية إلى النظام شبه الإقطاعي الذي يتم فيه حرث الأرض؛ إذ يعطي صاحب الأرض قطعةً صغيرة منها للعامل، ليبني عليها ويزرعها، وفي المقابل يحصل على خدماته (أو من ينوبون عنه بالوكالة) طوال حياته، بلا أي أجر. ولا يحظى المرء بمن يعتني بأرضه، إلا في أيام عارضة، إلى أن يصير أبًا له ابن بالغ يستطيع أن يدفع الإيجار من عمل يده؛ ومن ثم ينتشر الفقر المُدْقِع انتشارًا رهيبًا بين الطبقات العمَّالية في هذا البلد.
ذات يوم، جاء هاوٍ ألماني لجمع الأشياء المتعلقة بالتاريخ الطبيعي، يدعى رينوس، وجاء محامٍ إسبانيٌّ عجوز في الوقت ذاته تقريبًا. وقد سررتُ باطلاعي على الحديث الذي دار بينهما. كان رينوس يجيد التحدث بالإسبانية لدرجة أن المحامي العجوز ظنه تشيليًّا. سأله رينوس، وكان يقصدني، عن رأيه في إرسال ملك إنجلترا لهواة الجمع إلى بلاده ليجمعوا السحالي والخنافس ويكسروا الحجارة؟ فكَّر العجوز بجدية لبرهة، ثم قال: «الأمر ليس جيدًا، ثمة شيءٌ مريب في ذلك. لا يوجد شخص بهذا الثراء ليرسل أشخاصًا يجمعون مثل هذه النفايات. لا يعجبني ذلك؛ لو أراد أحد منا أن يسافر ويفعل أمورًا كهذه في إنجلترا، ألا تظن أن ملك إنجلترا سيرحلنا خارج بلاده في القريب العاجل؟» ينتمي هذا العجوز، كما يتضح من مهنته، إلى الطبقة الأذكى والأكثر اطلاعًا! لقد ترك رينوس نفسه، قبل عامين أو ثلاثة، بعض اليرقات في منزلٍ بسان فرناندو، تحت رعاية فتاة تقوم بإطعامها، على أمل أنها قد تتحول إلى فراشات. وسَرَت هذه الشائعة عبر البلدة، وفي النهاية تشاور القساوسة والحاكم معًا، وأجمعوا على أنها حتمًا بدعة؛ وبناء على ذلك ألقي القبض على رينوس عند عودته.
•••
•••
•••
•••
سأضيف هنا بضع ملاحظات عن بعض الحيوانات والطيور الموجودة في تشيلي. ينتشر الأسد الجبلي، أو أسد أمريكا الجنوبية، هناك. ولهذا الحيوان نطاقٌ جغرافيٌّ واسع؛ حيث يوجد في عدة أماكن بدءًا من الغابات الاستوائية، وعبر صحاري باتاجونيا، وصولًا إلى الجنوب حيث دوائر العرض الرطبة والباردة (٥٣ درجة حتى ٥٤ درجة) لأرخبيل أرض النار. لقد رأيت آثار أقدامه في سلسلة الجبال الموجودة في وسط تشيلي الوسطى، وعلى ارتفاع ١٠ آلاف قدم على الأقل. في لابلاتا، يفترس الأسد الجبلي بالأساس الأيائل والنعام والبيزكاتشا الجبلية وغيرها من رباعيات الأقدام الصغيرة، وقليلًا ما يهاجم الماشية أو الخيول، ونادرًا جدًّا ما يهاجم البشر. رغم ذلك، يفترس الأسد الجبلي في تشيلي الكثير من صغار الخيول والماشية، وهو ما يُعزى على الأرجح إلى ندرة رباعيات الأقدام الأخرى، وكذلك سمعت أن رجلَين وامرأة قُتلوا بالطريقة نفسها. وثمة تأكيد على أن الأسد الجبلي دائمًا ما يقتل فريسته من خلال القفز على كتفَيها ثم سحب رأسها إلى الوراء بأحد مخالبه حتى تنكسر الفقرات، لقد رأيت الهياكل العظمية للجوانيق في باتاجونيا وقد خُلعت أعناقها على هذا النحو.
يغطي أسد الجبال الجيفة — بعد تناول حواشيها — بعدَّة شجيراتٍ كبيرة، ويرقد ليراقبها. غالبًا ما تكون هذه العادة هي السبب وراء اكتشاف مكانه؛ إذ إن نسور الكوندور المحلِّقة في الهواء، تهبط بين الحين والآخر لتشارك في الوليمة، وحين يتم إبعادها في غضب، تطير مرتفعة لأعلى. حينئذٍ يعرف الهياسوس التشيليون أن ثمة أسدًا يراقب فريسته، وينتشر الخبر، ويخرج الرجال والكلاب سريعًا للمطاردة. ويقول السير إف هيد إن الجاوتشو في منطقة البامبا ما إن يشاهدوا نسور الكوندور تُحلِّق في السماء حتى يصيحوا «أسد!» ولم يتسنَّ لي مطلقًا أن ألتقي بأحد يتظاهر بمثل هذه القدرات على الملاحظة الدقيقة. وثمة تأكيد على أنه إذا وقع أسد الجبال في الفخ بسبب مراقبة الجيفة، ثم تم اصطياده، فإنه لا يعود مطلقًا إلى هذه العادة، لكنه بمجرد أن يشبع حتى التخمة؛ فإنه يهيم بعيدًا. يسهل قتل الأسد الجبلي؛ ففي المناطق المفتوحة، يتم الإيقاع به باستخدام البولاس، ثم تقييده باللازو أو الوهق وسحبه على الأرض حتى يفقد الوعي. في مدينة تانديل (جنوب لابلاتا)، أخبروني أنه في غضون ثلاثة أشهر قُتل حوالي مائة أسد أمريكي بهذه الطريقة. وفي تشيلي، عادة ما تُساق هذه الأسود بين الشجيرات أو الأشجار، ثم يُطلق عليها النار أو تستدرجها الكلاب إلى الموت. والكلاب المستخدمة في هذه المطاردة تنتمي إلى سلالةٍ خاصة، تُسمى ليونيرو؛ وهي كلابٌ هزيلة وضعيفة البنية، أشبه بكلاب الترير ذات الأرجل الطويلة؛ إلا أنها مولودة بغريزةٍ معينة لهذا النشاط. يوصف الأسد الجبلي بكونه حيوانًا ماكرًا للغاية؛ فعند مطاردته، غالبًا ما يعود أدراجه على نفس مساره السابق، ثم يقفز فجأة على أحد الجانبين، وينتظر في ذلك الموضع حتى تمر الكلاب. كما أنه حيوان هادئ جدًّا، لا يزأر حتى عندما يُصاب بجرح، ونادرًا ما يزأر أثناء موسم التزاوج.
أما بالنسبة إلى الطيور، فثمة نوعان من جنس الرمازيات (طائر الشقبان وطائر خطاف الذباب المنتشران في مدينة كيتليتز) ربما هما الأبرز على الإطلاق. يتميز النوع الأول — ويطلق عليه التشيليون «التوركو»، بحجمه الكبير الذي يعادل حجم طائر الدج، الذي يتشابه معه بعض الشيء؛ إلا أن ساقَيه أطول كثيرًا وذيله أقصر ومنقاره أقوى، ولونه بنيٌّ مائل للحمرة. ينتشر طائر التوركو هنا؛ فهو يعيش على الأرض، مختبئًا بين الأيكات المنتشرة عبر التلال الجافة والجدباء. ولعلك تراه بين الحين والآخر، بذيله المنتصب وساقَيه الشبيهتَين بساقَي طائر الكرسوع، يثب من شجيرة إلى أخرى بسرعةٍ استثنائية. والأمر يتطلب حقًّا قليلًا من الخيال لتعتقد أن الطائر يشعر بالإحراج من نفسه ويدرك شكله المضحك. فعند رؤيته للوهلة الأولى، يجد المرء نفسه مدفوعًا للتعجب منه؛ فهو يشبه «عينة محنَّطة على نحوٍ بائس هاربة من أحد المتاحف، ودبَّت فيها الحياة مرةً أخرى!» ويستحيل إجباره على الطيران بدون بذل جهد ضخم، كما أنه لا يركض، وإنما يثب فحسب. والصيحات العالية والمتنوعة التي يصدرها الطائر عند اختبائه بين الشجيرات غريبة كمظهره. ويُقال إنه يبني عشه في حفرةٍ عميقة تحت الأرض. وقد قمت بتشريح عدة عينات، وفحصت القانصة، التي كانت تتسم بقوةٍ عضليةٍ بالغة، وتحتوي على خنافس وأليافٍ نباتية وحصى. ومن هذه السمة، ومن طول ساقَيه، وقدمَيه النابشتَين، والأغشية التي تغطي فتحتَي الأنف، والجناحَين القصيرَين والمقوسَين، يبدو هذا الطائر بدرجةٍ ما حلقة وصل بين فصيلة السمنة ورتبة الدجاجيات.
ثمة نوعان من الطيور الطنانة ينتشران هنا؛ إذ يوجد الطائر الطنان المتشعب الذيل عبر مساحة تمتد ٢٥٠٠ ميل على الساحل الغربي، من مدينة ليما الحارة الجافة إلى غابات أرض النار؛ حيث قد تُشاهَد وهي ترفرف أثناء العواصف الثلجية. وفي جزيرة تشيلوي ذات الأشجار الكثيفة والتي تتسم بمناخٍ شديد الرطوبة، ربما يكون هذا الطائر الصغير — الذي يثب من جانب إلى آخر وسط أوراق الشجر التي تقطر بالمياه — أكثر وفرة من أي نوع آخر. قمت بتشريح بطون عدة عينات، اصطيدت من أماكنَ مختلفةٍ بالقارة، ووجدت فيها جميعًا بقايا حشراتٍ كثيرة جدًّا كتلك الموجودة في بطن طائر متسلق الأشجار. عندما يهاجر هذا النوع في فصل الصيف نحو الجنوب، يحل محلَّه نوعٌ آخر يأتي من الشمال. أما النوع الثاني (الطنان العملاق) فهو طائرٌ كبير للغاية مقارنة بالفصيلة الضعيفة البنية التي ينتمي إليها، وعندما يطير، يبدو شكله متفردًا. ومثل غيره من الطيور من نفس الجنس، ينتقل من مكان لآخر بسرعة قد تقارن بسرعة حشرة السيرفيدة بين الحشرات، وسرعة عثة أبو الهول بين العثث، ولكن أثناء الحومان فوق الزهور، يخفق أجنحته بحركةٍ بطيئةٍ جدًّا وقوية، مختلفة تمامًا عن الحركة الاهتزازية المعتادة بين أغلب الأنواع التي تصدر الصوت الطنان. لم أرَ في حياتي من قبلُ طائرًا تبدو قوة جناحَيه بالغة للغاية مقارنةً بوزن جسده (كما في الفراشات). وعندما يحوم بالقرب من زهرة، يتمدَّد ذيله باستمرار وينكمش مثل المروحة، بحيث يظل الجسد في وضعيةٍ عمودية تقريبًا. يبدو أن هذا السلوك يدعم الطائر ويحافظ على اتزانه بين حركات جناحَيه البطيئة. وبالرغم من طيرانه من زهرة إلى أخرى بحثًا عن الغذاء، فقد احتوت بطنه عمومًا على كميةٍ وفيرة من بقايا الحشرات التي أظن أنها هدف لبحثه أكثر من العسل. ونبرة صوت هذا النوع، كما هو الحال مع الفصيلة بأكملها تقريبًا، حادة للغاية.