الفصل الثالث عشر
تشيلوي – الطابع العام – نزهة بالقارب – الهنود الأصليون – مدينة كاسترو – ثعالب أليفة – صعود سان بيدرو – أرخبيل تشونوس – شبه جزيرة تريز مونتيز – سلسلة الجبال الجرانيتية – بحارة القارب المحطم – ميناء لوو – البطاطا البرية – تكوين الخُث – فأر النهر (الكيب) والقضاعة البحرية والفئران – تشوكاو تاباكولو وطائر النباح – طائر الصُّقْلُود الشائع – خاصية فريدة لعلم الطيور – طائر النوء.
***
جزر تشيلوي وتشونوس
يبلغ طول هذه الجزيرة حوالي ٩٠ ميلًا، ويقلُّ عرضها عن ٣٠ ميلًا. والأرض هنا منحدرة كثيرة التلال، ولكن ليست جبلية، ومغطاة بغابةٍ واحدةٍ كبيرة، باستثناء الأماكن التي أُزيلت منها بعض الرقع الخضراء حول الأكواخ المسقوفة بالقش. ومن على بُعد، يشبه المشهد إلى حدٍّ ما ذلك المشهد في أرخبيل أرض النار؛ ولكن الغابات، عند رؤيتها عن كثب أكثر، تبدو أجمل على نحوٍ منقطع النظير. فثمة أنواعٌ كثيرة من الأشجار الدائمة الخضرة الرائعة والنباتات ذات الطابع الاستوائي تحلُّ محلَّ أشجار الزان الكئيبة المنتشرة على الشواطئ الجنوبية. في فصل الشتاء، يكون المناخ بغيضًا جدًّا، وفي فصل الصيف، يكون أفضل قليلًا. أعتقد أن ثمة بضعة أجزاء قليلة من العالم، في نطاق المناطق المعتدلة، تتساقط فيها الأمطار بكثافة. الرياح عاصفة للغاية، والسماء ملبَّدة بالغيوم على نحوٍ شبه دائم؛ حتى إن قضاء أسبوع من الطقس الجيد يُعدُّ أمرًا رائعًا. ومن الصعب أن ترى ولو لمحةً خاطفة من سلسلة الجبال؛ ففي أول زيارة لنا، برز بركان أوسورنو على نحوٍ جلي مرةً واحدة، وكان هذا قبل شروق الشمس؛ كان مشهدًا مُثيرًا للفضول، أن ترى الخط الكفافي يتلاشى تدريجيًّا مع شروق الشمس تحت وهج السماء الشرقية.
ويبدو أن ثلاثة أرباع الدماء التي تجري في أوردة السكان، من طبيعة بشرتهم وقصر قامتهم، دماءٌ هندية؛ وهم مجموعة من الرجال المتواضعين والهادئين والكادحين. وعلى الرغم من أن التربة الخصبة، الناتجة عن تحلُّل الصخور البركانية، تُعزِّز زراعة مجموعةٍ كبيرة من النباتات، فإن المناخ غير مواتٍ لأي نبات يتطلب قدرًا كبيرًا من أشعة الشمس لينضج. توجد مساحةٌ صغيرة للغاية من الكلأ لرباعيات الأقدام الأكبر حجمًا؛ ونتيجة لذلك، فإن المصادر الأساسية للغذاء هي الخنازير والبطاطا والأسماك. ويرتدي الجميع ملابسَ صوفيةً متينة، تصنعها كل أسرة بنفسها وتصبغها باللون الأزرق الداكن. ورغم ذلك، فإن الحِرف في أبسط حالةٍ ممكنة، كما قد يتبيَّن في طريقتهم الغريبة في حرث الأرض، وطريقتهم في الغزل وطحن الذرة وبناء القوارب. والغابات منيعة وصعبة الاختراق لدرجة يتعذَّر معها زراعة الأرض في أي مكان باستثناء الأماكن القريبة من الساحل وعلى الجزر الصغيرة المجاورة. حتى حيثما توجد طرق، يتعذَّر المرور فيها بسبب طبيعة التربة الناعمة والسبخة. ويتنقل السكان، شأنهم شأن السكان في أرض النار، بالأساس إما على الشاطئ وإما على متن القوارب. وعلى الرغم من وفرة الغذاء، فإن السكان فقراء للغاية؛ إذ لا يوجد طلب على العمالة، ومن ثمَّ تعجز الطبقات الدنيا عن جمع المال الكافي لشراء حتى أبسط الرفاهيات. ويوجد أيضًا عجزٌ كبير في وسائل التبادل النقدي. فلقد رأيت رجلًا يحمل على ظهره جوالًا من الفحم ليشتري به شيئًا زهيدًا، وآخر يحمل لوحًا خشبيًّا ليبادله بزجاجة خمر؛ ومن ثم، فإن أي حرفيٍّ لا بد أن يكون تاجرًا أيضًا، ليبيع البضائع التي يحصل عليها مرةً أخرى في المقابل.
•••
تمت تسوية الأرض وتطهيرها في هذه المنطقة على نحوٍ موسع، وكان ثمة الكثير من الأركان الهادئة والرائعة في الغابة. كانت تشاكاو الميناء الرئيسي للجزيرة سابقًا؛ ولكن فُقدت سفنٌ كثيرة، بسبب التيارات والصخور الخطيرة الموجودة في المضايق، وقيام الحكومة الإسبانية بإحراق الكنيسة؛ مما اضطر عددًا كبيرًا من الأهالي إلى الهجرة إلى مدينة سان كارلوس. لم نعسكر في العراء لوقتٍ طويل حتى جاء ابن حاكم القرية حافي القدمَين لاستطلاع أمرنا. وما إن رأى علم إنجلترا مرفوعًا على صاري المركب الشراعي، حتى تساءل في لامبالاةٍ شديدة عما إذا كانت السفينة بصدد مهاجمة تشاكاو واحتلالها على نحوٍ دائم. ففي عدة أماكن، كثيرًا ما كان الأهالي يُصابون بالدهشة عند ظهور القوارب الحربية، ويأملون ويعتقدون أنها تمهد الطريق للأسطول الإسباني القادم لاستعادة الجزيرة من الحكومة الوطنية التشيلية. غير أن جميع رجال السلطة كانوا قد أُبلِغوا بزيارتنا المزمَعة، وكانوا في غاية التهذيب والتحضُّر. وبينما كنَّا نتناول العشاء، جاء الحاكم لزيارتنا. كان يحمل رتبة مقدم في الجيش الإسباني، ولكنه الآن يعاني من الفقر المُدْقِع. أهدانا خروفَيْن، وفي المقابل قَبِل منديلَين قطنيَّين وبعض الحلي النحاسية والقليل من التبغ.
•••
•••
حين رست السفينة في وقت الظهيرة، رأينا أسرة من أصولٍ هنديةٍ خالصة. كان الأب يُشبه عمدة مدينة يورك على نحوٍ استثنائي، كما أن بعض الفتيان الأصغر سنًّا قد يبدون للناظر خطأً أنهم هنود من سهول البامبا بسبب بشرتهم المتورِّدة. كل شيء رأيته يقنعني أن القبائل الأمريكية المختلفة تربطها صلةٌ وثيقة رغم أنهم يتحدَّثون بلغاتٍ متباينة. كانت هذه المجموعة تستطيع التحدث بالإسبانية قليلًا، ولكنهم يتحدَّثون، بعضهم إلى بعض، بلغتهم الأم. من الممتع أن ترى السكان الأصليين وقد حققوا القدر نفسه من التقدم الحضاري، رغم أنه قد يبدو ضئيلًا بجوار ما حققه الغزاة البيض.
حين توغلنا أكثر نحو الجنوب، رأينا الكثير من الهنود الأصليين، بل إن جميع سكان بعض الجزر الصغيرة يحتفظون بألقابهم الهندية. ووفقًا لتعداد السكان لعام ١٨٣٢، بلغ تعداد سكان جزيرة تشيلوي والأقاليم التابعة لها ٤٢٠٠٠ نسمة، ويبدو أن عددًا كبيرًا منهم ذوو دماء مختلطة. ويحتفظ ١١٠٠٠ نسمة بألقابهم الهندية، ولكن ليس جميعهم على الأرجح يتمتعون بنسَبٍ خالص. وأسلوب حياتهم يشبه أسلوب حياة غيرهم من السكان الفقراء، ويدينون جميعًا بالمسيحية؛ ولكن يُقال إنهم ما زالوا يحتفظون ببعض الطقوس الغريبة المرتبطة بالخرافات، وإنهم يدَّعون الاتصال بالشيطان داخل كهوفٍ معينة. وكان أي شخص يُدان بهذه الجريمة فيما مضى يعرض على محكمة التفتيش بمدينة ليما. ولا يمكن تمييز الكثير من السكان — الذين لا يندرجون ضمن الأحد عشر ألف نسمة الحاملين لألقابٍ هندية — عن الهنود من مظهرهم الخارجي. فينحدر جوميز — حاكم جزيرة ليموي — من أصولٍ إسبانيةٍ نبيلة من ناحية الأب والأم؛ إلا أن الرجل صار هنديًّا بسبب تزاوج أسلافه المستمر مع السكان الأصليين. من ناحيةٍ أخرى، يتفاخر حاكم جزيرة كينشاو كثيرًا باحتفاظه بنسبه الإسباني خالصًا.
في المساء، وصلنا إلى خليجٍ صغيرٍ جميل، شمال جزيرة كوكاهيو. يشتكي الناس هنا من نقص الأراضي. ويرجع جزء من السبب إلى إهمالهم وعدم إزالتهم الغابات، وجزءٌ آخر من السبب يرجع إلى القيود التي تفرضها الحكومة والتي تقتضي ضرورة دفع شلنين إلى خبير مسح الأراضي لقياس كل ١٥٠ ياردةً مربعة، قبل شراء قطعة أرض حتى لو كانت صغيرة، بالإضافة إلى سداد السعر الذي يحدده الخبير نظير قيمة الأرض أيًّا كان. وبعد تقييمه لسعر الأرض، لا بد من عرضها في مزادٍ علني ثلاث مرات، فإذا لم يقدِّم أحد عطاءً أعلى، يستطيع المشتري أن يحصل عليها بذلك السعر. ولا بد أن كل هذه الابتزازات تمثل عائقًا خطيرًا أمام تسوية الأراضي، حيث يعاني الأهالي من الفقر المُدْقِع. في معظم الدول، تزال الغابات بدون صعوباتٍ كثيرة بواسطة النيران؛ ولكن في جزيرة تشيلوي، ونظرًا لطبيعة المناخ الرطب ونوعية الأشجار، من الضروري قطعها أولًا. ويُعدُّ هذا عائقًا فادحًا أمام ازدهار تشيلوي. أثناء الحكم الإسباني، لم يكن في استطاعة الهنود امتلاك الأراضي؛ لدرجة أن أسرة بالكامل قد تُرحَّل بعد تسويتها قطعة أرض، وتستولي الحكومة على ملكية الأرض. وتقيم السلطات التشيلية الآن العدالة من خلال تعويض هؤلاء الهنود الفقراء بمنح كل رجل جزءًا معينًا من الأرض وفقًا لوضعه في الحياة. وقيمة الأرض غير المطهرة قليلة للغاية. وقد منحت الحكومة السيد دوجلاس (خبير مسح الأراضي الحالي الذي أطلعني على هذه الظروف) ثمانية أميال مربعة ونصف ميل من الغابة الموجودة بالقرب من مدينة سان كارلوس، سدادًا لدَين؛ والتي قام ببيعها مقابل ٣٥٠ دولارًا، أي حوالي ٧٠ جنيهًا إسترلينيًّا.
كان اليومان التاليان رائعَين، وفي المساء وصلنا إلى جزيرة كينشاو. تعدُّ هذه المنطقة أكثر جزءٍ مزروع من الأرخبيل؛ حيث يُجرف شريطٌ واسع من الأرض على ساحل الجزيرة الرئيسية بالكامل تقريبًا وكذلك الكثير من الأراضي المجاورة الأصغر مساحة. تبدو بعض بيوت المزارع وثيرةً جدًّا. ومن ثم، انتابني الفضول للتحقق من مدى الثراء الذي ربما يكون عليه هؤلاء الأشخاص، ولكن يقول السيد دوجلاس إنه لا يمكن اعتبار أحد منهم صاحب دخلٍ ثابت. فربما يجمع أحد أغنى ملاك الأراضي ثروة تصل إلى ١٠٠٠ جنيه إسترليني عبر حياةٍ طويلةٍ كادحة؛ ولكن لكي يحدث هذا، لا بد أن تُخبَّأ كل هذه الثروة في ركنٍ سري؛ إذ إنه من عادة كل الأسر تقريبًا إخفاء جرة أو صندوق تحت الأرض.
•••
•••
يعيش الأهالي هنا بصفةٍ أساسية على المحاريات والبطاطا. وفي مواسمَ معينةٍ أيضًا، يصطادون — من خلال أسيجة تحت المياه — الكثير من الأسماك التي تبقى على الضفاف الطينية عند انحسار المد. وأحيانًا يمتلكون الدواجن والخراف والماعز والخنازير والخيول والماشية؛ والترتيب المذكور هنا يُعبِّر عن أعدادها بالترتيب. لم أرَ في حياتي من قبلُ أناسًا أكثر كرمًا وتواضعًا من هؤلاء؛ فهم عادة ما يبدءون حديثهم بقول إنهم الفقراء من السكان الأصليين للمكان وليس الإسبان، وإنهم في أمسِّ الحاجة إلى التبغ وغيره من وسائل الرفاهية. ففي جزيرة كايلن، أقصى الجزر جنوبًا، اشترى البحارة بلفافة تبغ — تبلغ قيمتها بنسًا ونصف البنس — دجاجتَين، قال الهنود إن إحداهما لها زوائدُ جلدية بين أصابع رجليها، وتبين أنها بطةٌ رائعة، ويشترون بمناديلَ قطنية، تساوي ثلاثة شلنات، ثلاثة خراف وحزمة بصل كبيرة. كان المركب الشراعي في هذا المكان راسيًا بعيدًا عن الشاطئ بعض الشيء، وكنَّا نخشى على سلامته من هجمات اللصوص تحت جنح الليل؛ ولذا أخبر مرشدنا، السيد دوجلاس، مسئول الأمن بالمقاطعة أننا ننشر دومًا الحراس مدجَّجين بالسلاح ولا يفهمون الإسبانية، وإذا رأينا أي شخص في الظلام، فقطعًا سنُطلق النار عليه. وبكل تواضع وافق مسئول الأمن على المواءمة المثالية لهذا الاتفاق ووعدنا بألا يتحرك أحد من منزله أثناء تلك الليلة.
خلال الأيام الأربعة اللاحقة، واصلنا الإبحار نحو الجنوب. بقيت السمات العامة للمنطقة على حالها دون تغيير؛ غير أن الكثافة السكانية كانت أقلَّ كثيرًا. وعلى جزيرة تانكوي الشاسعة، يكاد ينعدم وجود الأماكن المجروفة من الزرع؛ فالأشجار على كل جانب تمتد فروعها على شاطئ البحر. ذات يوم، لاحظت بعض النباتات الرائعة جدًّا (الجونيرة الصبغية) التي تشبه نبات الراوند إلى حدٍّ ما بحجمٍ عملاق. يأكل السكان السويقات، القليلة الحامضية، ويدبغون الجلود بجذور النبات ويجهزون الصبغة السوداء منها. الأوراق شبه دائرية الشكل؛ ولكنها منبعجة بشدة عند الحوافِّ. وقد قمت بقياس واحدة ووجدت قطرها يبلغ حوالي ثماني أقدام؛ ومن ثم لا يقل محيطها عن أربعة وعشرين قدمًا! يتعدى طول السويقة الياردة الواحدة، ويمتد من كل نبتة أربع أو خمس ورقاتٍ ضخمة، تُشكِّل معًا شكلًا فخمًا للغاية.
•••
في المساء، وصلنا إلى جزيرة سان بيدرو، حيث وجدنا البيجل راسية. وعند الالتفاف حول اليابسة، نزل اثنان من الربابنة لقياس مجموعة من الزوايا باستخدام المزواة. على الصخور، جلس ثعلب (ثعلب داروين)، من نوع يُقال إنه يقتصر وجوده على الجزيرة، ونادر جدًّا فيها، وهو نوعٌ جديد. كان الثعلب مستغرقًا في مراقبة عمل الضباط عن كثب وانتباه، حتى إنني تمكنتُ من التسلُّل بهدوء من خلفه وضربه على رأسه بمطرقة الصخور التي معي. وهذا الثعلب، الأكثر فضولًا أو الأكثر ميولًا علمية ولكنه أقل حكمة من عموم أقرانه، معروض الآن بمتحف جمعية علم الحيوان.
مكثنا ثلاثة أيام في هذا الميناء، وفي أحد هذه الأيام حاول كابتن فيتزروي، برفقة مجموعة، أن يصعد قمة سان بيدرو. كانت الغابات هنا تتخذ شكلًا مختلفًا عن تلك الموجودة في الجزء الشمالي من الجزيرة. كذلك كانت الصخور مختلفة؛ إذ كانت مكوَّنة من الإردواز الميكائي، ولا يوجد شاطئ؛ إلا أن الجوانب الشديدة الانحدار تنغمس مباشرة أسفل المياه؛ ومن ثم كانت السمة العامة لهذه المنطقة أقرب لأرخبيل أرض النار عن تشيلوي. حاولنا عبثًا أن نصل إلى القمة؛ فقد كانت الغابة متشابكة إلى حد جعلها منيعة على الاختراق؛ حتى إن من لم يرها لا يستطيع أن يتخيل تشابك كتلة من الجذوع المحتضرة والميتة. وأنا على يقين بأنه رغم السير لأكثر من عشر دقائق معًا، لم تطأ أقدامنا الأرض مطلقًا أغلب الوقت، وكنا على ارتفاع عشر أو خمس عشرة قدمًا فوقها، لدرجة أن البحارة كانوا يقيسون العمق من خلال الصدى الصوتي على سبيل المزاح. وفي أحيانٍ أخرى، كنا نزحف الواحد تلو الآخر، على أيدينا ورُكَبنا، أسفل الجذوع المتعفنة. في الجزء السفلي من الجبل، تشابكت أشجار لحاء الشتاء المهيبة ونبات غاري أشبه بنبات الساسفراس له أوراقٌ عطرية، وغيرها من الأشجار التي لا أعرف أسماءها بواسطة البامبو أو القصب. كنا أشبه بأسماك، من أي حيوانٍ آخر، تنازع داخل شبكة صياد. وفي الأجزاء العلوية من الجبل، حلَّت الأدغال محل الأشجار الأكبر حجمًا، مع تناثر شجر الأرز الأحمر أو شجر الصَّنَوْبَر الأرزي هنا وهناك. سعدت أيضًا برؤية صديقتنا القديمة أشجار الزان الجنوبية على ارتفاع أقل قليلًا من ١٠٠٠ قدم، ولكنها كانت أشجارًا هزيلة توقَّف نموها، وأظن أن هذا حتمًا هو حد نموها في الشمال. في النهاية، يئسنا من المحاولة.
•••
مكثنا هنا ثلاثة أيام. استمر الطقس السيئ؛ ولكن لم يكن لهذا أهميةٌ كبيرة؛ لأن سطح الأرض في هذه الجزر كلها يتعذَّر اجتيازه. فالساحل وعر ومتعرج للغاية لدرجة أن محاولة السير في ذلك الاتجاه تتطلب تدافعًا متواصلًا صعودًا وهبوطًا على صخور الأردواز الميكائي الحادة؛ أما بالنسبة إلى الغابات، فوجوهنا وأيادينا وعظام قصبة سيقاننا جميعًا تشهد على ما عانيناه من مجرد محاولة اختراق أغوارها المنيعة.
•••
دائمًا ما يتملَّك المرءَ رغبةٌ قويةٌ في التحقق مما لو كان قد سبق لأحد أن زار مكانًا مهجورًا غير مُرتاد. فيتم التقاط قطعة خشبٍ مغروسٍ بها مسمار وتفحُّصها جيدًا كما لو أنها مغطاة برموز اللغة الهيروغليفية. ونظرًا لأن هذا الشعور قد تملَّكني واستحوذ عليَّ تمامًا، فقد شعرت بإثارةٍ شديدة حين وجدت طبقةً من الحشائش أسفل حافةٍ صخرية على جزءٍ موحش من الساحل. وبالقرب منه، كان يوجد نيران، ورجل يستخدم فأسًا. كانت النيران وطبقة الحشائش والموقع كلها عناصر تشير إلى كونه هنديًّا بارعًا؛ ولكن احتمال أن يكون هنديًّا كان شبه منعدم؛ لأن هذا الجنس في هذه المنطقة منقرض، وهذا يرجع إلى رغبة الكاثوليك في استهداف المسيحيين والرقيق بضربةٍ واحدة. في ذلك الوقت، كان لديَّ بعض الشكوك بأن الرجل المنعزل، الذي صنع فراشه في هذه المنطقة البرية، هو حتمًا بحَّارٌ مسكين تحطَّمت سفينته، وفي أثناء محاولته التوغل في الساحل، اضطجع هنا ليقضي ليلته الموحشة.
•••
•••
•••
استمرت الرياح الشمالية الغربية على مدار الأيام الأربعة التالية، ولم نتمكن من فعل شيء سوى عبور خليجٍ كبير، ثم رست سفينتنا في ميناءٍ آخرَ آمن. رافقتُ ربان السفينة في قاربٍ متجه نحو رأس خليجٍ صغيرٍ عميق. في الطريق، كان عدد الفقمات التي رأيناها مدهشًا للغاية؛ فكل صخرةٍ مفلطحة إلى جانب أجزاء من الشاطئ كانت مغطاة بها. وبدت أنها في حالة حب، تضطجع محتشدة معًا، مثل العديد من الخنازير؛ ولكن حتى الخنازير تخجل من قذارتها ومن الرائحة الكريهة التي تنبعث منها. كان كل قطيع تحت مراقبة عينَي النسر الرومي الصبورتَين المشئومتَين. فهذا الطائر المقزِّز، برأسه الأصلع القرمزي اللون والمعتاد على التمرغ في الوسخ، منتشرٌ جدًّا في الساحل الغربي وتربُّصه بالفقمات يبين نوعية الغذاء الذي يعتمد عليه. وجدنا المياه (على الأرجح تلك الموجودة على السطح فقط) شبه عذبة؛ وكان هذا يرجع إلى عدد التيارات الجارفة، على هيئة شلالات، التي تتساقط فوق الجبال الجرانيتية الشديدة الانحدار إلى البحر. والمياه العذبة تجذب الأسماك، وهذا يجلب المزيد من الخرشناوات وطيور النورس ونوعَين من الغاقيات. رأينا أيضًا زوجًا جميلًا من البجع ذي العنق الأسود، وعدة قضاعاتٍ بحريةٍ صغيرة، والتي يُقدَّر فراؤها أشد تقدير. وفي رحلة العودة، استمتعنا مرةً أخرى بالطريقة المتهوِّرة التي كانت تتقافز بها أكداس الفقمات، الكبيرة والصغيرة، في المياه أثناء مرور القارب. لم تكن تمكث طويلًا تحت المياه، ولكنها عندما ترتفع كانت تتبعنا بأعناقٍ مشرئبَّةٍ معبِّرة عن قدرٍ كبير من الدهشة والفضول.
•••
في أرض النار، فوق منطقة الغابات، يُعدُّ النبات الأول من هذين النباتَين المتحابَّين العامل الرئيس في إنتاج الخث؛ فالأوراق الجديدة تتعاقب دومًا الواحدة تلو الأخرى حول الجذر الوتدي المركزي، وسرعان ما تتحلل الأوراق السفلية، وبتتبع الجذر إلى أسفل في الخث، يمكن ملاحظة الأوراق — رغم حفاظها على أماكنها — تمر بجميع مراحل التحلل، حتى يندمج الكل في كتلةٍ واحدة غير متناسقة. والأستيليا تدعمها بضعة نباتاتٍ أخرى — حيث يوجد هنا وهناك نبات آس صغيرٌ متسلق (الآس البري)، ذو الجذع الخشبي الشبيه بالتوت البري لدينا وذو ثمارٍ لذيذة، وتوت أحمر شبيه بنبات الخلنج لدينا — وأحد أنواع الأسليات (الأسل الكبير الأوراق) — وهي تقريبًا النباتات الوحيدة التي تنمو على السطح السبخي. وهذه النباتات مختلفة، رغم التشابه العام الكبير بينها وبين الأنواع الإنجليزية. في الأجزاء الأكثر استواء من المنطقة، ينقسم سطح الخُث إلى بركٍ صغيرة من المياه على ارتفاعاتٍ مختلفة وتبدو كما لو أنها محفورة صناعيًّا. وتأتي جداول المياه الصغيرة المتدفقة تحت الأرض لتكمل تحلُّل المادة النباتية ولتعزيز السطح بأكمله.
يبدو مناخ الجزء الجنوبي من أمريكا مواتيًا بصفةٍ خاصة لإنتاج الخث؛ ففي جزر فوكلاند، تتحول كل أنوع النباتات تقريبًا، حتى الحشائش الخشنة التي تغطِّي سطح الأرض بأكملها؛ إلى هذه المادة، ونادرًا ما يحدُّ أي موقع من نموها؛ فبعض الطبقات يصل سمكها إلى اثنتي عشرة قدمًا، والجزء السفلي منها يصير صلبًا للغاية حين يجفُّ، حتى إنه يحترق بصعوبة إن احترق. وعلى الرغم من أن جميع النباتات تدعم تكوين الخث، فإنه في معظم الأجزاء تكون الأستيليا هي الأكثر كفاءة في ذلك. ويكون ظرفٌ استثنائيٌّ نوعًا ما، كون ذلك يختلف اختلافًا شديدًا عما يحدث في أوروبا؛ إذ لم أرَ في أي مكان طحلبًا يتكون من تحلل أي جزء من الخُث في أمريكا الجنوبية. أما فيما يخص الحدود الشمالية، التي يسمح عندها المناخ بحدوث نوعيةٍ مميزة من التحلل البطيء الضروري لإنتاج الخث، فأظن أن تشيلوي (دائرة عرض ٤١ درجة حتى ٤٢ درجة)، لا يتوافر فيها خثٌّ مميز رغم وجود مساحةٍ كبيرة من الأرض السبخة؛ ولكن في جزر تشونوس، الواقعة ثلاث درجات أبعد نحو الجنوب، رأينا أنه موجود بوفرة. على الساحل الشرقي في لابلاتا (دائرة عرض ٣٥ درجة)، أخبرني ساكنٌ إسبانيٌّ مقيم كان قد زار أيرلندا أنه كثيرًا ما بحث عن هذه المادة، ولكنه لم يستطع العثور عليها مطلقًا. وقد أراني تربةً سوداء خُثَّة مُخترقة بقوة بالجذور لإتاحة الاحتراق البطيء وغير الكامل، وكان هذا هو أقرب شيء للخث استطاع اكتشافه.
•••
في جميع أنحاء تشيلوي وتشونوس، يوجد نوعان غريبان من الطيور، يتشابهان كثيرًا مع طيور التوركو والتاباكولو المنتشرة في وسط تشيلي؛ أحدهما يطلق عليه الأهالي «تشوكاو» (تشوكاو تاباكولو): تتردَّد هذه الطيور على أكثر الأماكن ظلمة وانعزالًا داخل الغابات الرطبة. وأحيانًا لو جلس المرء يراقب طائر التشوكاو بأكبر قدر من اليقظة والتنبه، فإنه لن يراه، رغم أن صياحها قد يُسمَع من قريب، وفي أحيانٍ أخرى يقف المرء بلا حراك ليجد الطائر الصغير ذا الصدر الأحمر يقترب بأسلوبٍ مألوف ليصبح على مقربة بضع أقدام، بعد ذلك يتقافز بنشاط نحو الكتلة المتعفنة من القصب والفروع بذيله الصغير المنتصب لأعلى. وسكان جزيرة تشيلوي يخافون من طائر التشوكاو خوفًا قائمًا على الخرافات، بسبب صيحاته الغريبة والمتنوعة. وثمة ثلاث صيحاتٍ مميزة جدًّا؛ صيحة منها على غرار «تشيدكو» وهي فألٌ حسن، والأخرى على غرار «هيتريو» وهي صيحة غير مرغوب فيها بتاتًا، أما الأخيرة فنسيتها. وهاتان الكلمتان بمثابة محاكاة لصوت الصيحة، وبناء عليها يحدد السكان المحليون بعض الأمور. ولا شك أن سكان جزيرة تشيلوي قد اختاروا كائنًا صغيرًا فكاهيًّا عرافًا لهم. ثمة نوعٌ مشابه، ولكنه أكبر إلى حدٍّ ما، يطلق عليه السكان المحليون «جيد-جيد» (الويت ويت أسود الحلق) أو الطائر النبَّاح. والاسم الأخير مناسب جدًّا لأني أتحدى أي شخص ألا يظن يقينًا للوهلة الأولى أنه يسمع كلبًا صغيرًا ينبح في مكانٍ ما بالغابة. وكما هو الحال مع طائر التشوكاو، أحيانًا يسمع المرء صوت النباح من مكانٍ قريب، ولكن قد تفشل محاولته في رؤية الطائر عن طريق مراقبته، أو هزِّ الشجيرات، ولكن في أحيانٍ أخرى يقترب طائر الجيد-جيد بلا خوف. وتتشابه عاداته الغذائية وسلوكياته العامة كثيرًا مع طائر التشوكاو.
يتردد على هذه البحار الجنوبية عدة أنواع من طائر النوء، أكبرها هو طائر النوء العملاق أو (النسر أبو ذقن أو كاسر العظام الإسباني) وهو طائر يشيع وجوده في القنوات الداخلية وفي عرض البحر. ويشبه في عاداته وأسلوب طيرانه إلى حدٍّ كبير طائر القطرس تشابهًا وثيقًا، وكما هو الحال مع طائر القطرس، قد يراقبه المرء لساعات دون أن يعرف علام يتغذى؟ غير أن «كاسر العظام» طائر مفترس؛ إذ لاحظ بعض الضباط بميناء سان أنطونيو أنه يطارد أحد طيور الغطَّاس، وكان يحاول الفرار من خلال الغطس والطيران، ولكنه كان يسقط أرضًا باستمرار، وفي النهاية قُتل بضربة على رأسه. وفي ميناء سان جوليان، شوهدت طيور النوء الضخمة هذه تقتل صغار طيور النورس وتلتهمها. ثمة نوعٌ ثانٍ (جلم الماء ذو اللون الرمادي الداكن)، المنتشر في أوروبا ورأس هورن وساحل بيرو، أصغر حجمًا من طائر النوء العملاق ولكن يشبهه في لونه الأسود الباهت. وبوجهٍ عام، يتردد هذا الطائر على المضايق البحرية الداخلية في أسرابٍ كبيرة جدًّا، ولا أظن أنني رأيت في حياتي هذا العدد الكبير من أي نوع من الطيور معًا؛ إذ رأيت عددًا كبيرًا من هذه الطيور وراء جزيرة تشيلوي. كانت مئات الآلاف تطير في خطٍّ غير منتظم لعدة ساعات في اتجاهٍ واحد. وحين يستقر جزء من السرب على المياه، كان السطح يتحول إلى اللون الأسود وتصدر منها ضوضاء وكأن مجموعة من الأشخاص يتحدث بعضهم إلى بعض عن بعد.
يوجد عدة أنواعٍ أخرى من طيور النوء؛ إلا أنني سأكتفي بذكر نوعٍ واحدٍ آخر فقط، ألا وهو طائر النوء الغطاس الشائع، الذي يقدم مثالًا لتلك الحالات الاستثنائية، حين ينتمي طائر بكل وضوح إلى فصيلةٍ مميزة، رغم تشابهه من حيث العادات والبنية الجسدية مع قبيلةٍ مختلفة تمامًا. وهذا النوع من الطيور لا يغادر المضايق البحرية الداخلية الهادئة. وعند إزعاجه، يغطس لمسافةٍ بعيدة، وحين يعود إلى السطح بنفس الحركة يطير إلى أعلى. وبعد الطيران في خطٍّ مستقيم بحركةٍ سريعة من جناحَيه القصيرَين لمسافة، يسقط كما لو أنه أُصيب في مقتل ويغطس مرةً أخرى. يتضح من شكل منقاره ومنخارَيه وطول قدمه وحتى لون ريشه أن هذا الطائر ينتمي إلى طيور النوء من جهة؛ ولكن من جهةٍ أخرى فإن جناحَيه القصيرَين ومن ثم قدرته المحدودة على الطيران، وهيئة جسده وشكل ذيله وعدم وجود إصبعٍ خلفي في قدمه، وعاداته المعيشية واختياره للأماكن التي يوجد فيها، تجعلك تشكُّ للوهلة الأولى ما إذا كان على صلةٍ وطيدة بطائر الأوك. ولا شك أن ثمة خلطًا بينه وبين طائر الأوك، عند رؤيته من مسافةٍ بعيدة، سواء حين يطير أو حين يغطس ويسبح في هدوء عبر القنوات المنعزلة لأرض النار.