الفصل الخامس عشر
فالبارايزو – ممر بورتيلو – حكمة البغال – تيارات جبلية – كيف اكتُشفت المناجم – أدلة على الارتفاع التدريجي لسلسلة الجبال – تأثير الجليد على الصخور – البنية الجيولوجية لسلسلتَي التلال الأساسيتَين، منشؤها المميز واختلالها – الانهيار الكبير – الجليد الأحمر – الرياح – القمم الجليدية – مناخ جافٌّ وصافٍ – الكهرباء – منطقة البامبا – الحياة الحيوانية في الجهات المقابلة من جبال الأنديز – الجراد – البق العملاق – ميندوزا – طريق أوسبالاتا – أشجار السيلكا التي تُدفن أثناء نموها – جسر الإنكا – تفاقم سوء أحوال الطرق – مدينة كومبر– الأكواخ – فالبارايزو.
***
عبور سلسلة الجبال
في الحادي عشر من مارس، رسونا في فالبارايزو، وبعد يومَين شرعتُ في عبور سلسلة الجبال. توجَّهت نحو سانتياجو، حيث تفضَّل السيد كولكلوه بمساعدتي بكل الطرق الممكنة على اتخاذ الاستعدادات الصغيرة التي كانت ضرورية. في هذا الجزء من تشيلي، يوجد طريقان عبر جبال الأنديز إلى ميندوزا؛ أكثرهما استخدامًا، وهو طريق أكونكاجوا أو أوسبالاتا، يقع ناحية الشمال قليلًا؛ أما الطريق الآخر، ويُدعى بورتيو، فيقع ناحية الجنوب وهو الأقرب ولكنه أخطر وعلى ارتفاع أعلى.
•••
في المساء، بتنا في كوخ. كان نمط سفرنا مُتحرِّرًا على نحوٍ مبهج. ففي الأجزاء الآهلة بالسكان، كنا نشتري القليل من الحطب ونستأجر مرعًى للدواب، ونعسكر معهم في زاوية من الحقل نفسه. ونظرًا لأننا كنا نحمل وعاءً حديديًّا، فقد طبخنا عشاءنا وتناولناه تحت السماء الصافية ولم نواجه أي مشاكل. كان رفقائي هم ماريانو جونزاليس، الذي رافقني في تشيلي فيما سبق، و«سائق بغال»، معه عشرة بغال، و«أمٌّ قائدة». الأم القائدة هي أهم شخصية؛ وهي عبارة عن فرس عجوزٍ هادئة، ذات جرسٍ معلق حول رقبتها، وأينما تذهب يتبعها البغال كأطفالٍ مطيعين. وعاطفة هذه الحيوانات تجاه الأم القائدة توفِّر عناءً لا حدَّ له. فإذا سيقت عدة قطعانٍ كبيرة لترعى في أحد الحقول، لا يكون على صاحب البغال في الصباح إلا أن يقود الأمهات القائدات بعيدًا عنها بعض الشيء، ويرنَّ الأجراس المعلقة في رقابها، ورغم أنه ربما يوجد ٢٠٠ أو ٣٠٠ بغل معًا، فإن كل بغل يعرف على الفور الجرس الخاص بأمه القائدة، ويأتي إليها. ويكاد يكون من المستحيل فقدان أي بغل كبير؛ فإذا احتُجز بالقوة لعدة ساعات، سيتبع أثر رفاقه بحاسة الشم، مثل الكلاب، أو بالأحرى أثر الأم القائدة؛ إذ إنها، حسب كلمات صاحب البغال، المصدر الأساسي للعاطفة والحنان. غير أن المشاعر ليست ذات طبيعةٍ فردية؛ لأنني أعتقد أني محقٌّ في قول إن أي حيوان ذي جرس سيقوم مقام الأم القائدة. ففي داخل القطيع، يحمل كل حيوان حمولة تزن ٤١٦ رطلًا (ما يعادل أكثر من ٢٩ حجرًا) على طريقٍ مستوٍ، أما في البلدات الجبلية الوعرة، فيحمل ١٠٠ رطل أقل؛ ولكن مع الأطراف الضعيفة والهزيلة، ومع غياب أي كتلةٍ عضليةٍ متناسبة، يكون الحمل الذي تتحمَّله هذه الحيوانات ثقيلًا للغاية! تبدو البغال بالنسبة إليَّ أكثر الحيوانات المثيرة للدهشة. فتلك الفصيلة المهجَّنة، التي تتمتع حتمًا بقدر أكبر من العقل والذاكرة والصلابة والعاطفة الاجتماعية والقدرة العضلية وحياة أطول من أبويها، تبدو أنها تشير إلى أن المهارة هنا قد تفوَّقت على الطبيعة. من الدواب العشرة التي كانت معنا، كان هناك ستٌّ مخصصة للركوب وأربعٌ مخصصة لحمل المؤن، مع تناوب الأدوار فيما بينها. كنا نحمل قَدرًا كبيرًا من المؤن الغذائية خشية أن نعلق وسط الجليد؛ نظرًا لأن موسم تساقط الجليد كان متأخرًا بعض الشيء في بورتيو.
•••
كان بالأحرى أن يطلق على الأنهار التي تجري في هذه الوديان تياراتٌ جبلية؛ فدرجة ميَلانها كبيرة جدًّا ولون مياهها بلون الطمي. وقد كان الهدير الصادر عن نهر مايبو، أثناء جريانه فوق الشظايا الصخرية الدائرية الكبيرة، أشْبهَ بهدير البحر. ووسط ضجيج المياه المتدفِّقة، كان الصوت الصادر من الأحجار، أثناء تصادم بعضها ببعض، مسموعًا بوضوحٍ شديد حتى من على بُعد. ويمكن سماع هذا الصوت المجلجل، ليل نهار، على طول مسار التيار. والصوت مفهوم بوضوح لعالم الجيولوجيا: آلاف وآلاف من الأحجار تتسارع جميعها في اتجاهٍ واحد، وباصطدام بعضها ببعض، تصنع الصوت الموحَّد المكتوم. الأمر أشبه بالتفكير في الوقت المناسب، حيث الدقيقة التي تنقضي الآن لا يمكن استرجاعها. كان الأمر كذلك مع هذه الأحجار؛ فالمحيط هو وجهته التي سيخلد فيها، وكل نغمة من تلك الموسيقى البرية تكشف عن خطوةٍ أخرى نحو وجهتها.
ويتعذَّر على العقل أن يفهم، إلا بنهجٍ بطيء، أي تأثير يترتب على ظاهرةٍ كثيرة التكرار، لدرجة أن تكرار الظاهرة في حدِّ ذاتها يوصل فكرة ليست أوضح من الفكرة التي يوصلها الشخص الهمجي حين يُشير إلى شعر رأسه. وبقدر ما رأيت قيعانًا من الطمي والرمل والحصى تراكمت حتى بلغ سُمكها ألف قدم، شعرت برغبة في أن أُعلن أن الظواهر، مثل الأنهار والشواطئ الحالية، لا يمكن أبدًا أن تكون قد تفتَّتت لأسفل وكوَّنت مثل هذه الكتل، ولكن، من جهةٍ أخرى، عند الإنصات لقعقعة هذه التيارات، وتذكُّر أن أجناسًا كاملة من الحيوانات قد اختفت من على وجه الكرة الأرضية، وأنه أثناء هذه الفترة بأكملها، ليل نهار، كانت هذه الأحجار تتقدم بقَعْقَعتها في مسارها، كنت أفكِّر في نفسي: هل تستطيع أي جبال، أو أي قارة، أن تصمد أمام هذا الهدر؟
في هذا الجزء من الوادي، تراوح ارتفاع الجبال على كل جانب ما بين ثلاثة إلى ستة أو ثمانية آلاف قدم، وكانت ذات محيطٍ عريض مستدير وجوانبَ منحدرةٍ وعرة. كان اللون العام للصخور هو الأرجواني الباهت، وكان التدرُّج واضحًا جدًّا. إن لم يكن المشهد جميلًا، فهو لافت للنظر ومهيب. التقينا أثناء النهار بعدة قطعان من الماشية، كان يسوقها الرجال من الوديان العالية عند سلسلة الجبال. وقد دفعتنا هذه العلامة الدالة على اقتراب الشتاء إلى أن نسرع الخطى بما لم يُتِح لي إجراء معاينةٍ جيولوجية للمنطقة. كان المنزل الذي بتنا فيه ليلتنا يقع عند سفح أحد الجبال، والذي تقع عند قمته مناجم سان بيدرو دي نولاسكو. يتعجب السير إف هيد كيف اكتشفت مناجم في مثل هذه المواقع الاستثنائية، مثل القمة الجرداء لجبل سان بيدرو دي نولاسكو. بادئ ذي بدء، تعتبر العروق المعدنية في هذا البلد بوجهٍ عام أصلب من الطبقات المحيطة؛ ومن ثم أثناء التآكل التدريجي للتلال، فإنها تبرز فوق سطح الأرض. ثانيًا: كل عامل تقريبًا، وبخاصة في الأجزاء الشمالية من تشيلي، يفهم شيئًا عن شكل الخام. وفي مقاطعتي كوكيمبو وكوبيابو الشهيرتين باستخراج المعادن، يكون الحطب شحيحًا للغاية، ويبحث عنه الرجال فوق كل تلٍّ ووادٍ، وبهذه الوسيلة تم اكتشاف أغنى المناجم جميعها تقريبًا. فمنجم تشانونسيو، الذي استُخرجت منه الفضة بكميات تصل إلى مئات الآلاف من الأرطال في غضون بضع سنوات، اكتشفه رجلٌ أراد أن يقذفَ بحجرةٍ حمارَه المُحمَّل، وظنًّا منه أنها ثقيلة للغاية، التقطها من على الأرض ووجدها مليئةً بالفضة الخالصة؛ كان العرق ظاهرًا على مسافة ليست بعيدة، ويبدو كوتدٍ من معدن. كذلك كثيرًا ما يجوب عمال المناجم الجبال، بحوزتهم عَتَلَة، في أيام الآحاد. وفي هذا الجزء الجنوبي من تشيلي، عادة ما يكون الرجال، الذين يسوقون الماشية وسط سلسلة الجبال والذين يترددون على كل وادٍ حيث يوجد مرعًى صغير؛ هم المكتشفين.
•••
مع اقتراب نهاية المساء، وصلنا إلى سهلٍ فريد أشبه بحوض، يُسمى وادي يسو. كان السهل مغطًّى بالقليل من الكلأ الجاف، واستمتعنا برؤية قطيع من الماشية وسط الصحاري الصخرية المحيطة. سُمي الوادي باسم يسو بسبب طبقةٍ عظيمة، أظن أن سمكها يصل على الأقل إلى ألفَي قدم، من الجبس الأبيض، الذي كان نقيًّا تمامًا في بعض أجزائه. بتنا ليلتنا مع مجموعة من الرجال، كانوا يعملون في تحميل البغال بهذه المادة المستخدمة في تصنيع الخمر. انطلقنا في الصباح الباكر (٢١ مارس) وواصلنا اتباع مسار النهر، الذي صار ضئيلًا للغاية، إلى أن وصلنا إلى سفح الجبل الذي يقسم المياه المتدفقة إلى المحيطَين الهادي والأطلنطي. تحوَّل الطريق، الذي كان يصعد لأعلى بثبات ولكن على نحوٍ متدرج للغاية، إلى طريقٍ متعرجٍ شديد الانحدار نحو سلسلة الجبال العظيمة التي تفصل بين جمهوريتي تشيلي وميندوزا.
سأعطي هنا صورةً مختصرة جدًّا عن الطبيعة الجيولوجية للمسارات المتوازية العديدة التي تُشكِّل سلسلة الجبال. من بين هذه المسارات، يوجد مساران أطول بكثير من المسارات الأخرى، وهما تحديدًا، جبل بيكيونيز، الواقع على الجانب التشيلي، والذي يبلغ ارتفاعه، حيث يقطعه الطريق، ١٣٢١٠ أقدام فوق سطح البحر؛ وجبل بورتيو، الواقع على جانب ميندوزا، ويبلغ طوله ١٤٣٠٥ أقدام. تتكون القيعان المنخفضة لجبل بيكيونيز، وقيعان المسارات العديدة المتجهة نحو الغرب منه، من ركامٍ ضخم، يبلغ سمكه آلاف الأقدام، من الصخور السماقية التي تدفَّقت في هيئة حممٍ بحرية، بالتناوب مع شظايا حادة ومستديرة من الصخور ذاتها، قذفت من فوهات البراكين البحرية. وهذه الكتل المتناوبة مغطاة عند الأجزاء المركزية منها بطبقةٍ سميكة للغاية من الأحجار الرملية الحمراء وصخور الرصيص الرسوبية والأردواز الجيري، المختلطة بطبقاتٍ هائلة من الجبس وتمرُّ خلالها. في هذه الطبقات العلوية، توجد القواقع بقدر لا بأس به، وتنتمي إلى حقبة العصر الطباشيري الأدنى في أوروبا. إنها قصة قديمة، ولكنها ليست أقل روعة، أن تسمع أن القواقع التي كانت يومًا ما تسبح في قاع البحر، صارت الآن على ارتفاع ١٤ ألف قدم فوق مستوى البحر. ولقد تخلخلت القيعان الدنيا في هذه الكومة العظيمة من الطبقات وتحمصت وتبلورت وامتزجت معًا، بفعل قوة الكتل الجبلية المكوَّنة من صخورٍ جرانيتيةٍ بيضاءَ مميزة تحتوي على الصودا.
أما المسار الرئيس الآخر، وهو مسار بورتيو، فله تكوينٌ مختلف تمامًا؛ فهو يتكون بالأساس من قممٍ كبيرةٍ جرداءَ من جرانيت البوتاس الأحمر، مغطاة بالأسفل على الجانب الغربي بأحجارٍ رملية، تحوَّلت بفعل حرارة الجرانيت إلى صخور كوارتز. على صخور الكوارتز، توجد طبقات من الرصيص الرسوبي ذي سمكٍ يبلغ آلاف الأقدام، رفعت بفعل الجرانيت الأحمر، وانحدرت بزاوية ٤٥ درجة نحو مسار بيكيونيز. وقد اندهشتُ حين وجدت أن هذه الطبقة الرسوبية تَكوَّن جزء منها من الحصى المشتق من صخور سلسلة بيكيونيز، ذات القواقع الأحفورية؛ فيما تكوَّن الجزء الآخر من جرانيت البوتاس الأحمر، كذاك الذي يوجد في جبال بورتيو. وبذلك، لا بد أن نخلص إلى أن كلًّا من سلسلتي بيكيونيز وبورتيو قد رُفع جزئيًّا وتعرَّض للبِلى عندما تكوَّن الصخر الرسوبي؛ ولكن نظرًا لأن قيعان الصخور الرسوبية تحرَّرت عند زاوية ٤٥ درجة بفعل جرانيت بورتيو الأحمر (مع الصخور الرملية الدفينة التي تحمَّصت بفعله)، فقد نشعر بالثقة أن الجزء الأكبر من عملية حقن وبروز الجزء المتكوِّن جزئيًّا بالفعل من سلسلة بورتيو قد حدث بعد تراكم صخرٍ رسوبي، وبعد نتوء سلسلة بيكيونيز بفترةٍ طويلة. وبذلك لا يكون البورتيو، المسار الأعلى في هذا الجزء من سلسلة الجبال، قديمًا للغاية كمسار البيكيونيز الأقل ارتفاعًا. وقد يستشهد بالأدلة المستمدة من مجرى الحمم المائل عند القاعدة الشرقية لجبال البورتيو لتوضيح أن جزءًا من ارتفاعها الكبير يعود إلى ارتفاعات حدثت في حقبةٍ لاحقة. وبالنظر إلى أصول الجرانيت الأحمر المبكرة، يبدو لنا أنه قد تم حقنه على مسارٍ قديم كان موجودًا من قبلُ من الجرانيت الأبيض والأردواز الميكائي. وفي معظم الأجزاء، بل ربما في جميع أجزاء سلسلة الجبال، ربما نخلص إلى أن كل مسارٍ قد تكوَّن من عمليات رفع وحقن متكررة، وأن المسارات المتوازية العديدة تكوَّنت في عصورٍ مختلفة. وبذلك فقط يمكننا أن نكسب وقتًا كافيًا لتفسير كم التعرية الهائل الذي تعرَّضت له هذه الجبال الشاهقة، رغم أنها حديثة نسبيًّا مقارنة بمعظم السلاسل الأخرى.
وأخيرًا، تبرهن القواقع الموجودة في بيكيونيز أو السلسلة الأقدم — كما أشرنا من قبلُ — على أنها ارتفعت بمقدار ١٤ ألف قدم منذ العصر الجيولوجي الثاني، الذي اعتدنا في أوروبا اعتباره أبعد ما يكون عن القدم؛ ولكن نظرًا لأن هذه القواقع قد عاشت في بحرٍ عميق إلى حدٍّ ما، يمكن إثبات أن المنطقة التي تشغلها سلسلة الجبال الآن لا بد أنها هبطت لآلاف الأقدام — وفي شمال تشيلي هبطت مسافة ٦ آلاف قدم — بحيث أتاحت لتلك الكمية من الطبقات البحرية أن تتكدَّس على القاع الذي عاشت فيه القواقع. والبرهان نفسه من شأنه أن يُبيِّن أنه في فترةٍ متأخرة كثيرًا منذ عاشت أصداف العصر الجيولوجي الثالث في باتاجونيا، هناك حتمًا هبوط حدث لمسافة عدة مئات من الأقدام، وكذلك ارتفاع أعقب هذا الهبوط. وهكذا، يترسخ في ذهن عالم الجيولوجيا يوميًّا أنه لا يوجد شيء غير مستقر كمستوى قشرة هذه الأرض، ولا حتى الرياح العاصفة.
سأُبدي ملاحظةً جيولوجيةً أخرى: على الرغم من أن سلسلة البورتيو هنا أعلى من سلسلة بيكيونيز، فإن المسطحات المائية، النازحة من الوديان الوسطى، قد تفجرت خلالها. ولقد لوحظت نفس الحقيقة، على نطاقٍ أكبر، في المسار الشرقي والأكثر ارتفاعًا لسلسلة جبال بوليفيا، التي يمر خلالها الأنهار؛ كما لوحظت حقائقُ مشابهة أيضًا في بقاعٍ أخرى من العالم. وفي ضوء افتراض حدوث الارتفاع التالي والتدريجي لسلسلة البورتيو، يمكننا فهم هذا؛ فلكي تظهر سلسلة من الجزر الصغيرة في البداية، ومع ارتفاع هذه الجزر، فإن موجات المد والجزر دائمًا ما تنحت قنواتٍ أعمق وأوسع فيما بينها. وفي الوقت الحاضر، وحتى في أكثر الخُلْجان المنعزلة على ساحل أرخبيل أرض النار، تكون التيارات الموجودة داخل الفواصل المستعرضة — التي تربط بين القنوات الطولية — قويةً جدًّا؛ ولذا حتى في داخل إحدى القنوات المستعرضة كانت السفن الصغيرة تدور وتدور في دوامات.
عند الظهيرة تقريبًا، بدأنا رحلة الصعود الشاقة لسلسلة بيكيونيز، حينئذٍ ولأول مرة واجهنا بعض الصعوبة في التنفُّس. كانت البغال تتوقف كل خمسين ياردة، وبعد الاستراحة لبضع ثوانٍ تستأنف الدواب المسكينة المطيعة الرحلة مرة أخرى من تلقاء نفسها. ويطلق التشيليون على ضيق التنفُّس في الغلاف الجوي العلوي «داء المرتفعات»؛ ولديهم أسخف الأفكار بخصوص أصل الكلمة. فالبعض يقول إن «جميع المسطحات المائية هنا تعاني من داء المرتفعات»، والبعض الآخر يقول إنه «أينما تتساقط الثلوج يوجد داء المرتفعات.» وهذا صحيح بلا شك. كان الشعور الوحيد الذي انتابني هو ضيقٌ بسيط في الصدر والرأس، مثل ذلك الشعور الذي ينتابك عند الخروج من غرفةٍ دافئة والركض بسرعة في طقسٍ متجمد. كان ثمة قدر من الوهم في ذلك الأمر؛ إذ إنني نسيتُ تمامًا أمر داء المرتفعات في غمرة سعادتي بالعثور على أصداف أحفورية فوق السلسلة العليا. بالتأكيد كان إجهاد المشي بالغًا للغاية، وصار التنفُّس شاقًّا وعميقًا؛ وقد قيل لي إنه في مدينة بوتوسي (التي تقع فوق مستوى سطح البحر بارتفاع ١٣ ألف قدم تقريبًا)، لا يعتاد الغرباء هذا الطقس لمدة عامٍ كامل. ويوصي جميع السكان هنا بالبصل كعلاج لداء المرتفعات. ولما كان هذا النبات يقدم أحيانًا في أوروبا كعلاج من شكاوى آلام الصدر؛ فقد يكون ذا فائدة حقيقية، أما بالنسبة إليَّ فلم أجد شيئًا في روعة القواقع الأحفورية!
في حوالي منتصف الطريق إلى أعلى، التقينا بقافلةٍ كبيرة معها سبعون بغلًا محمَّلًا. كان من الممتع الاستماع إلى الصيحات الجامحة لسائقي البغال ومشاهدة صفِّ الدواب الطويل الهابط، بدت الدواب شديدة الصغر، ولم يكن ثمة شيء يمكن مضاهاتها به سوى الجبال السمراء. عند الاقتراب من القمة، كانت الرياح عاتيةً وشديدة البرودة، كما يحدث بوجهٍ عام. وعلى كلا جانبَي السلسلة، اضطررنا إلى المرور فوق نطاقاتٍ عريضة من الثلوج الدائمة، التي سرعان ما غطَّتها طبقةٌ حديثة. وعندما وصلنا إلى القمة ونظرنا إلى الخلف، رأينا مشهدًا رائعًا. الأجواء الصافية على نحوٍ متألق، والسماء الشديدة الزرقة، والوديان العميقة، والأشكال البرية غير المستوية من أكوام الأطلال المتراكمة عبر العصور؛ والصخور ذات الألوان الزاهية، في مقابل الجبال الجليدية الهادئة، كل هذا معًا خلق مشهدًا لا يستطيع أحد أن يتخيله. ولم يصرف انتباهي عن الكتلة الجامدة أي نبات أو طائر، باستثناء بعض نسور الكوندور المحلِّقة فوق القمم العالية. سعدت بوجودي هناك بمفردي؛ فقد كان الأمر أشبه بمشاهدة عاصفةٍ رعدية، أو الاستماع لمعزوفة «المسيح» بأوركسترا كاملة.
فوق عدة رُقَع من الجليد، عثرت على الثلج الأحمر المعروف من حكايات مستكشفي القطب الشمالي. ولقد استرعى انتباهي ملاحظةُ أثر أقدام البغال الملطخة بلون أحمر باهت، كما لو أن حوافرها ملطخة بالدماء قليلًا. في البداية، ظننتُ أن السبب يعود إلى هبوب الغبار القادم من الجبال المحيطة ذات الصخور السماقية الحمراء؛ فبفضل قوة التكبير الخاصة ببلورات الجليد، بدت مجموعات النباتات المجهرية أشبه بجسيماتٍ دقيقةٍ خشنة. كانت الثلوج مخضَّبة فقط في المواضع التي ذابت فيها سريعًا جدًّا، أو سُحقت عن غير عمد. وعند فركها قليلًا على ورقة، نتجت مسحةٌ وردية اللون باهتةٌ مختلطة بقليل من اللون الأحمر الآجري. بعد ذلك، فركتُ بعضها من على الورقة، ووجدت أنها تتكوَّن من مجموعات من الكريات الصغيرة في أغلفة عديمة اللون، كلٌّ منها يبلغ قطرها جزءًا من الألف من البوصة.
بعد أن اجتزنا سلسلة بيكيونيز، هبطنا إلى منطقةٍ وعرة، في منتصف الطريق بين سلسلتَي الجبال الرئيستَين، ثم بتنا الليلة هناك. كنا حينئذٍ في جمهورية ميندوزا. كان الارتفاع لا يقل عن ١١ ألف قدم على الأرجح؛ ومن ثمَّ كانت النباتات شحيحة للغاية. كان مصدر الوقود هو جذور أحد النباتات الصغيرة القصيرة، إلا أن النيران المنبعثة منها كانت ضعيفة، وكانت الرياح قارسة البرودة. ونظرًا لإرهاقي الشديد بسبب عملي لأيام، نصبت فراشي بأسرع ما استطعت، وخلدت إلى النوم. عند منتصف الليل تقريبًا، لاحظتُ أن السماء صارت ملبدة بالغيوم فجأة؛ ما دعاني لإيقاظ سائق البغال لأعرف ما إذا كان ثمة أي خطر من تدهور الأحوال الجوية؛ ولكنه قال إنه مع غياب الرعد والبرق فلا خطر من وقوع عاصفةٍ ثلجيةٍ شديدة. فالخطر وشيك ومن ثَم تزداد صعوبة الهروب بالنسبة إلى أي شخص يباغَت بطقسٍ سيئ وسط سلسلتَين من الجبال. ثمة كهف بعينه يمثل الملاذ الآمن الوحيد، لقد احتُجز السيد كولكلوه، الذي عبر في هذا اليوم نفسه من الشهر، هناك لبعض الوقت بسبب تساقط الجليد بكثافة. لم يتمَّ بناء الأكواخ، أو الملاذات الآمنة، في هذا الطريق كما هو الحال في طريق أوسبالاتا؛ لذا قليلًا ما يرتاد أحدٌ طريق بورتيو في فصل الخريف. ويجدر بي هنا الإشارة إلى أن الأمطار لا تتساقط مطلقًا داخل سلسلة الجبال الرئيسة؛ لأنه في فصل الصيف تكون السماء صافية، وفي فصل الشتاء لا يوجد سوى العواصف الثلجية فقط.
في المكان الذي بتنا فيه، كانت المياه، بسبب الضغط الجوي المنخفض، تغلي في درجات حرارة أقلَّ من تلك التي تغلي عندها في منطقة أقلَّ ارتفاعًا؛ وهو ما يعد نقيضًا لما يحدث في طَنْجَرة الضغط التي اخترعها بابان؛ ومن ثَمَّ ظلت البطاطس صلبة كما كانت تقريبًا بعد أن ظلت في المياه المغلية لبضع ساعات. تُركت القِدْر على النار طوال الليل، وفي صباح اليوم التالي، وضعت لتغلي مرةً أخرى، ورغم ذلك لم تنضج البطاطس. وقد اكتشفتُ ذلك حين استرقتُ السمع لرفيقيَّ وهما يناقشان السبب؛ إذ توصلا إلى استنتاجٍ بسيط مفاده أن «القِدْر اللعينة (التي كانت جديدة) عزفت عن سلق البطاطس.»
•••
عندما أصبحنا تقريبًا على قمة سلسلة بورتيو، أحاطت بنا سحابةٌ منحدرة من شويكاتٍ دقيقةٍ متجمدة. كان هذا من سوء حظنا لأنها استمرت طوال اليوم وأعاقت رؤيتنا. جاءت تسمية الطريق ببورتيو من شقٍّ ضيق أو مدخل عند الحافة العليا التي يمر من خلالها الطريق. من عند هذه النقطة، وفي يوم صافٍ بلا غيوم، يمكن رؤية تلك السهول الشاسعة التي تمتد بلا انقطاع نحو المحيط الأطلسي. نزلنا إلى الحافة العليا لمنطقةٍ نباتية، ووجدنا مكانًا مناسبًا لقضاء الليلة أسفل بعض الشظايا الصخرية الكبيرة. التقينا هنا ببعض المسافرين الذين تساءلوا في قلق عن حالة الطريق. حالما حل الظلام، انقشعت الغيوم فجأة، وكان تأثير ذلك سحريًّا للغاية؛ فقد بدت الجبال المهيبة، التي أضاءها البدر الساطع، تُحلِّق فوقنا في دنوٍّ من كل جانب، كما لو كانت فوق صدعٍ عميق؛ وذات صباح، في وقتٍ مبكرٍ جدًّا، شهدت التأثير المذهل نفسه. وبمجرد أن تبدَّدت السحب، تجمَّدت بشدة؛ ولكن نظرًا لعدم وجود رياح، خلدنا إلى النوم بكل سهولة.
كان التألُّق المتزايد للقمر والنجوم على هذا الارتفاع ملحوظًا للغاية بفعل الشفافية التامة للغلاف الجوي. وبوجهٍ عام، أعزى المسافرون الذين لاحظوا صعوبة تقدير الارتفاعات والمسافات وسط الجبال الشاهقة، هذا الأمر إلى عدم وجود أجسامٍ أخرى يمكن استخدامها للمقارنة. أما بالنسبة إليَّ، فبدا أن هذا يعود إلى حدٍّ كبير إلى تسبب شفافية الهواء في تداخل الأجسام الموجودة على مسافاتٍ متفاوتة؛ كما يعود جزئيًّا إلى عدم الاعتياد على الإصابة بدرجةٍ استثنائية من الإعياء نتيجة بذل مجهودٍ قليل؛ وهي عادة تتعارض مع مدركات الحواس. وأنا واثق أن هذا النقاء الشديد للهواء يعطي المشهد الطبيعي طابعًا غريبًا؛ فجميع الأجسام تبدو وكأنها وضعت في مستوًى واحد تقريبًا، كما في الرسومات أو المناظر البانورامية. وأظن أن الشفافية تُعزى إلى الجفاف الثابت والمرتفع للغلاف الجوي. وقد تجلَّى هذا الجفاف من خلال الطريقة التي انكمشت بها المشغولات الخشبية (مثلما وجدت من خلال المشقة التي واجهتها في استخدام مِطْرَقة الصخور التي معي)، والتصلب الشديد للأطعمة، مثل الخبز والسكر، وحفظ الجلود وأجزاء من لحوم الدواب التي نفقت على الطريق. وللسبب ذاته لا بد أن نعزي السهولة الفريدة التي تولدت بها الكهرباء؛ إذ بدا معطفي الصوفي، حين فركته قليلًا، وكأنه مغسول بالفوسفور؛ كما كانت كل شعرة على ظهر الكلب تطقطق، وحتى الملاءات الكتَّانية والأحزمة الجلدية للسرج انبعثت منها شراراتٌ كهربية عند الإمساك بها.
•••
كان ثمة عددٌ كبير من النباتات والحيوانات المشابهة تمامًا — أو قريبة الشبه كثيرًا — بتلك الموجودة في باتاجونيا. فقد رأينا هنا حيوان الأجوتي والبيزكاتشا وثلاثة أنواع من حيوان المدرَّع والنعام وبعض أنواع من طيور الحَجَل وغيرها من الطيور الأخرى، لا تُرى أيٌّ منها مطلقًا في تشيلي، لكنها الحيوانات المميزة لسهول باتاجونيا الصحراوية. رأينا أيضًا الكثير من الشجيرات الشائكة المتقزِّمة المتشابهة (في نظر شخص ليس بعالم نباتات)، والعشب الذابل، والنباتات القزمية. وحتى الخنافس السوداء الزاحفة ببطء شديدة التشابه فيما بينها، وأعتقد أن بعضها متطابق تمامًا، إذا أخضعناها للفحص الدقيق. لطالما ندمت على اضطرارنا، لا محالة، للتخلي عن فكرة صعود نهر سانت كروز قبل الوصول إلى الجبال؛ فقد كان لديَّ دومًا بارقة أمل مستترة في رؤية تغيرٍ كبير في خصائص المنطقة؛ ولكني الآن متأكد أنها كانت ستسير على نفس نهج سهول باتاجونيا صعودًا مع ارتفاع الأرض الجبلية.
•••
•••
بعد رحلتنا المرهقة التي استمرت يومَين، كان من المنعش أن نرى على بُعد صفوفًا من أشجار الحور وأشجار الصفصاف تنمو حول قرية ونهر لوكسان. وقبيل وصولنا إلى هذا المكان مباشرة، شاهدنا ناحية الجنوب غيمة غير منتظمة الشكل ذات لونٍ بنيٍّ محمرٍّ داكن. في البداية، ظننا أنه دخان يتصاعد من حريقٍ هائل في السهول؛ إلا أننا سرعان ما اكتشفنا أنها سرب من الجراد. كان هذا الحشد يطير ناحية الشمال، وبفضل النسيم الخفيف، اتجه نحونا بسرعة عشرة أميال أو خمسة عشر ميلًا في الساعة. ملأ الجراد في قلب السرب الجو بداية من ارتفاع عشرين قدمًا وحتى ارتفاع ألفين أو ثلاثة آلاف قدم — فيما يبدو — فوق سطح الأرض «بدا صوت أجنحتها كصوت المركبات الحربية يجرها عدة خيول تهرول في طريقها للمعركة.» أو بالأحرى كانت أشبه بنسمةٍ شديدة تمر خلال أشرعة إحدى السفن. بدت السماء، ونحن ننظر إليها عبر طليعة السرب المحارب، أشبه بنقوشٍ تظليليةٍ محفورة؛ إلا أن الجراد المتمركز في قلب السرب كان معيقًا للرؤية؛ ورغم ذلك لم يكن الجراد مجتمعًا على نحوٍ كثيف للغاية؛ إذ كان بإمكانه أن يتفادى عصًا تلوِّح ذهابًا وإيابًا. وعندما هبط على الأرض، كان عدده أكثر من عدد أوراق الشجر في الحقل، واستحال لون الأرض من الحمرة إلى اللون أخضر، وبمجرد أن يهبط السرب على الأرض، تطير كل حشرة من جانب إلى آخر في جميع الاتجاهات. والجراد حشرةٌ مألوفة في هذه البلاد؛ إذ جاءت خلال هذا الموسم عدة أسرابٍ أصغر حجمًا من ناحية الجنوب، حيث تنشأ في الصحاري كما يبدو في جميع أنحاء العالم. وحاول سكان الأكواخ المساكين عبثًا أن يتفادوا الهجوم بإشعال النيران وإطلاق الصيحات، والتلويح بفروع الأشجار. وهذا النوع من الجراد قريب الشبه، بل ربما مطابق، لحشرة الجُدْجُد القادمة من الشرق.
عبرنا لوكسان، وهو نهرٌ كبير الحجم، رغم أن مجراه نحو الساحل البحري معروف على نحوٍ غير دقيق؛ حتى إن ثمة شكًّا إن كان لا يتبخر ويختفي حين يمر عبر السهول. بتنا في قرية لوكسان، وهي مكانٌ صغيرٌ محاطٌ بالحدائق، وتُشكِّل معظم المنطقة الجنوبية المزروعة في مقاطعة ميندوزا، وتبعد خمسة فراسخ جنوبي العاصمة. وفي المساء، تعرضتُ إلى هجوم (لا يجدر بي استخدام تعبيرٍ أخفَّ هنا) من حشرة الفسافس (البق مصاص الدماء)، التي تنتمي إلى فصيلة الرضوفيات؛ وهي الحشرة السوداء الكبيرة المنتشرة في منطقة البامبا. إن الشعورَ بحشراتٍ ملساء عديمة الأجنحة، يبلغ طولها حوالي بوصة، تزحف على جسدك؛ شعورٌ مقزِّز للغاية. قبل امتصاص الدماء، تكون الحشرة نحيفة للغاية، لكن بعد ذلك يصير جسدها دائريًّا ومنتفخًا بالدماء، ومن السهل سحقها في هذه الحالة. كانت إحداها، والتي أمسكت بها في مدينة إيكيكي (حيث توجد هذه الحشرة في تشيلي وبيرو)، فارغةَ الأحشاء تمامًا. وعند وضعها على طاولة، ورغم كونها محاطة بالناس، كان إذا مُدَّ إصبع نحوها، تسارع الحشرة الوقحة على الفور إلى إبراز ماصَّاتها، وتشنُّ هجومًا، وإذا أُتيحت لها الفرصة، تمتص الدماء. لم يتسبب الجرح في أي ألم. كان من المثير للفضول مشاهدة جسدها أثناء عملية مصِّ الدماء؛ إذ تحول جسدها المسطح كرقاقة إلى شكل دائري في أقل من عشر دقائق. وهذه الوليمة التي تدين بها حشرة الفسافس لأحد الربابنة، جعلتها سمينة لمدة أربعة شهورٍ كاملة، إلا أنها بعد أول أسبوعَين كانت على أهبة الاستعداد لعملية امتصاص أخرى.
•••
مكثنا اليوم التالي في ميندوزا. لقد تراجع مستوى رخاء المنطقة كثيرًا في السنوات الأخيرة. ويقول الأهالي: «من الجيد أن تعيش هنا، ولكن ما من شيءٍ أسوأ من أن تكوِّن ثروةً فيها.» تتسم الطبقات الدنيا من المجتمع بالتكاسل والاستهتار شأنهم شأن الجاوتشو وسكان منطقة البامبا، ويكادون يشبهونهم في ملبسهم ومعدات ركوب الخيل والعادات المعيشية. في رأيي، كان للبلدة طابعٌ بائس ومملٌّ. فالمتنزهات المنحوتة والمشاهد الطبيعية لا تضاهي نظيرتها في سانتياجو على الإطلاق؛ إلا أنه بالنسبة إلى القادم من بيونس أيرس، ومرَّ توًّا على منطقة البامبا العديمة التنوع، تبدو الحدائق والبساتين مبهجة حتمًا. ويقول السير إف هيد، في معرض حديثه عن السكان: «إنهم يتناولون عشاءهم وهو ساخن جدًّا، ويخلدون إلى النوم؛ وهل بوسعهم أن يقوموا بشيء أفضل؟» وأتفق تمامًا مع السير إف هيد؛ فالقدر السعيد لسكان ميندوزا يكمن في الأكل والنوم والتبطُّل.
•••
•••
تطلَّب الأمر القليل من التطبيق الجيولوجي العملي لتفسير القصة الرائعة التي كشف عنها هذا المشهد في الحال؛ رغم أنني أعترف أنني في البداية كنت مندهشًا كثيرًا لدرجة منعتني عن تصديق أبسط الأدلة. رأيت المكان الذي كانت تقف فيه يومًا مجموعة من الأشجار الرائعة تهزُّ فروعها على شواطئ المحيط الأطلنطي، حين وصل ذلك المحيط (الذي تراجع ٧٠٠ ميل) إلى سفح جبال الأنديز. ورأيت أنها قد نبتت من تربةٍ بركانية كانت مرتفعة عن مستوى سطح البحر، وأدى هذا بالتبعية إلى هبوط هذه الأرض الجافة، بأشجارها المنتصبة، في أعماق المحيط. وعند هذه الأعماق، غطت هذه الأرضَ الجافة سابقًا طبقاتٌ رسوبية، وغطت هذه الطبقاتِ مرةً أخرى تياراتٌ هائلة من الحمم البحرية، يصل سمك كتلةٍ واحدة منها إلى ألف قدم؛ وتنتشر هذه الأعداد الهائلة من الصخور المنصهرة والرواسب المائية بالتناوب في خمس طبقات. ولا بد أن المحيط الذي استقبل مثل هذه الكتل السميكة كان شديد العمق، إلا أن القوى الباطنية تحت الأرضية أعلنت عن نفسها مجددًا، ورأيت حينها قاع ذلك المحيط، مكوِّنًا سلسلةً من الجبال يصل ارتفاعها لأكثر من سبعة آلاف قدم. ولم تكن تلك القوى العدوانية خاملة، بل إنها دومًا في حالة نشاط محدثة تآكلًا في سطح الأرض؛ لقد انشطرت الأكوام الهائلة من الطبقات بسبب الكثير من الوديان الشاسعة، وبرزت الأشجار، التي تحوَّلت في الوقت الحالي إلى حجر صوَّان، من التربة البركانية، المتحوِّلة الآن إلى صخرة، والتي كانت تلك الأشجار تنبثق منها رافعة رءوسها الشامخة خضراء مثمرة. أما الآن، فقد تحول كل شيء إلى صحراء غير قابلة للاستصلاح مطلقًا؛ حتى الأُشْنات لا يمكنها أن تلتصق بالقوالب الحجرية التي كانت أشجارًا فيما سبق. ولا بد أن مثل هذه التغيرات الهائلة التي يتعذر فهمها تحدث؛ إلا أنها جميعًا حدثت خلال فترةٍ حديثة عند مقارنتها بتاريخ سلسلة الجبال؛ وسلسلة الجبال نفسها حديثة قطعًا مقارنة بطبقاتٍ أحفورية أخرى في أوروبا وأمريكا.
•••
في اليوم التالي، اجتزنا السهل وسلكنا نفس المسار الذي يتبعه الجدول المائي الجبلي العظيم في لوكسان. هنا كان يوجد سيلٌ جارف، يتعذَّر اجتيازه تمامًا، وبدا أكبر مما هو عليه في الجزء السفلي من المنطقة، كما كان الحال مع النُّهَيْر الصغير في فيلا فيسينسيو. وفي مساء اليوم التالي، وصلنا إلى نهر الفاكاس، والذي يعتبر أسوأ مجرًى مائي يمكن عبوره داخل سلسلة الجبال. ونظرًا لأن هذه الأنهار جميعها ذات مجرًى قصيرٍ وسريع، وتتكون بالأساس بفعل ذوبان الجليد، فإن ساعة من النهار تُحدث فارقًا كبيرًا في حجم هذه الأنهار. أما في المساء، فيصير المجرى المائي موحلًا وفائضًا، ولكن مع حلول الفجر يصير أكثر صفاءً وأقل اندفاعًا. ووجدنا الحال نفسه مع نهر فاكاس، وفي الصباح اجتزناه دون صعوبة تذكر.
كان المشهد حتى الآن بعيدًا تمامًا عن أن يكون جذابًا، مقارنة بالمشهد عند طريق بورتيو. فلا يكاد المرء يرى شيئًا وراء الأسوار الجرداء للوادي الكبير المسطح القاع، الذي يحاذيه الطريق صعودًا إلى أعلى قمة. كان الوادي والجبال الصخرية الضخمة جرداء تمامًا؛ فأثناء الليلتَين السابقتَين لم تجد البغال المسكينة أي شيء مطلقًا لتأكله، فباستثناء بعض الشجيرات الراتنجية القصيرة، قلَّما شوهد أي نبات في هذا المكان. في هذا اليوم، اجتزنا بعضًا من أسوأ الطرق داخل سلسلة الجبال، إلا أن خطورتها كانت مبالغًا فيها بشدة. فقد قيل لي إنني إذا حاولتُ اجتياز هذه الطرق سيرًا على الأقدام، فإن رأسي سيصاب بدوار، وإنه لا مجال للنزول من فوق ظهر المطايا؛ ولكنني لم أرَ موضعًا لم يتسنَّ للمرء فيه السير بالاتجاه العكسي أو الترجُّل من فوق بغله على أحد الجانبَين. اجتزتُ أحد الطرق السيئة، وكان يدعى «لاس أنيماس» (الأرواح)، ولم أكتشف، حتى اليوم التالي، أنه محفوف بمخاطرَ هائلة. لا شك أن ثمة الكثير من المواضع التي إذا تعثر عندها البغل، فإن الراكب سينجرف نحو حافة جرف؛ إلا أن احتمالية حدوث هذا ضعيفة. ويمكنني القول إنه في فصل الربيع — تكون الطرق التي تتكوَّن كل عام من جديد عبر أكوام فتات الصخور المتساقطة — في حالةٍ مزرية للغاية، لكن من واقع ما رأيت، أشك في وجود خطرٍ حقيقي. والوضع مختلف نوعًا ما بالنسبة إلى البغال المحمَّلة؛ إذ تكون الحمولات بارزة حتى مسافةٍ بعيدة؛ ما يدفع الدواب إلى الركض بعضها نحو بعض من وقت لآخر أو في اتجاه حافة إحدى الصخور، لتفقد توازنها وتهوي إلى الأجراف. أما فيما يتعلق بعبور الأنهار، فبإمكاني أن أصدق أن الصعوبة ربما تكون بالغةً جدًّا؛ ففي هذا الموسم، كان ثمة القليل من الصعوبات، ولكن في فصل الصيف، لا بد أنها تكون في غاية الخطورة. وكما يصف السير إف هيد، يمكنني أن أتخيل تمامًا الفارق بين تعبيرَي: أولئك الذين «عبروا» الخليج، وأولئك الذين «يعبرون». لم أسمع قط عن غرق أي شخص، إلا أن هذا الأمر كثيرًا ما يحدث مع البغال المحمَّلة؛ لذا يطلب منك سائق البغال أن تُبين لبغلتك أفضل طريق ثم تدعها تعبره كما تشاء؛ إذ تتخذ البغال المحمَّلة طريقًا سيئًا، وكثيرًا ما يتم فقدانها.
•••
•••
•••
•••