الفصل السادس عشر
الطريق الساحلي إلى كوكيمبو – الأحمال الثقيلة التي يحملها عمال المناجم – كوكيمبو – الزلزال – المصاطب ذات التكوين المدرج – غياب الرواسب الحديثة – تزامن تكوينات العصر الجيولوجي الثالث – رحلة عبر الوادي – الطريق إلى جواسكو – الصحاري – وادي كوبيابو – أمطار وزلازل – رهاب الماء – ديسبوبلادو (الوادي المهجور) – الأطلال الهندية – التغيير المحتمل في المناخ – تحدُّب قاع النهر بسبب أحد الزلازل – عواصف الرياح الباردة – ضوضاء من التل – إيكيكي – رواسبُ نهريةٌ مالحة – نترات الصوديوم – ليما – منطقة غير صحية – أطلال كاياو، التي أطاح بها أحد الزلازل – الهبوط الأرضي الأخير – تحلُّل القواقع المرتفعة على سان لورينزو – سهل ذو أصدافٍ مطمرة وشظايا خزف – الآثار القديمة للعرق الهندي.
***
شمال تشيلي وبيرو
•••
•••
•••
•••
وزِيُّ عمال المناجم في تشيلي غريب ورائع في الوقت نفسه؛ إذ يرتدي العامل قميصًا طويلًا للغاية من نسيجٍ خشنٍ سميكٍ أخضرَ غامق بعض الشيء، مزود بمئزرةٍ جلدية، ويثبَّت الزي بأكمله حول وسطه بواسطة وشاحٍ زاهي اللون. يكون سرواله فضفاضًا للغاية، وقلنسوته القماشية الصغيرة ذات اللون القرمزي مصنوعة لتناسب حجم الرأس بالضبط. التقينا بمجموعة من عمال المناجم يرتدون الزي كاملًا، يحملون جثة أحد رفاقهم لدفنها. كانوا يسيرون في خطًى سريعةٍ جدًّا، وكان أربعة رجال يحملون الجثة. ركضت مجموعة منهم بأقصى سرعة لهم لمسافة حوالي مائتي ياردة، ليسعفهم أربعة آخرون كانوا قد انطلقوا قبلهم على ظهر الخيل. وهكذا واصلوا طريقهم، وهم يحثون بعضهم البعض بصيحاتٍ عنيفة؛ كان المشهد برمَّته من أغرب الجنازات التي شهدتها.
واصلنا المسيرة نحو الشمال في خطٍّ متعرج، متوقِّفين بين الحين والآخر لمدة يوم لإجراء دراساتٍ جيولوجية. كانت المنطقة قليلة السكان بدرجةٍ بالغة، وكان مسارها غامضًا للغاية لدرجة أننا كثيرًا ما كنا نواجه صعوبة في تبيُّن طريقنا. وفي يوم الثاني عشر من مايو، مكثت في بعض المناجم. لم يكن المعدن الخام في هذه الحالة يعتبر ذا جودةٍ خاصة؛ ولكن نظرًا لوفرته، كان من المفترض أن المنجم سيبيع الخام مقابل ثلاثة أو أربعة آلاف دولار تقريبًا (أي ما يوازي ستة أو ثمانية آلاف جنيهٍ إسترليني)؛ إلا أن إحدى الجمعيات الإنجليزية اشترتْه مقابل أوقية ذهب (٣ جنيهات إسترليني: ٨ شلنات). والمعدن الخام عبارة عن بيريت أصفر اللون، والذي من المفترض عدم احتوائه على ذرة نحاس قبل وصول الخام الإنجليزي، كما سبق أن أشرتُ. وبأرباحٍ كبيرة تقترب من المثال المذكور آنفًا، جرى شراء أكوام من نفايات المعادن زاخرةٍ بكريات نحاسٍ فلزي؛ ولكن مع هذه المزايا، خططت جمعيات التعدين لخسارة مبالغَ ماليةٍ هائلة، كما هو معروف جيدًا. وقد بلغت حماقة عدد أكبر من المفوضين وأصحاب المصالح مبلغ السفه؛ إذ يُمنح آلاف من الجنيهات سنويًّا في بعض الحالات للترويح عن السلطات التشيلية؛ وإنشاء مكتباتٍ زاخرة بالكتب الجيولوجية الجيدة التجليد، وجلب عمال مناجم من أجل التنقيب عن معادنَ معينةٍ، مثل القصدير، الذي لا وجود له في تشيلي، بالإضافة إلى عقود إمداد عمال المناجم باللبن، في مناطق لا يوجد بها أبقار، وجلب ماكينات في أماكن لا يمكن استخدامها فيها، علاوة على مئات الترتيبات المشابهة، التي تشهد على سذاجتنا، وتمثل حتى يومنا مصدرًا لتسلية السكان الأصليين، ولكن لا يمكن أن يكون ثمة شكٌّ في أن الاستثمار الجيد لنفس القدر من رأس المال في هذه المناجم كان من شأنه أن يدرَّ عائدًا ضخمًا؛ كل ما كان يتطلَّبه الأمر هو رجل أعمال موضع ثقة، وعامل مناجم كفء، وخبير في تحليل المعادن.
وصف كابتن هيد الحمولة المذهلة التي يحملها عمال المناجم، وكأنهم دواب سخرة حقًّا، من أعماق المناجم. وأعترف أنني كنت أظن أن الرواية مُبالَغ فيها؛ لذا سعدت حين سنحت لي فرصة لأزن إحدى الحمولات التي التقطتها على سبيل المجازفة. تطلب الأمر مجهودًا ضخمًا من جانبي حين وقفتُ فوقها مباشرة لأرفعها من على الأرض. كانت الحمولة تعتبر ناقصة الوزن حين تبيَّن أن وزنها ١٩٧ رطلًا. وقد حمل عامل المناجم هذه الحمولة لأعلى؛ لمسافة ثمانين ياردة في وضعٍ عمودي، وكان جزء من المسافة عبارة عن ممرٍّ منحدر؛ إلا أن الجزء الأكبر عبارة عن دعامات مسننة، موضوعة في خطٍّ متعرج يصل إلى أعلى فوَّهة المنجم. ووفقًا للائحة التعليمات العامة، لا يُسمح لعامل المناجم أن يتوقَّف لالتقاط أنفاسه؛ إلا إذا كان المنجم على عمق ٦٠٠ قدم. ويعتبر متوسط الأحمال أكثر من ٢٠٠ رطل، وقد أُكِّد لي أن حمولةً تبلغ ٣٠٠ رطل (اثنين وعشرين ونصف ستُون) رُفعت لأعلى من أعمق المناجم على سبيل التجربة! في هذه المرة، كان عمال المناجم يرفعون الحمولة المعتادة اثنتي عشرة مرةً في اليوم؛ أي ٢٤٠٠ رطل من على عمق يبلغ ثماني ياردات، وكانوا يُستغلون في الفترات الفاصلة في تكسير المعدن الخام وتجميعه.
يتمتع هؤلاء الرجال بصحةٍ جيدة — إلا عند وقوع الحوادث — وتبدو عليهم السعادة. ولا يحظون بأجسادٍ مفتولة العضلات للدرجة. ونادرًا ما يأكلون اللحم إلا مرةً واحدة أسبوعيًّا، لا أكثر من ذلك، وكان يقتصر على اللحم البقري المقدَّد الجاف. وعلى الرغم من معرفة أن هذا العمل كان تطوعيًّا، كان من المثير للاشمئزاز للغاية أن ترى الحالة التي يكونون عليها عند الوصول إلى فوهة المنجم؛ فكانت أجسادهم منحنية إلى الأمام، ويستندون بأذرعهم على الدرجات وأرجلهم مقوسة، وعضلاتهم مرتعشة، والعرق يتصبَّب من وجوههم فوق صدورهم وأنوفهم منتفخة، وزوايا أفواههم مُتهدِّلة لأسفل قسرًا، ويزفرون أنفاسهم بصعوبةٍ بالغة. وفي كل مرة يأخذون شهيقًا، يصدر منهم صيحة تشبه الألم تنتهي بصوت يأتي من أعماق الصدر، ولكنها حادة مثل نغمة الناي. وبعد الترنُّح حتى الوصول إلى كومة المعدن الخام، يفرغون «المعلاق الجلدي»، وفي غضون ثانيتَين أو ثلاث يستعيدون أنفاسهم، ويمسحون العرق المتصبِّب من فوق جباههم، وينزلون بنشاطٍ ظاهري إلى المنجم مرةً أخرى بخطًى سريعة. يبدو هذا بالنسبة إليَّ مثالًا رائعًا على حجم المجهود الذي يتحمله الإنسان بدافع العادة، لأنه لا شيء عدا ذلك يجعله يتحمل.
في المساء، وأثناء حديثي مع «عمدة» هذه المناجم عن عدد الأجانب المنتشرين في كل أنحاء البلاد، أخبرني بأنه يتذكر أنه حين كان صبيًّا في المدرسة بمدينة كوكيمبو، رغم أنه في ريعان شبابه، مُنحوا إجازة لرؤية قبطان سفينةٍ إنجليزية جيء به إلى المدينة ليتحدث إلى الحاكم. ويُعتقَد أنه ما كان لشيء أن يحثَّ أي صبي في المدرسة، بمن فيهم هو نفسه، على الاقتراب من الرجل الإنجليزي؛ نظرًا لما كان منطبعًا في أذهانهم بقوة من أفكار الهرطقة والفساد والشر المستمدَّة من التواصل مع شخص كهذا. وحتى يومنا هذا يحكون عن الأفعال الوحشية للقراصنة؛ لا سيما لأحد الرجال سرق صورة السيدة مريم العذراء، وعاد بعد عام لسرقة صورة سانت جوزيف، قائلًا إنه من المؤسف أن تبقى السيدة بلا زوج. كما سمعت أيضًا عن سيدةٍ عجوز، على العشاء بمدينة كوكيمبو، تشير إلى كمْ هو غريب أنها عاشت حتى شهدت اللحظة التي تجلس في الغرفة نفسها مع رجل إنجليزي؛ إذ تذكرت في صباها أنه ما من أحد يسمع صيحة «لوس أنجلوس» إلا ويتوجه إلى الجبال محملًا بكل ما هو ثمين.
•••
في المساء، كنا نتناول أنا والكابتن فيتزروي العشاء مع السيد إدواردز، وهو رجلٌ إنجليزيٌّ مقيم هنا، اشتهر بحسن ضيافته لكل من زار مدينة كوكيمبو، حين وقع زلزالٌ عنيف. سمعت صوت هديره الوشيك، إلا أنني عجزت عن تمييز الحركة من صراخ السيدات وركض الخدم واندفاع السادة إلى مدخل الباب. أخذَتْ بعض السيدات يصرخن في فزع بعد ذلك، وعلق أحد السادة قائلًا: إنه لن يستطيع حتمًا أن ينام طوال الليل، وإن فعل، فلن يكون ذلك إلا ليحلم بالمنازل المتساقطة. كان والد هذا الشخص قد فقد مؤخرًا جميع ممتلكاته بمدينة تالكاهوانو، وهو نفسه نجا توًّا من سقوط سقف عليه في مدينة فالبارايزو عام ١٨٢٢. وذكر حادثًا غريبًا وقع بعد ذلك؛ إذ كان يلعب الورق، حين وقف رجلٌ ألماني — من المجموعة — وقال إنه لن يجلس أبدًا في غرفةٍ مغلق بابُها بهذه البلاد؛ لأنه حين فعل ذلك، كاد يفقد حياته في بلدة كوبيابو. وهكذا، فتح الباب، وما إن فعل حتى صاح: «ها قد جاءت مرةً أخرى!» وبدأت الهزة الشهيرة، وفرت المجموعة بأكملها. لا تكمن خطورة الزلازل في الوقت الضائع في فتح الأبواب؛ وإنما في احتمالية أن ينحشر الباب من جراء خلخلة الجدران.
من المستحيل أن يندهش المرء كثيرًا من الخوف الذي يصيب السكان الأصليين والمقيمين من كبار السن عمومًا أثناء وقوع الزلازل، رغم أن بعضهم معروف بكونهم رجالًا ذوي حكمةٍ عظيمة. غير أن هذا الذعر المبالَغ فيه في ظني قد يُعزى جزء منه إلى الافتقار إلى عادة التحكم في خوفهم، بما أنه شعور لا يخجلون منه. بل إن السكان الأصليين، في الواقع، لا يروق لهم رؤية شخصٍ غير مُبالٍ. ولقد سمعت أن رجلَين إنجليزيَّين كانا ينامان في الهواء الطلق أثناء وقوع هزةٍ مفاجئة؛ ونظرًا لعلمهما بعدم وجود أي خطورة، لم يستيقظا. صرخ السكان الأصليون في سخط قائلين: «انظروا إلى هذين الملحدين؛ إنهما لم يتحركا حتى من فراشهما!»
•••
قضيت بضعة أيام في فحص المصاطب الجيولوجية المدرجة المتكونة من الحصى، التي لاحظها لأول مرة كابتن بي هول، والتي اعتقد السيد لايل أنها قد تكوَّنت بالقرب من البحر أثناء الارتفاع التدريجي للأرض. وهذا بالتأكيد هو التفسير الحقيقي؛ إذ وجدت على هذه المصاطب العديد من القواقع من أنواعٍ موجودة بالفعل. ترتفع خمس مصاطبَ ضيقةٍ منحدرة بدرجةٍ بسيطةٍ شبيهة بالأهداب، الواحدة خلف الأخرى، حيث تتكون أفضلها تطورًا من الحصى؛ وهي تقع في مواجهة الخليج، وتكتسح جانبي الوادي كليهما. وفي جواسكو، شمالي كوكيمبو، تتضح الظاهرة على نطاقٍ أكبر كثيرًا، لدرجة تصيب حتى بعض السكان بالدهشة. فالمصاطب هناك أكثر رحابة، وربما يُطلق عليها سهول، وفي بعض المناطق يصل عددها إلى ست، ولكنها بوجهٍ عام لا تزيد عن خمس فقط، وتمتد على طول الوادي لمسافة ٣٧ ميلًا من الساحل. وهذه المصاطب المدرجة أو الأهداب تشبه إلى حد بعيد تلك الموجودة في سانت كروز، كما أنها تشبه تلك المصاطب الضخمة التي تمتدُّ على طول خط ساحل باتاجونيا، فيما عدا أنها على نطاق أصغر. ولا شك أنها تكوَّنت بفعل قوى التعرية الخاصة بالبحار، خلال فتراتٍ طويلة من توقف الارتفاع التدريجي للقارة.
والعديد من أنواع القواقع الموجودة حاليًّا لا توجد وحسب على سطح المصاطب الجيولوجية بمدينة كوكيمبو (حتى ارتفاع يصل إلى ٢٥٠ قدمًا)، ولكنها مطمرة أيضًا في صخرةٍ كلسيةٍ سهلة التَّفتُّت يتراوح سُمكها في بعض المناطق ما بين عشرين وثلاثين قدمًا، ولكنها ذات مدًى محدود. وهذه الطبقات الحديثة ترتكز على تكوينٍ قديم يعود إلى العصر الجيولوجي الثالث يحتوي على قواقعَ من أنواعٍ انقرضت جميعًا فيما يبدو. وعلى الرغم من أنني فحصتُ مئات الأميال على ساحل المحيط الهادي وكذلك على الجانب الأطلنطي من القارة، لم أجد طبقاتٍ منتظمةً تحتوي على أصدافٍ بحرية لأنواعٍ حديثة، في غير هذا المكان، وعلى بضع نقاط شمالًا على الطريق المؤدي إلى جواسكو. تبدو هذه الحقيقة بالنسبة إليَّ لافتةً للنظر بشدة؛ لأن التفسير الذي يقدمه الجيولوجيون بوجهٍ عام لغياب الرواسب الأحفورية الطباقية لفترةٍ معينة في أي منطقة، تحديدًا لتفسير كون السطح الذي كان موجودًا آنذاك أرضًا يابسة، هو تفسير غير عملي هنا؛ إذ نعرف من القواقع المنتشرة على السطح والمطمرة في الرمال أو التراب الناعم، أن اليابسة على امتداد آلاف الأميال على كلا الساحلين قد غُمرت بالمياه مؤخرًا. ولا شك أنه يجب السعي وراء التفسير في ضوء حقيقة أن الجزء الجنوبي من القارة بأكمله كان يرتفع ببطء على مدار فترةٍ طويلة؛ ولذا فإن جميع المادة المترسِّبة على امتداد الساحل في المياه الضحلة لا بد أنها سرعان ما كانت تطفو لأعلى وتتعرَّض ببطء إلى تأثير تآكل شاطئ البحر، وأنه في المياه الضحلة نسبيًّا فقط يمكن أن يزدهر العدد الأكبر من الكائنات البحرية العضوية، وفي تلك المياه يستحيل تراكم طبقاتٍ ذات سمكٍ كبير. ومن أجل إبراز القدرة الهائلة لتأثير تآكل شواطئ البحار، ما علينا إلا أن نستشهد بالمنحدرات الضخمة عبر ساحل باتاجونيا الحالي، والخنادق أو المنحدرات البحرية القديمة على مختلف المستويات، واحدًا فوق الآخر، على ذلك الخط الساحلي نفسه.
يبدو التكوين الدفين القديم والذي يعود إلى العصر الجيولوجي الثالث في مدينة كوكيمبو تقريبًا في نفس عمر رواسبَ متعددة على ساحل تشيلي (الذي يعد ساحل نافداد هو الساحل الرئيسي فيها)، وعمر التكوين العظيم لباتاجونيا. ويوجد في كل من نافداد وباتاجونيا دليل على أنه نظرًا لأن القواقع (التي رأى البروفسير إيه فوربس العديد منها) المدفونة هناك كانت حية، فقد حدث هبوط لمسافة عدة مئات من الأقدام، وكذلك ارتفاع أعقبه لاحقًا. ولعل من الطبيعي أن نتساءل كيف، بالرغم من عدم بقاء أي رواسبَ أحفوريةٍ ممتدة من الحقبة الحديثة، ولا أي حقبةٍ وسيطة بينها وبين الحقبة الجيولوجية الثالثة القديمة، على جانبَي القارة، ترَّسبت في هذه الحقبة الجيولوجية الثالثة مادةٌ رسوبية تحتوي على بقايا أحفوريةٍ ترسَّبت وبقيت عند نقاطٍ مختلفة على الخطوط الشمالية والجنوبية، على مسافة ١١٠٠ ميل على شواطئ المحيط الهادي، وعلى مسافة ١٣٥٠ ميلًا على الأقل على شواطئ المحيط الأطلنطي، وفي خطٍّ شرقي وغربي لمسافة ٧٠٠ ميل عبر الجزء الأوسع نطاقًا من القارة؟ أعتقد أن التفسير ليس صعبًا، وربما ينطبق على حقائقَ شِبهِ مماثلة جرت ملاحظتها في بقاعٍ أخرى من العالم. ومع الوضع في الاعتبار ما للبحر من قوة تعريةٍ هائلة، كما يتبيَّن من حقائق لا حصر لها، ليس من المرجَّح أن يكون هناك تكوينٌ رسوبي قد تمكَّن — عند تعرضه للرفع — من الصمود في وجه الصعاب على الشاطئ، بحيث يحفَظ بكمياتٍ كافية تصمد لفترةٍ ممتدة، ما لم يكن ذا مدًى شاسعٍ وسمكٍ كبير بالأساس؛ فمن المستحيل في الوقت الحالي في قاعٍ متوسط الضحالة، والذي يعد الموضع الوحيد الملائم لمعظم الكائنات الحية، انتشار طبقةٍ سميكة وممتدة على نطاقٍ واسع من الرواسب، بدون أن يغوص القاع إلى أسفل ليستقبل الطبقات المتتالية. ويبدو أن هذا حدث بالفعل في الفترة نفسها تقريبًا في جنوب باتاجونيا وتشيلي، على الرغم من أن هذين المكانَين يفصلهما آلاف الأميال. وبناءً عليه، إذا كانت حركات الهبوط الممتدة وشبه المعاصرة تحدث على نطاق ممتد على نحوٍ كبير بوجهٍ عام، وأنا أميل بشدة إلى هذا الاعتقاد من واقع معاينتي للشُّعب المرجانية بالمحيطات الكبرى، أو من خلال حصر رؤيتنا على أمريكا الجنوبية، إذا كانت حركات الهبوط قد امتدت على نحوٍ متساوٍ مع حركات الصعود التي ارتفعت بفعلها شواطئ بيرو وتشيلي وأرخبيل أرض النار وباتاجونيا ولابلاتا خلال نفس فترة تكوُّن القواقع؛ حينئذٍ نستطيع أن نلاحظ أنه في الوقت نفسه، في نقاطٍ بعيدة، كانت الظروف لتصبح مواتية لتكوين رواسبَ أحفوريةٍ متحجرة ذات مدًى واسعٍ وسمكٍ كبير؛ ومن ثم كان سيتاح لمثل هذه الرواسب فرصةٌ كبيرة لمقاومة تآكل الخطوط الساحلية المتوالية، والبقاء حتى حقبةٍ مستقبلية.
•••
•••
•••
•••
•••
مكثنا يومَين في فريرينا. في وادي جواسكو يوجد أربع بلداتٍ صغيرة. وعند مصب النهر يوجد الميناء، وهي منطقةٌ مهجورة بالكامل، ومن دون أي ماء في الأنحاء المجاورة المباشرة. وعلى مسافة خمسة فراسخ أعلى النهر توجد فريرينا، وهي قريةٌ طويلةٌ متناثرة الأطراف بلا نظام، بها منازل لا بأس بها مطلية باللون الأبيض. ومجددًا، على مسافة عشرة فراسخ أعلى النهر تقع باينار، وأعلاها جواسكو ألتو، وهي قريةٌ عامرة بالبساتين وتشتهر بالفاكهة المجفَّفة. وفي يوم صافٍ يكون المشهد أعلى الوادي في غاية الروعة؛ إذ تنتهي الفتحة ذات الشكل المستقيم في سلسلة الجبال الثلجية البعيدة، وعلى كلا الجانبَين ثمة عددٌ لا نهائي من الخطوط المتقاطعة ملتحمة معًا في غيمةٍ جميلة. كان المشهد الأمامي متفردًا نتيجة عدد المصاطب المتدرِّجة المتوازية، وشريط الوادي الأخضر الذي تحويه داخلها، بما فيه من شجيرات الصفصاف، والتي تتباين معها التلال العارية الجرداء على كلا الجانبين. من السهل تصديق أن المنطقة المحيطة كانت جرداء في معظمها، خاصة حين يُعرَف أنه لم تسقط زخَّة مطر خلال الشهور الثلاثة عشر الماضية. لقد سمع السكان والحسد يملؤهم بالأمطار التي سقطت في كوكيمبو، ومن مظهر السماء كان الأمل يحدوهم في أن يحالفهم حظٌّ سعيد مشابه، وهو ما تحقق بالفعل بعد أسبوعَين. كنتُ في كوبيابو في ذلك الوقت، وتحدث الناس، بحسدٍ مماثل، عن المطر الوفير في جواسكو. فبعد عامَين أو ثلاثة أعوام من الجفاف الشديد، ربما باستثناء زخة مطر واحدة خلال تلك الفترة بأكملها، حلَّ عامٌ مطير، وتسبب هذا في ضررٍ أفدحَ مما تسبَّب فيه الجفاف؛ فقد فاضت الأنهار، وغُطِّيت بالحصى والرمال شرائطُ الأرض الضيقة الوحيدة الصالحة للزراعة. وأضرَّت الفيضانات كذلك بقنوات الري. وبهذا وقع دمارٌ عظيم قبل ثلاث سنوات مضت.
•••
•••
كان معي خطاب تقديم إلى السيد بينجلي، الذي استقبلني بلطفٍ بالغ في مزرعة بوتريرو سيكو. يتراوح طول هذه الضيعة بين عشرين وثلاثين ميلًا، لكنها ضيقة للغاية؛ إذ لا يبلغ عرضها إلا حقلَين فقط، واحد على كل ضفة من ضفتَي النهر. في بعض الأنحاء لا يوجد للضيعة عرض؛ بمعنى أن الأرض هناك لا يمكن ريُّها، ومن ثم فهي عديمة القيمة، مثل الصحراء الصخرية المحيطة بها. والقدر الصغير من الأرض المزروعة في خط الوادي كله لا يعتمد كثيرًا على تفاوت الارتفاع، وبالتالي عدم صلاحيتها للري، مثلما تعتمد على إمداد المياه المحدود. كان النهر في هذا العام ممتلئًا بدرجةٍ كبيرة، وهنا، في أعلى الوادي، كان يصل إلى بطون الخيول، وكان يبلغ عرضه خمس عشرة ياردة، وكان سريع الجريان، وفي أدناه يصير أصغر وأصغر، ويتبخر في معظمه، كما حدث خلال فترة امتدت ثلاثين عامًا، بحيث لم تصبَّ منه قطرةٌ واحدة في البحر. يراقب السكان أي عاصفة فوق سلسلة الجبال باهتمامٍ بالغ؛ إذ إن هطول قدرٍ جيد من الثلج مرةً واحدة من شأنه أن يُمدَّهم بالماء للعام القادم. وهذا المطر أشد تأثيرًا بكثير من المطر المتساقط على الجزء السفلي من المنطقة. فالمطر، الذي يسقط حوالي مرة كل عامَين أو ثلاثة أعوام، يُعدُّ ميزةً عظيمة؛ لأن الماشية والبغال تستطيع بعده أن تجد بعض الكلأ في الجبال لبعض الوقت، لكن مع غياب جليد الأنديز، يمتد الجَدْب عبر جميع أنحاء الوادي. ومن الأحداث المسجَّلة أن جميع السكان تقريبًا اضطروا إلى الهجرة جنوبًا ثلاث مرات. وفي هذا العام كانت المياه وفيرة، وروى كل شخص أرضه كيفما شاء، لكن كان من الضروري في كثير من الأحيان نشر جنود عند الأهوسة، للتأكد من أن كل ضيعة كانت تأخذ حصتها المسموح بها من الماء خلال ساعاتٍ كثيرة من الأسبوع. ويقال إن الوادي يضم ١٢ ألف شخص، لكن إنتاجه لا يكفي إلا لثلاثة أشهر فقط في العام، والباقي يأتي من فالبارايزو ومن الجنوب. وقبل اكتشاف مناجم الفضة الشهيرة في شانوشيو، كان وادي كوبيابو في حالة خرابٍ متسارع، لكنه الآن في حالة ازدهار عظيمة، كما أعيد بناء البلدة التي كانت قد تهدَّمت بالكامل بفعل أحد الزلازل.
يمتد وادي كوبيابو، الذي يشكل شريطًا ضيقًا وحسب من اللون الأخضر وسط صحراء، في اتجاهٍ جنوبيٍّ مباشر؛ ومن ثم يمتد في امتدادٍ كبير إلى منبعه في سلسلة الجبال. من الممكن اعتبار واديي جواسكو وكوبيابو جزيرتَين طويلتَين ضيقتَين، تفصلهما عن بقية تشيلي صحارٍ من الصخور بدلًا من المسطحات المائية المالحة. وإلى الشمال من هذين الواديَين، يوجد وادٍ آخر شديد البؤس، يسمى بابوسو، يُؤْوي نحو مائتي شخص، وبعد ذلك تمتد صحراء أتاكاما الفعلية؛ وهي حاجز أسوأ بكثير من أشد المحيطات اضطرابًا. بعد المكوث لبضعة أيام في بوتريرو سيكو، انطلقت عبر الوادي إلى منزل دون بينيتو كروز، الذي كان معي خطاب تقديم له. وقد وجدته مضيافًا إلى أقصى درجة؛ في الواقع من المستحيل أن يكون ثمة مبالغةٌ في إقرار اللطف الذي يُستقبَل به المسافرون في كل أنحاء أمريكا الجنوبية تقريبًا. في اليوم التالي استأجرتُ بعض البغال لتُقلَّنا عن طريق خور خولكيرا إلى سلسلة الجبال المركزية. وفي الليلة الثانية بدا الجو وكأنه يُنذر بهبوب عاصفةٍ من الثلج أو المطر، وبينما كنا مستلقين في أسِرَّتنا شعرنا بهزةٍ زلزاليةٍ خفيفة.
أما ولم نجد الكثير مما يثير الاهتمام في هذا الجزء من الخور، فقد عُدنا أدراجنا إلى منزل دون بينيتو، وهناك مكثتُ مدة يومين أجمع الخشب والقواقع الأحفورية. كان ثمة وفرةٌ استثنائية في جذوع الأشجار الكبيرة المتحجِّرة بالسليكا، والتي كانت مطمرة في إحدى صخور الرصيص الرسوبية. وقد قست واحدًا منها وكان محيطه خمسة عشر قدمًا؛ كم كان مدهشًا أن كل ذرة من المادة الخشبية في هذه الأسطوانة الضخمة قد أُزيلت وحلَّت محلها السيليكا بصورةٍ مثالية؛ لدرجة أن كل وعاء ومسامٍّ كان محفوظًا! ازدهرت هذه الأشجار خلال الحقبة الطباشيرية السفلى، وكلها تنتمي إلى أشجار الشوح. كان من المسلِّي سماع السكان وهم يناقشون طبيعة القواقع الأحفورية التي جمعتها، بالمصطلحات ذاتها التي كانت مستخدمة في إنجلترا منذ قرنٍ مضى؛ وتحديدًا ما إذا كانت «من صنع الطبيعة» أم لا. وقد أثار فحصي الجيولوجي للأرض عمومًا قدرًا كبيرًا من الدهشة بين التشيليين، ومضى وقتٌ طويل قبل أن يقتنعوا بأنني لم أكن أبحث عن المناجم. كان هذا الأمر مزعجًا أحيانًا؛ وقد وجدت أن الطريقة الأسهل لتوضيح ما أقوم به هو أن أسألهم كيف أنهم غير مهتمين بالزلازل والبراكين؟ لماذا يكون بعض الينابيع ساخنًا وبعضها باردًا؟ ولماذا كانت توجد جبال في تشيلي دون أن يوجد تلٌّ واحد في منطقة لابلاتا؟ كانت هذه الأسئلة المجردة ترضي غالبيتهم وتسكتهم، غير أن بعضهم (شأن بعض الإنجليز المتأخرين بنحو قرن) كانوا يرون أن كل هذه الأسئلة عديمة المعنى وآثمة، وأنه كان كافيًا تمامًا أن الرب قد خلق الجبال على هذا النحو وكفى.
أُصدر أمرٌ مؤخرًا بقتل كل الكلاب الضالة، وشاهدنا الكثير منها يرقد نافقًا على الطريق. كان عددٌ كبير منها قد أُصيب بالسُّعار مؤخرًا، وتعرض أشخاصٌ كثر للعقر الذي أودى بحياتهم. وقد تفشَّى داء الكلب عدة مرات في هذا الوادي. ومن المدهش أن نجد مثل هذا المرض الغريب والمفزع يظهر مرة تلو الأخرى في البقعة المنعزلة عينها. وكان قد أُشير إلى أن ثمة قرًى بعينها في إنجلترا أكثر عرضة بالمثل إلى تفشي هذا المرض بها مقارنة بغيرها. وقد صرح د. أونانو بأن داء الكلب عُرف لأول مرة في أمريكا الجنوبية في ١٨٠٣، ويعضد هذا التصريح كلٌّ من أزارا وأولوا اللَّذَيْن لم يسمعا به في زمنهما. ويقول د. أونانو إنه تفشَّى في أمريكا الوسطى، وانتقل ببطء إلى الجنوب. وقد وصل إلى أركويبا في عام ١٨٠٧، ويقال إن بعض الرجال هناك، الذين لم يتعرضوا للعَقْر، أصيبوا به، وكذلك بعض الزنوج الذين أكلوا ثورًا كان قد مات جراء إصابته بداء الكلب. وفي إيكا، توفي اثنان وأربعون شخصًا بهذه الصورة المأساوية.
في المساء وصل غريب إلى منزل دون بينيتو وطلب الإذن بالمبيت هناك. قال إنه ظل يجوب الجبال سبعة عشر يومًا، بعدما ضلَّ طريقه. كان قد انطلق من جواسكو، ولأنه كان معتادًا على التنقل في سلسلة الجبال، لم يتوقع أن يجد أي صعوبة في اقتفاء الأثر حتى كوبيابو، لكنه سرعان ما علق في متاهة من الجبال لم يستطع الإفلات منها. كانت بعض بغاله قد سقطت من فوق حواف الجُروف وكان في كربٍ عظيم. وقد نبعت الصعوبة الأساسية التي واجهها في عدم معرفته أين يجد الماء في الأراضي المنخفضة، وبذا كان مجبرًا على البقاء على أطراف السلاسل الجبلية المركزية.
عدنا عبر الوادي، وفي يوم ٢٢ وصلنا إلى بلدة كوبيابو. إن الجزء الخفيض من الوادي عريض، ويُشكِّل سهلًا رائعًا يشبه ذلك الموجود في كيوتا. تغطي البلدة مساحةً كبيرة من الأرض، وكل منزل له حديقة؛ لكنها مكان غير مريح، وكانت المنازل سيئة التأثيث. يبدو أن الكل منشغل بجمع المال، ثم الهجرة بأسرع ما يمكن. كان السكان كلهم تقريبًا مهتمين اهتمامًا مباشرًا بالمناجم، وكانت المناجم وعروق الخام هي موضوعات الحديث الوحيدة. كانت الضروريات بمختلف أنواعها شحيحة للغاية؛ لأن المسافة من البلدة إلى الميناء تبلغ ثمانية عشر فرسخًا، وكان النقل البري مكلِّفًا للغاية. كانت الدجاجة تكلِّف خمسة أو ستة شلنات، وكان اللحم شحيحًا مثلما كان في إنجلترا، وكان خشب التدفئة، أو بالأحرى العصي، يُجلَب على ظهور الحمير من مسافة تقطع في يومَين أو ثلاثة أيام داخل سلسلة الجبال، وكان علف الحيوانات يتكلف شلنًا يوميًّا، وكل هذا بمقاييس أمريكا الجنوبية تكلفةٌ باهظة للغاية.
•••
واصلنا المسيرة بعد حلول الظلام، حتى وصلنا إلى خورٍ جانبي به بئرٌ صغيرة تسمى «أجوا امارجا»، أو «الماء المر». كان الماء يستحق اسمه؛ إذ بجانب كونه مالحًا، كان آسنًا ومُرًّا على نحوٍ بشع؛ حتى إننا لم نستطع حمل أنفسنا على شرب الشاي أو المتَّة. أعتقد أن المسافة من نهر كوبيابو إلى هذه البقعة كانت لا تقل عن خمسة وعشرين أو ثلاثين ميلًا إنجليزيًّا، ولم يكن في المنطقة كلها نقطة مياهٍ واحدة؛ لذا استحقَّت أن يُطلَق عليها صحراء بكل ما في الكلمة من معنًى، لكن بعد حوالي منتصف الطريق عبرنا بعض الأطلال الهندية القديمة بالقرب من بونتا جوردا، ولاحظت أيضًا أمام بعض الوديان المتفرعة من الوادي المهجور كومتَين من الأحجار تفصل بينهما مسافةٌ صغيرة، وهما موجهتان بحيث تشيران إلى ثغور هذه الوديان الصغيرة. لم يكن رفاقي يعلمون شيئًا عنها، ولم يجيبوا عن تساؤلاتي إلا بهدوءٍ جم وهم يقولون: «ومن يدري؟!»
لاحظت وجود أطلالٍ هندية في عدة مواضع من سلسلة الجبال، وكان أكثر ما رأيت اكتمالًا أطلال تامبيو الواقعة على طريق أوسبالاتا. هناك كان يوجد غرفٌ مربعةٌ صغيرة مجتمعة معًا في مجموعاتٍ منفصلة؛ كانت بعض المداخل لا تزال قائمة؛ وكانت عبارة عن لوحٍ حجري على شكل صليب لا يتجاوز ارتفاعه حوالي ثلاث أقدام. وقد أشار أولوا إلى انخفاض الأبواب في المنازل البيروفية القديمة. لا بد أن هذه المنازل، حين كانت في حالتها المكتملة، كانت قادرة على احتواء عددٍ كبير من الأشخاص. ويقول الأثر إنها كانت مستخدمة كمواضع توقُّف لهنود الإنكا حين يعبرون الجبال. وقد اكتُشفت آثارٌ للمساكن الهندية في العديد من الأجزاء الأخرى، حيث لا يبدو على الأرجح أنهم كانوا يستخدمونها كمجرد أماكن للاستراحة، إلا أن الأرض غير صالحة تمامًا لأي نوع من الزراعة كما هو الحال بالقرب من تامبيو أو عند جسر الإنكا أو طريق بورتيو، التي رأيت فيها جميعًا أطلالًا. في خور جاجويل، بالقرب من أكونكاجوا، حيث لا يوجد أي طريق للمرور، سمعت عن أطلال منازل تقع على ارتفاعٍ كبير، حيث البرودة والجَدْب الشديدَان. في البداية، تخيلتُ أن هذه المباني كانت ملاجئ، شيَّدها الهنود عند وصول الإسبان لأول مرة؛ إلا أنني منذ ذلك الحين أميل نحو تخمين احتمالية حدوث تغيرٍ طفيف في المناخ.
في هذا الجزء الشمالي من تشيلي، داخل سلسلة الجبال، يُقال إن أعداد بيوت الهنود القديمة كثيرةٌ جدًّا؛ فمن خلال الحفر بين الأطلال، كثيرًا ما يُكتشف قطع ملابسَ صوفية، وأدوات من معادنَ ثمينة، ورءوس ذرة هندية؛ وقد أُهدِيَ إليَّ رأس سهمٍ مصنوع من العقيق، وبنفس شكل تلك الرءوس المستخدمة في أرض النار تمامًا. أُدرك أن هنود بيرو دائمًا ما يعيشون الآن في أكثر الأماكن علوًّا وبرودة؛ إلا أنه في كوبيابو أكد لي رجالٌ قضوا حياتهم في الترحال والتنقل عبر جبال الأنديز، أن ثمة الكثير من المباني على ارتفاعاتٍ كبيرة للغاية حتى تكاد تتاخم مناطق الثلوج الدائمة، وفي أجزاءٍ أخرى حيث لا يوجد فيها أي ممرات أو طرق، ولا تنتج الأرض أي شيء على الإطلاق، ولا توجد مياه، وهو الأمر الأغرب. مع ذلك، يرى أهل المنطقة (رغم حيرتهم الشديدة إزاء الأمر) أنه من الشكل الخارجي للبيوت، يبدو أن الهنود حتمًا كانوا يستخدمونها كأماكن للسكنى. وفي هذا الوادي، في بونتا جوردا، كان ما تبقى منها عبارة عن سبع أو ثماني غرفٍ مربعةٍ صغيرة، شبيهة بتلك الموجودة في تامبيو، إلا أنها مبنية بالأساس من الطين، ولا يستطيع السكان الحاليون، سواء هنا أو في بيرو، وفقًا لأولوا، محاكاتها في المتانة. كانت تقع في أكثر المواقع بروزًا وبلا حماية، عند قاع الوادي الفسيح المستوي. وكانت أقرب مسافة وجدت عليها المياه تتراوح من ثلاثة أو أربعة فراسخ، وبكميةٍ ضئيلةٍ جدًّا وفي حالةٍ سيئة؛ وكانت التربة جدباء تمامًا؛ إذ أخذتُ أبحث عبثًا ولو عن أُشْنةٍ واحدةٍ ملتصقة بالصخور. في الوقت الحاضر، ومع ميزة وجود دواب الحمل، قليلًا ما يتم تشغيل منجم هنا بحيث يحقق ربحًا، ما لم يكن المنجم ثريًّا للغاية. ورغم ذلك، اختار الهنود فيما مضى هذه المنطقة كمكان للسكنى! ولو تساقطت الأمطار مرتين أو ثلاث مرات في الوقت الحالي بصفةٍ سنوية، بدلًا من مرةٍ واحدة، كما هو الحال الآن، على مدار عدة سنوات، لربما تكوِّن جدولًا مائيًّا صغيرًا في هذا الوادي الكبير؛ ومن ثم، سيكون من السهل، من خلال الري (الذي كان الهنود يفهمونه فيما مضى تمام الفهم)، أن تصبح مثمرة بالقدر الكافي لإعالة بضع أسر.
لديَّ أدلةٌ مقنعة على أن هذا الجزء من قارة أمريكا الجنوبية قد ارتفع بالقرب من الساحل لمسافة تتراوح من ٤٠٠ إلى ٥٠٠ قدم على الأقل، وفي بعض الأجزاء من ١٠٠٠ إلى ١٣٠٠ قدم، منذ حقبة القواقع الموجودة حاليًّا، وبالتوغل أكثر داخل المنطقة صار الارتفاع أكبر على الأرجح. ونظرًا لما هو واضح من أن الطبيعة الجافة الاستثنائية للمناخ هي نتيجة لارتفاع سلسلة الجبال، فقد يكون لدينا شبه يقين أنه لا يمكن أن يكون الغلاف الجوي فيما سبق منزوع الرطوبة تمامًا قبل سلسلة الارتفاعات الأخيرة، كما هو الحال الآن؛ ونظرًا لأن الارتفاع كان تدريجيًّا، كذلك كان التغير في المناخ. وفيما يتعلق بفكرة حدوث تغير في المناخ منذ صارت المباني آهلة بالسكان، فلا بد أن الأطلال قد صارت عتيقة للغاية، ولكني لا أظن أن بقاءها في ظل المناخ التشيلي يمثل أي صعوبةٍ بالغة. علينا أيضًا أن نقرَّ في إطار هذه الفكرة (وهو ما قد يمثل صعوبةً أكبر) أن الإنسان قد استوطن أمريكا الجنوبية لفترةٍ طويلة جدًّا، بما يعني أن أي تغيير في المناخ من أثر ارتفاع الأرض قد حدث حتمًا على نحوٍ تدريجيٍّ للغاية. ففي فالبارايزو، وخلال آخر ٢٢٠ سنة، كان الارتفاع نوعًا ما أقل من ١٩ قدمًا، وفي مدينة ليما ارتفع شاطئ البحر قطعًا مسافة تتراوح من ٨٠ إلى ٩٠ قدمًا، خلال حقبة الهنود الأصليين؛ إلا أن مثل هذه الارتفاعات الضئيلة ربما كان لها تأثيرٌ محدود على انحراف اتجاه التيارات الجوية المسببة للرطوبة. غير أن د. لوند وجد هياكلَ عظميةً بشرية في كهوف البرازيل، والتي دفعته، من مظهرها الخارجي، إلى الاعتقاد بأن العرق الهندي وُجد خلال فترةٍ زمنيةٍ طويلة في أمريكا الجنوبية.
•••
•••
الحيوان الوحيد الآخر الذي رأيناه بأعدادٍ كبيرة هو الثعلب الصغير؛ أظن أن هذا الحيوان يتغذى على الفئران وغيرها من القوارض الصغيرة، التي تعيش بأعدادٍ كبيرة في أماكنَ قاحلةٍ للغاية، طالما وجد أقل قدر من النباتات. وفي باتاجونيا، حتى على حدود البحيرات المالحة، حيث قد يتعذَّر العثور على قطرة ماءٍ عذبٍ واحدة، باستثناء قطرات الندى، تحتشد هذه الحيوانات الصغيرة. تبدو الفئران — جنبًا إلى جنب مع السحالي — قادرةً على البقاء على أصغر رقع الأرض وأكثرها جفافًا، حتى على الجُزَيِّرَات وسط المحيطات الكبيرة.
عمَّت الوحشةُ المشهدَ على جميع الجوانب، وبدا ساطعًا وواضحًا بفعل السماء الصافية الخالية من الغيوم. أحيانًا يكون هذا المشهد مهيبًا، إلا أن هذا الشعور لا يمكن أن يدوم طويلًا، وبعد ذلك يصير خاليًا من أي إثارة. خيَّمنا عند سفح الخط الأول للمسطحات المائية. غير أن جداول المياه على الجانب الشرقي لا تصبُّ في المحيط الأطلنطي، وإنما داخل منطقةٍ مرتفعة، في منتصفها بحيرةٌ مالحة كبيرة؛ ليتكوَّن بذلك نسخةٌ مصغرة من بحر قزوين، على ارتفاع عشرة آلاف قدم تقريبًا. كان هناك عدة رقع من الجليد حيث بتنا ليلتنا، ولكنها لا تبقى طوال السنة. تتبع الرياح في هذه المناطق المرتفعة قواعدَ منظمةً جدًّا؛ ففي النهار يهبُّ نسيمٌ عليل على الوادي، وفي الليل، بعد غروب الشمس بساعة أو ساعتَيْن، يهبط الهواء من المناطق الباردة العالية وكأنه يهبط عبر مدخنة. في تلك الليلة، هبَّت عاصفة من الرياح، وكانت درجة الحرارة تحت نقطة التجمد بكثير حتمًا؛ إذ سرعان ما تحوَّلت المياه في أحد الآنية إلى كتلة من الثلج. وبدا أن الملابس لا تمثل أي عائق يقاوم الهواء؛ إذ عانيت بشدة من البرد، حتى إنني لم أستطع النوم، واستيقظت في الصباح وجسدي في حالة من الخَدَر والكسل الشديدين.
في سلسلة الجبال أقصى الجنوب، يفقد الناس حياتهم بسبب العواصف الثلجية، أما هنا فأحيانًا ما يفقد المرء حياته لسببٍ آخر. كان مرشدي، حين كان صبيًّا في الرابعة عشرة من عمره، يعبر سلسلة الجبال برفقة مجموعة أشخاص في شهر مايو، وأثناء تواجدهم في الأجزاء الوسطى، هبَّت عاصفة عنيفة، لدرجة أن الرجال استطاعوا بالكاد أن يتشبثوا ببغالهم، وأخذت الأحجار تتطاير عبر الأرض. كان اليوم صافيًا، ولم تتساقط فيه ذرة جليدٍ واحدة؛ إلا أن درجة الحرارة كانت منخفضة. من المحتمل ألا يكون مؤشر الترمومتر قد ثبت عند درجةٍ أقل من نقطة التجمد بكثير، إلا أن التأثير الذي طال أجسادهم، التي لم تمنحها الملابس الحماية الكافية، كان متناسبًا حتمًا مع سرعة تيار الهواء البارد. استمرت العاصفة لأكثر من يوم؛ ومن ثم بدأت قوى الرجال تخور ولم تستطع البغال مواصلة السير. حاول شقيق مرشدي أن يعود أدراجه، ولكنه لقي حتفه وعُثر على جثته بعد مرور عامَيْن، إلى جوار بغله بالقرب من الطريق، وما زال اللجام في يده. كما فَقدَ رجلان آخران من المجموعة أصابع أيديهم وأقدامهم؛ ومن إجمالي مائتي بغل وثلاثين بقرة، بقي أربعة عشر بغلًا فقط على قيد الحياة. قبل عدة سنوات، من المفترض أن مجموعةً كبيرة قد لقيت حتفها بالكامل لسببٍ مشابه؛ إلا أن أحدًا لم يكتشف موقع الجثث حتى يومنا هذا. أظن أن اجتماع عواملَ كسماءٍ صافية ودرجات حرارةٍ منخفضةٍ وعاصفة رياح عنيفةٍ في جميع بقاع الأرض يعدُّ ظاهرةً استثنائية.
•••
بعد مرور ثلاثة أيام، جاءتني أخبار عن وصول البيجل إلى الميناء، الذي يبعد مسافة ثمانية عشر فرسخًا عن البلدة. توجد أرضٌ مزروعةٌ محدودة للغاية أسفل الوادي؛ فامتداده الفسيح لا يصلح إلا لنمو حشائشَ خشنةٍ هزيلة، لا تستطيع حتى الحمير أكلها.
يرجع سبب الافتقار إلى الغطاء النباتي إلى كمية الأملاح التي تتشرَّبها التربة. يتكون الميناء من مجموعة أكواخٍ صغيرةٍ بائسة، تقع عند سفح أحد السهول الجدباء. وفي الوقت الراهن، ونظرًا لاحتواء النهر على مياهٍ كافية للوصول إلى البحر، يستمتع السكان بميزة وجود المياه العذبة في نطاق ميل ونصف الميل. وعلى الشاطئ، وُجدت أكوامٌ كبيرة من البضائع؛ ما أوحى بحركة نشاط في المكان الصغير. في المساء، ودَّعتُ رفيقي ماريانو جوانزاليس، الذي قطعتُ معه مسافاتٍ كبيرة في تشيلي، وداعًا حارًّا. وفي صباح اليوم التالي، أبحرت البيجل إلى مدينة إيكيكي.
•••
يعيش السكان وكأنهم أشخاص على متن سفينة؛ فتأتي جميع الضروريات من مكان بعيد؛ إذ تُجلب المياه في قوارب من بيساجوا، على بُعد حوالي أربعين ميلًا ناحية الشمال، وتُباع بسعر تسعة ريالات برازيلية (٤ شلنات، ٦ بنسات) لكل برميل سعة ١٨ جالونًا؛ في حين اشتريتُ زجاجة نبيذ مملوءة بثلاثة بنسات. كذلك يُستورد الحطب، وقَطعًا جميع المواد الغذائية، من خارج المدينة. عددٌ قليل جدًّا من الحيوانات يمكنه البقاء في مثل هذا المكان؛ ففي صباح اليوم التالي استأجرت بصعوبة، مقابل أربعة جنيهات إسترلينية، بغلَيْن ومرشدًا ليصطحبني إلى مناجم نترات الصوديوم، التي تعد مصدر الدعم لمدينة إيكيكي في الوقت الراهن. صُدِّر هذا الملح لأول مرة في عام ١٨٣٠، وفي عامٍ واحد أُرسلت إلى فرنسا وإنجلترا كميةٌ بلغت قيمتها ١٠٠ ألف جنيه إسترليني. تُستخدم نترات الصوديوم بالأساس كسمادٍ وفي تصنيع حمض النتريك، ونظرًا إلى خاصية التميُّع التي يتَّسم بها، لن يفيد في صناعة البارود. كان يوجد فيما سبق منجمَا فضةٍ ثريَّان في هذه المنطقة، إلا أن إنتاجهما صار الآن ضئيلًا للغاية.
أثار ظهورنا في عرض البحر شيئًا من التخوُّف؛ فقد كانت بيرو في حالة من الفوضى؛ فبعد أن صارت كل مجموعة تطالب بإعطائها معونات، صارت مدينة إيكيكي الفقيرة في محنة، ظنًّا منهم أن ساعة الشر قد جاءت. كما كان أهل المدينة يعانون من مشاكلَ محليةٍ أيضًا؛ فقبل فترةٍ قصيرة، سطا ثلاثة نجارين فرنسيين، في الليلة نفسها، على الكنيستين وسرقوا جميع المقتنيات المعدنية النفيسة؛ غير أن أحد السارقين اعترف بعد ذلك وتم استعادة الصحون. أُرسل المدانون إلى أريكيبا، التي على الرغم من كونها عاصمة هذه المقاطعة، فهي تقع على بعد ٢٠٠ فرسخ، ورأت الحكومة هناك أنه من المؤسف معاقبة هؤلاء العمال المفيدين الذين يستطيعون تصنيع كل أنواع الأثاث؛ ومن ثَم تم الإفراج عنهم. ولما سارت الأمور على هذا النحو، تم السطو على الكنيستين مرةً أخرى؛ ولكن في هذه المرة لم تتم استعادة المسروقات. غضب الأهالي على نحوٍ مخيف، معلنين أن لا أحد يجرؤ على «التعدي على الرب القدير» سوى المهرطقين؛ وشرعوا في تعذيب بعض الإنجليز، بنية إطلاق النار عليهم فيما بعدُ. وفي النهاية، تدخلت السلطات وحل السلام.
•••
بتُّ ليلتي في منزل مالك أحد مناجم الملح الصخري. كانت الأرض هنا مجدبة كما بالقرب من الساحل، لكن كان من الممكن الحصول على الماء عن طريق حفر الآبار؛ كون الماء مُرًّا وذا مذاقٍ مالح قليلًا. كان عمق البئر الموجودة في هذا المنزل ستًّا وثلاثين ياردة، وبما أن المطر لا يسقط إلا نادرًا، فمن الجلي أنه ليس مصدر الماء، وفي الواقع لو كان كذلك، لما قلَّ ملوحة عن ماء البحر؛ لأن المنطقة المحيطة كلها مغلَّفة بقشرة من موادَّ مالحةٍ متنوعة. علينا إذن أن نخلص إلى أن الماء يتقطر تحت الأرض من سلسلة الجبال، رغم أنها تبعد بفراسخَ عديدة. في ذلك الاتجاه توجد بضع قرًى صغيرة، يتمكن فيها السكان، بفضل امتلاكهم مزيدًا من المياه، من ري مساحةٍ صغيرة من الأرض، وزرع القش الذي تتغذى عليه البغال والحمير المستخدمة في حمل الملح الصخري. كانت نترات الصوديوم تُباع الآن على جوانب السفن بأربعة عشر شلنًا لكل مائة رطل، وكانت التكلفة الأكبر هي تكلفة نقلها إلى ساحل البحر. يتكون المنجم من طبقةٍ صلبة، يتراوح سُمكها بين قدمَيْن وثلاث أقدام، من النترات المختلطة بالقليل من كبريتات الصوديوم وقدرٍ كبير من الملح الشائع. ويقع المنجم على مسافةٍ قريبة من سطح الأرض، ويمتد بطول ١٥٠ ميلًا بمحاذاة حد حوض أو سهلٍ كبير، كان، من واقع شكله العام، فيما سبق عبارة عن بحيرة، أو الأكثر ترجيحًا، لسانٍ داخليٍّ للبحر، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من وجود أملاح اليود في الطبقة المالحة. ويرتفع سطح السهل ٣٣٠٠ قدم فوق سطح المحيط الهادي.
•••
لا أستطيع أن أقول إنني أحببت ذلك القدر القليل للغاية الذي رأيته من بيرو؛ ومع ذلك، يقال إن المناخ يكون ألطف كثيرًا في فصل الصيف. وفي كل المواسم، يعاني السكان والأجانب على السواء من هجمات الملاريا الشرسة. وهذا المرض شائع في جميع أنحاء ساحل بيرو، لكنه غير معروف في الأجزاء الداخلية. إن هجمات ذلك المرض النابع من بخار العفن تبدو غامضة للغاية على الدوام. ومن الصعب كذلك أن تحدد من مظهر منطقةٍ ما، ما إذا كان الجو بها صحيًّا أم لا، لدرجة أنه لو طُلب من شخص أن يختار مكانًا يبدو ملائمًا للصحة في المنطقة الاستوائية، فمن المرجح بشدة أن يختار هذا الساحل. إن السهل المحيط بضواحي كاياو مغطًّى بطبقةٍ خفيفة من العشب الخشن، وفي بعض الأجزاء توجد بضع بركٍ آسنة من الماء، وإن كانت صغيرة للغاية. على الأرجح أن بخار العفن يأتي من هذه البرك؛ لأن بلدة أريكا كان لها ظروفٌ مشابهة للغاية، وتحسنت الظروف الصحية فيها كثيرًا نتيجة تجفيف بعض البرك الصغيرة. لا ينتَج بخار العفن على الدوام بسبب النباتات الكثيفة والمناخ الحار؛ ففي أجزاءٍ كثيرة من البرازيل، حتى حين توجد مستنقعات وحشائشُ كثيفةٌ ضارة، يكون الجو صحيًّا أكثر بكثير من الساحل البيروفي المجدب. وحتى أشد الغابات كثافة في المناخ المعتدل، كما في شيلوي، لا يبدو أنها تؤثر ولو بأقل درجة على الظروف الصحية للجو.
لم تُعانِ أي دولة في أمريكا الجنوبية، منذ إعلان استقلالها، من الفوضى كما عانت بيرو. ففي وقت زيارتي لها كان هناك أربعة زعماء للجيش يتنازعون على حكم البلاد، وإذا نجح أحدهم في أن يصير ذا سلطة ونفوذ عظيمَيْن لفترةٍ ما، كان الآخرون يتكتَّلون ضده، ولا يكادون يحققون النصر حتى يتجدد العداء والنزاع فيما بينهم مرةً أخرى. منذ بضعة أيام، أقيم قداسٌ رسميٌّ عالي المستوى بمناسبة الاحتفال بذكرى الاستقلال، وتناول الرئيس جزءًا من القربان، وخلال ترانيم الشكر، وبدلًا من أن يرفع كل فوج العلم البيروفي، رُفع علمٌ أسود عليه جمجمة. تخيل شكل الحكومة التي يمكن تحت حكمها أن يحدث مشهدٌ كهذا، في مناسبة كهذه، ليعبر عن استعدادهم للقتال حتى الموت! حدثت هذه القلاقل في وقت غير ملائم بالمرة بالنسبة إليَّ؛ إذ منعتني من تمديد جولاتي إلى خارج حدود المدينة. كانت جزيرة سان لورنزو القاحلة، التي تشكل الميناء، هي المكان الوحيد تقريبًا الذي يمكن السير فيه بأمان. إن الجزء الأعلى، الذي يرتفع ١٠٠٠ قدم يلامس، خلال هذا الوقت من العام (الشتاء)، التُّخُم الأدنى للسحب، وبالتبعية كانت كميةٌ وفيرة من النباتات العديمة البذور وبعض الأزهار تغطي القمة. وعلى التلال بالقرب من ليما، على ارتفاع أعلى بقليل، تغطى الأرض بالحزاز، وبطبقات من الزنابق الصفراء، تسمى الأمانسيا. ويشير هذا إلى وجود درجةٍ أكبر بكثير من الرطوبة مقارنة بالارتفاع المماثل في إيكيكي. وبالاتجاه نحو شمال ليما، يصير المناخ أكثر رطوبة، حتى ضفاف خليج جواياكيل، الواقع أسفل خط الاستواء مباشرة، ونجد أغنى الغابات. غير أن هذا التغير من الساحل البيروفي المجدب إلى تلك الأرض الخصبة يوصَف بأنه يحدث بغتة إلى حدٍّ ما عند دائرة عرض كيب بلانكو، جنوب جواياكيل بدرجتَيْن.
كاياو عبارة عن ميناءٍ بحريٍّ صغيرٍ قذرٍ سيئ البناء. ويمثل السكان، هنا وفي ليما، كل مزيج يمكن تصوُّره بين الدم الأوروبي والأسود والهندي. كانوا مجموعة من الأشخاص تبدو عليهم مظاهر الفاقة والسُّكْر. الجو معبأ بروائحَ خبيثة، وكانت تلك الرائحة المميزة، التي يمكن تبينها في كل بلدة داخل المنطقة الاستوائية تقريبًا، حاضرة هنا بقوة. وكان للحصن، الذي تحمل الحصار الطويل للورد كوشران، مظهرٌ مهيب. غير أن الرئيس، خلال فترة إقامتنا، باع المدافع النحاسية، ومضى في تفكيك أجزاء من الحصن. وكان السبب المعلن لذلك هو أنه لم يكن لديه أي ضابط يمكن ائتمانه على حصنٍ مهمٍّ كهذا. وكان هو نفسه لديه أسبابه الوجيهة للتفكير بذلك؛ إذ إنه اعتلى سدة الحُكم بعد أن أعلن تمرده وهو يتولى مسئولية هذا الحصن ذاته. وبعد أن غادرنا أمريكا الجنوبية، دفع الرئيس الثمن بالطريقة المعتادة، إذ أطيح به، وأُسر، وأُعدِم رميًا بالرصاص.
تقع مدينة ليما على سهل داخل أحد الأودية، تكوَّن خلال التراجع التدريجي للبحر. وتبعد سبعة أميال عن كاياو، وترتفع ٥٠٠ قدم فوقها؛ لكن نظرًا لكون الانحدار متدرجًا بشدة، يبدو الطريق مستويًا تمامًا؛ حتى إن من الصعب على أي شخص، عند التواجد في ليما، أن يصدق أنه صعد مسافة مائة قدم؛ وقد علق همبولت على هذه الحالة المتفردة الخادعة. تنتصب التلال المنحدرة القاحلة كالجزر من السهل، الذي ينقسم، بفعل جدرانٍ طينيةٍ مستقيمة، إلى حقولٍ خضراءَ كبيرة. وفي هذه الحقول نادرًا ما تنمو أي أشجار، باستثناء بعض أشجار الصفصاف وأجمة من أشجار الموز أو البرتقال من آنٍ لآخر. إن مدينة ليما الآن في حالةٍ بائسة من التدهور؛ فالشوارع غير معبَّدة تقريبًا، وأكوام الأوساخ متراكمة في كل اتجاه، حيث تلتقط النسور السوداء، الأليفة كالدواجن، قطعًا من الجيف. للمنازل أدوارٌ علوية في المعتاد، مبنية من الخشب المطلي بالجص تحسُّبًا للزلازل، لكن بعض المنازل القديمة، التي تسكنها الآن كثير من العائلات، ضخمة للغاية، وتضاهي غرفها أفخم الغرف في أي مكان. لا بد أن ليما، مدينة الملوك، كانت فيما سبق مدينةً رائعة. ويمنحها عدد الكنائس الاستثنائي سمتًا مدهشًا ومميزًا، حتى في يومنا هذا، خاصة عند النظر إليها من مسافةٍ قريبة.
ذات يوم، خرجت مع بعض التجار للصيد في المنطقة المجاورة للمدينة مباشرة. كان مستوى ما حظينا به من متعة وتسلية متدنيًا للغاية؛ ولكن سنحت لي فرصة لكي أرى أطلال إحدى القرى الهندية القديمة ورابيتها الشبيهة بتلةٍ طبيعية والواقعة في المنتصف. لا يعجز المرء عن تكوين فكرةٍ جيدة عن وضع السكان القدامى وعددهم من بقايا المنازل والحظائر وجداول الري وجثوات القبور المتناثرة عبر هذا السهل. وعند الوضع في الاعتبار الأواني الخزفية والملابس الصوفية وأدوات المائدة ذات الأشكال الأنيقة المقطوعة من أصلب الصخور، والأدوات النحاسية وحلي الزينة المصنوعة من الأحجار الكريمة والقصور والإنشاءات الهيدروليكية الخاصة بهم، يستحيل ألَّا تحترمَ التقدم الهائل الذي أحرزه هؤلاء في فنون الحضارة. وجثوات القبور، التي يطلقون عليها «واكا»، لافتة للنظر حقًّا؛ رغم أنها تبدو في بعض المناطق وكأنها تلالٌ طبيعيةٌ مغلفة ومجسمة.
توجد فئةٌ أخرى ومختلفة تمامًا من الأطلال تحوز بعض الاهتمام، ألا وهي أطلال كاياو القديمة، التي سحقها الزلزال الكبير عام ١٧٤٦، والموجة المصاحبة له. لا بد أن الدمار كان شاملًا أكثر مما حدث في مدينة تالكاهوانو. تخفي كمياتٌ من الحصى أساساتِ الجدران، وتظهر كتلٌ هائلة من مبنًى قرميدي تنتقل في حركةٍ دائرية أشبه بحركة الحصى بفعل الأمواج المنحسرة. وقد قيل إن الأرض هبطت أثناء هذه الهزة المشهودة؛ لم أتمكن من اكتشاف أي إثبات على هذا؛ ومع ذلك يبدو الأمر مستبعدًا تمامًا؛ لأن شكل الساحل تعرض بالتأكيد لتغير ما منذ تأسيس البلدة القديمة؛ إذ لا يوجد إنسانٌ عاقل يختار بمحض إرادته اللسان الحصوي الضيق الذي تقف عليه الأطلال الآن موقعًا للبناء. ومنذ بدء رحلتنا، توصل إم تشودي إلى استنتاج، من المقارنة بين الخرائط القديمة والحديثة، مفاده أن ساحلي ليما الشمالي والجنوبي حدث لهما هبوط قطعًا.
على جزيرة سان لورينزو، توجد أدلةٌ مُرْضية للغاية على حدوث ارتفاع خلال الحقبة الأخيرة؛ وهذا بالطبع لا يتعارض مع الاعتقاد بأن هبوطًا محدودًا في الأرض قد حدث فيما بعدُ. انقسم جانب هذه الجزيرة المواجه لخليج كاياو إلى ثلاث مصاطبَ مغمورة، يغطي المصطبةَ السفلى منها طبقةٌ يمتد طولها مسافة ميل، تتكون بالكامل تقريبًا من أصداف من ١٨ نوعًا، تعيش الآن في البحر المجاور. ويصل ارتفاع هذه الطبقة إلى ٨٥ قدمًا. والكثير من القواقع متآكلة بشدة، وذات شكلٍ قديم ومتحلِّل أكثر بكثير من تلك الموجودة على ارتفاع ٥٠٠ أو ٦٠٠ قدم على ساحل تشيلي. ويرافق هذه القواقع قدرٌ كبير من الملح الشائع والقليل من كبريتات الكالسيوم المائية (وكلاهما يرجح أنه ترسُّب من تبخر الرذاذ، أثناء ارتفاع الأرض تدريجيًّا)، بالإضافة إلى كبريتات الصوديوم وكلوريد الكالسيوم. وتستقر هذه القواقع فوق شظايا الأحجار الرملية الدفينة، وهي مغطاة بفتات الصخر بسمك يصل إلى بضع بوصات. ويمكن تتبع القواقع الموجودة على ارتفاعٍ أعلى فوق هذه المصطبة لنجدها تتفتَّت إلى رقائق وتتساقط على هيئة مسحوقٍ دقيقٍ جدًّا؛ وعلى المصطبة الأعلى، على ارتفاع ١٧٠ قدمًا، وكذلك عند نقاط أعلى كثيرًا، وجدتُ طبقة من مسحوقٍ ملحي ذات شكلٍ مشابه تمامًا، ويقع في الموضع نفسه تقريبًا. وليس لديَّ أدنى شك أن هذه الطبقة العلوية وُجِدت بالأساس كطبقة من القواقع، كتلك الموجودة على الحافة الصخرية التي ترتفع إلى ٨٥ قدمًا؛ إلا أنها لا تحتوي الآن ولو على أثرٍ لبنيةٍ عضوية. حلل السيد تي ريكز المسحوق من أجلي، ووجده يتكون من كبريتات وكلوريد الكالسيوم والصوديوم، ونسبةٍ ضئيلةٍ جدًّا من كربونات الكالسيوم. ومن المعروف أن الملح الشائع وكربونات الكالسيوم التي تبقى على هيئة كتلة لبعض الوقت يُحلِّل بعضهما البعض جزئيًّا؛ وإن كان هذا لا يحدث مع الكميات الصغيرة الذائبة في الماء. ونظرًا لأن القواقع المتحلِّلة جزئيًّا في الأجزاء السفلية مقترنة بقدرٍ كبير من الملح الشائع، بالإضافة إلى بعض المواد المالحة التي تشكل الطبقة الملحية العلوية، ونظرًا لأن هذه القواقع تتآكل وتتحلل بصورةٍ ملحوظة، فأنا أظن وبقوة أن هذا التحلل المزدوج حدث هنا. غير أن الأملاح الناتجة يفترض أن تكون عبارة عن كربونات الصوديوم وكلوريد الكالسيوم، والمركَّب الأخير موجود، لكن كربونات الصوديوم غير موجودة. وبناء عليه، قادني هذا إلى تصور أن كربونات الصوديوم تُحوَّل إلى كبريتات بوسيلةٍ غامضة. ومن الواضح أنه لا يمكن أن تكون الطبقة الملحية قد دامت في أي منطقة تتساقط فيها الأمطار الغزيرة من حين لآخر. ومن ناحيةٍ أخرى، هذا الظرف تحديدًا — والذي يبدو من الوهلة الأولى مواتيًا جدًّا للحفاظ على القواقع المكشوفة لفتراتٍ طويلة — كان على الأرجح الوسيلة غير المباشرة لتحللها واضمحلالها مبكرًا، من خلال منع الملح الشائع من الانجراف بعيدًا.
فوق المصطبة، الواقعة على ارتفاع ٨٥ قدمًا و«المطمرة» وسط القواقع والكثير من النفايات التي يجرفها البحر، أثارني كثيرًا ما عثرتُ عليه من خيوطٍ قطنية، وأسلياتٍ مجدولة، ورأس لسويقة الذرة الهندية؛ قارنت هذه البقايا ببقايا مشابهةٍ مأخوذة من قبور بيرو القديمة، ووجدتها متطابقة في الشكل الخارجي. وعلى البر الرئيسي قبالة سان لورينزو، بالقرب من بيلافيستا، يوجد سهلٌ ممتد ومستوٍ على ارتفاع مائة قدم تقريبًا، يتألف الجزء السفلي منه من طبقاتٍ متداخلة من الرمال والطمي الملوَّث، بالإضافة إلى بعض الحصى؛ أما سطح الأرض، الممتد إلى عمقٍ من ثلاث إلى ست أقدام، فكان عبارةً عن تربةٍ طفالية (مكونة من الطين والحصى والرمال) مائلةٍ للحمرة تحتوي على أصدافٍ بحريةٍ متناثرة وعدة شظايا صغيرة من آنيةٍ خزفيةٍ خشنةٍ حمراءَ اللون، توجد بوفرة في مناطقَ معينةٍ أكثر من غيرها. في البداية، كنتُ أميل إلى الاعتقاد بأن هذه الطبقة السطحية، من نعومتها وامتدادها الواسع؛ ترسَّبت حتمًا تحت البحر، إلا أنني وجدت بعد ذلك في أحد المواضع أنها مستقرة فوق أرضيةٍ صناعية من أحجارٍ مستديرة؛ ومن ثمَّ يبدو الأمر على الأرجح أنه في فترةٍ ما حين كانت الأرض عند مستوًى أكثر انخفاضًا، كان يوجد سهلٌ مشابه جدًّا لذلك السهل المحيط الآن بمدينة كاياو، يرتفع فوق مستوى البحر وإن كان بقدرٍ ضئيلٍ جدًّا؛ كونه محميًّا بشاطئ من الحصى. وعلى هذا السهل بطبقاته الدفينة من الطين الأحمر، أتخيل أن الهنود صنعوا آنيتهم الخزفية، وأنه أثناء أحد الزلازل العنيفة، اكتسح البحر الشاطئ وحول السهل إلى بحيرةٍ مؤقتة، مثلما حدث حول مدينة كاياو في عامي ١٧١٣ و١٧٤٦. بعد ذلك رسبت المياه الطين الذي يحتوي على شظايا فخار من الأفران، المتوفرة في بعض الأماكن أكثر من غيرها، وأصداف من البحر. تقع هذه الطبقة المحتوية على الخزف الأحفوري على نفس الارتفاع الذي توجد عنده القواقع الموجودة على المصطبة السفلية لسان لورينزو، التي طمرت فيها خيوط القطن وغيرها من الآثار؛ ومن ثم، يمكننا أن نستنتج مطمئنين أنه خلال حقبة الهنود الأصليين حدث ارتفاع، كما أُشير من قبل، لأكثر من ٨٥ قدمًا؛ ولا بد أن ارتفاعًا ضئيلًا كهذا قد فُقد جراء هبوط الساحل منذ رسم الخرائط القديمة. وفي فالبارايزو، ورغم أنه قبل زيارتنا ﺑ ٢٢٠ عامًا لا يمكن أن يتعدى الارتفاع ١٩ قدمًا، غير أنه بعد عام ١٨١٧ حدث ارتفاع، جزءٌ منه غير محسوس وجزءٌ منه بدأ أثناء زلزال عام ١٨٢٢، بلغ عشر أقدام أو إحدى عشرة قدمًا. وأثر الجنس الهندي الأصيل، استنادًا إلى ارتفاع الأرض مسافة ٨٥ قدمًا منذ انطمار الآثار، هو الأمر الأكثر لفتًا للنظر، كما هو الحال على ساحل باتاجونيا، حين انخفضت الأرض بنفس عدد الأقدام، وحين كان حيوان الماكروتشينيا لا يزال على قيد الحياة؛ ولكن نظرًا لأن ساحل باتاجونيا بعيد نوعًا ما عن سلسلة الجبال، فإن الارتفاع هناك ربما حدث بوتيرة أبطأ من هنا. وفي باهيا بلانكا، كان الارتفاع لبضع أقدام فقط، منذ دُفنت العديد من رباعيات الأقدام العملاقة هناك؛ ووفقًا للرأي السائد عمومًا، عندما كانت هذه الحيوانات المنقرضة لا تزال على قيد الحياة، لم يكن للإنسان وجود. غير أن ارتفاع ذلك الجزء من ساحل باتاجونيا ربما لا علاقة له بسلسلة الجبال، وإنما بخط الصخور البركانية القديمة الموجودة في أورينتال باندا؛ ومن ثم ربما كان الارتفاع أبطأ على نحوٍ لا متناهٍ من الارتفاع على سواحل بيرو. غير أن كل هذه التخمينات مبهمة حتمًا؛ فمن الذي سيدَّعي قول إنه ربما لم يكن هناك فترات هبوط عديدة، تداخلت مع حركات الارتفاع؟ فنحن نعرف أنه على طول ساحل باتاجونيا بأكمله، حدثت بالتأكيد العديد من فترات التوقف الطويلة في الحركة التصاعدية لقوى الارتفاع.