الفصل الثامن عشر
تاهيتي ونيوزيلندا
طريق عبر أرخبيل لوو – تاهيتي – المشهد العام – النباتات الموجودة على الجبال – مشهد أميو – رحلة إلى الداخل – الأخوار العميقة – سلسلة الشلالات – عدد النباتات البرية المفيدة – عزوف السكان الأصليين عن الخمور – أخلاقياتهم – انعقاد البرلمان – نيوزيلندا – خليج الجزر – قباب ذا باس– رحلة إلى وايميتي – ضيعة تبشيرية – الحشائش الإنجليزية الآن تنمو دون تدخل بشري – قرية وايوميو – جنازة سيدة نيوزيلندية – الإبحار إلى أستراليا.
***
•••
نادرًا ما تتعدى الأرض الصالحة للزراعة في أي مكان تخوم التربة الرسوبية المنخفضة، التي تتراكم حول سفوح الجبال، وتحميها من أمواج البحر شعابٌ مرجانية تطوِّق الخط الساحلي بأكمله. وبداخل الشعاب، توجد رقعةٌ فسيحة من المياه الهادئة، مثل مياه البحيرات، حيث يمكن لزوارق السكان الأصليين الإبحار بأمان وحيث ترسو السفن أيضًا. وتُغطى الأرض المنخفضة، التي تنحدر نحو شاطئ الرمال المرجانية البيضاء، بأجمل مزروعات المناطق المدارية. ووسط أشجار الموز والبرتقال وجوز الهند وفاكهة الخبز، تم تمهيد وتطهير بعض المواضع حيث يُزرَع اليام والبطاطا الحلوة وقصب السكر والأناناس. وحتى الأجمات عبارة عن شجرة فاكهة مستوردة، ألا وهي الجوافة، التي صارت من وفرتها بغزارةٍ مؤذيةً كالأعشاب الضارة. في البرازيل، كثيرًا ما أعجبت بالجمال المتنوع لأشجار الموز والنخيل وأشجار البرتقال التي تحدث تباينًا معًا؛ وهنا أيضًا لدينا فاكهة الخبز اللافتة للنظر لكبر حجم أوراقها ولمعانها وشكلها الإصبعي. من الرائع أن تشاهد بساتين شجرة تنشر فروعها بعنفوان يضاهي عنفوان البلوط الإنجليزي، ومحملة بثمارٍ كبيرة ومغذية جدًّا. ورغم أنه نادرًا ما يمكن أن تكون الفائدة المقترنة بشيءٍ ما تفسيرًا للذة النظر إليه، إلا أنه في حالة هذه الأشجار الجميلة، لا شك أن معرفة إنتاجيتها الغزيرة تدخل إلى حدٍّ كبير ضمن أسباب شعور الإعجاب الذي تبثه في النفوس. تقود الطرق المتعرجة الصغيرة، والرطبة بفعل الظلال المحيطة، إلى البيوت المنتشرة في الأرجاء؛ وقد استقبلَنا ملَّاكُها استقبالًا بهيجًا وكريمًا للغاية.
لم يسرني شيء أكثر من سكان الجزيرة. ففي تعبيرات وجوههم بشاشة تمحو على الفور فكرة الوحشية، ويتمتعون بذكاء يظهر أنهم يحرزون تقدُّمًا حضاريًّا. يترك العوام النصف العلوي من أجسادهم عاريًا تمامًا أثناء العمل؛ ومن ثم يترك أهل تاهيتي انطباعًا إيجابيًّا للغاية عنهم. فهم يتمتعون بقامةٍ فارعة للغاية وأكتافٍ عريضة وبنيةٍ رياضية وجسدٍ متناسق. وقد لوحظ أن الأمر يتطلب القليل من الاعتياد لتجعل العين الأوروبية ترى البشرة الداكنة أكثر استساغة وطبيعية من البشرة الأوروبية. فالرجل الأبيض الذي يستحمُّ بجوار رجل تاهيتي كان يبدو وكأنه نبتة بيَّضها البستاني بمهارته مقارنة بنبتةٍ رائعة ذات لونٍ أخضرَ داكن تنمو بعنفوان في الحقول المفتوحة. وأغلب الرجال هنا أجسادهم موشومة، والزخارف تتبع منحنيات الجسد برشاقةٍ بالغة حتى إن لها تأثيرًا شديد الأناقة. وأحد النقوش الشائعة للوشم، المتنوعة في تفاصيلها، تشبه إلى حدٍّ ما قمة شجرة نخيل؛ إذ تتفرع من خط الظهر الأوسط، وتلتفُّ على كلا الجانبين في رشاقة. قد يكون التشبيه غريبًا؛ ولكني أظن أن جسد الرجل مزدانًا بمثل هذا النقوش كان مثل جذع شجرة فارعة الطول يطوقها نباتٌ متسلقٌ رقيق.
والكثير من كبار السن تغطي أقدامَهم أشكالٌ صغيرة، منسقة بحيث تشبه الجورب. غير أن هذه الصيحة قد خبت بعض الشيء وحلَّت محلَّها صيحاتٌ أخرى. وعلى الرغم من أن الموضة هنا أبعد ما تكون عن الثبات، يجب أن يلتزم كل شخص بما كان سائدًا في شبابه. وهكذا تجد رجلًا عجوزًا مطبوعًا عليه من الرسومات الموشومة على جسده إلى الأبد، ولا يستطيع أن يتصرف كشابٍّ متأنق. والنساء يوشِّمن أجسادهن مثل الرجال تمامًا، وكثيرًا ما تكون الوشوم على أصابعهن. ثمة صيحةٌ منفِّرة صارت شبه عامة الآن، ألا وهي حلاقة الشعر من الجزء العلوي من الرأس في شكل دائري، بحيث لا يبقى سوى طوقٍ خارجي فقط. ولقد حاول المبشِّرون إقناع الأهالي بتغيير هذه العادة، ولكنها الموضة، وهذا ردٌّ كافٍ في تاهيتي، كما هو الحال في باريس. ولقد أُحبطتُ كثيرًا من المظهر الخارجي للنساء؛ فهن أقل من الرجال في الجوانب كافة. وثمة عادةٌ جميلة لديهن تتمثل في وضع زهرة بيضاء أو قرمزية في مؤخرة الرأس أو عبر ثقبٍ صغير في كل أذن. كما يرتدين تاجًا من أوراق جوز الهند المجدولة كواقٍ للعيون. وتبدو النساء في حاجة أمسَّ إلى بعض الملابس اللائقة من الرجال.
يفهم جميع السكان الأصليون تقريبًا قليلًا من اللغة الإنجليزية، بمعنى أنهم يعرفون أسماء الأشياء الشائعة؛ وبالاستعانة بهذه المعرفة بالإضافة إلى لغة الإشارة يمكن إجراء حوارٍ متواضع. أثناء العودة إلى المركب في المساء، توقفنا لنرى مشهدًا في غاية الجمال. كان ثمة مجموعة من الأطفال يلعبون على الشاطئ، وأشعلوا نيرانًا أضاءت البحر الهادئ والأشجار المحيطة، بينما وقف آخرون في دوائر يغنون أناشيد تاهيتية. جلسنا على الرمال وشاركناهم حفلهم. كانت الأغاني مرتجلة، وأعتقد أنها كانت تدور حول مجيئنا؛ وقد أنشدت طفلة شطرًا، وتابع الباقون الغناء في أدوار؛ مما جعل منهم جوقةً رائعة للغاية. جعلَنا المشهد بأكمله ندرك بوضوح أننا نجلس على شواطئ جزيرة في أقصى جنوب المحيط الهادي الشهير.
•••
بعد تناول الإفطار، ذهبتُ إلى الشاطئ وتسلَّقت أقرب منحدر بارتفاع يتراوح بين ٢٠٠ و٣٠٠ قدم. والجبال الخارجية ممهَّدة ومخروطية الشكل، ولكنها منحدرة، ويخترق الصخورَ البركانية القديمة، التي تتكون منها هذه الجبال، الكثيرُ من الأخوار العميقة، تتشعب من الأجزاء الوسطى المشقَّقة من الجزيرة وصولًا إلى الساحل. بعد اجتياز الحزام الضيق المنخفض من الأرض الخصبة والآهلة بالسكان، سلكتُ سلسلة تلالٍ منحدرة وممهدة بين خورَين من الأخوار العميقة. كان الغطاء النباتي فريدًا، يتكوَّن على نحوٍ شبه حصري من أشجار السرخس المتقزِّمة والمختلطة في أجزاء أعلى بأعشاب خشنة، ولم يكن يختلف كثيرًا عن الغطاء النباتي الموجود في بعض التلال الويلزية، وكان ذلك الغطاء الموجود على مقربةٍ شديدة فوق بستان النباتات الاستوائية على الساحل؛ كان مدهشًا للغاية. عند أعلى نقطة وصلتُ إليها، ظهرت الأشجار مرةً أخرى. ومن المناطق الثلاثة ذات الوفرة النباتية النسبية، كانت رطوبة المنطقة السفلى؛ ومن ثَم خصوبتها، تُعزى إلى استوائها؛ فنظرًا لأنها تكاد ترتفع فوق مستوى البحر، تنزح المياه الآتية من المنطقة العليا ببطء. أما المنطقة الوسطى، شأنها شأن المنطقة العليا، فلا تتمتع بمناخٍ رطب وغائم؛ وبالتالي تبقى مجدبة. والغابات الموجودة في المنطقة العليا غاية في الجمال، وأشجار السرخس تحلُّ محلَّ أشجار جوز الهند على الساحل. ورغم ذلك لا ينبغي افتراض أن هذه الغابات تضاهي روعة غابات البرازيل. ولا يمكن توقع وجود العدد الضخم من الكائنات، التي تميز قارةً ما، أن يوجد على جزيرة.
ومن أعلى نقطة وصلتُ إليها، كان يوجد مشهدٌ رائع لجزيرة أميو البعيدة، التابعة لنفس السيادة مع جزر تاهيتي. وعلى قمم الجبال الشامخة والوعرة، تراكمت سحبٌ بيضاءُ ضخمة، والتي كوَّنت جزيرة وسط السماء الزرقاء، مثلما تبدو جزيرة أميو وسط المحيط الأزرق. وباستثناء مدخلٍ واحدٍ صغير، كانت الجزيرة بالكامل محاطة بشعابٍ مرجانية. وعلى هذه المسافة، كان ثمة خطٌّ أبيضُ لامعٌ ضيق ولكنه محدَّد جيدًا واضحًا دون غيره، حيث أول موضع تصطدم فيه الأمواج بجدار الشعب المرجانية. وتبزغ الجبال على نحوٍ مفاجئ من وسط البحيرة المرجانية الفسيحة الشفافة، الموجودة داخل هذا الخط الأبيض الضيق، والتي كانت مياه المحيط المضطربة خارج حدوده تتلوَّن بلونٍ داكن. كان المشهد لافتًا للنظر، يجوز تشبيهه بمنحوتة داخل إطار، حيث يمثل الإطار الصخور التي تتكسر عليها الأمواج، وهوامش اللوحة هي البحيرة السلسة الهادئة، والرسمة هي الجزيرة نفسها. حين نزلت من الجبل في المساء، التقيتُ رجلًا، كنت قد أهديته هديةً بسيطة، جلب معه موزًا مشويًّا ساخنًا وثمرة أناناس وجوز هند. بعد السير تحت الشمس المحرقة، لم أرَ شيئًا ألذَّ من لبن ثمرةٍ صغيرة من جوز الهند. وثمار الأناناس هنا وفيرة جدًّا لدرجة أن الناس يُسرفون في تناولها مثلما قد نسرف نحن في تناول اللفت. والثمار ذات نكهةٍ ممتازة، ربما أفضل من تلك المزروعة في إنجلترا؛ وأعتقد أن هذه أبلغ مجاملة يستطيع المرء أن يقولها في حق أي فاكهة. قبل الصعود على متن السفينة، ترجم السيد ويلسون عني للرجل التاهيتي الذي اهتم بي اهتمامًا بالغًا بأنني أرغب في أن يصطحبني هو ورجلٌ آخر في نزهةٍ قصيرة داخل الجبال.
•••
يتمتع أهل تاهيتي ببراعة البرمائيات في الماء. وتُبين حكاية ذكرها إليس إلى أي مدًى يشعرون بالراحة في هذا الوسط. فعندما أُنزل حصان من على متن سفينة من أجل الملك بومار عام ١٨١٧، كُسرت الرافعة، وسقط في الماء؛ وعلى الفور قفز الأهالي من على متن السفينة، ومع صياحهم وفشل جهود المساعدة كاد الحصان أن يغرق، ولكن حالما وصل إلى الشاطئ، فرَّ جميع الأهالي هاربين، وحاولوا الاختباء من الخنزير الحامل للبشر، كما كانوا يلقبون الحصان.
بالاتجاه إلى أعلى قليلًا، انقسم النهر نفسه إلى ثلاثة جداولَ صغيرة؛ اثنان منها جهة الشمال تعذر عبورهما؛ بسبب سلسلة من الشلالات التي تنساب من القمة المسننة لأعلى جبل، أما الثالث فبدا من كافة الأوجه صعب الوصول إليه، إلا أننا استطعنا صعوده عبر طريق غاية في الغرابة. كان جانبا الوادي هنا شبه منحدرَين، لكن كما هو الحال عادةً مع الصخور الطباقية، برزت حوافُّ صغيرة كانت مغطاة بكثافة بأشجار الموز البري، والنباتات الزنبقية، وغيرها من نباتات المنطقة الاستوائية الوارفة. ولقد اكتشف أهل تاهيتي، من خلال التسلق بين هذه الحوافِّ بحثًا عن الفواكه، دربًا يمكن من خلاله تسلُّق المنحدر بأكمله. كانت المحاولة الأولى لتسلق الوادي خطيرة للغاية؛ إذ كان من الضروري اجتياز جانبٍ منحدر لصخرةٍ جرداء باستخدام الحبال التي جلبناها معنا. لا أستطيع أن أتصوَّر كيف لشخص أن يكتشف هذا الموضع المذهل، وهو الموضع الوحيد الذي يفضي إلى جانب الجبل. بعد ذلك واصلنا السير على طول إحدى الحوافِّ البارزة حتى وصلنا إلى واحد من المجاري المائية الثلاثة. شكلت هذه الحافَّة مكانًا مستويًا، من فوقه شلال جميل، على ارتفاع حوالي مائة قدم، تنساب مياهه، ومن أسفله شلالٌ آخرُ عالٍ ينساب إلى جدول المياه الرئيسي في الوادي بالأسفل. ومن هذا الموضع المنعزل البارد الظليل، التففنا لنتجنَّب الشلال المنهمر. وكما حدث من قبلُ، تتبعنا الحوافَّ الصخرية البارزة الصغيرة، وقد حجب الخطرَ جزئيًّا الغطاءُ النباتي الكثيف. عند العبور من إحدى الحوافِّ إلى أخرى، كان ثمة جدارٌ رأسي من الصخور. فوضع رجل تاهيتي نشيط ورائع جذع شجرة قبالته، وتسلَّقه، ثم وصل إلى القمة من خلال الاستعانة بالشقوق. ثبَّت الحبال في نقطةٍ بارزة، ومدَّها لسحب الكلب والأمتعة الخاصة بنا، ثم تسلَّقنا بجهدٍ بالغ. أسفل الحافة التي وضع عليها جذع الشجرة الميتة، بلغ عمق الجرف حتمًا ٥٠٠ أو ٦٠٠ قدم؛ ولولا أن هوَّته كانت مغطاة جزئيًّا بالسراخس والزنابق المتدلِّية، لشعرت بالدوار ولما أغراني شيء للشروع في المحاولة. واصلنا الصعود، أحيانًا على امتداد الحواف، وأحيانًا أخرى على امتداد نتوءاتٍ جبليةٍ حادة كالسكين، وقد أحاط بنا على كلا الجانبين أخوارٌ عميقة. داخل سلسلة الجبال، رأيت جبالًا تمتدُّ على نطاقٍ أكبر بكثير؛ أما بالنسبة إلى الخطورة فلا شيء يضاهي ذلك على الإطلاق. في المساء، وصلنا إلى موضعٍ صغيرٍ مستوٍ على ضفاف الجدول نفسه الذي واصلنا اتباعه، والذي ينحدر إلى سلسلة من الشلالات، وقد خيَّمنا في هذا الموضع لقضاء الليلة. على كلا جانبَي الخور، كان يوجد بساتين كبيرة من الموز الجبلي، مغطاة بالثمار اليانعة. كان ارتفاع الكثير من هذه الأشجار يتراوح بين ٢٠ و٢٥ قدمًا، ومحيطها بين ثلاث وأربع أقدام. وبالاستعانة بشرائح من اللحاء كحبل، وسيقان الخيزران كعوارض خشبية، والأوراق الكبيرة لأشجار الموز كسقف، بنى لنا الرجلان التاهيتيان بيتًا رائعًا في غضون بضع دقائق؛ وصنعا بالأوراق الذابلة فراشًا ناعمًا مريحًا.
بعد ذلك، شرعا في إشعال النيران، وطهي وجبة المساء. انبعثت شرارة من خلال احتكاك عصًا مدببةٍ غير حادة في تجويفٍ بالأرض بداخل تجويفٍ آخر، كما لو كان بقصد تعميقه، حتى صار التراب مشتعلًا بفعل الاحتكاك. ويُستخدم خشبٌ خفيف للغاية وذو لونٍ أبيضَ مميز (لنبات الخبازي الساحلي) لهذا الغرض؛ وهو نفسه الذي يستخدم للعصي المستخدمة لحمل أي أثقال، وكمساندَ طافيةٍ لزوارق الكانو خاصتهم. اشتعلت النيران في غضون بضع ثوانٍ، إلا أن الأمر بالنسبة إلى شخص لا يمتلك هذه المهارة يتطلَّب، كما اكتشفتُ، جهدًا بالغًا؛ ولكني في النهاية، وبكل فخرٍ واعتزاز، نجحتُ في إضرام النار بالتراب. يستخدم الجاوتشو في منطقة البامبا طريقةً مختلفة؛ إذ يستعينون بعصًا مرنة طولها حوالي ثماني عشرة بوصةً، ويضغطون أحد طرفَيها على الصدر، ويضغطون الطرف الآخر المدبَّب في ثقب في قطعة خشب، ثم يديرون بسرعة الجزء المقوس كالمثقاب المركزي الذي يستخدمه النجار. وبعد أن أشعل التاهيتيان جذوةً صغيرة من العصي، وضعا مجموعة من الأحجار في حجم كرات الكريكيت تقريبًا على الخشب المحترق. وفي غضون عشر دقائق تقريبًا، كانت العصي قد احترقت وصارت الأحجار ساخنة. ومن قبلُ كانا قد غلَّفا قطعًا من اللحم البقري والسمك وثمار موز ناضجة وغير ناضجة ورءوس نبات اللوف البري في قطعٍ صغيرة من أوراق النباتات. وُضعت قطع الأوراق الخضراء بين طبقتَين من الأحجار الساخنة، ثم غُطي كل شيء بالتراب، لكيلا يتسرب أي دخان أو بخار. وفي غضون ربع ساعة تقريبًا، كان كل شيء قد طُهي تمامًا واكتسب مذاقًا لذيذًا. وضعت القطع الخضراء على قطعة من أوراق الموز، وفي قشرة جوز الهند شربنا مياهًا باردة من جدول المياه الجارية؛ وهكذا استمتعنا بوجبتنا الريفية.
لم يسعني النظر إلى النباتات المحيطة دون إعجاب؛ فعلى كل جانب، توجد غابات من أشجار الموز، ورغم أن ثمارها تُقدَّم كوجبات بطرقٍ متنوعة، فإنها ملقاة على الأرض في أكوامٍ متعفنة. كان أمامنا أجمةٌ ممتدة من قصب السكر البري، وكان جدول المياه مظللًا بسيقانٍ معقودة ذات لونٍ أخضرَ داكن من نبات الكافا، الذي اشتهر كثيرًا بتأثيراته المسكرة القوية في العصور السابقة. مضغتُ قطعة منه ووجدت أن له مذاقًا لاذعًا وغير مستساغ، لدرجة تدفع أي شخص في الحال لاعتباره سامًّا. وبفضل البعثات التبشيرية، ينمو هذا النبات حاليًّا في هذه الأخوار العميقة فقط، دون الإضرار بأحد. وعلى مقربة، رأيت نبات اللوف البري الذي حين تُشوى جذوره جيدًا، تصير صالحة للأكل وأوراقه اليانعة أفضل من السبانخ. كان يوجد أيضًا بطاطا اليام البرية ونباتٌ زنبقي يُدعى تي ينمو بوفرة، وله جذورٌ بُنيَّة اللون ملساء، في شكل وحجم جذع شجرةٍ ضخم؛ وقد قُدِّمت إلينا كتحلية؛ إذ إنها حلوة كالدبس وذات مذاقٍ رائع. علاوة على ذلك، كان هناك عدة فواكهَ بريةٍ أخرى وخضراواتٌ مفيدة. وبالإضافة إلى مياهه الباردة، يوجد في هذا الجدول المائي الصغير أسماك الأَنْقلِيس والسلطعون النهري. ولقد أُعجبتُ حقًّا بهذا المشهد حين قارنته بمشهدٍ غير مزروع في المناطق المعتدلة الحرارة. لقد شعرت بقوة الملاحظة القائلة إن الإنسان — على الأقل الإنسان البدائي بقدراته على التفكير المنطقي المطورة جزئيًّا فقط — هو ابن المنطقة الاستوائية.
مع اقتراب نهاية المساء، تجوَّلتُ تحت الظلال القاتمة لأشجار الموز على طول مسار جدول المياه. وسرعان ما انتهت جولتي مع الاقتراب من شلال على ارتفاعٍ يتراوح بين ٢٠٠ و٣٠٠ قدم؛ ومن فوقه ظهر شلالٌ آخرُ مجدَّدًا. ولقد ذكرت كل هذه الشلالات الموجودة في هذا النُّهير لتقديم فكرةٍ عامة عن درجة ميل الأرض. في التجويف الصغير حيث تتساقط المياه، لم يبدُ أن أي رياح قد هبَّت هنا على الإطلاق. كانت الحواف الرقيقة لأوراق الموز الكبيرة، الرطبة بفعل الرذاذ، سليمةً، بدلًا من انقسامها إلى آلاف القطع الصغيرة، كما هو الحال عمومًا. ومن موقعنا، شبه معلقين على جانب الجبل، كانت ثمة لمحاتٌ من أعماق الأودية المجاورة، وكانت القمم الشامخة للجبال المركزية، المنتصبة بزاوية سمت قدرها ستون درجة، تخفي نصف سماء الليل. هكذا جلست، وكان مشهدًا مهيبًا أن أرى ظلال الليل تحجب أعلى القمم وآخرها تدريجيًّا.
قبل أن نخلد إلى النوم، جثا الرجل التاهيتي الأكبر سنًّا إلى ركبتَيه، وبعينَين مغمضتَين أخذ يردِّد صلواتٍ طويلةً بلُغته الأم. كان يصلي كما ينبغي أن يصليَ المسيحيون، بخشوعٍ لائق، وبلا خوف من السخرية أو أي تظاهر بالورع. وأثناء تناول وجباتنا، لم يكن الرجلان يتذوقان أي طعام دون أن يتلوَا عليه دعاءً قصيرًا أولًا. كان حريًّا بأولئك الرحالة الذين يعتقدون أن التاهيتيين يصلون فقط حين يثبت المبشر عينَيه عليهم؛ أن يبيتوا معنا تلك الليلة على سفح الجبل. قبل حلول الصباح، هطلت الأمطار بغزارةٍ شديدة، إلا أن السقف المصنوع من أوراق شجرة الموز حمانا من الأمطار.
•••
بعد تناول وجبة الإفطار، واصلنا رحلتنا. ولما كان هدفي هو مجرد مشاهدة جزءٍ محدود من المشهد الداخلي، عدنا من طريقٍ آخر ينحدر إلى أسفل كثيرًا نحو الوادي الرئيسي. ولمسافةٍ قصيرة، التففنا عبر مسارٍ مُعقد للغاية حول جانب الجبل الذي يشكل الوادي. وفي الأجزاء الأقلِّ انحدارًا، مررنا عبر بساتينَ ممتدةٍ لأشجار الموز البري. كان التاهيتيون — بأجسادهم العارية الموشومة ورءوسهم المزدانة بالزهور، وبالنظر إليهم في الظلال الداكنة لهذه البساتين — يشكلون لوحةً رائعة لإنسان يسكن أرضًا بِكرًا. أثناء هبوطنا، اتبعنا خط النتوءات الجبلية سلسلة التلال؛ وكانت ضيقة للغاية، ومنحدرة لمسافات طويلة كسلم؛ ولكنها جميعًا مغطاة بالنباتات بالكامل. والحذر البالغ والضروري لموازنة كل خطوة جعل المشي مرهِقًا. لم أتوقف عن الإعجاب بهذه الأخوار والمنحدرات؛ فعند رؤية المنطقة من عند واحد من التلال ذات الحوافِّ الحادة كالسكين، كانت نقطة الارتكاز صغيرة للغاية لدرجة أن التأثير كان أشبه بمشهد من منطاد. وأثناء رحلة الهبوط هذه، كانت لدينا فرصةٌ واحدة فقط لاستخدام الحبال، عند نقطة دخولنا إلى الوادي الرئيسي. خلدنا إلى النوم أسفل نفس الحافَّة الصخرية البارزة حيث تناولنا الغداء أول أمس؛ كانت الليلة رائعة، ولكن من عمق وضيق الأخدود، بدت شديدة الظلام.
قبل رؤية هذه المنطقة فعليًّا، كنت أجد صعوبة في فهم حقيقتَين ذكرهما إليس؛ أولاهما: أنه بعد المعارك الفتاكة في العصور السالفة، كان الناجون من الفريق المهزوم يتقهقرون إلى داخل الجبال، حيث يستطيع حَفْنةٌ من الرجال أن يقاوموا حشدًا كبيرًا. بالتأكيد كان بإمكان ستة رجال، عند المكان الذي وضع عنده الرجل التاهيتي جذع الشجرة القديمة، صد الآلاف بكل سهولة؛ والثانية: أنه بعد دخول المسيحية، كان هناك رجالٌ بدائيون يعيشون في الجبال ولا أحد من السكان الأكثر تحضرًا يعرف ملتجأهم.
•••
من الروايات المتباينة التي قرأتها قبل مجيئي إلى هذه الجزر، كنتُ في غاية اللهفة والشوق لتكوين رأي عن أخلاقياتهم من واقع ملاحظاتي الخاصة؛ رغم أن مثل هذا الرأي سيكون بالضرورة معيبًا للغاية. فالانطباعات الأولى تعتمد إلى حدٍّ كبير للغاية على أفكار المرء المكتَسبة مسبقًا. وقد كانت أفكاري مستمَدة من كتاب إليس بعنوان «الأبحاث البولينيزية»، وهو عمل مثير للإعجاب وممتع لأقصى درجة، إلا أنه ينظر بطبيعة الحال إلى كل شيء من وجهة نظر إيجابية — وكذا من كتاب بيتشي بعنوان «الرحلة»، ومن كتاب كوتزبو المعارض بشدة لمنظومة الفكر التبشيري بأكملها. وأظن من يقارن بين هذه الروايات الثلاث سيكوِّن فكرةً دقيقة إلى حدٍّ مقبول عن أخلاقيات التاهيتيين حاليًّا. كان أحد انطباعاتي، التي أخذتها من المؤلفَيْن الأخيرَيْن، خاطئًا تمامًا، ألا وهو أن التاهيتيين صاروا عرقًا كئيبًا وكانوا يعيشون في خوف من المبشرين؛ فلم أرَ أي أثر لهذا الشعور الأخير، اللهم إلا إذا كنا نخلط الخوف والاحترام تحت مسمًّى واحد. وبدلًا من أن يكون السخط هو الشعور السائد بين التاهيتيين، سيكون من العسير في أوروبا أن تستخرج الكثير من الوجوه السعيدة والمرِحة من وسط حشدٍ كبير مقارنة بالتاهيتيين، ولكن ثمة تنديدًا عنيفًا بمنع المزامير والرقص باعتباره تصرفًا خاطئًا وأحمق؛ كما أن التشديد الكنسي الأكثر صرامة على اعتبار يوم الأحد يومًا مقدَّسًا للعبادة ينظر إليه بالشكل نفسه. وبخصوص هذه النقاط، لن أدعي تقديم أي رأيٍ مناهض لرجال أقاموا على الجزيرة لسنواتٍ عدة بينما لم تتجاوز إقامتي هناك بضعة أيام.
في المجمل، يبدو لي أن تديُّن السكان وأخلاقهم جديران بالإكبار. فهناك الكثيرون ممن ينتقدون، ربما بضراوة أكبر من كوتزبو نفسه، كلًّا من المبشرين ومنظومتهم الفكرية والتأثير الذي تحدثه. وهؤلاء المفكرون لا يقارنون أبدًا الوضع الحالي للجزيرة بما كانت عليه قبل عشرين عامًا مضت فقط، ولا حتى بالوضع الذي وصلت إليه أوروبا اليوم؛ وإنما يقارنونه بمعيار الكمال السامي كما هو مذكور في الكتاب المقدس. فهم يتوقعون من المبشرين أن يحدثوا الأثر الذي فشل الحواريون أنفسهم في إحداثه. ونظرًا لأن أحوال الناس لا ترقى إلى هذا المعيار الرفيع، يُلقى اللوم على المبشر، بدلًا من إجلال ما أحدثه من تأثير. إنهم ينسون، أو بالأحرى لن يتذكروا، أن القرابين البشرية وسلطة الكهنوت الوثني — وهي منظومةٌ فكرية للخلاعة والتهتُّك لا نظير لها في أي جزءٍ آخر من العالم — وما يترتب على ذلك من الحروب وقتل الأطفال؛ حيث لا يستثني الغزاة امرأة أو طفلًا من القتل؛ كل ذلك قد مُحي ولم يعد له وجود، كما تراجع الغش والسُّكْر والعهر إلى حدٍّ كبيرٍ مع دخول المسيحية. ونسيان الرحالة لهذه الأشياء هو الجحود بعينه؛ لأنه إذا تصادف وشارفت سفينته على التحطم على ساحلٍ مجهول، فلسوف يدعو بورعٍ شديد لو كانت عظة المبشر قد امتدت إلى مكانه الذي علق فيه.
وفيما يخص الأخلاق، كثيرًا ما كان يُقال إن باب الاستثناءات مفتوح على مصراعيه أمام عفة النساء، ولكن قبل أن نحتدَّ في لومهن بشدة، سيكون من الجيد هنا أن نسترجع المشاهد التي وصفها كابتن كوك والسيد بانكس، والتي لعبت فيها جدات وأمهات الجنس الحالي دورًا. فعلى أولئك الأكثر تشددًا أن يفكروا كيف أن جزءًا كبيرًا من أخلاقيات النساء في أوروبا تعود إلى المنظومة التي فرضتها الأمهات على بناتهن في وقتٍ مبكر، وإلى أي مدًى تعود هذه الأخلاقيات إلى التعاليم الدينية في كل حالة على حدة، ولكن لا جدوى من المجادلة مع هؤلاء المفكرين؛ فأنا مؤمن بأنهم في خضم خيبة أملهم من عدم إتاحة مجال الدعارة على مصراعيه كما كان من قبلُ، لن ينسبوا أي فضل إلى أخلاقيات لا يودون اتباعها أو إلى دين يستخفُّون به، إن لم يكونوا يزدرونه.
•••
قبل عامَين تقريبًا، تعرضَتْ سفينةٌ صغيرة تحمل العلم الإنجليزي إلى هجومٍ من قِبل بعض سكان جزر لوو، التي كانت تخضع لحكم ملكة تاهيتي آنذاك. كان يُعتقد أن المجرمين قد حُرضوا على هذه الفعلة بسبب بعض القوانين غير الحكيمة التي أصدرتها جلالة الملكة. وقد طالبت الحكومة البريطانية بتعويض، وتمت الموافقة عليه، واتفق الطرفان على سداد مبلغ ٣٠٠ دولار تقريبًا بحلول اليوم الأول من شهر سبتمبر الماضي. وأمر العميد البحري بمدينة ليما الكابتن فيتزروي أن يستفسر بخصوص هذا الدَّين، وأن يطالب بسداده لو لم يتم سداده؛ ومن ثم، طلب كابتن فيتزروي مقابلةً مع الملكة بومار، التي اشتهرت منذ المعاملة السيئة التي تلقتها من الفرنسيين، وانعقدت جلسةٌ برلمانية للبتِّ في الأمر، حضرها زعماء قبائل الجزيرة والملكة. لن أحاول وصف ما حدث، بعد الرواية الممتعة التي سردها الكابتن فيتزروي. كان يبدو أنه لم يتم سداد المبلغ؛ وربما كانت الأسباب المعلنة لذلك مريبةً نوعًا ما؛ إلا أنني لا يسعني التعبير بما يكفي عن دهشتي عمومًا من أقصى درجات الحس السليم وقدرات التفكير المنطقي والاعتدال والصراحة والقدرة على اتخاذ القرار السريع، التي أبداها جميع الأطراف. وأظن أننا جميعًا غادرنا الاجتماع برأيٍ مختلف تمامًا عما جئنا به عن التاهيتيين؛ فقد قرر الزعماء والشعب أن يشتركوا ويستكملوا المبلغ المطلوب، وأعرب الكابتن فيتزروي عن أنه من الصعب أن يضحُّوا بممتلكاتهم الخاصة لدفع ثمن جريمة ارتكبها أهل جزيرةٍ نائية. وردُّوا عليه مُعبِّرين عن امتنانهم لمراعاته مشاعرهم؛ إلا أن بومار هي مليكتهم، وهم عازمون على نجدتها في محنتها. وكان هذا القرار وتنفيذه السريع، حيث فُتح حساب في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، كان خير ختام لهذا المشهد الاستثنائي للغاية للولاء والمشاعر الطيبة.
بعد انتهاء المناقشة الرئيسية، انتهز عدة زعماء الفرصة ليسألوا كابتن فيتزروي العديد من الأسئلة الذكية حول الجمارك والقوانين الدولية، المتعلقة بمعاملة السفن والأجانب. وبمجرد اتخاذ القرار بخصوص بعض النقاط، صدر القانون شفهيًّا على الفور. استمر انعقاد البرلمان التاهيتي لعدة ساعات؛ وعندما انفض البرلمان، دعا كابتن فيتزروي الملكة بومار لزيارة البيجل.
•••
•••
•••
•••
في فترة ما بعد الظهيرة، ذهبنا سيرًا على الشاطئ إلى واحدة من المجموعات الأكبر من المنازل التي لا تستحق وصف قرية. يُطلق عليها باهيا؛ وهي مقر المبشرين، ولا يوجد بها سكانٌ أصليون باستثناء الخدم والعمال. وبجوار خليج الجزر، تراوح عدد الرجال الإنجليز، بمن فيهم أسرهم، بين ٢٠٠ و٣٠٠. وجميع الأكواخ — التي كان الكثير منها ذا لونٍ أبيضَ جيريٍّ وتبدو أنيقة للغاية — مملوكة للإنجليز. وأكواخ السكان الأصليين صغيرة الحجم وبائسة ولا تكاد تميزها عن بُعد. في باهيا، كان من المبهج للغاية أن تشاهد الزهور الإنجليزية في الحدائق الموجودة أمام المنازل؛ كانت توجد زهورٌ مختلفة الأنواع؛ زهور العسلة والياسمين وزهور المتيولا وأسيجة كاملة من النسرين الكلاب.
•••
كان الدليل على كثرة استخدام تلك القباب واضحًا من أكوام القواقع والحُفر التي كانت تُستخدم لتخزين البطاطا الحلوة، كما قيل لي. ونظرًا لعدم وجود مياه على هذه التلال، لم يكن بإمكان المدافعين أبدًا توقُّع حدوث حصار يدوم طويلًا؛ بل مجرد هجماتٍ خاطفة بهدف السرقة والتي كانوا يحتمون منها على المصاطب المتدرجة. لقد غيَّر ظهور الأسلحة النارية بوجهٍ عام منظومة الحروب بأكملها، وصار الموضع المكشوف فوق قمة تل أسوأ كثيرًا الآن. ونتيجة لذلك، تُبنى القباب الصناعية في الوقت الحالي على أرضٍ مستوية. وتتكوَّن من سياجٍ مزدوج من أعمدةٍ سميكة وطويلة، موزعة في خطٍّ متعرج، بحيث يمكن تطويق كل جزء من الأجزاء. وداخل السياج، توجد ربوةٌ ترابية، يستطيع المدافعون الاحتماء خلفها في أمان أو يستخدموا أسلحتهم من فوقها. وعلى مستوى الأرض توجد قناطرُ صغيرةٌ تمر أحيانًا عبر هذا المتراس يستطيع من خلالها المدافعون أن يزحفوا للخارج نحو السياج ويستطلعوا أحوال أعدائهم. وأضاف القس دبليو وليامز، الذي حكى لي هذه الرواية، أنه لاحظ على أحد تلال الباس بروز نتوءات كمهاميز أو دعائم من الجهة الداخلية والمحمية من الربوة الترابية. وحين سئل الزعيم عن الغرض الأساسي منها، أجاب أنه إذا قُتل رجلان أو ثلاثة من رجاله لا يرى زملاؤهم الجثث ما قد يفتر همتهم.
ويعتبر النيوزيلنديون هذه القباب وسيلةً مثالية جدًّا للدفاع؛ إذ إن القوات المغيرة غير مدربة جيدًا على التدافع في مجموعة نحو السياج وتهشيمه واختراقه. فعندما تخرج قبيلة إلى الحرب، لا يستطيع زعيمها أن يأمر جماعة بالذهاب هنا وأخرى بالذهاب إلى هناك؛ وإنما يقاتل كل رجل بالطريقة التي تحلو له، واقتراب أي شخص بمفرده من سياجٍ محمي بالأسلحة النارية هو الموت المحقَّق بعينه. أعتقد أنه لا يمكن أن تجد شعبًا مولعًا بالحروب في أي مكانٍ آخر بالعالم أكثر من النيوزيلنديين. وسلوكهم عند رؤية سفينة لأول مرة — كما وصفه كابتن كوك — يوضح هذا بشدة؛ فقذف وابل من الحجارة على صرحٍ عظيم وبديع للغاية كهذا وصياحهم في تحدٍّ: «انزلوا إلى الشاطئ وسنقتلكم ونأكلكم جميعًا» يعكس جرأةً غير معهودة. وهذه الروح المولعة بالحروب تتجلَّى في الكثير من تقاليدهم وحتى في أبسط تصرفاتهم. فلو تعرض النيوزيلندي للضرب، حتى ولو على سبيل المزاح، فلا بد أن يردَّ الضربة؛ ولقد رأيت هذا بنفسي مع أحد ربابنتنا.
أما في الوقت الحالي، ونظرًا إلى التقدم الحضاري، فقد قلَّت الحروب كثيرًا، باستثناء الحروب المشتعلة بين بعض القبائل الجنوبية. ولقد سمعت حكايةً غريبة من نوعها عن حادثة وقعت في الجنوب قبل فترة مضت. وجد أحد المبشرين زعيمًا وقبيلته يستعدون لشنِّ حرب؛ إذ كانت بنادقهم نظيفة ولامعة وذخيرتهم جاهزة. فأخذ يجادله بالمنطق لفترةٍ طويلة بعدم جدوى الحرب، وغياب الأسباب المحرِّضة على خوضها. تردَّد الزعيم كثيرًا في قراره وبدا أن الشك يخامره، وأخيرًا تبيَّن له أن أحد براميل البارود كان في حالةٍ سيئة، ولن يبقى طويلًا. وقدَّم هذا كحجةٍ مفحمة لضرورة إعلان الحرب على الفور؛ لم تخطر فكرة ترك بارود عالي الجودة يفسد على بال أحد؛ وهذا حسم الأمر. وقد أخبرني المبشرون أن في حياة شونجي، الزعيم الذي زار إنجلترا، كان حب الحرب هو المنبع الأوحد والدائم لكل أفعاله. لقد عانت القبيلة، التي شغل فيها منصب الزعيم الأكبر، في فترة من الفترات من اضطهادٍ شديد على يد قبيلةٍ أخرى من نهر التايمز. وأقسم الرجال بأغلظ الأيمان أنه حين يكبر أبناؤهم ويتمتعون بالقوة الكافية، فإنهم لن يغفروا هذه الإساءات أو ينسوها. ويبدو أن الوفاء بهذا القسم كان دافع شونجي الأساسي للذهاب إلى إنجلترا، وحين وصل إلى هناك كان هدفه الأوحد. كانت الهدايا لا تلقى تقديرًا إلا إذا كانت يمكن تحويلها إلى أسلحة، ولم يكن يهتم بأي حِرَفٍ سوى تلك المرتبطة بتصنيع الأسلحة. وحين وصل إلى سيدني، وعن طريق صدفةٍ غريبة، التقى شونجي بزعيم قبيلة نهر التايمز المعادية في منزل السيد مارسدن؛ كان سلوك كلٍّ منهما تجاه الآخر متحضرًا، ولكن شونجي أخبره أنه حين يعود إلى نيوزيلندا مرةً أخرى لن يتراجع مطلقًا عن شنِّ حرب على بلاده وفي عقر داره. وقُبل التحدي، ونفَّذ شونجي التهديد بحذافيره لدى عودته. هُزمت قبيلة نهر التايمز هزيمةً نكراء، وقُتل الزعيم نفسه الذي قبل التحدي. ورغم أن شونجي يُكنُّ مثل هذه المشاعر العميقة من الكراهية والانتقام، فإنه يُوصف بأنه كان شخصًا لطيفًا وودودًا.
في المساء، خرجت مع كابتن فيتزروي والسيد بيكر، أحد المبشرين، لزيارة كوروراديكا، وتجوَّلنا عبر القرية والتقينا مع الكثير من الناس، رجالًا ونساءً وأطفالًا، وتبادلنا معهم الحديث. عند النظر إلى الرجل النيوزيلندي، تجد نفسك تلقائيًّا تقارنه بنظيره التاهيتي؛ فكلاهما ينتمي إلى أسرةٍ واحدة من الجنس البشري. ورغم ذلك، لا تأتي المقارنة في صالح الرجل النيوزيلندي مطلقًا. لعله يتفوَّق من حيث القوة، ولكن شخصيته تأتي في مرتبةٍ أدنى كثيرًا من جميع الجوانب الأخرى. ونظرةٌ واحدة إلى تعبيرات وجه كلٍّ منهما كفيلة بأن ترسِّخ في الذهن قناعة بأن أحدهما همجي والآخر متحضر. ولا طائل من البحث في نيوزيلندا بأكملها عن شخص بوجه وسيماء الزعيم التاهيتي العجوز أوتامي. ولا شك أن المبالغة في رسم الوشم هنا تمنح وجوههم منظرًا بغيضًا. فالرسومات المعقدة، رغم تناسقها، والتي تغطي الوجه بأكمله، تربك العين غير المعتادة على ذلك وتُضلِّلها؛ وعلاوة على ذلك فمن المرجَّح أن تمنح النقوش العميقة، من خلال تدمير مرونة العضلات السطحية، انطباعًا بالتصلُّب الشديد، ولكن، إلى جانب كل ذلك، يوجد بالعين بريقٌ لا يمكن أن ينمَّ عن شيءٍ سوى المكر والشراسة. وبنيتهم طويلة وضخمة، إلا أنها لا تضاهي رشاقة بنية أرباب الطبقة العاملة في جزيرة تاهيتي.
وهم أنفسهم ومساكنهم يتَّسمون بالقذارة الشديدة والقبح؛ إذ يبدو أن فكرة غسل أجسادهم أو ملابسهم لم ترد على أذهانهم قط. فقد التقيت بزعيم، كان يرتدي قميصًا أسود تعلوه القذارة، وحين سألته كيف صار القميص قذرًا لهذه الدرجة، أجاب باستغراب قائلًا: «ألا ترى أنه قديم؟» بعض الرجال لديهم قمصان، إلا أن الزي الشائع هو دثار أو دثاران كبيران، أسود اللون عمومًا بسبب الأوساخ، يضعونه فوق أكتافهم على نحوٍ غريب وغير ملائم تمامًا. ثمة بعض زعماء القبائل يمتلكون حُللًا إنجليزيةً أنيقة، ولكنهم لا يرتدونها إلا في المناسبات الكبرى.
•••
قبل فترةٍ مضت، تعرض السيد بوشبي لاعتداءٍ أشدَّ خطورة بكثير؛ فقد حاول أحد الزعماء ومجموعة من الرجال اقتحام منزله في منتصف الليل، ولمعرفتهم أن هذا لن يكون سهلًا هكذا، بادروا بإطلاق نيران سريعة باستخدام بنادقهم. أُصيب السيد بوشبي بجروح طفيفة، إلا أن المجموعة أُجبرت على الهرب في النهاية. وبعد فترةٍ قصيرة، اكتُشفت هوية المعتدي؛ وعُقد اجتماع عام للزعماء للنظر في القضية. ورأى النيوزيلنديون أن الهجوم وحشيٌّ للغاية؛ كونه هجومًا ليليًّا، ولأن السيدة بوشبي كانت طريحة الفراش في المنزل، وكان هذا الظرف الأخير، كونه يدخل في نطاق شرفهم إلى حدٍّ كبير، يعتبر في حد ذاته حماية في جميع الأحوال. واتفق الزعماء على مصادرة أرض المعتدي لصالح ملك إنجلترا. غير أن الإجراءات برمَّتها من محاكمة زعيم وعقابه لم يكن لها سابقة على الإطلاق. علاوة على ذلك، فقد المعتدي مكانته في نظر أقرانه، وكان البريطانيون يعتبرون هذا عاقبة أشد من مصادرة أرضه.
بينما كان القارب في سبيله إلى الإبحار، صعد على متنه زعيمٌ ثانٍ، كان يرغب فقط في الاستمتاع بجولة في الخليج الصغير. لم أرَ في حياتي تعبيرًا أبغض ولا أشرس من التعبيرات التي ارتسمت على وجه هذا الرجل. وعلى الفور، خطر لي أنني رأيت شبيهًا له في موضعٍ ما؛ كان هذا في رسومات ريتسش لقصيدة فريدولين للشاعر شيلر، حيث يدفع رجلان روبرت داخل فرن الحديد المشتعل. كان أشبه بالرجل الذي يضع ذراعه على صدر روبرت. وكانت ملامحه تنطق بالحقيقة هنا؛ لقد كان هذا الزعيم قاتلًا شهيرًا فيما مضى، وصار الآن جبانًا مشرَّدًا حتى النخاع. وعند المكان الذي رسا عليه القارب، اصطحبني السيد بوشبي لمائة وبضعة من الأمتار على الطريق؛ ولم يسعني سوى الإعجاب بوقاحة الوغد العجوز الذي تركناه مستلقيًا في القارب، حين صاح قائلًا للسيد بوشبي: «لا تمكث طويلًا، سأمَلُّ من الانتظار هنا.»
بدأنا مسيرتنا توًّا. كان الطريق عبارة عن مسار ممهَّد، يحده من كلا الجانبين نباتات السرخس الطويلة التي تغطي البلاد بأكملها. وبعد قطع بعض الأميال، وصلنا إلى قريةٍ ريفيةٍ صغيرة، حيث تكتلت بعض الأكواخ معًا في مكانٍ واحد، وزُرعت بعض الأراضي بالبطاطس. كان إدخال محصول البطاطس أكبر فائدة للجزيرة؛ فهي الآن مستخدَمة أكثر بكثير من أي خضارٍ محليٍّ آخر. وقد حُبيت نيوزيلندا بميزةٍ طبيعيةٍ عظيمة؛ ألا وهي أنه لا يمكن أبدًا لسكان البلاد أن يموتوا جوعًا. فالبلاد بأكملها زاخرة بنبات السرخس، وجذور هذا النبات، وإن لم تكن سائغة المذاق، إلا أنها تحتوي على قيمةٍ غذائيةٍ عالية. ويستطيع السكان المحليون أن يعيشوا دومًا عليها وعلى المحاريات المتوفرة بكثرة على جميع أجزاء الساحل البحري. وتتميز القرى بوجهٍ خاص بالأرصفة المرتفعة على أربع صَوارٍ فوق الأرض بمسافة عشر أقدام أو اثنتي عشرة قدمًا؛ وعليها يُحتفظ بمنتجات الحقول في مأمن من جميع الحوادث.
عندما اقتربنا من أحد الأكواخ، استمتعتُ كثيرًا برؤية مراسم حكٍّ، أو كما يجب تسميتها، ضغط الأنوف، في شكلها المثالي. ففور اقترابنا لأول وهلة، بدأت السيدات يقُلن شيئًا بصوتٍ رتيب جدًّا؛ ثم جلسْنَ القرفصاء ورفعْنَ وجوههن لأعلى، ووقف رفيقي فوقهن، واحدةً تلو الأخرى، واضعًا قصبة أنفه بزاوية قائمة مع أنوفهن، وبدأ الضغط عليها. استمر هذا لوقتٍ أطول نوعًا ما من الوقت الذي نستغرقه في المصافحة الحارة باليد، ومثلما تتفاوت قوة الضغط على اليد أثناء المصافحة، كذلك تتفاوت قوة الضغط على الأنف. وفي الأثناء، أطلقوا أصوات خُوَارٍ خافتة بارتياح، أشبه كثيرًا بخُوار خنزيرَين حين يحتكُّ أحدهما بالآخر. وقد لاحظتُ أن العبد يضغط أنفه مع أي شخص يلتقي به، غير مبالٍ بأن يحدث هذا قبل أو بعد سيده الزعيم. وعلى الرغم من أنه بين هؤلاء الهمج يتمتع الزعيم بسلطة الحياة والموت المطلقة على خادمه، فلا وجود لهذه الرسميات بينهما. وقد لاحظ السيد بورشيل الأمر نفسه في جنوب أفريقيا مع قبائل بشبين البدائية. فعندما تصل الحضارة إلى نقطةٍ معينة، سرعان ما تُرفع الرسميات المعقدة بين الطبقات المختلفة للمجتمع، ولهذا كان الجميع في جزيرة تاهيتي مجبَرين فيما مضى على تعرية أنفسهم حتى الخصر في حضرة الملك.
بعد الانتهاء من مراسم ضغط الأنوف على أكمل وجه مع جميع الحاضرين، جلسنا في دائرة أمام أحد الأكواخ، واسترحنا هناك لمدة نصف ساعة. جميع الأكواخ هنا لها الشكل والحجم نفسه تقريبًا، وتتفق جميعًا في كونها شديدة القذارة. فهي أشبه بحظيرة بقر مفتوحةٍ من أحد طرفَيها، ولكنَّ بها جزءًا إلى الداخل قليلًا، بداخلها حفرةٌ مربعة، لتشكل بذلك حجيرة مظلمة. وبداخلها، يضع السكان جميع ممتلكاتهم، وحين يكون الطقس باردًا، ينامون هناك. غير أنهم يأكلون ويقضون وقتهم في الجزء المفتوح الموجود أمام الكوخ. بعد أن انتهى المرشدان المرافقان لي من تدخين غليونهما، واصلنا مسيرتنا. كان الطريق يمر عبر نفس المنطقة المتموِّجة، وكانت المنطقة بالكامل مغطاة على نحوٍ متسق بنبات السرخس، كما كان الحال من قبلُ. وعلى يميننا، كان يوجد نهرٌ متعرج، ضفافه محفوفة بالأشجار، وتناثرت على جانبي التل أجمة من الأشجار. والمشهد بأكمله، على الرغم من لونه الأخضر، كان يخيم عليه مسحةٌ مقفرة للغاية. فرؤية عددٍ كبير من نبات السرخس تُرسِّخ في الذهن فكرة الجدب؛ إلا أن هذا غير صحيح؛ لأنه أينما تنمُ نباتات السرخس بكثافةٍ وترتفع إلى مستوى الصدر، تصبح الأرض خِصْبةً عن طريق الحرث. ويعتقد بعض السكان أن كل هذه المنطقة المفتوحة والشاسعة كانت مغطاة بالأساس بالغابات، قبل أن تُزال بالحرائق. ويُقال إنه من خلال الحفر في أكثر الأماكن جدبًا، كثيرًا ما يُعثَر على كتلٍ راتينجية تنساب من شجر الكُوري الصنوبري. كان لدى السكان المحليين دافعٌ واضح لتطهير المنطقة؛ إذ إن نبات السرخس، المصدر الرئيسي للغذاء فيما مضى، لا ينمو إلا في المسارات المفتوحة المطهرة. وربما يعود الغياب شبه التام للحشائش المشابهة، الذي يمثل سمةً ملحوظة جدًّا في نباتات هذه الجزيرة، إلى أن الأرض كانت بالأساس مغطاةً بأشجار الغابات.
والتربة هنا بركانية؛ ففي الكثير من الأجزاء كنا نمرُّ فوق حمم الخَبَث، ويمكن تمييز الفوهات البركانية بوضوح فوق الكثير من التلال المجاورة. وعلى الرغم من أن المشهد خلا من أي جمال، إلا من قدرٍ متوسط منه يظهر بين الحين والآخر فقط، فقد استمتعتُ بجولتي. وكان يجدر بي أن أستمتع بها أكثر، لو لم يكن رفيقي، الزعيم، يتمتع بقدراتٍ حواريةٍ خارقة. لم أكن أعرف سوى ثلاث كلمات فقط: «جيد»، «سيئ»، «أجل» وبهذه الكلمات الثلاث كنت أردُّ على تعليقاته، دون أن أفهم كلمةً واحدة مما يقول بالطبع. إلا أن هذا كان كافيًا تمامًا؛ إذ كنت مستمعًا جيدًا وشخصًا سهل المعشر؛ ولذا لم يكفَّ مطلقًا عن الحديث معي.
أخيرًا، وصلنا إلى وايميتي. بعد أن اجتزنا أميالًا كثيرة من منطقةٍ مقفرة غير آهلة، كان الظهور المفاجئ لمزرعةٍ إنجليزية بحقولها الأنيقة — كما لو أنها وضعت في هذا المكان بعصًا سحرية — أمرًا ممتعًا للغاية. ونظرًا لأن السيد وليامز لم يكن موجودًا بالمنزل، استُقبلت في منزل السيد ديفيز استقبالًا حارًّا. وبعد تناول الشاي مع أسرته، تجولنا عبر المزرعة. يوجد بوايميتي ثلاثةُ منازلَ كبيرةٍ حيث يعيش السادة المبشرون، السيد وليامز والسيد ديفيز والسيد كلارك؛ وبالقرب منها يوجد أكواخ العمال المحليين. وعلى منحدر مجاور، وقفت محاصيل الشعير والقمح بسنابلها الكاملة، وفي جزءٍ آخر امتدت حقول البطاطس والبرسيم، ولكني لا أسعى لوصف كل ما رأيت؛ كانت توجد حدائقُ كبيرة بها كل الفواكه والخضراوات التي تنتجها إنجلترا، والكثير منها ينتمي إلى مناطقَ ذات مناخٍ أكثرَ دفئًا. ويمكن أن أضرب مثالًا هنا بالهليون واللوبيا والخيار والراوند والتفاح والكُمَّثْرى والتين والدُّرَّاق والمشمش والعنب والزيتون وعنب الثعلب والكشمش وعشبة الدينار والجولق للأسيجة، والبلوط الإنجليزي، بالإضافة إلى أنواعٍ كثيرة من الزهور. وحول فناء المزرعة يوجد إسطبلات، وبيدر به ماكينة غربلة، وورشة حدادة، وعلى الأرض محاريث وغيرها من الأدوات، وفي المنتصف كان ثمة تمازجٌ مبهج بين الخنازير والدواجن، يستكينون معًا الْتماسًا للدفء، كما هو الحال في أي مزرعةٍ إنجليزية. وعلى مسافة بضع مئات من الياردات، حيث تنساب مياه غديرٍ صغير في بركة، كان يوجد طاحونةٌ مائيةٌ كبيرة وصلبة.
كان كل هذا مدهشًا للغاية حين تفكر أنه قبل خمس سنوات مضت لم يكن هناك شيء ينمو هنا سوى السرخس. علاوة على ذلك، كانت المهارة المحلية، التي اكتُسبت من المبشرين، هي ما أحدثت هذا التغيير؛ فعظة المبشرين بمثابة عصًا سحرية. فبنيت المنازل ونُصبت النوافذ وحُرثت الحقول وحتى الأشجار زُرعت بأيدي النيوزيلنديين. وعند الطاحونة، تشاهد رجلًا نيوزيلنديًّا مغطًّى بالطحين الأبيض مثل نظيره الطحَّان في إنجلترا. عندما ألقيت نظرة على هذا المشهد بأكمله، رأيته مثيرًا للإعجاب؛ ليس فقط لأنني أستحضر في ذهني إنجلترا بكل وضوح؛ أو لأنه مع قرب نهاية المساء، تختلط عليَّ أصوات الأهالي وحقول الذرة والريف المتموِّج المترامي بأشجاره لأحسب أنني في أرض الوطن؛ أو لأنني أشعر بزهوة الانتصار عند رؤية ما يستطيع الرجال الإنجليز إنجازه؛ وإنما ما يُثير الإعجاب حقًّا هو الآمال الكبرى المُعلقة على التقدم المستقبلي الذي ستُحقِّقه هذه الجزيرة الرائعة.
تم تشغيل العديد من الشباب، الذين أُعتقوا من العبودية على أيدي المبشرين، في المزرعة. كانوا يرتدون قمصانًا وسترات وسراويل ويتمتعون بمظهرٍ محترم. وبناءً على واقعةٍ بسيطة وقعت أمام عيني، أظن حتمًا أنهم أمناء. فأثناء التجول في الحقول، جاء عاملٌ شاب إلى السيد ديفيز وأعطاه مديةً ومثقابًا، قائلًا إنه وجدهما على الطريق ولا يعرف من صاحبهما! بدا هؤلاء الشباب والفتيان مرحين للغاية ويتمتعون بروح الدعابة. في المساء، رأيت مجموعة منهم يلعبون الكريكت؛ ففي حين كنت أفكر في التزمُّت الذي يُتهم به المبشرون، كنت أستمتع برؤية أبنائهم يشاركون بنشاط في اللعبة. ثمة تغييرٌ ملحوظ ومُفرح أكثر تجلَّى في الشابات اللاتي يعملْنَ خادمات في المنازل. فمظهرهن الأنيق والنظيف والصحي، كمظهر عاملات مصانع الألبان في إنجلترا، شكَّل نقيضًا رائعًا لمظهر سيدات الأكواخ القذرة الموجودة في كوروراديكا. حاولت زوجات المبشرين إقناعهن بعدم وشم أجسادهن، إلا أن بعد مجيء دجالٍ مشهور من الجنوب، قلن: «لا بد أن نرسم بضعة خطوط على شفاهنا؛ وإلا فستتجعد شفاهنا وسنصير قبيحات للغاية حين نتقدم في العمر.» ولا يوجد الكثير من الوشم مثلما كان في الماضي؛ ولكن نظرًا لكونه علامة تفرق بين السيد والعبد، فمن المرجح أن تستمر ممارسته لوقتٍ طويل. وما أسرع التحول الذي تمر به سلسلة من الأفكار لتصبح معتادة! حتى إن المبشرين أخبروني أنه حتى في نظرهم كان الوجه البسيط يبدو وضيعًا، ولا يشبه وجه رجلٍ نيوزيلندي من السادة.
في وقتٍ متأخر من المساء، ذهبت إلى منزل السيد وليامز، حيث قضيتُ الليلة. وجدت هناك مجموعةً كبيرة من الأطفال مجتمعين للاحتفال بيوم عيد الميلاد، وكانوا جميعًا جالسين حول طاولة لتناول الشاي. لم أرَ في حياتي قط مجموعة ألطف ولا أكثر مرحًا من هؤلاء، ولم أتخيل أن كل هذا وسط أرض أَكَلَة اللحوم البشرية والقتل وجميع الجرائم البشعة! وكانت المودة والسعادة المرسومة بكل وضوح على وجوه تلك الدائرة الصغيرة، بادية بالقدر نفسه على وجوه المبشرين الأكبر سنًّا.
•••
قبيل الظهيرة، رافقني السيدان وليامز وديفيز إلى جزء من غابةٍ مجاورة ليُرياني أشجار الكُوري الصنوبرية الشهيرة. قمت بقياس إحدى هذه الأشجار العريقة ووجدت أن محيطها يبلغ ٣١ قدمًا فوق مستوى الجذور. كانت هناك واحدةٌ أخرى على مقربة، ولكن لم أرها، تبلغ ٣٣ قدمًا؛ وسمعت أن هناك واحدة لا تقل عن ٤٠ قدمًا. وهذه الأشجار لافتة للنظر بسبب جذوعها الأسطوانية الملساء التي يبلغ طولها ستين أو حتى تسعين قدمًا، وذات قُطرٍ مماثل تقريبًا، وبلا أي فروع. ورأس الفروع عند القمة صغير بقدر لا يتناسب مع الجذع، وكذلك الأوراق صغيرة مقارنة بالفروع. كانت الغابة هنا تقتصر تقريبًا على أشجار الكُوري؛ ومن التوازي القائم بين جوانبها، كانت الأشجار الأكبر حجمًا تقف وكأنها أعمدةٌ خشبيةٌ عملاقة. وأخشاب أشجار الكُوري هي أثمن منتج لهذه الجزيرة؛ بالإضافة إلى ذلك، تنساب كمية من الراتينج من اللحاء، يُباع منها الرطل ببنس للأمريكيين؛ غير أن استخدامها لم يكن معروفًا آنذاك. وبعض الغابات النيوزيلندية لا يمكن اختراقها لدرجة غير عادية. فقد أخبرني السيد ماثيوز أن إحدى الغابات يبلغ عرضها ٣٤ ميلًا فقط وتفصل منطقتَين آهلتَين بالسكان، اجتيزت مؤخرًا فقط لأول مرة. فقد أخذ على عاتقه هو ومبشرٌ آخر، كلٌّ برفقة خمسين رجلًا تقريبًا، شقَّ طريق بها، لكن الأمر كلفهم أسبوعَين عملًا! وفي الغابة، رأيت عددًا قليلًا جدًّا من الطيور. أما بخصوص الحيوانات، فثمة حقيقةٌ لافتة للنظر للغاية، وهي أن جزيرة بهذه المساحة — إذ تمتد لمسافة أكثر من ٧٠٠ ميل بالنسبة إلى دوائر العرض، وفي كثير من المناطق يبلغ عرضها تسعين ميلًا، وذات مزارعَ متنوعة ومناخٍ رائع وأراضٍ بمختلف الارتفاعات بدءًا من ١٤ ألف قدم وأقل — ليس بها حيوانٌ واحدٌ أصيل باستثناء فأرٍ صغير. والأنواع العديدة من ذلك الجنس العملاق من الطيور، وهو طائر الموا العملاق، تبدو أنها قد حلَّت محلَّ رباعيات الأقدام الثديية، كما هو الحال مع الزواحف الموجودة في أرخبيل جالاباجوس. ويُقال إن الفأر النرويجي الشائع أباد النوع النيوزيلندي في هذا الطرف الشمالي من الجزيرة في غضون عامَين. وفي أماكنَ كثيرة، لاحظت عدة أنواع من الأعشاب التي كانت، مثلها مثل الفئران، تعلق بي كرهًا مثل الفلاحين. واجتاح نبات الكراث مناطق بأكملها، الأمر الذي سيثبت أنه مزعج جدًّا؛ إلا أنه تم استيراده كهدية على متن سفينة فرنسية. وينتشر نبات الحماض الشائع أيضًا على نطاقٍ واسع، وأخشى أن يبقى إلى الأبد دليلًا على نذالة رجلٍ إنجليزي باع هذه البذور على أنها بذور نبات التبغ.
عند العودة من نزهتنا الممتعة إلى المنزل، تناولت العشاء مع السيد وليامز؛ ثم عدت إلى خليج الجزر بعد أن أُعرتُ حصانًا. وودَّعت المبشرين ممتنًّا لهم على استضافتهم الكريمة وبمشاعر الاحترام البالغ لشخصهم النزيه والشهم والصالح. أظن أن من الصعب أن تجد مجموعة من الرجال مهيئين على نحوٍ أفضل للمنصب الرفيع الذي يشغلونه كهؤلاء.
•••
•••
واصلنا مسيرتنا وسرعان ما وصلنا إلى قرية وايوميو. توجد هنا كتلٌ فريدة من الحجر الجيري شبيهة بقلاع مدمَّرة. تستخدم هذه الصخور منذ فترةٍ طويلة كمدافن؛ ومن ثم كانت تُعتبر مقدسة لدرجة حظر الاقتراب منها. غير أن أحد الشباب صاح قائلًا: «هيا، لنكن جميعًا شجعانًا!» وركض مستبِقًا الجميع؛ ولكن في حدود مائة ياردة، تراجعت المجموعة عن الأمر وتوقَّفوا فجأة، ولكن سمحوا لنا في لا مبالاةٍ مطلقة أن نعاين المكان بأكمله. مكثنا بضع ساعات في هذه القرية، وأثناء تلك الفترة دار نقاشٌ مطوَّل مع السيد بوشبي بخصوص حق بيع أراضٍ معيَّنة. وأوضح رجلٌ عجوز، والذي بدا عالم أنساب ممتازًا، الملاك المتعاقبين لهذه الأراضي من خلال عصيٍّ مدقوقة في الأرض. وقبل مغادرة المنازل، مُنح لكل مجموعة منَّا ملء سلةٍ صغيرة من البطاطا المشوية، وبحكم العادة حملناها معنا لنتناولها على الطريق. لاحظت وجود عبد بين النساء العاملات في الطهي؛ لا بد أنها كانت إهانةً كبيرة للرجال، في مثل هذه المنطقة المحاربة، أن يعملوا في مهنة تُعتبر أحطَّ مهنة للنساء. فلا يسمح للعبيد بالخروج إلى الحرب، ولكن ربما كان من الصعب اعتبار هذا مشقة. لقد سمعت عن عبد بائسٍ مسكين فرَّ إلى الجانب المعادي، أثناء الأعمال القتالية، لكن اعترض طريقه رجلان وعلى الفور أُلقي القبض عليه، واختلف الرجلان على أيٍّ من الجانبين ينتمي إليه هذا العبد، ووقف كلٌّ منهما فوقه ببلطة، وبدَوَا عازمَين على ألا يأخذه أحد منهما حيًّا. ولم ينقِذ العبدَ المسكين، الذي كاد يموت من الخوف، سوى كلمة من زوجة الزعيم. بعد ذلك استمتعنا بتمشيةٍ مبهجة في طريق العودة إلى القارب، إلا أننا لم نصل إلى السفينة إلا في وقتٍ متأخر من المساء.
•••
إن البساطة الساحرة، الموجودة في جزيرة تاهيتي، تغيب هنا بين أهل نيوزيلندا؛ كما أن الجزء الأكبر من الإنجليز الموجودين هنا هم حثالة المجتمع. وحتى البلاد في حد ذاتها لم تكن بها أي جاذبية. ولا أذكر منها إلا مكانًا واحدًا مضيئًا، ألا وهو «وايميتي» بسكانها المسيحيين.