الفصل التاسع عشر
أستراليا
سيدني – نزهة إلى باثيرست – طبيعة الغابات – مجموعة من السكان الأصليين – الانقراض التدريجي للكائنات الأصيلة – عدوى من رجال معتلِّي الصحة – الجبال الزرقاء – منظر الأودية المهيبة الشبيهة بالخليج – أصلها وتكوينها – باثيرست، والسلوك المتحضر لطبقات المجتمع الدنيا – أحوال المجتمع – جزيرة فان ديمنزلاند – هوبارت – اختفاء جميع الكائنات الأصيلة – جبل ولينجتون – مضيق الملك جورج البحري – الطابع الكئيب للبلاد – شبه جزيرة بولد هيد، القوالب الجيرية لفروع الأشجار – مجموعة من السكان الأصليين – مغادرة أستراليا.
***
في النهاية، رسَوْنا داخل خليج سيدني الصغير. وجدنا الحوض الصغير مشغولًا بالكثير من السفن الضخمة ومحاطًا بالمخازن. في المساء، تجوَّلتُ عبر المدينة، وعدت يملؤني الإعجاب بالمشهد بأكمله؛ فهو أعظم دليل على نفوذ الأمة البريطانية. فهنا، في بلاد لم تكن واعدة إلى حدٍّ كبير، تركتْ بضع سنوات أثرًا أكبر بكثير مما تركه عددٌ مساوٍ من القرون في أمريكا الجنوبية. كان أول شعور انتابني هو تهنئة نفسي أنني ولدت إنجليزيًّا. وبعد أن رأيت قدرًا أكبر من المدينة، تراجع شعوري بالإعجاب بعض الشيء؛ إلا أنها تظل مدينةً رائعة؛ فالشوارع متناسقة وفسيحة ونظيفة وتحظى بقدرٍ ممتاز من النظام؛ والبيوت ذات مساحاتٍ جيدة، والمتاجر جيدة التأثيث. من الممكن مقارنتها حقًّا بالضواحي الكبيرة الممتدة من لندن وبعض المدن الكبرى في إنجلترا؛ إلا أنه لا يوجد أي مظهر من مظاهر مثل هذا النمو السريع في أي مكانٍ قريب من لندن أو برمنجهام. كان عدد البيوت الكبيرة وغيرها من المباني المنتهي تأسيسها توًّا مدهشًا حقًّا، غير أن الجميع اشتكى من ارتفاع الإيجارات وصعوبة الحصول على منزل. ونظرًا لأنني كنت قادمًا من أمريكا الجنوبية، حيث أملاك كل رجل في المدن معروفة، لم يدهشني شيءٌ أكثر من عدم القدرة على تحديد مالك هذه العربة أو تلك في الحال.
استأجرتُ رجلًا وحصانَين للذهاب إلى باثيرست، وهي قرية على بعد ١٢٠ ميلًا تقريبًا داخل البلاد، كما أنها قلب منطقةٍ ريفيةٍ كبيرة. كنت آمُلُ بهذه الوسيلة أن أحصل على فكرةٍ عامة عن شكل البلاد. في صباح يوم السادس عشر (من يناير)، بدأت نزهتي. أخذتْنا المرحلة الأولى من الرحلة إلى باراماتا، وهي بلدةٌ ريفيةٌ صغيرة، تأتي أهميتها في المرتبة الثانية بعد مدينة سيدني. كانت الطرق في حالةٍ ممتازة، مرصوفةً بالحصباء على طريقة ماك آدم، وجيء بالحجر البازلتي لهذا الغرض من على بُعد عدة أميال. وثمة تشابهٌ وثيق بينها وبين إنجلترا من جميع النواحي؛ ربما كانت الحانات هنا أكثر بكثير. وبدا السجناء المصفَّدون بالأغلال، الذين ارتكبوا جريمةً ما هنا، أقل تشابهًا مع أولئك الموجودين بإنجلترا؛ إذ كانوا يعملون بأغلالهم تحت أعين الحراس المدجَّجين بالسلاح. والسلطة التي تمتلكها الحكومة، من خلال السخرة والعمل القسري، لشق طرقٍ جيدة عبر أنحاء البلاد، هي — في رأيي — أحد الأسباب الرئيسة للرخاء المبكر الذي شهدته هذه المستعمرة. بِتُّ ليلتي بنُزُلٍ مريح للغاية كائن بمعبر فيري النهري، على بُعد خمسة وثلاثين ميلًا من سيدني، بالقرب من الجبال الزرقاء. وهذا الجانب من الطريق هو الأكثر ارتيادًا وآهلٌ بالسكان منذ فترةٍ أطول بكثير من أي طريقٍ آخر بالمستعمرة. والأرض مُحاطة بالكامل بحواجزَ عالية؛ لأن المزارعين فشلوا في بناء أسيجة. يوجد الكثير من المنازل المتينة والأكواخ الرائعة المتناثرة هنا وهناك؛ ولكن رغم أن مساحاتٍ كبيرةً من الأراضي تخضع للزراعة، فإن الجزء الأكبر منها لا يزال كما هو منذ اكتُشفت أول مرة.
ويُعدُّ التناسق الشديد للنباتات هو السمة الأبرز للمشهد الطبيعي في الجزء الأكبر من ولاية نيوساوث ويلز. ففي كل مكان، نجد غابةً مفتوحة، والأرض مغطاة جزئيًّا بطبقةٍ رقيقة جدًّا من العشب، ذات خضرةٍ محدودة. وتنتمي جميع الأشجار تقريبًا لفصيلةٍ واحدة، وتتخذ الأوراق في أغلب هذه الأشجار وضعًا رأسيًّا، على خلاف أوراق الأشجار في أوروبا التي تنمو في وضعٍ شبه أفقي؛ وأوراق الأشجار هزيلة، وذات لونٍ أخضرَ شاحبٍ على نحوٍ غريب وتخلو من أي لمعان؛ لذا، تبدو الغابات فاتحة وبلا أي ظلال تمامًا، وعلى الرغم من أن هذا يعني غياب سُبل الراحة بالنسبة إلى المسافر تحت أشعة شمس الصيف الحارقة، فإن لهذا أهميةً خاصة بالنسبة إلى المزارع؛ لأنه يتيح للحشائش أن تنمو في أماكنَ لم تكن لتنمو فيها لولا ذلك. والأوراق هنا لا تتساقط على نحوٍ دوري، وهي السمة التي تبدو شائعة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي بأكمله، أي في أمريكا الجنوبية وأستراليا ورأس الرجاء الصالح. ربما يفتقد سكان هذا النصف من الكرة الأرضية، وكذلك سكان المناطق المدارية، بذلك أحد أروع المشاهد في العالم، التي اعتادتها أعيننا، وهو مشهد البزوغ الأوَّلي لجميع الأوراق على الأشجار العارية. غير أنهم قد يقولون إننا ندفع ثمنًا باهظًا نظير ذلك؛ إذ تزخر الأرض بجذوعٍ عارية لعدة أشهر. وهذا صحيحٌ جدًّا؛ إلا أن حواسَّنا بذلك تكتسب مَيلًا قويًّا للاستمتاع بخضرة الربيع الفاتنة التي تفتقدها عيون من يعيشون في المناطق الاستوائية المتشبِّعة طوال العام بالنباتات الرائعة الخاصة بهذه الأقاليم المناخية الحارة. ولا يصل العدد الأكبر من الأشجار، باستثناء بعض أشجار الأوكالبتوس الأزرق العريض الأوراق، إلى حجمٍ كبير؛ إلا أنها تصل إلى طولٍ فارع واستقامةٍ معقولة وتنتصب متباعدة. ولحاء بعض أشجار الأوكالبتوس يسقط سنويًّا، أو يظل معلَّقًا في شرائحَ طوليةٍ ذابلةٍ تتمايل مع الرياح وتضفي على الغابة مظهرًا رثًّا ومقفِرًا. لا يمكنني تخيُّل تناقض أكثر تكاملًا من التناقض بين غابات فالديفيا أو شيلوي وغابات أستراليا من جميع النواحي.
عند الغروب، مرَّت مجموعة تتكون من عشرين رجلًا من أبناء البلاد الأصليين السود، كلٌّ منهم يحمل، بطريقتهم المعهودة، حزمةً من الرماح وغيرها من الأسلحة. وبإعطاء أحد الشبان البارزين وسط المجموعة شلنًا، تم إيقافهم بكل سهولة وأخذوا يقذفون رماحهم لتسليتي. كانوا جميعًا يغطُّون أجسادهم على نحوٍ جزئي، والكثيرون منهم كانوا يستطيعون تحدُّث القليل من الإنجليزية، وكانت ملامحهم تنمُّ عن خفة الظل والبشاشة، وبدوا أبعد ما يكون عن تلك المخلوقات الشديدة الانحطاط التي عادةً ما يمثِّلونها. وكانت مهاراتهم محل إعجاب؛ فقد قاموا بطعن قلنسوةٍ مثبتة على مسافة ثلاثين ياردةً برمح، أُلقي باستخدام عصا الرمي بسرعة تضاهي سرعة سهم منطلق من قوس رامٍ مُحنَّك. كما يُظهرون براعةً رائعة في تعقُّب الحيوانات أو البشر على حدٍّ سواء؛ ولقد سمعتُ تعليقاتهم العديدة التي أظهرت حدة ذهن بالغة. غير أنهم لن يزرعوا الأرض أو يُشيِّدوا منازل ويستقرُّوا بمكان واحد، أو حتى يتحمَّلوا عناء الاعتناء بقطيع من الأغنام عند إسناده لهم. وإجمالًا، يبدون بالنسبة إليَّ أنهم يحتلُّون مرتبةً أعلى قليلًا من الفوجيين على سلم الحضارة.
ومن الغريب جدًّا أن ترى، وسط شعبٍ متحضر، مجموعة من الهمج غير المؤذِين يتجولون وهم لا يعرفون أين سينامون ليلًا، ويكسبون قوت يومهم عن طريق الصيد في الغابات. فأثناء مضي الرجل الأبيض في ترحاله قدمًا، انتشر وجوده في ربوع البلاد التي تنتمي لعدة قبائل. وهذه القبائل تحافظ على اختلافاتهم العتيقة — رغم أنهم داخل شعبٍ واحدٍ مشترك — وأحيانًا يشنُّون حروبًا بعضهم ضد بعض. وفي معركة نشبت مؤخرًا، اختار الفريقان المتحاربان وسط قرية باثيرست كساحة للمعركة. وكان هذا لصالح الجانب المهزوم؛ لأن المحاربين الفارِّين احتموا بالثُّكنات.
إلى جانب هذه الأسباب الواضحة للدمار، يبدو أن ثمة قوةً غامضة لها تأثيرٌ ما بوجهٍ عام. فأينما وطئت قدم الأوروبيين مكانًا، يبدو أن الموت يلاحق السكان الأصليين لهذا المكان. ويمكننا أن نلقي نظرة على الامتداد الشاسع للأمريكتين وبولينزيا ورأس الرجاء الصالح وأستراليا، ونجد النتيجة نفسها. وليس الرجل الأبيض وحده هو من يقوم بدور المخرب على هذا النحو؛ فالرجل البولينزي من أصولٍ ملايوية ساق السكان الأصليين من ذوي البشر الداكنة في أجزاء من جزر الهند الشرقية إلى الهلاك. ويبدو أن البشر — على اختلافهم وتنوعهم — يُؤْثر بعضُهم بعضًا بالطريقة نفسها التي تؤثر بها الحيوانات — على اختلاف أنواعها — بعضُها بعضًا أيضًا؛ فالأقوى يبيد دومًا الأضعف. كان من المحزن أن تسمع في نيوزيلندا السكان الأصليين الرائعين ذوي الهمة والحيوية يقولون إنهم يعرفون أن الأرض مقدَّر لها أن تضيع من أبنائهم. ولقد سمع الجميع عن تراجع عدد السكان، غير المبرَّر، في جزيرة تاهيتي الجميلة والنضرة منذ وقت رحلات الكابتن كوك، برغم أننا ربما توقعنا احتمالية زيادة السكان في تلك الحالة؛ نظرًا لتوقف وفيات الأطفال الرضع، الأمر الذي كان سائدًا في الماضي بدرجة غير مسبوقة، وتراجع الإباحية كثيرًا، وانخفاض معدل نشوب الحروب الفتَّاكة.
•••
في منتصف النهار، أوقفنا أحصنتنا بحانةٍ صغيرة، تدعى ويذربورد. ترتفع المنطقة — عند هذا الموضع — فوق مستوى سطح البحر مسافة ٢٨٠٠ قدم. وعلى بعد ميل ونصف من هذا المكان، يوجد مشهد يستحق الزيارة. وبنزول وادٍ صغير وتتبُّع جدولٍ مائي، ينفتح فجأة خليجٌ شاسع وسط الأشجار التي تحدُّ جانبَي الطريق، على عمق ١٥٠٠ قدم تقريبًا. وعند السير لبضع ياردات، يقف المرء على حافة منحدرٍ، وأسفله يرى خليجًا كبيرًا؛ إذ لا أعرف له تسميةً أخرى، مغطًّى بغابةٍ كثيفة. بدت نقطة رؤية وكأنها على رأس خليج؛ إذ يتشعَّب خط الجُرْف على كلا الجانبين، ليظهر رأسٌ بحري تلو الآخر، كما لو أنها على ساحلٍ بحري منحدر. وتتكون هذه الجروف من طبقاتٍ أفقية من أحجارٍ رمليةٍ مائلة إلى اللون الأبيض، وهي بالتأكيد في وضعٍ رأسي تمامًا؛ حتى إنه في مواضعَ كثيرةٍ يستطيع من يقف على الحافة ويلقي حجرًا أن يراه يصطدم بالأشجار الموجودة في الهاوية بالأسفل. ونظرًا لأن خط الجُرْف متصل بلا انقطاع، يُقال إنه لكي تصل إلى سفح الشلال المتكوِّن من هذا الجدول المائي الصغير، من الضروري أن تلتفَّ مسافة ستة عشر ميلًا. وعلى بعد خمسة أميال تقريبًا يمتد خطٌّ آخر للجُرْف، والذي يبدو أنه يطوِّق الوادي بأكمله؛ وهذا يُفسِّر اسم الخليج، حسبما ينطبق على هذا المنخفض المتدرِّج الهائل. وإذا تخيلنا ميناءً متعرِّجًا، تحيط بمياهه العميقة سواحلُ شبيهةٌ بجُرْفٍ منحدر، ليبقى جافًّا، وغابة تنمو عند قاعه الرملي، سيتجلَّى الشكل والبنية الموجودان أمامنا هنا. كان هذا المشهد جديدًا تمامًا بالنسبة إليَّ، وكان بديعًا للغاية.
في المساء، وصلنا إلى بلاكهيث. كان ارتفاع هضبة الحجر الرملي هنا يصل إلى ٣٤٠٠ قدم؛ وهي مغطاة — كما في السابق — بنفس الأشجار القصيرة. ومن الطريق، كانت ثمة لمحاتٌ خاطفة لوادٍ عميق له نفس سمات الوادي المذكور آنفًا، لكن لا تكاد ترى القاع بسبب انحدار جوانبه وعمقها. وكان نُزُل بلاكهيث مريحًا جدًّا يديره جنديٌّ عجوز، ذكَّرني بالفنادق الصغيرة الموجودة في شمال ويلز.
•••
الانطباع الأول عند رؤية التشابه بين الطبقات الأفقية على جانبَي هذه الوديان والمنخفضات المتدرجة هو أنها مجوَّفة مثل باقي الوديان الأخرى بفعل المياه؛ ولكن عندما يتفكَّر المرء في الكمِّ الضخم من الأحجار التي انتقلت حتمًا في هذا المشهد عبر مجرد ممراتٍ ضيقة أو شقوق، يجد نفسه يتساءل عما إذا كان من الممكن لهذه المساحات ألَّا تنحسر، ولكن مع الوضع في الاعتبار تكوين الوديان المتشعبة على نحوٍ غير منتظم، والنتوءات الضيقة البارزة من المنصات، نجد أنفسنا مرغَمين على الإقلاع عن هذه الفكرة. ومن المستحيل أن نعزي هذه التجاويف إلى النشاط الرسوبي الحالي، كما يستحيل أن تتساقط دومًا المياه المصرَّفة من مستوى القمة إلى قمة هذه الوديان — كما لاحظت بالقرب من ويذربورد — وإنما في جانب أحد تجويفاتها الشبيهة بالخُلْجان. وقد ذكر لي بعض السكان المحليين أنهم لم يروا مطلقًا أحد هذه التجويفات الشبيهة بالخُلْجان، التي تحيط بها ألسنةٌ أرضيةٌ منحسرة على كلا الجانبين، إلا وأذهلهم تشابُهها الشديد بساحلٍ بحريٍّ منحدر. وهذا هو الوضع بالتأكيد، علاوة على ذلك، على الساحل الحالي لولاية نيوساوث ويلز، تحمل الموانئ العديدة الرائعة المتشعبة على نطاقٍ واسع والمتصلة بوجهٍ عام بالبحر عبر مصبٍّ ضيق تآكل عبر الجروف الساحلية المكوَّنة من الأحجار الرملية — يتفاوت عرضها بين ميلٍ واحد وربع ميل — تشابهًا مع الوديان الداخلية الكبيرة ولكن على نطاقٍ مصغَّر، ولكن عندئذٍ سرعان ما تتجلَّى الصعوبة المذهلة: لماذا تسبب البحر في تآكل هذه المنخفضات الهائلة والمحددة في آنٍ واحد، على منصةٍ شاسعة، وترك مجرد مضائق عند الفتحات، لا بد أن الكمية الهائلة الكاملة من المادة المسحوقة تسربت من خلالها؟ الضوء الوحيد الذي يمكنني أن أسلطه على هذا اللغز هي ملاحظة مفادها أن الضفاف ذات التكوينات غير المنتظمة تبدو أنها تتكون الآن في بعض البحار، كما في أجزاء من الهند الغربية وفي البحر الأحمر، وأن جوانبها شديدة الانحدار. وقد أدَّى بي ذلك إلى افتراض أن مثل هذه الضفاف تكوَّنت من خلال تراكم الرواسب بفعل التيارات القوية على قاعٍ غير منتظم. ومن الصعب الشك في أنه في بعض الحالات، يراكم البحر الرواسب — بدلًا من أن يوزِّعها في طبقةٍ منتظمة — حول الصخور والجزر المغمورة أسفل المياه، بعد فحص خرائط جزر الهند الغربية، وأن الأمواج لها القدرة على تكوين جروفٍ مرتفعة وشديدة الانحدار، حتى في الموانئ غير الساحلية، كما لاحظت في مناطقَ كثيرة بأمريكا الجنوبية. ومن أجل تطبيق هذه الأفكار على منصات الأحجار الرملية بولاية نيوساوث ويلز، أتخيل أن الطبقات قد تراكمت بفعل التيارات القوية، وبفعل الموجات في بحرٍ مفتوح، في قاعٍ غير منتظم؛ وأن المساحات الشبيهة بالوديان التي تركت شاغرة نتيجة لذلك قد تآكلت جوانبها المنحدرة بشدة لتتحول إلى جروف أثناء ارتفاعٍ تدريجي لليابسة؛ وانتقلت الأحجار الرملية المتآكلة، إما أثناء تكوُّن الممرات الضيقة بسبب انحسار البحر، أو بفعل النشاط الرسوبي لاحقًا.
•••
بعد فترةٍ وجيزة من مغادرة بلاكهيث، هبطنا من منصة الأحجار الرملية عبر طريق جبل فيكتوريا. ومن أجل شق هذا الطريق، قُطعت كميةٌ هائلة من الأحجار، وتصميم الطريق وأسلوب تنفيذه يجعلانه لا يقل عن أي طريق بإنجلترا. دخلنا الآن منطقةً أقل ارتفاعًا بمقدار مائة قدم تقريبًا، وتتألَّف من صخور الجرانيت. ومع تغير طبيعة الصخور، تحسَّن مستوى الغطاء النباتي؛ فكانت الأشجار أجمل وأكثر تباعدًا بعضها عن بعض، وكانت الحشائش بينها أكثر خضرة قليلًا وأكثر وفرة. وعند سور هاسان وولز، تركت الطريق السريع، وأخذت طريقًا جانبيًّا قصيرًا يؤدي إلى مزرعة تُدعى ويلروانج، وكان معي خطاب تعريف من المالك في سيدني إلى ناظر المزرعة. وقد تكرَّم السيد براون ودعاني إلى المبيت وقضاء اليوم التالي، وسعدتُ كثيرًا بتلبية الدعوة. يقدم هذا المكان مثالًا لواحدة من المنشآت الزراعية الكبيرة أو بالأحرى منشآت رعي الأغنام، التابعة للمستعمرة. غير أن عدد الماشية والخيول في هذه الحالة أكثر من المعتاد نوعًا ما؛ نظرًا لأن بعض الأودية تتسم بكونها سبخة وتنتج حشائش أكثر خشونة. جرى تطهير قطعتَين أو ثلاث من الأراضي المستوية بالقرب من المنزل وزراعتها بالذرة، الذي كان عمال الحصاد يجمعونه الآن؛ إلا أن القمح لا يُزرَع بكميةٍ أكبر من الكمية الكافية لتأمين الاحتياج السنوي للعاملين بالمزرعة. والعدد المعتاد للعبيد المدانين بأحكام هنا حوالي أربعين، ولكنهم كانوا أكثر من ذلك في الوقت الحالي. وعلى الرغم من أن المزرعة مجهَّزة جيدًا بجميع الضروريات، ثمة غيابٌ واضح لسبل الرفاهية، ولا توجد امرأةٌ واحدة مقيمة هنا. وغروب الشمس في يومٍ جميل يبعث جوًّا من الارتياح المبهِج على أي مشهد؛ ولكن هنا، في هذه المزرعة المنعزلة، فإن أكثر الألوان إشراقًا في الغابات المحيطة لا تستطيع أن تنسيني أن أربعين رجلًا غلاظًا شدادًا بصدد التوقف عن أعمالهم اليومية، مثل العبيد القادمين من أفريقيا، ولكن بدون استجدائهم المقدس للشفقة.
في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، تكرَّم السيد آرشر، ناظر المزرعة الشريك، باصطحابي لصيد الكناغر. قضينا الجزء الأكبر من النهار على ظهر الأحصنة، لكن حظينا بتجربة صيد سيئة جدًّا؛ إذ لم نرَ كنغرًا واحدًا أو حتى كلبًا بريًّا. طاردتْ كلاب الصيد السلوقية جرذًا كنغريًّا إلى داخل أحد الأشجار الجوفاء، سحبناه من داخلها؛ وهو حيوانٌ كبير في حجم الأرنب ولكن له شكل الكنغر. قبل بضع سنوات، كانت هذه المنطقة تزخر بالحيوانات البرية؛ أما الآن فنُفي طائر الإمو لمسافةٍ بعيدة، وأصبح الكنغر نادرًا؛ إذ تسببت الكلاب السلوقية الإنجليزية في دمار شديد لكلا الكائنين. ربما يمر وقتٌ طويل قبل أن تنقرض هذه الحيوانات كليًّا، ولكن مصيرها محتوم. والسكان الأصليون حريصون دومًا على استعارة الكلاب من المزارع؛ فاستعارة الكلاب، إلى جانب أحشاء الحيوانات التي تقتل، وبعض لبن البقر بمثابة قرابين السلام التي يقدمها المستعمرون مقابل زحفهم أكثر فأكثر إلى داخل البلاد. يفرح السكان الأصليون السذج — الذين تُعميهم هذه المزايا التافهة — باقتراب الرجل الأبيض الذي يبدو أنه قد قُدر له توريث البلاد لأبنائه.
•••
•••
في اليوم التالي، اجتزنا مساحاتٍ شاسعةً من المنطقة تتصاعد منها ألسنة اللهب، وكانت كمياتٌ كبيرة من الدخان تكتسح الطريق. وقبل الظهيرة، رجعنا إلى طريقنا السابق وصعدنا جبل فيكتوريا. بتُّ في حانة ويذربورد، وقبل حلول الظلام، خرجت في نزهةٍ أخرى إلى الوديان المتدرجة. وفي الطريق إلى سيدني، قضيتُ أمسيةً رائعة جدًّا مع الكابتن كينج في دانهيفد؛ وهكذا أنهيت نزهتي القصيرة بمستعمرة نيوساوث ويلز.
قبل المجيء إلى هنا، كانت أكثر ثلاثة أشياء أثارت اهتمامي هي: حالة المجتمع بين الطبقات الراقية، ووضع المدانين، ودرجة الجاذبية الكافية لتشجيع الأفراد على الهجرة إلى أستراليا. بالطبع، بعد زيارةٍ قصيرة للغاية كهذه، لا يكون رأي المرء ذا قيمة؛ ولكن من الصعب ألا تكوِّن رأيًا مثلما من الصعب أن تكوِّن حكمًا صائبًا. وبوجهٍ عام، ومن واقع ما سمعت أكثر مما رأيت، شعرت بخيبة أمل تجاه حالة المجتمع. فالمجتمع المحلي بأكمله منقسم انقسامًا مشوبًا بالحقد إلى أحزاب على كل موضوع تقريبًا. فمن بين أولئك الذين يجدر بهم أن يكونوا الأفضل من واقع مركزهم في الحياة، يعيش كثيرون حياةً ماجنةً متحررة لا يستطيع الأشخاص المحترمون أن يشاركوهم إياها. وثمة قدرٌ كبير من الغيرة بين أبناء الأثرياء المحرَّرين من العبودية والمستوطنين الأحرار؛ فالطرف الأول يسعد باعتبار الرجال الشرفاء دخلاء. وجميع السكان، فقراء وأثرياء، عازمون على تحقيق الثراء، ويُعدُّ الصوف ورعي الأغنام هو محور الحديث الدائم بين الطبقات العليا. يوجد الكثير من العوائق الخطيرة أمام سبل رفاهية الأسرة، ربما يكون أهمها أن تكون محاطًا بخدمٍ مُدانين بجرائم. فكم هو شعورٌ بغيض تمامًا أن يكون من يقوم على خدمتك رجلًا ربما يكون قد جُلد في اليوم السابق، بموجب أمر من ممثليك التشريعيين، بسبب جنحةٍ تافهة. والخادمات بالطبع أسوأ بكثير؛ إذ يتعلم منهن الأطفال أشنع التعبيرات، ويكون من حسن الحظ لو لم يتعلموا أفكارًا على القدر نفسه من الشناعة.
من ناحيةٍ أخرى، يدرُّ رأس المال على صاحبه أرباحًا ثلاثة أضعاف ما سيدره عليه في إنجلترا بدون أي عناء من جانبه، ومع بعض الحرص سيصير ثريًّا بلا أدنى شك. ورفاهيات الحياة وفيرة، وأغلى قليلًا جدًّا من نظيرتها في إنجلترا، وأغلب المواد الغذائية أرخص ثمنًا. والمناخ رائع وصحي تمامًا؛ إلا أنه برأيي يفقد جاذبيته بسبب الشكل المنفِّر للبلاد. ويتمتع المستوطنون بميزةٍ كبيرة ألا وهي أن أبناءهم يعاونونهم في سنٍّ صغيرة جدًّا. ففي سن يتراوح بين السادسة عشرة والعشرين، كثيرًا ما يصيرون مسئولين عن مزارع ماشية بعيدة. غير أن هذا يحدث حتمًا على حساب انخراط أبنائهم تمامًا في التعامل مع عبيد مُدانين. لا أدري إن كان نمط المجتمع قد اكتسب أي طابعٍ مميز؛ إلا أنه في وجود مثل هذه العادات ومع غياب الأنشطة الفكرية، من الصعب ألَّا يتدهور. وفي رأيي أن لا شيء يُجبرني على الهجرة سوى الضرورة الملحَّة.
ونظرًا لعدم فهمي لمثل هذه الموضوعات، فإن وتيرة الرخاء السريعة والتوقعات المستقبلية لهذه المستعمرة أمرٌ محير جدًّا بالنسبة إليَّ. فالصادرات الأساسية هي الصوف وزيت الحوت، وثمة حدٌّ لكلا المنتجَين. والبلاد غير مؤهلة تمامًا لشق القنوات؛ ومن ثم توجد نقطة ليست بعيدة، لن يغطي عندها النقل البري للصوف تكاليف رعاية الأغنام وجزِّ صوفها. وطبقة العشب في كل مكان نحيلة جدًّا؛ لدرجة أن المستوطنين نزحوا إلى داخل البلاد لمسافاتٍ بعيدة؛ علاوة على أن البلاد مع التوغُّل إلى الداخل تصير فقيرة للغاية. وبسبب مواسم الجفاف، لا يمكن أن تحقق الزراعة نجاحًا على نطاقٍ موسَّع؛ لذا، وحسبما أرى، لا بد أن تعتمد أستراليا في نهاية المطاف على كونها مركزًا للتجارة لنصف الكرة الجنوبي وربما على مصانعها المستقبلية. فنظرًا لامتلاكها الفحم، فهي تمتلك دومًا الطاقة المحركة تحت سيطرتها. ونظرًا لامتداد الجزء الآهل بالسكان على طول الساحل البحري ونظرًا لأصولها الإنجليزية، فهي بلا شك دولةٌ بحرية. كنت أتخيل في السابق أن نجم أستراليا سيعلو كدولةٍ عظمى وذات نفوذ كأمريكا الشمالية، لكن يبدو لي الآن أن عظمتها المستقبلية تلك محل جدال.
أما بخصوص وضع المدانين، فقد كانت الفرص المتاحة لي للحكم على هذه المسألة أقل مقارنةً بمسائلَ أخرى. والسؤال الأول في هذا الصدد هو عما إذا كان وضعهم بمثابة شكل من أشكال العقاب؛ فما من أحد من شأنه أن يدَّعي بأنه وضعٌ قاسٍ للغاية. غير أنني أعتقد أن الأمر له تداعياتٌ ضئيلة ما دام أنه يمثل رادعًا للمجرمين في أرض الوطن. فالاحتياجات المادية للمدانين تُلبَّى على نحوٍ مقبول، واحتمالية نيل حريتهم في المستقبل والاستمتاع بسبل الراحة ليست ببعيدة، وإنما هي أكيدة بعد إثبات حسن السير والسلوك. ﻓ «بطاقة الإفراج المشروط»، التي تجعل المرء حرًّا في نطاق منطقةٍ محددة ما دام بعيدًا عن دائرة الشكوك وكذلك دائرة الجريمة، تُعطى بموجب حسن السير والسلوك، بعد مرور سنوات تتناسب مع مدة العقوبة، ولكن برغم كل هذا، وبالتغاضي عن عقوبات السجن السابقة وتصاريح الخروج القانونية البائسة، أعتقد أن المدة تمرُّ في سخط وتعاسة. فكما أخبرني رجلٌ فطن، لا يعرف المدانون أي متعة سوى المتع الحسية، وفي هذا الصدد لا يجدون سبيلًا للإشباع. فالإغراء الكبير الذي تمتلكه الحكومة المتمثل في الإعفاءات المطلقة، بالإضافة إلى الذعر الشديد من النفي بالمستعمرات العقابية، يُحطِّم الثقة بين المدانين؛ ومن ثم يمنع الجريمة. أما بالنسبة إلى الشعور بالخزي، فلا يبدو أن مثل هذا الشعور متعارَف عليه، وقد شهدت في هذا الصدد بعض الأدلة الاستثنائية للغاية. ورغم أنها حقيقةٌ غريبة، فقد قيل لي عمومًا إن سمة مجتمع المدانين هو الجبن بكل معانى الكلمة؛ فليس غريبًا أن يصير البعض يائسًا وغير مبالٍ تمامًا بالحياة، لكن نادرًا ما تُنفَّذ خطة تتطلَّب الشجاعة المحسوبة أو المتواصلة. وأسوأ ما في المسألة برمَّتها أنه بالرغم من وجود ما قد يُطلَق عليه إصلاحٌ قانوني، وقلة ارتكاب الأعمال التي يمكن أن تقع تحت طائلة القانون نسبيًّا، فإن ضرورة إجراء أي إصلاحٍ أخلاقي تبدو أمرًا غير مطروح للنقاش. وأكد لي أشخاصٌ مطَّلعون أن من يحاول التحسن، لا يستطيع ذلك بينما يعيش مع عبيدٍ آخرين مُدانين بعقوبة؛ فحياته حينئذٍ ستكون مليئة بالبؤس والاضطهاد على نحوٍ لا يُطاق. ولا يجب أن ننسى تلوُّث السجون وسفن نقل المدانين إلى المنفى هنا وفي إنجلترا على حدٍّ سواء. وبوجهٍ عام، نادرًا ما يتحقَّق الهدف منها كمنشأةٍ عقابية؛ كما فشل كنظامٍ حقيقيٍّ للإصلاح كما قد يحدث مع أي خطةٍ أخرى، ولكن نجحت أستراليا على نحو ربما كان غير مسبوق في التاريخ في استخدامه كوسيلة لجعل الرجال شرفاء ولو ظاهريًّا؛ أي تحويل المتشردين العديمي الفائدة في بقعة من بقاع الأرض إلى مواطنين نشطاء في بقعةٍ أخرى؛ ومن ثم أدى ذلك إلى تأسيس دولةٍ جديدة ورائعة، ومركزٍ حضاريٍّ مهيب.
•••
مكثت البيجل هنا عشرة أيام، وفي تلك الفترة، قمتُ بعدة نزهاتٍ قصيرة وممتعة بهدف دراسة البنية الجيولوجية للمناطق المتاخمة بالأساس. وشملت نقاط الاهتمام الرئيسية ما يلي: أولًا، بعض الطبقات الغنية بالأحفوريات والتي تنتمي إلى العصر الديفوني أو العصر الفحمي، ثانيًا: الأدلة على حدوث ارتفاعٍ بسيطٍ حديث في الأرض، وأخيرًا: قطعةٌ منعزلة وسطحية من الحجر الجيري المصفر أو الترافرتين تحتوي على آثارٍ عديدة لأوراق الأشجار، بالإضافة إلى أصدافٍ برية، غير موجودة الآن. ومن المرجَّح أن هذا المحجر الصغير يشتمل على السجل الوحيد المتبقي لنباتات فان ديمنزلاند أثناء حقبةٍ سابقة.
والمناخ هنا أكثر رطوبة من نيوساوث ويلز؛ ومن ثم فإن الأرض أكثر خصوبة. والزراعة مزدهرة، وتبدو الحقول المزروعة في حالةٍ جيدة وتزخر الحدائق بالخضراوات وأشجار الفاكهة اليانعة. وتتمتع بعض المزارع، الموجودة في الأماكن المنعزلة، بمظهرٍ غاية في الجاذبية. والشكل العام للنباتات مماثل لنظيره في أستراليا؛ بل ربما تكون أكثر خضرة وبهجة بعض الشيء، والعشب بين الأشجار أكثر وفرة نوعًا ما. ذات يوم، خرجت في تمشيةٍ طويلة على جانب الخليج المقابل للبلدة، حيث عبرتُ على متن باخرة، وكانت ثمة باخرتان تذرعان الخليج باستمرار ذهابًا وإيابًا. كانت الماكينة الخاصة بإحدى هاتين الباخرتَين مصنَّعة بالكامل في هذه المستعمرة، التي كان عمرها آنذاك يبلغ ثلاثة وثلاثين عامًا فقط منذ تأسيسها! وفي يومٍ آخر، صعدتُ جبل ولينجتون، مصطحبًا معي مرشدًا؛ نظرًا لإخفاقي في محاولة أولى سابقة بسبب كثافة الأحراش. غير أن مرشدي كان شخصًا غبيًّا، قادنا إلى الجزء الجنوبي والرطب من الجبل، حيث كانت النباتات وارفة للغاية، وكان صعود الجبل مُجهِدًا، بسبب الجذوع المتعفنة العديدة، كصعود جبل في أرخبيل أرض النار أو في جزيرة تشيلوي. استغرقنا خمس ساعات ونصفًا من التسلُّق الشاقِّ قبل أن نصل إلى القمة. في أجزاءٍ كثيرة، كانت أشجار الأوكالبتوس نامية بحجمٍ كبير وتؤلف غابةً مهيبة. وفي بعضٍ من الأخوار الأكثر رطوبة، تنمو أشجار السرخس بكثافةٍ بالغة؛ فقد رأيت واحدة لا بد أن ارتفاعها لم يكن يقل عن عشرين قدمًا حتى قاعدة الأوراق السرخسية، وكان محيطها ست أقدام بالضبط. كانت الأوراق السرخسية، التي تشكل أروع المظلات، تنشر ظلًّا قاتمًا، شبيهًا بظلمة ساعات الليل الأولى. وقمة الجبل عريضة ومستوية وتتكون من كتلٍ ضخمة وبارزة من الحجر الأخضر الأجرد. ويصل ارتفاعه إلى ٣١٠٠ قدم فوق مستوى سطح البحر. كان النهار صافيًا على نحوٍ مذهل واستمتعنا بمنظرٍ ممتد للغاية عبر الأفق، ونحو الشمال. بدت المنطقة عبارة عن كتلة من جبالٍ مغطاة بالغابات، وكانت بالارتفاع نفسه الذي كنا نقف عليه وشكل خارجي بالقدر نفسه من عدم الحدة، وإلى الجنوب ظهرت أمامنا بوضوح اليابسة الوعرة غير المستوية والمياه، مكوِّنة الكثير من الخُلْجان المتداخلة. بعد المكوث لساعات على القمة، وجدنا طريقةً أفضل للهبوط؛ إلا أننا لم نصل إلى البيجل حتى الساعة الثامنة، بعد يومٍ شاقٍّ طويل.
•••
ذات يوم، رافقتُ كابتن فيتزروي إلى شبه جزيرة بولد هيد، المكان الذي يذكره رحالةٌ كثيرون، حيث تخيَّل البعض أنهم رأوا شعابًا مرجانية، والبعض الآخر تخيَّل أنهم رأوا أشجارًا متحجرة، تقف في الموضع الذي نَمَت فيه. ومن وجهة نظرنا، تكوَّنت القيعان من خلال الرياح التي راكمت الرمال الناعمة، والتي تتكون من جسيماتٍ دقيقةٍ مستديرة من القواقع والشعاب المرجانية، وأثناء هذه العملية صارت فروع الأشجار وجذورها، بالإضافة إلى القواقع البرية، مطوَّقة. بعد ذلك أصبح كل شيء مدمجًا من خلال ترشيح المادة الكلسية؛ ومن ثم امتلأت التجاويف الأسطوانية الناجمة عن تحلُّل الغابات أيضًا بحجرٍ صلبٍ شبه كلسي. وينحر المناخ الآن الأجزاء الأكثر ليونة؛ ونتيجة لذلك تنتأ القوالب الصلبة لجذور الأشجار وفروعها فوق السطح، وبطريقةٍ خادعة على نحوٍ غريب، تشبه جذوع أيكةٍ ميتة.
تَصادَف أن جاءت قبيلةٌ كبيرة من السكان الأصليين، تُدعى وايت كوكاتو، لزيارة المستعمرة أثناء وجودنا هناك. تم إقناع هؤلاء الرجال، وكذلك رجالٌ من قبيلة تنتمي إلى مضيق الملك جورج البحري، بعد إغرائهم ببعض الأُصُص الممتلئة بالأرز والسكر، بإقامة حفلٍ راقصٍ كبير أو «كوربوري». وبمجرد أن حلَّ الظلام، أُشعلت نيرانٌ صغيرة، وبدأ الرجال في وضع زينتهم، والتي شملت طلاء أنفسهم باللون الأبيض في شكل نقاط وخطوط. وبمجرد أن صار الجميع مستعدِّين، أُبقيت نيرانٌ كبيرةٌ متوهجة، وتجمَّع حولها النساء والأطفال مشاهدين؛ كوَّن الرجال من القبيلتَين مجموعتَين مختلفتَين، وأخذوا يتراقصون في تجاوب بعضهم مع البعض. كانت الرقصة تتألَّف من الركض إما على الجوانب أو في صفٍّ يمر داخل مساحةٍ مفتوحة، ثم ضرب الأرض بقوةٍ شديدة أثناء السير معًا. كانت خطواتهم الثقيلة مصحوبة بصوت يشبه الخوار، وقرع هِرَاواتهم ورماحهم بعضها ببعض، وإيماءاتٍ أخرى متنوعة مثل مدِّ أذرعهم وليِّ أجسادهم. كان مشهدًا فظًّا وبربريًّا للغاية، ووفقًا لمفاهيمي، لم يكن له أي معنًى؛ إلا أنني لاحظت أن النساء والأطفال السود كانوا يشاهدونه بسرورٍ بالغ. ربما كانت هذه الرقصات تمثل بالأساس أنشطة مثل الحروب والانتصارات، وكانت إحدى هذه الرقصات تُدعى رقصة الإمو، فيها يمدُّ كل رَجُل ذراعه بانحناءة كعنق الطائر. وفي رقصةٍ أخرى، حاكى أحد الرجال حركات كنغر يرعى في الغابة، بينما في رقصةٍ ثالثة يزحف ويتظاهر بأنه يُصوِّب رمحًا ناحيته. وعندما امتزجت كلتا القبيلتَين في الرقص، كانت الأرض تهتزُّ بثقل خطواتهم ودوَّت صرخاتهم العنيفة في الأجواء. بدا الجميع في حالةٍ معنويةٍ مرتفعة، وتحركت المجموعة، التي كان أفرادها شبه عراة، وكانوا يُشاهدون على ضوء النيران المتوهِّجة، في انسجامٍ شنيع، لتقدِّم بذلك مشهدًا مثاليًّا لاحتفال بين أدنى طبقات الهمجيين. في أرخبيل أرض النار، رأينا الكثير من المشاهد الغريبة، ولكن أعتقد أنني لم أرَ مطلقًا السكان الأصليين في مثل هذه الروح المعنوية العالية، وعلى سجيتهم تمامًا هكذا. بعد انتهاء الرقص، شكَّلت المجموعة بأكملها دائرةً كبيرة على الأرض، وتم توزيع الأرز المسلوق والسكر؛ ما أسعد الجميع.
بعد عدة تأخيراتٍ مُضنية بسبب الطقس الملبَّد بالغيوم، وفي الرابع عشر من شهر مارس، خرجنا من مضيق الملك جورج البحري في طريقنا إلى جزيرة كيلينج. وداعًا، أستراليا! ما زلتِ طفلةً صغيرة، ولا شك أنك في يومٍ ما ستصيرين أميرة عظيمة في الجنوب، إنكِ تتمتعين بالعظمة والطموح بما يجعلكِ أهلًا للمحبة، ولكنكِ لستِ بالعظمة الكافية التي تجعلكِ أهلًا للاحترام. وها أنا راحل عن شواطئكِ بلا أسًى أو ندم.