ريو دي جانيرو
«٤ أبريل وحتى ٥ يوليو عام ١٨٣٢»، بعد وصولنا ببضعة أيام تعرَّفت إلى
رجل إنجليزي كان ذاهبًا لزيارة ضيعته التي تقع على بعد ما يزيد عن مائة ميل من العاصمة
شمال كيب فريو. وقبلت عرضه بأن أرافقه بكل سرور.
•••
«٨ أبريل، ١٨٣٢»، وصل عدد مجموعتنا إلى سبعة. كانت المرحلة الأولى مثيرة للغاية. كان
النهار شديد الحرارة وأثناء اجتيازنا الغابة، كان كل شيء ساكنًا فيما عدا الفراشات
الضخمة ذات الألوان الزاهية والتي كانت ترفرف بكسل وبطء. كان المشهد الذي يُرى عند عبور
التلال خلف برايا جراندي من أجمل ما يمكن؛ حيث كانت الألوان فاقعة وكان اللون الغالب
هو
الأزرق الداكن، بينما كانت السماء ومياه الخليج الساكنة يتنافسان معًا في مشهد رائع.
بعد مرورنا ببعض الأراضي المحروثة في الريف، دخلنا غابة لا يمكن لشيء أن يفوق في عظمته
عظمة كل شبر منها. وصلنا بحلول منتصف النهار إلى إيثاكايا حيث كانت تلك القرية الصغيرة
تقع على سهل وتتوزع أكواخ الزنوج حول المنزل الرئيسي. ذكَّرتني تلك الأكواخ بأماكنها
وبشكلها المنتظم برسومات مستوطنات الهوتنتوت في أفريقيا الجنوبية. وببزوغ القمر مبكرًا
في السماء، عزمنا على بدء رحلتنا إلى مكان مبيتنا في لاجوا ماريكا في مساء نفس اليوم.
ومع اشتداد الظلام، مررنا تحت أحد التلال الجرانيتية الهائلة الجرداء الشديدة الانحدار،
والتي تنتشر بكثرة في هذا المكان. كانت هذه البقعة مشهورة بأنها ظلت لوقت طويل موطنًا
للعبيد الهاربين الذين نجحوا في الحصول على مصدر للغذاء باستصلاحهم قطعة أرض صغيرة
بالقرب من القمة. وبعد فترة طويلة من الزمن، اكتُشِف أمرهم وأُرسِلت مجموعة من الجنود
وقبض عليهم جميعًا فيما عدا امرأة عجوزًا فضلت القفز من قمة الجبل لتسقط أشلاءً بدلًا
من الرجوع إلى العبودية مرة أخرى. لو قامت امرأة نبيلة من الرومان بما قامت به تلك
العجوز، لسموا ما قامت به الحب السامي للحرية، لكن في حالة زنجية مسكينة سيكون هذا مجرد
عناد وحشي. واصلنا السير لساعات. كان الطريق في الأميال القليلة الأخيرة معقدًا؛ حيث
كان يمر عبر أراضٍ صحراوية قاحلة من المستنقعات والبحيرات الملحية الضحلة. كان المشهد
تحت ضوء القمر الخافت مقفرًّا لأقصى درجة. رفرفت بعض اليراعات بجانبنا، بينما ارتفع
طائر الشنقب المنعزل في السماء مطلقًا صيحته الحزينة. كان هدير الأمواج البعيد والكئيب
نادرًا ما يبدد سكون الليل.
•••
«٩ أبريل، ١٨٣٢»، تركنا مكان مبيتنا البائس قبل شروق الشمس. كان الطريق يمر خلال أرض
رملية منبسطة ضيقة تقع بين البحر والبحيرات الداخلية الضحلة المالحة. أكسبت طيور الصيد
الكثيرة، مثل البلشون الأبيض والكركي، والنباتات النضرة العصارية التي اتخذت أكثر
الأشكال روعة، المشهد طابعًا مثيرًا لم يكن ليكتسبه بدونها. كانت الأشجار القليلة
المتقزمة الموجودة في المكان محملةً بالنباتات الطفيلية، والتي كان أجمل ما فيها بعض
زهور السحلبية التي تخللتها بما لها من جمال ورائحة ذكية. مع شروق الشمس، أصبح النهار
حارًّا للغاية، وكان الضوء والحرارة المنبعثان من الرمال البيضاء مرهقَيْن إلى حد كبير.
تناولنا الغداء في ماندتيبا وسجل مقياس الحرارة في الظل ٨٤ درجة. أنعشنا المشهد الجميل
للتلال البعيدة المغطاة بالأشجار المنعكس في المياه الهادئة تمامًا لإحدى البحيرات
الضحلة الواسعة. ولما كان النُّزُل هنا ممتازًا للغاية، ولديَّ ذكرى سارة، لكنها خافتة
للغاية، لعشاء ممتاز تناولته فيه، سأعبر عن امتناني لذلك بالشروع في وصفه الآن باعتباره
يعبر عن الفئة الخاصة به. غالبًا ما تكون تلك البيوت كبيرة، وتُبنَى من أعمدة خشبية
سميكة منتصبة ممتزجة بالأغصان تُغطى بالجِص بعد ذلك. ونادرًا ما يكون لها أرضيات وليس
لها أي نوافذ مزججة قط، لكنها مسقوفة بعناية عمومًا. كانت مقدمة المنزل مفتوحة مكونة
ما
يشبه الشرفة وُضِعَت فيها طاولات ومقاعد. كانت غرف النوم متصلة بعضها ببعض عبر أحد
الجدران ويمكن للمسافر النوم فيها بكل راحة على منصة خشبية مغطاة بحصيرة رقيقة من القش.
يقع النزل في فناء حيث يتم إطعام الخيول. كان من عادتنا نزع السرج عن الخيول بمجرد
وصولنا وإطعامها الذرة الهندية، ثم، وبانحناءة بسيطة، نطلب من السيد أن يسدينا معروفًا
بجلب شيء لنأكله. وكانت إجابته المعتادة هي: «أي شيء تختاره يا سيدي.» في المرات
القليلة الأولى، كنت أحمد الله عبثًا على أنه أرسل إلينا رجلًا طيب القلب مثله، لكن مع
استمرار الحوار بات الأمر باعثًا على الأسى: «هل لديك أي سمك؟ – لا يا سيدي. هل لديك
أي
حساء؟ – لا يا سيدي. أي خبز؟ – لا يا سيدي. أي لحم مقدد؟ – لا يا سيدي.» في حالة ما
حالفنا الحظ، كنا نحصل على دواجن وأرز ورقائق من دقيق نبات الكاسافا، بعد انتظار بضع
ساعات. وكثيرًا ما كنا نضطر لقتل الدواجن بالحجارة من أجل العشاء. وعندما يستنفد التعب
والجوع طاقتنا تمامًا، كنا نشير على استحياء إلى أنه من المؤكد أننا سنسعد بوجبتنا،
وكانت الإجابة المتغطرسة، وغير المرضية مطلقًا (رغم أنها حقيقية) هي أن الطعام «سيكون
جاهزًا عندما يكون جاهزًا.» وإذا تجرأنا على الاعتراض، كان يُقال لنا إننا يمكننا المضي
قدمًا في رحلتنا بسبب وقاحتنا. كان مضيفونا أفظاظًا وسيئي الطباع إلى أبعد حد؛ وكانت
بيوتهم وأجسادهم قذرة في أغلب الأحوال، كما كان ثمة عوز عام للشَّوْكات والملاعق
والسكاكين، وأنا متأكد من أنه لا يمكن العثور على كوخ أو حظيرة في إنجلترا في هذه
الحالة المجردة تمامًا من أي وسيلة من وسائل الراحة، ولكن في كامبوس نوفوس، حالفنا الحظ
بشكل كبير؛ إذ حصلنا على الدواجن والأرز والبسكويت والنبيذ والكحوليات من أجل العشاء،
والقهوة لتناولها مساءً، والسمك مع القهوة للإفطار. كل هذا بجانب طعام جيد للخيول كلفنا
شلنين وستة بنسات للفرد، لكن عندما سُئِل صاحب النزل إن كان يعلم أي شيء عن سوط ضاع من
أحد أفراد مجموعتنا، قال بفظاظة وخشونة: «وما أدراني؟ لماذا لم تحافظوا عليه؟ ربما تكون
الكلاب قد التهمته.»
بعد رحيلنا من ماندتيبا، واصلنا اجتياز براريَّ معقدة تحوي بحيرات بعضها يحوي قواقع
المياه العذبة والآخر يحوي قواقع المياه المالحة. وقد وجدنا أعدادًا كبيرة من حلزون
المياه العذبة في إحدى البحيرات والتي أكد لي السكان أن البحر يدخلها مرة في العام،
وأحيانًا أكثر، ليجعل المياه مالحة تمامًا. ليس لديَّ شك في إمكانية ملاحظة العديد من
الحقائق المثيرة المتعلقة بالحيوانات البحرية وحيوانات المياه العذبة في هذه السلسلة
من
البحيرات الضحلة التي تحف ساحل البرازيل. قال إم جاي
١ إنه وجد في جوار ريو دي جانيرو قواقع من أنواع بحرية مثل بلح البحر وذوات
الصدفتين والحلزونيات التفاحية التي تنتمي إلى قواقع المياه العذبة تعيش معًا في مياه
مالحة لحد ما. كذلك لاحظت كثيرًا في البحيرة الضحلة القريبة من حديقة النباتات، حيث تقل
ملوحة المياه قليلًا عن ملوحة البحر، نوعًا من خنافس الغازية القئوبة، يشبه بشكل كبير
خُنْفَساء المياه الشائعة في مصارف إنجلترا. وفي البحيرة نفسها كانت الصدفة الوحيدة
الموجودة بها تنتمي لنوع يوجد عادة في مصبات الأنهار.
برحيلنا عن الساحل لبعض الوقت، دخلنا الغابة مرة أخرى. كانت الأشجار شامخة ولافتة
للنظر مقارنة بأشجار أوروبا. بسبب بياض جذوعها. وقد كتبت عنها في مفكرتي «نباتات طفيلية
مزهرة جميلة ورائعة»؛ إذ دائمًا ما كانت تلفت نظري لكونها أكثر الأشياء غرابة وسط هذه
المناظر الطبيعية الرائعة. مع مضينا قدمًا مررنا بأراضٍ رعوية أنزلت بها أعشاش النمل
المخروطية العملاقة التي كان يصل ارتفاعها إلى حوالي ١٢ قدمًا، ضررًا كبيرًا. أعطت هذه
الأعشاش الأرض المنبسطة منظر البراكين الطينية في جورلو بالضبط كما صورها همبولت. وصلنا
إلى إنجينودو بعد حلول الظلام بعد مسيرة على ظهر الخيول امتدت لعشر ساعات. لم أكفَّ
طيلة الرحلة عن الاندهاش من كم الجهد الذي كانت هذه الخيول قادرة على تحمله، كما كان
يبدو أنها تتعافى من أي إصابات تلحق بها على نحو أسرع بكثير من الخيول الإنجليزية.
وغالبًا ما كان الخفاش مصاص الدماء هو سبب الكثير من المتاعب؛ إذ كان يعقر قمم كواهل
الخيول. لم يكن تأثير الإصابة يُعزَى إلى كمية الدماء المفقودة بقدر ما كان يُعزَى إلى
الالتهاب الذي يحدثه ثقل السرج بعد ذلك. وقد كان ثمة تشكيك لاحقًا في هذه الواقعة
برمتها في إنجلترا، لكن لحسن الحظ أنني كنتُ موجودًا عند الإمساك بأحدها (وكان من نوع
ديسمودوس
دوربيني Desmodus
d’orbignyi) على ظهر حصان. كنا في معسكر مؤقت في وقت متأخر من إحدى
الأمسيات في العراء بالقرب من كوكيمبو في تشيلي عندما ذهب خادمي لاستطلاع الأمر بعد أن
لاحظ أن أحد الخيول كان مضطربًا للغاية، ولتصوره أنه يمكنه تحديد أي شيء، وضع يده فجأة
فوق أعلى كاهل الفرس وأمسك بالخفاش مصاص الدماء. في الصباح، كان من السهولة بمكان تحديد
مكان العضة من أثر التورم البسيط الذي تركته وتلوثه بالدم. في اليوم الثالث امتطينا
الخيول دون أن يبدو عليها أي أعراض مرضية.
•••
«١٣ أبريل، ١٨٣٢»، بعد سفر ثلاثة أيام وصلنا إلى سوسيجو، وهي ضيعة السيد مانويل
فيجيريدا الذي كانت تربطه صلة قرابة بأحد أفراد مجموعتنا. كان المنزل بسيطًا، ورغم أنه
كان يشبه الإسطبل في شكله، فقد كان مناسبًا جدًّا لطبيعة المناخ. في غرفة الجلوس، كانت
الكراسي والأرائك المذهَّبة تتباين على نحو غريب مع الجدران المغطاة بالكِلْس والسقف
المغطى بالقش والنوافذ الخالية من الزجاج. كان المنزل، بما يضمه من مخازن حبوب وإسطبلات
وورش للزنوج حيث كانوا يتعلمون حرفًا متعددة، يشكل مضلعًا رباعيًّا بسيطًا في منتصفه
كومة كبيرة من حبوب القهوة تتعرض للتجفيف. كانت هذه الأبنية تقف على تل صغير يطل على
الأرض المزروعة ومحاطة من كل الجهات بسور أجمة وارفة الأوراق ذات لون أخضر داكن. كان
المنتج الأساسي في هذا الجزء من البلاد هو القهوة؛ إذ من المفترض أن تنتج كل شجرة
سنويًّا في المتوسط رطلين من الحبوب، لكن بعض الأشجار كانت تنتج حتى ثمانية أرطال. كما
كانت تُزرع الكاسافا أو المانديوكا بكميات كبيرة أيضًا. كان كل جزء من هذه النبتة
مفيدًا؛ فالأوراق والسيقان تأكلها الخيول وتُطحَن الجذور لتتحول إلى لب يُضغط ويُخبَز
وهو جاف ليتحول إلى طحين وهو المصدر الأساسي للغذاء في البرازيل. ومن الغريب، رغم أنها
حقيقة معروفة، أن عصارة هذا النبات المغذي لأقصى درجة سامة جدًّا. فمنذ سنوات نفقت بقرة
في هذه الضيعة بعد أن شربت بعضًا منها. وقد أخبرني السيد فيجيريدا أنه زرع العام الماضي
كيسًا من الفاصولياء، وثلاثة من الأرز، وأنتجت الأولى ثمانين ضعفًا بينما أنتج الأرز
٣٢٠ ضعفًا. كانت المراعي توفر الغذاء لقطيع ممتاز من الماشية وكانت الغابات مليئة
بالطرائد؛ حتى إن غزالًا كان يُقتَل في كل يوم من الأيام الثلاثة الماضية. وتجلت هذه
الوفرة في الغذاء في العشاء؛ حيث إن لم تئنَّ الطاولات من كثرة ما عليها من طعام، كان
الضيوف يتذمرون بالتأكيد؛ إذ كان يُتوقَّع أن يأكل كل شخص من كل الأصناف. في أحد
الأيام، بعدما قمتُ بحساباتي بدقة، كما كنت أظن، حتى لا يبقى أي شيء دون أن يؤكل، صُدمت
حين وجدت ديكًا روميًّا مشويًّا وخنزيرًا بقيا كما هما لم يُمسَّا. خلال تناول الوجبات،
كان من مهام أحد الرجال إبعاد مجموعة من الكلاب المتقدمة في السن وعشرات الأطفال السود
الصغار الذين كانوا يزحفون جماعات إلى الداخل كلما واتتهم الفرصة. ولما كانت فكرة
العبودية غير مطروحة، فقد كان ثمة شيء آسر إلى حد بعيد في هذا الأسلوب المعيشي البسيط
والسلطوي؛ فقد كان هذا يمثل ابتعادًا واستقلالًا مثاليًّا كاملًا عن بقية العالم. فكان
بمجرد اقتراب أي غريب، يُقرَع جرس ضخم وعادة ما يُطلَق مدفع صغير، وهكذا يُعلَن عن
الحدث للصخور والغابات، دون سواهم. في أحد الأيام خرجت قبل شروق الشمس بساعة للاستمتاع
بالسكون التام المسيطر على المشهد؛ وأخيرًا كسر الصمت الترنيمة الصباحية التي انطلقت
عاليًا من قبل مجموعة الزنوج كاملة؛ وكان هذا هو الشكل الذي عادةً ما يبدأ به العمل
اليومي. لم يكن لديَّ أدنى شك أن العبيد في مزارع كهذه كانوا يعيشون حياة سعيدة وراضية.
فكانوا يعملون يومي السبت والأحد لحسابهم، وكان جهد يومين في هذا المناخ الخصب كافيًا
لإعالة رجل وعائلته طيلة الأسبوع.
•••
«١٤ أبريل، ١٨٣٢»، تركنا سوسيجو، وذهبنا إلى ضيعة أخرى على نهر ماكاي في ريو دي
جانيرو، والتي كانت آخر قطعة من الأراضي المزروعة في ذلك الاتجاه. كان طول الضيعة يبلغ
ميلين ونصف الميل، لكن مالكها نسي عرضها. كان الجزء الممهد من الأرض صغيرًا جدًّا، لكن
كل فدان تقريبًا كان يملك القدرة على إنتاج كل المحاصيل المتنوعة الوافرة التي تنتجها
أي أرض استوائية. بالنظر إلى مساحة البرازيل الشاسعة، كانت نسبة الأراضي المزروعة يمكن
بالكاد مقارنتها بتلك التي تُركت على حالتها الطبيعية: في زمن ما في المستقبل، ستصبح
مصدر غذاء لعدد هائل من البشر! خلال رحلة اليوم الثاني وجدنا الطريق مغلقًا تمامًا؛ حتى
إن الأمر كان يستدعي أن يشق المرء طريقه بالسيف ليزيل النباتات المعترشة. كانت الغابة
عامرة بأشياء جميلة، من بينها أشجار السرخس والتي كانت جديرة بأكبر قدر من الإعجاب، على
صغرها، بسبب أوراقها الخضراء الزاهية وانحناءات سعفها الرائعة. في المساء هطلت الأمطار
بغزارة، ورغم أن مقياس الحرارة كان يشير إلى ٦٥ درجة، شعرت بالبرد الشديد. بمجرد توقف
المطر، كان من الغريب ما لاحظته من معدل استثنائي للبخر والذي بدأ على امتداد الغابة
كلها. وعلى ارتفاع يصل إلى مائة قدم كانت التلال مغطاة بسحابة بيضاء كثيفة من البخار
ظهرت، مثل أعمدة من الدخان، من أكثر أجزاء الغابة كثافة وخاصة من الوديان. وقد لاحظت
هذه الظاهرة في عدة مناسبات، وأعتقد أنها ترجع إلى السطح العريض للأوراق الذي كان
ساخنًا فيما سبق بفعل أشعة الشمس.
أثناء مكوثنا في هذه الضيعة، شهدت عن قرب شديد أحد تلك الأفعال الشنيعة التي لا تحدث
إلا في بلد ما زالت تُمارس فيه العبودية. فعلى أثر نزاع قائم ودعوى قضائية، كان المالك
على وشك إبعاد الأطفال والنساء عن ذويهم من العبيد الرجال وبيعهم فرادى في المزاد
العلني بريو دي جانيرو، لكن المصلحة، وليس أي إحساس بالشفقة، هو ما حال دون إقدامه على
هذه الفعلة. فلا أظن حقًّا أنه قد خطر حتى على بال المالك ما يكتنف تفريق ثلاثين عائلة
عاش أفرادها معًا لسنوات من انعدام للإنسانية والرحمة، لكن يجب أن أقول إنه كان يتفوق
على عامة الرجال فيما يتعلق بالإنسانية والمشاعر الطيبة. قد يقال إنه لا توجد حدود
لانعدام الإنسانية عندما يتعلق الأمر بالمصلحة والسلوك الأناني. ويحضرني هنا قصة غير
ذات قيمة كبيرة أفجعتني بشدة في ذلك الوقت أكثر من أي قصة عن القسوة. كنت على متن مركب
نهري مع زنجي يتمتع بغباء استثنائي. كنت أتحدث بصوت مرتفع في محاولة مني لكي أجعله يفهم
ما أقول إلى جانب إشارات كنت أصنعها بيدي، التي اقتربت من وجهه في خضم انهماكي في ذلك.
أعتقد أنه قد ظن أنني كنت منفعلًا وسوف أضربه؛ إذ وجدته ينزل يديه من فوره وعلى وجهه
نظرة خوف لاحت في عينيه اللتين صارتا نصف مفتوحتين. لن أنسى أبدًا مشاعر الدهشة
والاشمئزاز والخزي التي اجتاحتني لدى رؤيتي رجلًا قويًّا يخشى حتى من صد لطمة موجهة،
كما ظن، إلى وجهه. لقد اعتاد هذا الرجل على ذل ومهانة يفوقان ما اعتاد عليه أكثر
الحيوانات عجزًا.
•••
«١٨ أبريل، ١٨٣٢»، أثناء عودتنا أمضينا يومين في سوسيجو، قضيتهما في جمع الحشرات من
الغابة. كان محيط الأشجار، التي كانت أعدادها أكثر بكثير، رغم ارتفاعها الشاهق، لم يكن
يزيد عن ثلاث أو أربع أقدام. بالطبع كان ثمة أشجار ذات محيط أكبر بكثير. كان السيد
مانويل آنذاك يصنع زورقًا خفيفًا يصل طوله إلى ٧٠ قدمًا من جذع شجرة مصمت كان طوله في
الأساس ١١٠ أقدام، وسميكًا للغاية. كان التباين الناشئ عن نمو أشجار النخيل بين الأشجار
المتفرعة الشائعة يكسب المشهد طابعًا استوائيًّا. كانت الغابات هنا مزينة بالسبال
النخيلي، أحد أكثر أنواع النخيل جمالًا؛ إذ تتمايل قممها الرائعة على ارتفاع أربعين أو
خمسين قدمًا فوق سطح الأرض على ساق رفيعة للغاية يمكن إحاطتها براحتَي اليد. كانت
النباتات المعترشة الخشبية، والتي هي نفسها مغطاة بنباتات معترشة أخرى، سميكةً للغاية؛
إذ يصل محيط بعضها مما قمت بقياسه إلى قدمين. كانت معظم الأشجار القديمة تظهر بشكل غريب
جدًّا بسبب نبتة متسلقة تتدلَّى من أغصانها وتشبه أكوام القش. إذا انتقل البصر من عالم
النباتات الذي يعلو رءوسنا إلى الأرض تحت أقدامنا، فسيجذبه الجمال الشديد لأوراق السرخس
والسنط. كانت أشجار السنط في بعض الأنحاء تغطي السطح بأجمة قصيرة لا يتجاوز طولها بضع
بوصات. خلال سيرنا وسط هذه المراقد الكثيفة لأشجار السنط، كان هناك مسار عريض يميزه
اختلاف درجة الظل الناشئ عن انحناء سويقاتها الهشة. من السهل تحديد الأشياء المفردة
المثيرة للإعجاب في هذه المشاهد المهيبة، لكن ليس من الممكن إعطاء فكرة كافية عن مشاعر
الاندهاش والذهول والحب الشديد التي تملأ العقل وتسمو به.
•••
«١٩ أبريل، ١٨٣٢»، بعد مغادرة سوسيجو، أعدنا
تتبع خط سيرنا مرة أخرى خلال اليومين الأولين. كان هذا عملًا مرهقًا للغاية؛ إذ كان
الطريق يمر عبر سهل رملي شديد الحرارة لا يبعد كثيرًا عن الساحل. ولاحظت أنه في كل مرة
يطأ فيها الحصان الرمال السليكونية الناعمة بقدمه، يصدر صوتًا خافتًا يشبه زقزقة
الطيور. في اليوم الثالث، سلكنا خطًّا مختلفًا ومررنا عبر قرية مادري دي ديوس الصغيرة
التي تعمها البهجة. كان هذا الطريق أحد خطوط الطرق الرئيسية في البرازيل، لكنه كان في
حالة مزرية جدًّا؛ حتى إنه لم يكن يمكن لأي مركبة ذات عجلاتٍ المرورُ به فيما عدا
العربة البدائية التي تجرها الثيران. على مدى رحلتنا بالكامل، لم نمر بأي جسر مصنوع من
الحجارة، ولم تكن تلك الجسور المصنوعة من جذوع الخشب تخضع كثيرًا للترميم؛ حتى إنه كان
لزامًا علينا السير بعيدًا عنها لتجنبها. كانت كل المسافات غير معروفة بدقة. وكان
الطريق في أغلب الأوقات مؤشرًا بصلبان كبديل للافتات الإرشادية، للإشارة إلى المواضع
التي أريقت فيها الدماء البشرية. في مساء يوم الثالث والعشرين وصلنا إلى ريو بعد أن
أنهينا رحلتنا القصيرة الجميلة.
خلال ما تبقى من إقامتي في ريو أقمت في كوخ على خليج بوتوفوجو. كان من المستحيل تمني
حدوث أي شيء أكثر بهجة من قضاء بعض الأسابيع في بلد بهذه الروعة. في إنجلترا، يستمتع
أي
شخص مولع بالتاريخ الطبيعي خلال نزهاته بميزة عظيمة، من خلال وجود شيء أو آخر يلفت
انتباهه، لكن في هذه البيئات الخصبة الزاخرة بالحياة، تكثر عوامل الجذب إلى حد كبير؛
حتى إنه نادرًا ما يستطيع المرء التحرُّك من الأساس.
كانت الملاحظات القليلة التي استطعت تدوينها
مقتصرة حصرًا على الحيوانات اللافقارية. فقد أثار اهتمامي بشدةٍ وجودُ فئة من الديدان
المستورقة تسكن الأرض الجافة. كان تكوين هذه الكائنات بسيطًا للغاية؛ حتى إن كوفييه
وضعها في تصنيف واحد مع الديدان المعوية، رغم أنه لم يُعثَر عليها داخل أجسام الحيوانات
الأخرى. تسكن عدة أنواع من هذه الديدان كلًّا من المياه العذبة والمالحة، لكن ما أشير
إليها هنا عُثر عليها أيضًا في الأجزاء الأكثر جفافًا من الغابات تحت جذوع الأشجار
المتعفنة التي أظن أنها تتغذى عليها. تشبه هذه الديدان في شكلها العام البزاقات
الصغيرة، لكنها أصغر منها كثيرًا من حيث الحجم، كما أن أنواعًا عديدة منها ملونة بخطوط
طولية زاهية. كان تكوينها بسيطًا جدًّا؛ فبالقرب من الجزء الأوسط من السطح السفلي
لأجسامها المستخدم في الزحف يوجد شقان مستعرضان يبرز من الشق الأمامي منهما فمٌ يشبه
القمع وشديد التهيج. بعد نفوق الكائن تمامًا بسبب آثار المياه المالحة أو أي سبب آخر،
كان هذا العضو يحتفظ بنشاطه لفترة من الوقت.
وجدت ما لا يقل عن اثني عشر نوعًا مختلفًا من الديدان المستورقة البرية في أجزاء
مختلفة من الجزء الجنوبي من الكوكب.
٢ وقد حافظت على بعض العينات التي حصلتُ عليها من فان ديمنزلاند (تسمانيا)
حية نحو شهرين بإطعامها أشجارًا متعفنة. قطعتُ إحدى الديدان عرضيًّا إلى جزأيْنِ شبه
متساويَيْنِ وفي غضون أسبوعَيْنِ اتخذ كل جزء شكل دودة مكتملة النمو. غير أنني بالغت
في
تقسيم جسم الدودة حتى إن أحد النصفين اشتمل على كلتا الفتحتين السفليتين؛ ومِن ثَمَّ
لم
يحتوِ النصف الآخر على أي فتحات. وبعد خمسة وعشرين يومًا من هذه العملية، كان النصف
الأول الأكثر اكتمالًا لا يمكن التمييز بينه وبين أي عينة أخرى، بينما زاد النصف الثاني
في الحجم كثيرًا، وبالقرب من الطرف الخلفي تشكَّلت مساحة فارغة في كتلة النسيج الحشوي
أمكن بوضوح رؤية فم بدائي يشبه القدح فيها، لكن لم يكن قد ظهر بعد على السطح السفلي أي
شق مُطابق. ولولا ما تسببه حرارة الطقس المتزايدة، كلما اقتربنا من خط الاستواء، من
تدمير لكل الديدان، فلا شك أن هذه الخطوة الأخيرة كانت ستكمل تكوينها. ورغم كونها تجربة
شهيرة جدًّا، كان من المثير مشاهدة النمو المتدرج لكل عضو أساسي من الطرف البسيط لحيوان
آخر. كان من الصعب للغاية الحفاظ على هذه الديدان المستورقة؛ إذ إنها بمجرد موتها، تبدأ
قوانين التغير الطبيعية في العمل وتصبح أجسامها بالكامل طرية ورخوة بسرعة لم أرَ لها
مثيلًا.
كانت أولى زياراتي للغابة التي وجدت فيها هذه الديدان المستورقة بصحبة قس برتغالي
عجوز اصطحبني معه للصيد. كان الصيد يتألف من الاختباء بصحبة بضعة كلاب ثم الانتظار في
صبر لإطلاق النار على أي حيوان يظهر. وقد رافقنا في رحلتنا ابن مزارع يسكن بالجوار،
وكان مثالًا جيدًا للشاب البرازيلي الجامح؛ فقد كان يرتدي قميصًا وسروالًا قديمين
ممزقين وكان حاسر الرأس ويحمل مسدسًا عتيق الطراز وسكينًا ضخمًا. كانت عادةُ حمل السكين
عادةً عامةً وكانت شبه أساسية لشق الطريق في الغابات الكثيفة بسبب النباتات المعترشة
المتشابكة. وقد يُعزَى تكرار حوادث القتل جزئيًّا إلى هذه العادة. ويتمتع البرازيليون
بمهارة شديدة في استخدام السكاكين؛ حتى إن بإمكانهم رميها لمسافات بدقة وبقوة كافية
لإحداث إصابة مميتة. وقد رأيت عددًا من الصبية الصغار يمارسون فن قذف السكاكين كلعبة،
وكانت مهارتهم في إصابة عصًا قائمةٍ تبشر بإقدامهم على محاولات أكثر جدية. كان مرافقي
قد أصاب في اليوم السابق قردين ملتحيين كبيرين. لهذه القردة ذيول قادرة على الإمساك بأي
شيء حيث يمكن لأطرافها أن تحمل وزن أجسادها بالكامل حتى بعد نفوقها؛ لذا ظل أحد تلك
القرود متشبثًا بفرع شجرة؛ حتى إننا اضطررنا لقطع شجرة كبيرة للقبض عليه. بعد قليل
انهارت الشجرة محدثة صوت ارتطام هائلًا ونزل القرد. بخلاف القرد، كانت حصيلة صيدنا
مقتصرةً على مجموعة من الببغاوات الخضراء الصغيرة وبعض طيور الطوقان، لكني استفدت من
معرفتي بالقس البرتغالي؛ إذ أهداني في مناسبة أخرى نموذجًا رائعًا لقط الياجوروندي
البري.
سمع الجميع بجمال الطبيعة بالقرب من بوتوفوجو. كان المنزل الذي أُقيمُ فيه يقع بالقرب
من سفح جبل كوركوفادو الشهير. وقد أشير، بقدر كبير من الحقيقة، إلى أن التلال المخروطية
المنحدرة تعد سمة لنشأة ما أسماه هومبولت بصخور النايس المتحولة من الجرانيت. لا يوجد
ما هو أروع من تأثير هذه الكتل الدائرية الضخمة من الصخور الجرداء وقد برزت وسط
النباتات الوافرة النماء.
كثيرًا ما كنتُ مهتمًّا بمراقبة السُّحُب القادمة من جهة البحر والتي تُكوِّن صفًّا
تحت أعلى نقطة في جبل كوركوفادو مباشرة. كان هذا الجبل، مثل معظم الجبال الأخرى، يبدو
أعلى بكثير من ارتفاعه الحقيقي الذي يصل إلى ٢٣٠٠ قدم عندما تحجبه السحب جزئيًّا على
هذا النحو. لاحظ السيد دانيال، كما ورد في مقالاته في مجال الأرصاد الجوية، أنه أحيانًا
تبدو السحب مثبتة على قمة جبل ما بينما تستمر الرياح في الهبوب عليها. وتتجلى الظاهرة
نفسها هنا بشكل مختلف قليلًا؛ فقد لوحظ بوضوح في هذه الحالة أن السحب تتحرك بصورة
لولبية وتمر بجوار القمة بسرعة، دون نقص أو زيادة في حجمها مطلقًا. كانت الشمس في
طريقها للمغيب واختلط نسيم جنوبي عليل اصطدم بالجهة الجنوبية من الصخرة، بالهواء الأكثر
برودة الذي يعلوه؛ مما أدى إلى تكثف بخار الماء، لكن مع مرور أكاليل الضوء المصاحبة
للسحاب فوق قمة الجبل ووقوعها ضمن منطقة نفوذ مناخ الجزء المنحدر الشمالي الأكثر دفئًا،
تلاشت فورًا مرة أخرى.
كان المناخ خلال شهري مايو ويونيو، أو بداية الشتاء، ممتعًا. كان متوسط درجة الحرارة،
من واقع ملاحظاتٍ سُجِّلَت في الساعة التاسعة، مساء وصباحًا، هو ٧٢ درجة فقط. كانت تمطر
بكثافة في أغلب الأوقات، لكن سرعان ما كانت الرياح الجنوبية الجافة تعيد للمشي متعته
مرة أخرى. في صباح أحد الأيام، وفي غضون ست ساعات، هطلت الأمطار بكثافة ١٫٦ بوصة. عند
مرور هذه العاصفة فوق الغابات المحيطة بكوركوفادو، كان الصوت الصادر عن تساقط قطرات
المطر فوق الأوراق التي لا تحصى لافتًا للغاية، وأمكن سماعه من مسافة ربع ميل، وكان
يشبه تدفق مسطح مائي عظيم. بعد انقضاء الأيام الحارة، كان من الممتع الجلوس في صمت في
الحديقة ومشاهدة انقضاء المساء وحلول الليل محله. كانت الطبيعة في هذه المناطق المناخية
تتخير مطربيها من أنواع أكثر تواضعًا مقارنة بالطبيعة في أوروبا؛ فنجد ضِفْدعًا صغيرًا
من جنس ضفادع الشجر يجلس على نصل عشب أخضر يرتفع نحو بوصة فوق سطح الماء، ويصدر نقنقة
محببة للنفس، وعند اجتماع عدد من هذه الضفادع، تغني معًا في تناغم على نغمات مختلفة.
واجهت بعض الصعوبة في الإمساك بضفدع من هذا النوع. كانت أصابع أقدام ضفادع الشجر تنتهي
بمِمَصَّات صغيرة، واكتشفت أن هذا الحيوان يمكنه تسلق لوح زجاج عندما يوضع في وضع رأسي
تمامًا. في الوقت نفسه يوجد العديد من حشرات زيز الحصاد وصرَّار الليل، تصدر صيحة حادة
لا تتوقف، ولكنها ليست مقيتة حين ترق وتخفت عند سماعها من بُعد. كان هذا الحفل الموسيقي
الكبير يبدأ كل مساء بعد حلول الظلام، وغالبًا ما كنت أجلس أستمع إليه إلى أن يجذب
انتباهي حشرة مارة مثيرة للاهتمام.
في هذه الأوقات، تظهر اليراعات وهي ترفرف وتتنقل من سياجٍ إلى آخر. وفي الليالي
الحالكة الظلام، يمكن رؤية ضوئها من بُعد نحو مائتي خطوة. من اللافت أنه في مختلف أنواع
الديدان المتوهجة، والخنافس المضيئة، والعديد من الحيوانات البحرية (مثل القِشْرِيَّات،
وقناديل البحر، والديدان الحلقية الكثيرة الأشعار، والطحلبيات المرجانية من فصيلة
الكليتيا، والهلاميات النارية) التي لاحظتها، كان الضوء ذا لون أخضر مميز. كانت جميع
اليراعات، التي جمعتها هنا، تنتمي إلى نوع الخنافس المضيئة (التي تندرج تحتها الدودة
الإنجليزية المضيئة)، وكان العدد الأكبر من العينات من عائلة الخنافس المضيئة الغربية.
٣ ووجدت أن هذه الحشرة ينبعث منها أكثر الومضات توهجًا عندما تُستَثار، وفي
فترات توقف انبعاث هذه الومضات كانت الحلقات البطنية معتمة. كان الوميض يحدث في حلقتين
على نحو شبه متزامن، ولكنه لوحظ أولًا في الحلقة الأمامية. كانت المادة المضيئة سائلة
ولزجة جدًّا؛ وظلت البقع الصغيرة، حيث كان الجلد ممزقًا، مضيئة بوميض خافت، بينما كانت
الأجزاء السليمة من الجلد معتمة. وعند قطع رأس الحشرة، ظلت حلقات البطن مضيئة بلا
انقطاع، ولكن ليس بنفس التألق الذي كانت عليه من قبل؛ ودائمًا ما كانت الاستثارة
الموضعية بواسطة إبرة تزيد من قوة الضوء. وفي إحدى الحالات احتفظت الحشرة بخاصيتها
المضيئة بعد موتها بحوالي ٢٤ ساعة. من منطلق هذه الحقائق يبدو من المحتمل أن الحشرة
تمتلك القدرة على إخفاء الوميض أو إخماده لفترات فاصلة قصيرة، وأن إطلاق الضوء في أحيان
أخرى يكون لا إراديًّا. أثناء سيري في الممرات الطينية والممرات المغطاة بالحصى المبلل،
وجدت أعدادًا كبيرة من يرقات هذه الخنافس المضيئة، وكانت تشبه إناث الدودة الإنجليزية
المضيئة في شكلها العام. كانت هذه اليرقات تمتلك قوى مضيئة واهنة؛ وعلى عكس آبائها
تمامًا، كانت أقل لمسة تجعلها تتظاهر بالموت وتكف عن الإضاءة والتوهج، كما لم تكن
استثارتها تؤدي لصدور أي ضوء جديد. أبقيت على العديد منها حية لبعض الوقت: كانت أذيالها
أعضاء غريبة جدًّا؛ إذ كانت تعمل، عن طريق حيلة محكمة، كمِمَصَّات أو أعضاء للتعلُّق،
وأيضًا كمخازن للعاب أو سائل مشابه. أطعمتها اللحم النِّيء مرارًا، ودائمًا ما كنت
ألاحظ أن بين الحين والآخر كان طرف الذيل يوضع في الفم وتخرج قطرة من السائل على اللحم
الذي كان حينها يُمضغ. ورغم التدريب المتكرر، كان الذيل يبدو غير قادر على إيجاد طريقه
إلى الفم، ودائمًا ما كان العنق على الأقل هو ما يُلمَس أولًا كما لو كان يسترشد
به.
عندما كنا في باهيا، كانت إحدى الخنافس (وتسمى الخُنْفَساء المطقطقة المضيئة) هي
الأكثر شيوعًا بين الحشرات المضيئة حسبما بدا لي. كان الضوء في هذه الحشرة أيضًا يزداد
توهجًا عند استثارتها. سليت نفسي يومًا ما بملاحظة قدرات الوثب لدى هذه الحشرة التي لم
توصف جيدًا كما يبدو لي.
٤ كانت الخُنْفَساء عندما توضع على ظهرها وتستعد للوثب، تحرك رأسها وقفصها
الصدري للوراء مما كان يجعل الشوكة الصدرية لديها تستطيل، وتستند على حد غمدها.
باستمرار نفس الحركة الخلفية، كانت الشوكة تنثني مثل الزنبرك بفعل الاستنفار الكامل
لحركة العضلات، وكانت الحشرة في تلك اللحظة تستند إلى طرف رأسها وأغمدة أجنحتها. مع
انخفاض حدة الجهد المبذول فجأة، كان الرأس والصدر يرتفعان، ونتيجة لهذا، كانت قاعدة
أغمدة الأجنحة تضرب السطح الذي تستند عليه بقوة تجعل الحشرة تقفز لارتفاع بوصة أو
اثنتين. كانت النقاط البارزة في الصدر وغمد الشوكة تساعد في ثبات الجسم بالكامل خلال
الوثب. من خلال التوصيفات التي قرأتها، لا يبدو أن ثمة ضغطًا كافيًا يقع على مرونة
الشوكة؛ لذا فإن هذه القفزة المفاجئة لا يمكن أن تكون نتيجة انقباض عضلي بسيط بدون
مساعدة وسيلة ميكانيكية.
في عدة مناسبات، كنت أستمتع برحلات قصيرة لكنها ممتعة في الريف المجاور. وقد ذهبتُ
يومًا ما إلى حديقة النباتات؛ حيث كان يمكن رؤية العديد من النباتات المعروفة بفوائدها
الكبرى تنمو بها. كانت أوراق أشجار الكافور والفلفل والقرفة والقرنفل تُشِيع رائحة
فوَّاحة جميلة، وكانت أشجار فاكهة الخبز والجاكا والمانجو تتنافس معًا في روعة أوراقها.
كان المنظر الطبيعي في جوار باهيا يستمد سمته إلى حد كبير من أشجار الجاكا والمانجو.
قبل أن أراها، لم يكن لديَّ أي فكرة أنه يمكن لأي نوع من الأشجار إلقاء مثل هذا الظل
القاتم على الأرض. فكان كلا النوعين يرتبط بالاخضرار الدائم لهذه الأجواء مثلما ترتبط
نباتات إكليل الغار والبهشية باللون الأخضر الباهت للأشجار النفضية أو المتساقطة
الأوراق. قد يُلَاحَظ أن البيوت داخل المناطق الاستوائية محاطة بأجمل أنواع النباتات
لما تحمله من فائدة قصوى للإنسان في الوقت نفسه. من يمكنه التشكيك في أن هذه السمات
موجودة في الموز وجوز الهند والأنواع العديدة من النخيل والبرتقال وفاكهة الخبز؟
خلال ذلك اليوم، انبهرت بشكل خاص بملاحظة أبداها همبولت، الذي كثيرًا ما يشير إلى
«الضباب الرقيق، الذي يجعل درجات ألوان الهواء أكثر تناغمًا ويلطف آثاره بدون أن يغير
شفافيته.» كان هذا مظهرًا لم ألاحظه من قبل في المناطق ذات المناخ المعتدل. كان الغلاف
الجوي، عند النظر عبر مسافة قصيرة تقدر بنصف أو ثلاثة أرباع الميل، صافيًا تمامًا، لكن
عندما تزيد المسافة كانت كل الألوان تختلط معًا مكونة ضبابًا رقيقًا من أجمل ما يكون
بلون رمادي فرنسي باهت مختلط بزرقة خفيفة. كانت حالة الجو بين الصباح وقرب الظهيرة،
عندما يكون هذا الأثر أوضح ما يكون، قد مرت بتغير طفيف إلا في جفافه. خلال هذه الفترة
الفاصلة، كان الفارق في درجة حرارة تكوُّن الندى ودرجة حرارة الجو قد زاد من ٧٫٥ درجة
إلى ١٧ درجة.
في مناسبة أخرى، انطلقت مبكرًا ومشيت حتى جبل جافيا أو جبل الشراع الأعلى. كان الهواء
باردًا وعَطِرًا على نحو يبعث على البهجة، وكانت قطرات الندى ما زالت تتألق على أوراق
الزنابق الكبيرة التي كانت تظلل الجداول الصغيرة بمياهها الصافية. جلست على صخرة من
الجرانيت وكم استمتعت بمراقبة الحشرات والطيور المختلفة وهي تتحرك من حوله. كان طائر
الطنان يبدو مغرمًا على نحو خاص بهذه الأماكن الظليلة المنعزلة. أينما كنتُ أرى هذه
الكائنات الضئيلة تطن حول إحدى الأزهار وأجنحتها تهتز بسرعة تجعل من الصعب رؤيتها، كنتُ
أتذكر عثة أبي الهول؛ إذ كانت تشبهها كثيرًا في العديد من الحركات والسلوكيات.
سلكت أحد الدروب حتى دخلت غابة مهيبة، ومن ارتفاع ٥٠٠ أو ٦٠٠ قدم، تجلَّى واحد من
تلك
المشاهد البديعة المنتشرة إلى حد كبير في أرجاء ريو دي جانيرو. من هذا الارتفاع، كان
المشهد يكتسب أجمل وأروع لون له، وكان كل شكل وكل ظل يفوق في جماله كل ما رآه الأوروبي
في بلاده على الإطلاق؛ حتى إنه يقف أمامه عاجزًا عن التعبير عن مشاعره. كان الأثر العام
للمشهد كثيرًا ما يستدعي إلى ذهني أزهى ديكورات ومناظر دار الأوبرا أو المسارح الكبرى.
لم أكن أعود من هذه الجولات خاوي اليدين. وفي ذلك اليوم وجدت عينة من فطر غريب يسمى فطر
الوذرية الحَرْشَفية. كان معظم الناس يعرفون فطر الوذرية الإنجليزي والذي يلوث الهواء
برائحته الكريهة في الخريف؛ لكنها، كما يعلم علماء الحشرات، رائحة طيبة بالنسبة إلى
رائحة بعض الخنافس. كذلك كان الحال هنا؛ إذ انجذبت دودة أسطوانية للرائحة ووقفت فوق
الفطر الذي كنت أحمله في يدي. نرى هنا في دولتين بعيدتين علاقة مشابهة بين النباتات
والحشرات من العائلات نفسها، رغم اختلاف فصائل الاثنتين. عندما يساهم الإنسان في إدخال
نوع جديد من الكائنات في بلد ما، فإن هذه العلاقة غالبًا ما تنكسر، وكمثال على ذلك، قد
يمكنني أن أذكر أن أوراق الكرنب والخس التي توفر الطعام في إنجلترا للكثير من البزاقات
والأساريع، تبقى في الحدائق القريبة من ريو لا يمسها أحد.
خلال إقامتنا في البرازيل، كوَّنت مجموعة كبيرة من الحشرات. ربما كان من المثير لعالم
الحشرات الإنجليزي إبداء بعض الملاحظات العامة حول الأهمية النسبية للرتب المختلفة.
كانت الحشرات المنتمية لرتبة حَرْشَفيات الأجنحة التي تتميز بكبر حجمها وألوانها
الزاهية تدل على المنطقة التي تسكنها على نحو أكثر وضوحًا من أي جنس آخر من الحيوانات.
وهنا أشير فقط إلى الفراشات من حَرْشَفيات الأجنحة؛ لأن العث، وعكس ما قد يكون متوقعًا
بسبب وفرة النباتات، كانت تبدو أقل بكثير في أعدادها في المناطق المعتدلة بالتأكيد.
اندهشت كثيرًا عندما لاحظت سلوك الفراشات المذنبة. يعد هذا النوع من الفراشات شائعًا
ويتردد عادة على بساتين البرتقال. ورغم أنها تطير على ارتفاعات كبيرة، فإنها تحط غالبًا
على جذوع الأشجار. وعندما تحط على الأشجار تكون رءوسها موجهة للأسفل دائمًا، وتمتد
أجنحتها على مستوى أفقي بدلًا من أن تُطوَى رأسيًّا كما هو الحال عادة. كانت هذه هي
الفراشة الوحيدة التي رأيتها تستخدم سيقانها للركض. ولعدم درايتي بهذه الحقيقة، في أكثر
من مرة، عندما كنتُ أقترب منها بحذر ممسكًا بملقطي، كانت الحشرة تتحرك إلى أحد الجوانب
وتهرب في اللحظة التي يوشك فيها الملقط على الإمساك بها، لكن ثمة حقيقة أكثر غرابة وهي
القدرة التي يملكها هذا النوع من الفراشات على إصدار الضوضاء.
٥ ففي مرات عديدة عندما كان زوج من هذه الفراشات، ربما يكون مكوَّنًا من ذكر
وأنثى، يطارد أحدهما الآخر في مسار غير منتظم، كانا يمران على بعد بضع ياردات مني، وكنت
أسمع بوضوح صوت طقطقة يشبه ما يصدر عن مرور عجلة مسننة تحت مزلاج زنبركي. كانت الضوضاء
تتواصل على فترات زمنية قصيرة ويمكن تمييزها من مسافة عشرين ياردة تقريبًا؛ وكنتُ
متأكدًا أنه لا يوجد أي خطأ في ملاحظتي هذه.
أصابني الإحباط من فصيلة الخنافس الغمدية الأجنحة بشكل عام. كان عدد الخنافس الدقيقة
والملونة كبيرًا إلى حد بعيد.
٦ كانت خزائن العرض في أوروبا، حتى ذلك الوقت، تتباهى بعرض الأنواع الأكبر
حجمًا فقط المنتمية إلى المناخات الاستوائية. يكفي التفكير في الأبعاد المستقبلية
لكتالوج كامل لهذه الحشرات ليفسد هدوء أي عالم حشرات. كانت الخنافس آكلة اللحوم أو
الخنافس الأرضية تظهر بأعداد قليلة جدًّا داخل المناطق الاستوائية، ويتجلى هذا الانخفاض
أكثر عند مقارنتها بأعداد آكلات اللحوم رباعية الأرجل الموجودة بكثرة في البلاد الحارة.
خطرت لي هذه الملاحظة عند دخولي البرازيل وعندما رأيت الأشكال العديدة النشطة والجميلة
من الخنافس القيثارية تعاود الظهور في السهول المعتدلة المناخ في لابلاتا. هل تحل
العناكب وغمديات الأجنحة المفترسة المتوفران بكثرة محل الخنافس الآكلة اللحوم؟ يندر
وجود آكلات الجيف والخنافس القصيرة الأغمدة؛ على الجانب الآخر، فإن سوسة النخيل الحمراء
(نوع من الخنافس) وخنافس الورق، والتي تعتمد على النباتات في غذائها، موجودة بأعداد
مذهلة. لا أشير هنا إلى عدد الأنواع المختلفة، بل إلى عدد الحشرات الفردية؛ لأن علم
الحشرات في كل بلد يعتمد على هذه السمة المميزة للغاية. كانت رتب مستقيمات الأجنحة
ونصفيات الأجنحة متعددة على نحو خاص؛ وكذلك شعبة غمديات الأجنحة اللادغة ربما باستثناء
النحل. يندهش من تطأ قدمه لأول مرة غابة استوائية من الجهد الشاق الذي يقوم به النمل؛
فتجد طرقًا مرتادة تتفرع في جميع الاتجاهات يمكن من خلالها رؤية جيش من الباحثين عن
الغذاء يغدون ويروحون محمَّلين بقطع من الأوراق الخضراء غالبًا ما تكون أكبر من
أجسامهم.
ثمة نوع من النمل صغير داكن اللون ينزح أحيانًا بأعداد لا تُحصى. في أحد الأيام في
باهيا لفت انتباهي اندفاع عدد كبير من العناكب والصراصير وحشرات أخرى وبعض السحالي
تندفع في اهتياج بالغ عبر قطعة أرض جرداء. وإلى الوراء قليلًا، كان النمل الأسود الصغير
يغطي كل سويقة وورقة. بعد عبور الأرض الجرداء قسَّم سرب النمل نفسه ثم هبط جدارًا
قديمًا. بهذه الطريقة، أحاط بالعديد من الحشرات بشكل تام وكانت محاولات المخلوقات
البائسة في تحرير نفسها من هذا الموت المحقق جديرة بالإعجاب. عندما وصل النمل إلى
الطريق، غيَّر مساره وأعاد صعود الحائط في صفوف رفيعة. وضعتُ حجرًا صغيرًا ليعترض طريق
أحد هذه الصفوف فهاجمها سرب النمل بالكامل ثم تراجع فورًا. وبعد فترة قصيرة، جاء سربٌ
آخر للهجوم لكنه فشل مجددًا في إحداث أي تأثير، ليهجر النمل هذا الخط من المسيرة.
بالالتفاف بمقدار بوصة، ربما كان طابور النمل سيتجنَّب الحجر وكان هذا سيحدث بلا شك لو
سار من هناك من الأساس، لكن عند مهاجمتهم، رفض المحاربون الصغار الشجعان فكرة
الاستسلام.
توجد حشرات تشبه الزنابير بأعداد مهولة في جوار ريو، تبني حجيرات طينية في زوايا
الشرفات من أجل يرقاتها. تملأ هذه الحشرات هذه الحجيرات بعناكب وأساريع نصف ميتة؛ يبدو
أنها تعرف على نحو مثير للدهشة كيف تلدغها بحيث تسبب لها حالة من الشلل دون أن تميتها
حتى يفقس البيض وتتغذى اليرقات على كتلة بشعة المنظر من ضحايا ضعاف بين الحياة والموت،
وهو المشهد الذي وصفه أحد علماء الطبيعة المتحمسين
٧ بأنه مشهد مبهج ومثير للاهتمام! ذات يوم اجتاحني فضول شديد لمشاهدة صراع
حتى الموت بين دبور عنكبوتي وعنكبوت ذئبي ضخم الحجم. اندفع الدبور فجأة تجاه فريسته ثم
طار بعيدًا؛ كان من الواضح أن العنكبوت قد جُرِح لأنه أثناء محاولته الهرب، تدحرج عبر
منحدر صغير لكنه كان لا يزال يملك القدرة الكافية ليزحف ويختبئ داخل أجمة كثيفة من
الأعشاب. عاد الدبور بعد قليل وبدا متفاجئًا عندما لم يجد ضحيته في الحال. ثم بدأ
مطاردة مألوفة مثلما يطارد كلب الصيد الثعلب؛ إذ كان يندفع للأمام بحركات قصيرة نصف
دائرية بينما تهتز أجنحته وقرون استشعاره بسرعة طيلة الوقت. ورغم أن العنكبوت كان
مختبئًا بشكل جيد، لم يمر وقت طويل حتى عثر الدبور عليه، وبعد الكثير من المناورات ورغم
أنه كان واضحًا أنه ما زال خائفًا من خصمه، لدغه الدبور لدغتين في الجانب السفلي من
صدره. في النهاية وبعد فحص دقيق للعنكبوت الساكن بواسطة قرون الاستشعار، بدأ في جر
الجسد بعيدًا، لكني أوقفت كلًّا من الظالم والضحية.
٨
كان عدد العناكب هنا، مقارنة بالحشرات الأخرى، أكبر بكثير إذا ما قورن بأعدادها في
إنجلترا، ربما أكثر من أي رتبة أخرى من الحيوانات المفصلية الأرجل. كان تنوع العناكب
القافزة يبدو لا نهائيًّا تقريبًا. يتميز جنس، أو بالأحرى عائلة عناكب السك، هنا
بالعديد من الأشكال الفريدة؛ فكان لبعض أنواعها صدفات خارجية مستدقة تشبه شكل الجلد،
بينما تملك أخرى سيقانًا متضخمة وشائكة. كان كل طريق في الغابة مسدودًا بشبكة صفراء
قوية من نوع من العناكب ينتمي إلى نفس رتبة عناكب الموز التي اكتشفها يوهان فابريسيوس،
والتي قال سلون فيما مضى إنها تنسج، في جزر الهند الغربية، شباكًا قوية لدرجة تجعلها
صالحة لصيد الطيور. ثمة نوع صغير وجميل من العناكب ذو سيقان أمامية طويلة جدًّا، ويبدو
أنه ينتمي إلى نوع غير موصوف، ويعيش كطفيل على كل شبكة من هذه الشباك تقريبًا. أظن أنه
من الضآلة حتى إن عناكب السك الكبيرة لا تلاحظه؛ ولذا تتاح له فرصة أن يقتات على
الحشرات الصغيرة التي كانت تضيع هباء لولا التصاقها بالشبكة. يتظاهر هذا العنكبوت
الضئيل بالموت عند شعوره بالخوف بمد سيقانه الأمامية، أو يسقط من الشبكة فجأة. ثمة نوع
شائع للغاية من عناكب السُّكِّ من نفس رتبة عناكب السك المخروطية والمتدرنة، وخاصة في
المناطق الجافة، وتتميز شبكته، والتي عادة ما ينسجها بين الأوراق الكبيرة للصبار
الأمريكي، بأنها تُدعم أحيانًا عند المركز بواسطة زوج أو زوجين من الأربطة المتعرجة
التي تصل بين خيطين متجاورين. عندما يمسك بأي حشرة كبيرة كالجُنْدب أو الدبور، يقوم
العنكبوت، بحركة بارعة، بتدويره بسرعة كبيرة، وفي الوقت نفسه يفرز كتلة من الخيوط من
مَغازله لتصبح فريسته بعد قليل مغلفة بغلاف يشبه شرنقة دودة القز. بعد ذلك يفحص
العنكبوت الضحية الخائرة القوى ويعضها عضة مميتة في الجزء الخلفي من صدرها ثم يتراجع
وينتظر في صبر حتى يسري مفعول السم. يمكن تقدير قوة هذا السم من منطلق حقيقة أنه في
خلال نصف دقيقة فتحت الشبكة لأجد دبورًا كبيرًا جثة هامدة. يقف عنكبوت السُّك دائمًا
ورأسه موجه إلى أسفل بالقرب من مركز الشبكة. عندما يتعرض للمضايقة يختلف أسلوب تصرفه
تبعًا للظروف؛ فإذا كان ثمة أجمة بالأسفل، فإنه يسقط عليها فجأة؛ وقد رأيت العنكبوت
بوضوح وهو يطيل الخيط البارز من المغازل بينما ما زال هو ثابتًا في مكانه على أهبة
الاستعداد للسقوط. أما إذا كانت الأرض تحته خالية، فإنه نادرًا ما يسقط لكنه يتحرك
بسرعة عبر ممر مركزي من جانب إلى آخر. عندما تستمر المضايقة، يقوم بمناورة من أغرب ما
يكون؛ إذ يقف في منتصف الشبكة، المتصلة بأفرع مرنة، ويهزها بشدة حتى تكتسب الشبكة
بأكملها حركة اهتزازية سريعة تجعل محيط جسم العنكبوت غير واضح.
من المعروف أن معظم العناكب البريطانية عندما تقع حشرة كبيرة في شباكها فإنها تحاول
قطع الخيوط وتحرير فرائسها حتى تحمي الشباك من التلف التام. غير أنني ذات مرة رأيت في
صوبة زجاجية في شروبشير أنثى دبور كبيرة عالقة في شبكة غير منتظمة لعنكبوت صغير للغاية،
وكان ذلك العنكبوت مستمرًّا في لف الشبكة حول جسم الفريسة، وخاصة أجنحتها، بأقصى قدر
من
المثابرة بدلًا من قطعها. عبثًا حاولت أنثى الدبور في البداية لدغ خصمها الصغير بضربات
متكررة باللاسع بلا جدوى. شعرت بالشفقة على أنثى الدبور بعد أن تركتها تصارع ما هي فيه
لأكثر من ساعة، فقتلتها ووضعتها مرة أخرى في شبكة العنكبوت. عاد العنكبوت بعد قليل،
واندهشت كثيرًا عندما وجدته بعد ساعة وقد دفن فكيه في الثقب الذي يبرز منه الدبور الحي
اللاسع الخاص به. أبعدت العنكبوت مرتين أو ثلاثًا، لكني كنت أجده دومًا يمص من نفس
الموضع على مدى الأربع والعشرين ساعة التالية. انتفخ جسد العنكبوت للغاية بعصارة فريسته
التي كانت تكبره في الحجم عدة مرات.
يمكنني أن أذكر هنا أنني وجدت بالقرب من باهادا سانتا فاي العديد من العناكب السوداء
الكبيرة ذات علامات حمراء ياقوتية على ظهورها وتتسم بسلوك اجتماعي. كانت شباكها مقامة
رأسيًّا كما هو الحال دائمًا مع عناكب السك؛ وكان كل عنكبوت يفصله قدمان تقريبًا عن
الآخر، لكنها جميعًا كانت متصلة بخيوط مشتركة معينة تتسم بطولها الكبير وتمتد لتشمل كل
أنحاء الجماعة. بهذا الأسلوب، كانت قمم بعض الأجمات الكبرى مغطاة بالشباك المتصلة. وقد
وصف أزارا
٩ عنكبوتًا اجتماعي السلوك وجده في باراجواي، والذي يظن والكانير أنه عنكبوت
شماذي، لكن من المحتمل أنه كان من السك، وربما حتى يكون من نفس النوع الذي كان معي. رغم
ذلك، لا أذكر أني قد رأيت عشًّا مركزيًّا كبيرًا في حجم القبعة، يودع فيه البيض، كما
يقول أزارا، في الخريف عندما تموت العناكب. ونظرًا لأن كل العناكب التي رأيتها كانت
بالحجم نفسه، فلا بد أنها كانت من نفس العمر تقريبًا. ولعل من الحقائق المدهشة للغاية
وجود هذا السلوك الاجتماعي، الشائع لدى نوع عادي مثل عناكب السك، بين حشرات كهذه متعطشة
للدماء وانعزالية بشكل كبير حتى إن الجنسين يهاجم أحدهما الآخر.
في وادٍ مرتفع يقع ضمن السلسلة الجبلية بالقرب من ميندوزا، وجدت عنكبوتًا آخر له شبكة
ذات تكوين غريب. فكانت ثمة خيوط قوية تمتد رأسيًّا من مركز مشترك حيث تتموضع الحشرة،
لكن خيطين فقط من هذه الخيوط كانا متصلين بخيوط شبكية متناسقة؛ ومِن ثَمَّ كانت الشبكة
ذات شكل إسفيني بدلًا من أن تكون دائرية كما هو معتاد. وكانت كل الشباك مقامة بالطريقة
نفسها.