الفصل العشرون
جزيرة كيلينج: تكوينات مرجانية
جزيرة كيلينج – مظهرٌ غريب – نباتاتٌ شحيحة – نقل الحبوب – طيور وحشرات – ينابيع منحسرة ومتدفقة – حقول من المرجان الميت – صخور منقولة في جذور الأشجار – سلطعون ضخم – المرجان اللاسع – السمك آكل المرجان – تكويناتٌ مرجانية – جزرٌ مرجانية – العمق الذي يمكن للمرجان المكوِّن للشعاب المرجانية العيش فيه – مناطق واسعة يتخلَّلها جزرٌ مرجانيةٌ منخفضة – هبوط أساساتها – حيودٌ مرجانية – شعابٌ مرجانيةٌ هدابية – تحول الشعاب الهدابية إلى حيودٍ مرجانية وجزرٍ مرجانية – دليل حدوث تغييرات في المنسوب – ثغرات في الحيود المرجانية – جزر المالديف المرجانية وتكوينها الغريب – شعابٌ مرجانيةٌ ميتة ومغمورة – مناطق الهبوط والارتفاع – توزيع البراكين – هبوطٌ بطيء وبقدرٍ هائل.
***
يعتبر شعب المالايو الآن أحرارًا اسمًا فقط، وبالتأكيد هذا هو الحال فيما يتعلق بمعاملتهم الشخصية، لكن في معظم النقاط الأخرى يعتبرون عبيدًا. ويتبيَّن من سخطهم وتنقُّلهم المتكرر من جزيرة إلى جزيرة، وربما القليل من سوء الإدارة، أن الأمور ليست مزدهرة للدرجة. لم تكن الجزيرة تملك أي حيوانٍ مستأنس من رباعيات الأقدام فيما عدا الخنزير، وكان المحصول النباتي الرئيس هو جوز الهند. ويعتمد ازدهار المكان بالكامل على هذه الشجرة؛ إذ كانت الصادرات الوحيدة هي زيت ثمرة جوز الهند، والثمار نفسها، والتي تؤخذ إلى سنغافورة وموريشيوس، حيث تُستخدَم على نحوٍ أساسي، بعد جرشها، في صناعة البهارات. كذلك تعيش الخنازير المحمَّلة بالدهن، على نحوٍ شبه كامل على جوز الهند، وكذلك الحال بالنسبة إلى البط والدواجن. حتى السلطعون البري الضخم مزوَّد بشكلٍ طبيعي بالوسيلة التي تمكنه من فتح ثمار هذا النبات المفيد للغاية والاغتذاء عليه.
يعلو الجزء الأكبر من امتداد الشعاب المرجانية الحلقية للجزيرة المرجانية جزيرات خطية. على الجانب الشمالي أو الجهة المضادة للرياح، توجد فتحة يمكن للسفن المرور منها إلى المرسى الداخلي. عند الدخول كان المشهد في غاية الغرابة والجمال، غير أن هذا الجمال كان يعتمد اعتمادًا كاملًا على تألق الألوان المحيطة. فكانت المياه الضحلة الصافية والساكنة للبحيرة التي يقع الجزء الأكبر منها على رمالٍ بيضاء، عندما تتعرَّض لأشعة الشمس الرأسية، تتألق بضوءٍ أخضرَ زاهٍ لأبعد حد. تنتهي هذه المساحة المتألقة — التي يبلغ عرضها عدة أميال — من كل الجوانب إما بخط من الصخور البيضاء التي تتكسر عليها مياه المحيط الداكنة المتلاطمة، أو بشرائطَ ضيقة من اليابسة مكلَّلة بقمم أشجار جوز الهند تفصلها عن قبة السماء الزرقاء. ومثلما تَصنع سحابةٌ بيضاء هنا وهناك تباينًا مبهجًا مع السماء الزرقاء، فكذلك البحيرة تحوي نطاقات من الشعاب المرجانية الحية التي تجعل المياه الخضراء الزمردية داكنة.
في صباح اليوم التالي لرسوِّنا، نزلتُ على الساحل في جزيرة دايركشن. يبلغ عرض شريط اليابسة الجافة بضع مئات من الياردات فقط؛ وعلى جانب البحيرة يوجد شاطئٌ أبيضُ جيري وكانت الحرارة المنبعثة منه في هذا المناخ القائظ قويةً جدًّا؛ وعلى الساحل الخارجي يوجد مسطَّحٌ عريضٌ قاسٍ من الصخر المرجاني يعمل ككاسر للموجات العنيفة للبحر المفتوح. وفيما عدا قرب البحيرة، حيث توجد بعض الرمال، تتألَّف الأرض بالكامل مكوَّنة من شظايا دائرية من المرجان. في مثل هذه التربة الجافة السائبة المغطاة بالحصى، يمكن لمناخ المناطق المدارية بمفرده إنتاج غطاءٍ نباتيٍّ كثيف. في بعض الجُزيِّرات الأصغر حجمًا لا يوجد شيء يمكن أن يكون أكثر جمالًا من الطريقة التي تداخلت بها أشجار جوز الهند الصغيرة والناضجة لتكوِّن غابةً واحدة متناسقة. وكان هناك شاطئ من الرمال البيضاء المتلألئة شكَّل حدًّا لهذه البقع الخلابة.
ولعل قائمة الحيوانات البرية أكثر فقرًا حتى من قائمة النباتات. بعض الجُزيِّرات مسكونة بالجِرْذان والتي جاءت عن طريق سفينة من موريشيوس تحطَّمت هنا. ويَعتبر السيد ووترهاوس هذه الجِرْذان مطابقة لمثيلاتها الإنجليزية لكنها أصغر حجمًا وأزهى لونًا. لا توجد طيورٌ بريةٌ حقيقية؛ لأن الشنقب ودجاج الماء ينتميان إلى رتبة الخوَّاضات، رغم أنهما يعيشان على نحوٍ تام في النجيل الجاف. ويقال إن الطيور من هذه الرتبة توجد في العديد من الجزر المنخفضة الصغيرة في المحيط الهادي. في أسينشن، حيث لا وجود لأي طيورٍ أرضية، اصطيد أحد طيور دجاج الماء (المرعة البسيط) بالرصاص بالقرب من قمة الجبل وكان من الواضح أنه ضلَّ بمفرده. في جزيرة تريستان دا كونا، حيث يوجد نوعان فقط من الطيور الأرضية، بحسب كارمايكل، يوجد طائر الغُرَّة. من خلال هذه الحقائق، أعتقد أن الخوَّاضات، وفي هذا تأتي خلف الطيور المكفَّفة الأقدام، عادة ما تكون أول المستوطنين في الجزر الصغيرة المعزولة. يمكن أن أضيف أنه أينما لاحظت طيورًا لا تنتمي إلى أنواعٍ محيطية، بعيدًا في عرض البحر، دائمًا ما كانت تنتمي إلى هذه الرتبة؛ ولذا تصبح بطبيعة الحال أول من يستوطن أي نقطةٍ نائية من اليابسة.
•••
تقع الآبار التي تحصل منها السفن على المياه في هذه الجزيرة. لأول وهلة، يبدو ملحوظًا أن المياه العذبة تتدفق وتنحسر مع تيارات المد بانتظام، بل كان يُفتَرَض أن الرمال تملك القدرة على ترشيح الملح من مياه البحر. يشيع وجود هذه الآبار المنحسرة في بعض الجزر المنخفضة في جزر الهند الغربية. كانت الرمال المضغوطة، أو الصخور المرجانية المسامية، ممتلئةً بالمياه المالحة مثل قطعة من الإسفنج، لكن لا بد أن المطر الذي يسقط على السطح يتوغل حتى مستوى البحر المحيط ويتراكم هناك؛ ما يجعله يطرد كمًّا مماثلًا من المياه المالحة. وبينما ترتفع المياه في الجزء السفلي من الكتلة المرجانية الضخمة التي تشبه الإسفنج وتنحسر مع المدِّ والجزر، كذلك ستفعل المياه القريبة من السطح وسيحافظ هذا على عذوبة المياه إذا كانت الكتلة مضغوطة بما يكفي لمنع حدوث الكثير من الامتزاج التلقائي، لكن أينما حُفرت بئر في أرضٍ تتكوَّن من كتل ضخمة مفكَّكة من المرجان بفجوات مفتوحة، تكن المياه مالحةً كما رأيت.
بعد العشاء، مكثنا لرؤية مشهد مثير شبه خرافي يؤديه نساء المالايو. كن يحملن ملعقةً خشبيةً ضخمةً مكسوَّة بالثياب ويصحبنها إلى قبر شخصٍ ميت، ويتظاهرن بأنها تصبح مسكونة عند اكتمال القمر؛ وترقص وتقفز هنا وهناك. بعد إجراء الاستعدادات الملائمة، اهتزت الملعقة التي تحملها امرأتان ورقصت في الوقت المناسب على غناء النساء والأطفال الحاضرين. كان مشهدًا مضحكًا لأقصى درجة، لكن السيد ليسك أكد أن الكثير من شعب المالايو يؤمنون بتأثير الأرواح. لم يبدأ الرقص حتى بزغ القمر، وكان الأمر يستحق البقاء لمشاهدة الجرم السماوي الساطع يبرز في سكونٍ شديد من بين الجذوع الطويلة لأشجار جوز الهند التي تتراقص في نسيم المساء. إن هذه المشاهد الاستوائية في حد ذاتها جميلة جدًّا؛ حتى إنها تضاهي تقريبًا المشاهد الأجمل في الوطن التي ارتبطت في أذهاننا بأجمل المشاعر.
في اليوم التالي شغلت نفسي بفحص التكوين البسيط والمثير للغاية لهذه الجزر وأصلها. كانت المياه هادئة على غير المعتاد وأخذت أخوض فوق السطح الخارجي لصخرةٍ متآكلة حتى وصلتُ إلى روابٍ من المرجان الحيِّ التي تنكسر عليها أمواج عرض البحر. في بعض الأخاديد والتجاويف كانت ثمة أسماكٌ خضراءُ جميلة وأسماكٌ بألوانٍ أخرى، وكان شكل ودرجات ألوان الكثير من الحيوانات النباتية مبهرة. أن ينتابك الحماس بسبب الأعداد اللانهائية من الكائنات العضوية التي يزخر بها البحر في المناطق الاستوائية المليء بأشكال الحياة فهذا أمرٌ مبرَّر ومفهوم، لكن يجب أن أعترف بأني أظن أن علماء الطبيعة الذين وصفوا بكلمات معروفة ومشهورة الكهوف المائية الزاخرة بآلاف الكائنات الجميلة قد انزلقوا إلى لغةٍ مبالَغ فيها إلى حدٍّ ما.
•••
عندما وصلنا إلى مدخل البحيرة المرجانية عبرنا جُزَيِّرةً ضيقة ووجدنا موجةً شديدة تنكسر على الساحل الواقع في مواجهة الرياح. أجد صعوبة في تفسير السبب وراء هذا، لكني أرى الكثير من العظمة والمهابة في منظر السواحل الخارجية لهذه الجزر المرجانية. فثمة بساطة في الشاطئ الذي يشبه الحاجز والحافة المكونة من الشجيرات الخضراء وأشجار جوز الهند الطويلة والمسطح القاسي المكوَّن من الصخور المرجانية الميتة الموزَّعة هنا وهناك على شكل شظايا كبيرةٍ مفككة، وخط الأمواج العاتية المتكسرة على الشاطئ التي تنحرف جميعًا نحو أيٍّ من الاتجاهين. يبدو المحيط وهو يقذف مياهه فوق الشعب المرجانية العريضة كعدوٍّ قوي لا يُقهر، لكننا نرى أنه كان يقاوم، بل ينتصر أيضًا، بوسائل تبدو في البداية في غاية الضعف وبلا فاعلية إلى أبعد حد. الأمر لا يتعلق بأن المحيط يتجنب الصخور المرجانية؛ فالشظايا الضخمة المتناثرة عبر الشعب المرجانية والمكدَّسة على الشاطئ حيث تنبثق أشجار جوز الهند الطويلة تشي بوضوح بالقوة الشديدة الصارمة للأمواج. كما أنه لا يوجد أي فترات سكون. فالموجة الطويلة التي تسببها حركة الرياح التجارية اللطيفة التي لا تنقطع والتي تهبُّ دائمًا في اتجاهٍ واحد في منطقةٍ شاسعة، تخلق أمواجًا متكسرة تساوي في قوتها تلك الأمواج التي تثور خلال نَوَّة رياح شديدة في المناطق المعتدلة ولا تكفُّ عن الثوَران. من المستحيل مشاهدة هذه الأمواج دون الشعور بقناعةٍ داخلية بأن أي جزيرة، حتى لو كانت تتكون من أقسى الصخور، سواء كانت من الرخام السماقي أو الجرانيت أو الكوارتز، ستنهار وتتحطم في النهاية أمام هذه القوة التي لا تقاوم. ومع ذلك، تصمد هذه الجزر المرجانية المنخفضة وتنتصر؛ لأن ثمة قوةً أخرى هنا تشارك كخصم في الصراع. تعمل القوى العضوية على فصل ذرات الكربون في الجير، من الصخور التي تتكسر عليها الأمواج، الواحدة تلو الأخرى ثم تدمجها معًا في تكوينٍ متناسق. دع الإعصار يُفتِّت شظاياه الضخمة المقدرة بالآلاف، لكن ما قيمة هذا مقابل الجهد المتراكم لعددٍ هائل من المهندسين الذين يعملون ليل نهار شهرًا بعد شهر؟ وهكذا نرى الجسد الجيلاتيني الطري لأخطبوط، بفعل قوة القوانين الحيوية، يقهر القوة الميكانيكية العظيمة لموجات محيط لا يمكن لبراعة الإنسان أو صنائع الطبيعة الجامدة النجاح في مقاومتها.
لم نعد إلى السفينة حتى وقتٍ متأخر من المساء؛ إذ بقينا مدةً طويلة في البحيرة المرجانية نفحص نطاقات المرجان والقواقع العملاقة لمحار الشاما التي إذا وضع شخص يده فيها، فلن يستطيع سحبها ما دام الحيوان حيًّا. بالقرب من مدخل البحيرة المرجانية اندهشتُ كثيرًا عندما وجدت منطقةً شاسعة تزيد مساحتها على ميلٍ مربع مغطاةً بغابة من المرجان المتشعِّب بدقة، والذي رغم وقوفه في وضعٍ عمودي كان كله ميتًا ومتعفنًا. في البداية كنتُ عاجزًا تمامًا عن فهم السبب، لكن بعد ذلك خطر لي أن هذا يرجع لمجموعة الظروف التالية الغريبة نوعًا ما، لكن يجب أولًا أن نقول إن هذا المرجان لا يمكنه تحمل حتى أقل فترة من التعرض لأشعة الشمس في الهواء؛ لذا فإن حدود نموه لأعلى يحدده أقل حد للمياه في تيارات الربيع المدية. يبدو من خلال بعض الخرائط القديمة أن الجزيرة الطويلة الواقعة في مواجهة الرياح كانت مقسمة فيما مضى إلى عدة جُزرٍ صغيرة بواسطة قنواتٍ عريضة، ومما يشير كذلك إلى صحة هذه الحقيقة كون الأشجار في هذه الأجزاء أكثر حداثة. في الحالة السابقة للشعب المرجانية، كان من شأن نسيمٍ قوي أن يرفع مستوى المياه داخل البحيرة المرجانية بقذف مزيد من المياه فوق الحاجز المرجاني. أما الآن فهي تتصرف بطريقةٍ مخالفة تمامًا؛ إذ إن المياه داخل البحيرة المرجانية لا تقل بسبب التيارات القادمة من خارجها فحسب، بل إن قوة الرياح تقذفها أيضًا خارج البحيرة؛ لذا يُلاحَظ أن تيار المد والجزر بالقرب من مقدمة البحيرة لا يرتفع كثيرًا أثناء هبوب نسيمٍ قوي كما يحدث عندما يهدأ ذلك النسيم. وفي ظني أن هذا الفارق في مستوى المياه، رغم أنه طفيف للغاية بلا شك، قد تسبب في موت هذه الأيكات المرجانية التي وصلت لأقصى حدٍّ ممكن للنمو الصاعد في ظل الحالة السابقة والأكثر انكشافًا للشعب المرجانية الخارجية.
في يومٍ آخر زرتُ جزيرة ويست الصغيرة التي ربما كانت النباتات فيها أكثر وفرة من أي جزيرة أخرى. عادة ما تنمو أشجار جوز الهند متفرقة، لكن هنا كانت الأشجار الصغيرة تزدهر تحت الأشجار الأم وتشكِّل بأوراقها السعفية الطويلة والمقوسة تعريشاتٍ ظليلة للغاية. وحدهم من جرَّبوه يدركون مدى روعة الجلوس في مثل هذه الظلة وتجرُّع ماء جوز الهند البارد السائغ. في هذه الجزيرة توجد مساحةٌ كبيرة تشبه الخليج تتكوَّن من رمالٍ بيضاءَ من أنعم ما يمكن، وهذه المساحة مستوية تمامًا ويغطيها المد عند ارتفاع منسوب المياه؛ ومن هذا الخليج الكبير تخترق نهيراتٌ أصغرُ الغاباتِ المحيطة. كانت رؤية ساحة من الرمال البيضاء اللامعة التي تشبه المياه بينما تمتد جذوع أشجار جوز الهند الطويلة المتموجة حول الحواف؛ تمثل مشهدًا غاية في الجمال وفريدًا من نوعه.
ثمة نوعان من الأسماك، من جنس أبو مصقار يشيعان هنا، يتغذيان حصريًّا على المرجان وكلاهما ذو لونٍ أخضرَ مبهرٍ مائلٍ للزرقة ويعيش أحدهما في البحيرة المرجانية على نحوٍ دائم، بينما يعيش الآخر بين الصخور الخارجية. وقد أكد لنا السيد ليسك أنه كثيرًا ما رأى أسرابًا كاملة تطبق بفكوكها العظمية القوية على قمم الفروع المرجانية؛ وقد فتحتُ أمعاء العديد منها ووجدتها منتفخة بالطمي الكلسي الرملي المائل للصفرة. كذلك يتغذى خيار البحر اللزج المقزز (القريب الصلة بنجم البحر لدينا)، والذي يعشقه الصينيون الشَّرِهون، يتغذَّى إلى حدٍّ كبير، كما يخبرني د. آلان، على المرجان؛ ويبدو أن الهيكل العظمي في أجسادها مُهيأ إلى حدٍّ كبير لهذا الغرض. لا بد أن خيار البحر والسمك والقواقع الحفارة العديدة والدود العديد الأشعار الذين يخترقون كل كتلة من المرجان الميت يُعدُّون بمثابة عواملَ فعالة للغاية في إنتاج هذا الطمي الأبيض الناعم الذي يقبع في القاع وعلى شواطئ البحيرة المرجانية. مع ذلك، وجد البروفيسور إيرينبرج أن قدرًا من هذا الطمي، الذي يشبه الطباشير المسحوق عندما يكون مبتلًّا، يتكوَّن جزئيًّا من نقاعيات مغطاة بالسليكا.
•••
كان البحارة الأوائل يعتقدون أن الحيوانات التي تبني المرجان تقوم غريزيًّا بمراكمة دوائرها الهائلة لتوفِّر لنفسها الحماية في الأجزاء الداخلية، لكن هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة؛ حتى إن تلك الأنواع الضخمة، التي يعتمد وجود الشعاب المرجانية على نموها على السواحل الخارجية المكشوفة، لا يمكنها العيش داخل البحيرة المرجانية، حيث تزدهر أنواعٌ أخرى دقيقة التفرعات. علاوة على ذلك، وبناءً على هذه الفكرة، يُفترَض أن تجتمع العديد من الأنواع من الأجناس والعائلات المختلفة معًا في طرفٍ واحد ولا يمكن العثور على مثالٍ واحد لهذا التجمع في الطبيعة بأكملها. كانت النظرية الأكثر قبولًا في العموم هي أن الشعاب الحلقية قائمة على فوهاتٍ بركانية تحت سطح البحر، لكن عند النظر لشكل وحجم بعضها، وعدد البعض الآخر وقربه ومواضعه النسبية للشعاب، تفقد هذه الفكرة سمة المعقولية؛ وبناءً على هذا تكون جزيرة سواديفا المرجانية يبلغ قطرها ٤٤ ميلًا جغرافيًّا في خطٍّ واحد في ٣٤ ميلًا في خطٍّ آخر؛ وجزيرة ريمسكي ٥٤ ميلًا في ٢٠ ميلًا من جانب لآخر، ولها حافةٌ متموِّجة بشكلٍ غريب؛ فيما يبلغ طول جزيرة بو ٣٠ ميلًا وستة أميال عرضًا في المتوسط، أما جزيرة مينشيكوف فتتألَّف من ثلاث جزرٍ مرجانيةٍ متحدة أو مرتبطة معًا. علاوة على ذلك، لا تنطبق هذه النظرية تمامًا على جزر شمال المالديف المرجانية في المحيط الهندي (التي يبلغ طول إحداها ٨٨ ميلًا وعرضها ما بين عشرة وعشرين ميلًا)؛ لأنها ليست محدودة مثل الجزر المرجانية التقليدية بشعابٍ مرجانيةٍ ضيقة بل، بعددٍ هائل من جزرٍ مرجانيةٍ صغيرةٍ منفصلة؛ وهناك جزرٌ مرجانيةٌ صغيرة تبرز من المساحات الشاسعة التي تشبه البحيرات المرجانية. ثمة نظريةٌ ثالثةٌ أفضل طرَحها كاميسو الذي كان يرى أنه بسبب نمو المرجان على نحوٍ أكثر نشاطًا حيثما يتعرض لمياه البحر المفتوح، كما هو الحال بلا شك، فإن الحوافَّ الخارجية ستنمو من الأساس العام قبل أي جزءٍ آخر وسيكون هذا مسئولًا عن البنية الحلقية أو التي تشبه الفنجان، لكننا سنرى فورًا أنه في هذه النظرية، وكذا في نظرية فوهة البركان، أُغفِل أمر في غاية الأهمية وهو: على أي أساس أقام المرجان المكوِّن للشعاب، والذي لا يقدر على العيش على عمقٍ كبير، بنياته الضخمة؟
قبل تفسير كيفية اكتساب الشعاب المرجانية المكونة من جزرٍ مرجانيةٍ حلقية متعددة لتركيبها الغريب، يجب أن ننتقل للفئة الثانية الكبيرة من الشعاب المرجانية، وهي الحيود أو الحواجز المرجانية. تمتد هذه الحيود إما في خطوطٍ مستقيمة أمام سواحل قارة أو جزيرةٍ كبيرة، أو تطوق جزرًا أصغر حجمًا؛ وفي الحالتَين، فإن انفصالها عن اليابسة يكون بقناةٍ مائيةٍ عريضة وعميقة لحدٍّ ما أشبه بالبحيرة الواقعة داخل جزيرةٍ مرجانية. من اللافت للنظر مدى قلة الانتباه المكرَّس للحيود المرجانية المطوِّقة للجزر رغم كونها تكويناتٍ جميلةً بحق. ويوضح الرسم المرفق جزءًا من الحاجز المطوِّق لجزيرة بولابولا في المحيط الهادي كما يظهر من إحدى القمم المركزية. في هذا المثال تحوَّل الصفُّ الكامل من الشعاب إلى يابسة، لكن عادة ما يفصل صفٌّ من الصخور الضخمة البيضاء بلون الثلج، والتي لا يكون بها إلا جزيرةٌ صغيرةٌ وحيدةٌ منخفضة هنا أو هناك متوَّجة بأشجار جوز الهند، بين المياه الداكنة المتلاطمة للمحيط والمياه ذات اللون الأخضر الفاتح للقناة الشبيهة بالبحيرة. وعادة ما تغمر المياه الساكنة لهذه القناة حافة من التربة الرسوبية المنخفضة محملة بأجمل المحاصيل المدارية وتقع عند سفح الجبال المركزية المنحدرة المقفرة.
توجد حيودٌ مرجانيةٌ تطويقية من كل الأحجام، يتراوح قطرها من ثلاثة أميال إلى ما لا يقل عن ٤٤ ميلًا، وثمة حيدٌ يواجه جانبًا واحدًا لنيو كاليدونيا ويطوق كلا طرفيها، يبلغ طوله ٤٠٠ ميل. يضم كل حيد جزيرةً أو اثنتين أو عدة جزرٍ صخرية بارتفاعاتٍ مختلفة؛ وفي بعض الحالات، يصل عددها حتى اثنتي عشرة جزيرةً منفصلة. تمتد الشعاب لمسافةٍ أقل أو أكبر من الأرض التي تضمُّها؛ ففي أرخبيل سوسياتي عادة ما يكون من ميل إلى ثلاثة أو أربعة أميال، لكن في هوجولو تمتد الشعاب لمسافة ٢٠ ميلًا على الجانب الجنوبي و١٤ ميلًا على الجانب الشمالي من الجزر التي تضمها. كذلك يختلف العمق داخل القناة الشبيهة بالبحيرة كثيرًا؛ ويمكن اعتبار العمق المتراوح ما بين عشر إلى ثلاثين قامة هو العمق المتوسط، لكن في فانيكورو توجد مساحات لا يقل عمقها عن ٥٦ قامةً أو ما يوازي ٣٣٦ قدمًا. من الداخل، تنحدر الشعاب بنعومة داخل القناة، أو تنتهي بجدارٍ عمودي يصل ارتفاعه أحيانًا ما بين ٢٠٠ و٣٠٠ قدم؛ أما من الخارج، فترتفع الشعاب، مثل جزيرةٍ مرجانية، من أعمق أعماق المحيط، بانحدارٍ شديد. ما الذي يمكن أن يكون أكثر غرابة من هذه التكوينات؟ نرى جزيرة، يمكن مقارنتها بقلعة تقع فوق قمة جبلٍ شديد الارتفاع تحت سطح البحر يحميها جدارٌ كبير من الصخور المرجانية، دائمًا ما تكون شديدة التحدُّر من الخارج، وأحيانًا ما تُخترق هنا وهناك من الداخل، حيث توجد قمةٌ عريضة مستوية، ببواباتٍ ضيقةٍ يمكن لأكبر السفن المرور من خلالها للدخول إلى الخندق المائي العريض والعميق المحيط بالجزيرة.
فيما يخصُّ الشعاب المرجانية الحقيقية، لا يوجد أي فارق في الحجم العام والشكل الخارجي والتجمُّع، حتى في أدق تفاصيل التكوين بين الحيد المرجاني والجزيرة المرجانية. وقد أشار الجغرافي بالبي إلى أن الجزيرة المُطوقة هي جزيرةٌ مرجانية ذات يابسةٍ مرتفعة ترتفع من بحيرتها؛ وإذا أزلت اليابسة من داخلها، سيتبقى لديك جزيرةٌ مرجانيةٌ مثالية.
لكن ما الذي تسبَّب في بروز هذه الشعاب على مثل هذه المسافات البعيدة من سواحل الجزر المطوَّقة؟ لا يمكن أن يكون الأمر أن المرجان لن ينمو بالقرب من اليابسة؛ لأن السواحل داخل القناة، عندما لا تكون محاطةً بتربةٍ رسوبية، غالبًا ما تكون محفوفةً بشعابٍ مرجانيةٍ حية. وسنرى بعد قليل أن ثمة فئةً كاملة، أسميتُها الشعاب الهدابية أو المتاخمة، بسبب قربها من سواحل القارات والجزر. مجددًا، فوق أي أساس قام المرجان المكون للشعاب ببناء تكويناته المُطوِّقة بما أنه لا يعيش على أعماق كبيرة؟ هذا الأمر يمثل صعوبةً كبيرةً واضحة، مشابهة لحالة الجزر الحلقية المرجانية، عادة ما كانت تُغفَل. وسوف تُدرَك هذه الصعوبة بوضوحٍ أكبر بفحص الأجزاء التالية وهي أجزاءٌ حقيقية، مأخوذة من الصفوف الشمالية والجنوبية، عبر الجزر وحيودها المرجانية، من فانيكورو وجامبير وموروا؛ وقد وضعت أفقيًّا ورأسيًّا على المقياس نفسه، وهو مقياس ربع بوصة إلى ميل.
لا بد من ملاحظة أن المقاطع يمكن أن تكون قد أخذت في أي اتجاه عبر هذه الجزر أو عبر جزرٍ أخرى عديدة مُطوَّقة، ومع ذلك تظل السمات العامة كما هي. ومع الوضع في الاعتبار الآن أن الشعاب المرجانية لا تستطيع العيش على أعماقٍ أكبر من ٢٠ إلى ٣٠ قامة، وأن مقياس الرسم صغيرٌ جدًّا لدرجة أن المواضع الهابطة على اليمين تُبيِّن عمقًا يصل إلى ٢٠٠ قامة، فعلى أي شيء قامت هذه الحيود المرجانية؟ هل يجب أن نفترض أن كل جزيرةٍ محاطة بنتوءٍ صخريٍّ مغمور تحت الماء يشبه الحلقة أم بضفةٍ رسوبيةٍ ضخمة تنتهي فجأة عندما تنتهي الشعاب المرجانية؟ لو كان البحر قد نحت بعمق في الجزر فيما مضى، قبل أن تحميها الشعاب المرجانية، وأدَّى هذا بالتبعية إلى ترك نتوءٍ ضحل حولها تحت المياه، لصارت السواحل الحالية محاطةً بمنحدراتٍ كبيرة، لكن نادرًا جدًّا ما يكون هذا هو الحال. علاوة على ذلك، وبناء على هذه الفكرة، من غير الممكن تفسير سبب بروز الشعاب المرجانية، كجدار، من أقصى الحافة الخارجية للنتوء الصخري؛ وهو ما يترك غالبًا مساحةً واسعة من المياه بالداخل بعمقٍ شديد لا يسمح بنمو المرجان. من المستبعد إلى حدٍّ كبير تراكم ضفةٍ عريضة من الرواسب حول هذه الجزر بالكامل، وفي العموم تكون أعرض ما يمكن عندما تكون الجزر المتضمنة أصغر ما يكون، بالنظر إلى مواضعها المكشوفة في الأجزاء المركزية والأشد عمقًا من المحيط. في حالة الحيد المرجاني في كاليدونيا الجديدة الذي يمتد لمسافة ١٥٠ مترًا لما وراء الطرف الشمالي للجزيرة، في الخط المستقيم نفسه الذي تواجه به الساحل الغربي، من الصعب تصديق أن ضفةً رسوبية يمكن بالتبعية أن تكون قد ترسَّبت على نحوٍ مستقيم أمام جزيرةٍ مرتفعة ووراء حد نهايتها في عرض البحر بمسافةٍ بعيدة. وأخيرًا، إذا نظرنا إلى جزرٍ محيطيةٍ أخرى بالارتفاع والتكوين الجيولوجي أنفسهما، لكنها غير محاطة بشعابٍ مرجانية، فقد يكون بحثُنا عن عمقٍ محيطيٍّ ضئيلٍ للغاية يصل إلى ٣٠ قامة بلا طائل، فيما عدا قرب سواحلها بشكلٍ كبير؛ لأن الأرض التي عادةً ما ترتفع فجأة من المياه، مثلما تفعل معظم الجزر المحيطية المُطوَّقة وغير المطوقة، تغطس فجأةً تحتها. هنا أكرر سؤالي مرةً أخرى، علام بُنيت هذه الحيود المرجانية؟ لماذا تقف، بقنواتها العريضة والعميقة التي تشبه الخنادق، بعيدًا جدًّا عن اليابسة المشمولة بداخلها؟ سنرى عما قريب كيف تختفي هذه الإشكاليات بسهولة.
نصل الآن للفئة الثالثة وهي الشعاب الهدابية أو المتاخمة التي لن تتطلب منا كلامًا كثيرًا. حيثما تنحدر الأرض بشدة تحت المياه، فإن هذه الشعاب يبلغ عرضها بضع ياردات فقط وتُكوِّن مجرد حافة أو شريط حول السواحل؛ وحيثما تنحدر الأرض بنعومة تحت المياه، تمتد الشعاب لمسافةٍ أبعدَ تصل أحيانًا لمسافة ميل من اليابسة، لكن في مثل هذه الحالات فإن عمليات القياس خارج منطقة الشعاب تبين دائمًا أن امتداد اليابسة تحت المياه يميل برفق. في الواقع إن الشعاب تمتد فقط إلى هذه المسافة من الساحل الذي يوجد به أساس داخل العمق المطلوب والذي يتراوح ما بين ٢٠ و٣٠ قامة. أما فيما يتعلق بالشعاب الحقيقية، فلا يوجد فارقٌ جوهري بينها وبين تلك التي تشكل حيدًا أو جزيرةً مرجانية، لكنها عامة تكون أقل في العرض؛ ومن ثم تكونت عليها جُزَيِّراتٌ قليلة. ويتبين من نمو المرجان على نحوٍ أقوى بالخارج، ومن الأثر السيئ لانجراف الرواسب للداخل، أن الحد الخارجي للشعاب هو الجزء الأعلى وعادة ما يكون بينه وبين اليابسة قناةٌ رمليةٌ ضحلة يبلغ عمقها بضع أقدام. وحيثما تراكمت الضفاف الرسوبية بالقرب من السطح، كما في أجزاء من جزر الهند الغربية، أحيانًا ما تصبح محفوفة بالشعاب المرجانية؛ ما يجعلها تشبه بدرجة ما الجزر المرجانية، مثلما تشبه الشعاب الهدابية المحيطة بالجزر ذات الانحدار الخفيف؛ الحيود المرجانية بدرجةٍ ما.
لا يمكن لأي نظرية بشأن تكوُّن الشعاب المرجانية أن تعتبر نظريةً مقنعة ما لم تضم الفئات الثلاث الكبرى. لقد رأينا أننا مدفوعون لتصديق هبوط تلك المناطق الشاسعة، التي تتناثر بها الجزر المنخفضة التي لا يزيد ارتفاع أي واحدة منها عن الارتفاع الذي يمكن للرياح والأمواج قذف أي مادة، ولكنها تأسَّسَت بواسطة حيوانات تتطلب أساسًا لا يقع على عمقٍ كبير. لنتناول الآن جزيرةً محاطةً بالشعاب الهدابية التي لا يمثل تكوينها أي عقبة، ولندع هذه الجزيرة بشعابها المرجانية، التي تمثلها الخطوط المتواصلة في القالب الخشبي رقم ٩٦، تهبط ببطء. الآن مع هبوط الجزيرة، سواء كان هذا لبضع أقدام في كل مرة أو بمقدارٍ غير ملحوظ تمامًا، يمكننا أن نستنتج بسهولة، من واقع ما هو معروف عن الظروف المواتية لنمو المرجان، أن الكتل الحية التي تغمرها الأمواج على حافة الشعاب، سرعان ما سترجع للسطح. غير أن المياه ستكتسح الساحل شيئًا فشيئًا وستصبح الجزيرة أكثر انخفاضًا وأصغر حجمًا، وستصبح المساحة بين الحافة الداخلية للشعاب والشاطئ أوسع نسبيًّا. ويُرمز لمقطع من الشعاب والجزيرة في هذه الحالة، بعد حدوث هبوط لعدة مئات من الأقدام، بالخطوط المنقَّطة. من المفترض أن ثمة جُزيِّراتٍ مرجانيةً قد تكوَّنت فوق الشعاب، وأن ثمة سفينةً راسيةً في القناة الضحلة. وطبقًا لمعدل الهبوط، ستكون هذه القناة أكثر أو أقل عمقًا بالنسبة إلى كمية الرواسب المتراكمة فيها، ونمو المرجان الدقيق التشعب. يشبه المقطع في هذه الحالة في كل شيء مقطعًا مصوَّرًا في جزيرة مُطَوَّقة؛ والواقع أنه مقطعٌ حقيقي (على مقياس ٠٫٥١٧ بوصة إلى ميل) من جزيرة بولابولا في المحيط الهادي. يمكننا الآن أن ندرك في الحال لماذا تقع الحيود المرجانية المُطوِّقة بعيدًا جدًّا عن السواحل التي تواجهها. يمكننا كذلك إدراك أنه لو كان هناك خطٌّ مرسوم عموديًّا من الحافة الخارجية للشعاب الجديدة حتى أساس الصخر الصلب تحت الشعاب الهدابية القديمة سيتجاوز ذلك العمق المحدود الذي يمكن للمرجان الحقيقي العيش فيه بالعديد من الأقدام؛ فأولئك المهندسون المعماريون بنوا كتلتهم العملاقة التي تشبه الجدران، بينما تغرق الجزيرة بأكملها، فوق أساس من صنع الحيوانات المرجانية الأخرى وشظاياها المدمجة. وهكذا تختفي العقبة فوق هذه القمة التي بدت ضخمة للغاية.
لو نظرنا لساحل قارة، بدلًا من جزيرة، محاطًا بشعابٍ مرجانية وتخيَّلنا أنه هبط، لكانت نتيجة ذلك بوضوح هي تكوُّن حيدٍ مستقيمٍ ضخمٍ منفصل عن اليابسة بقناةٍ عريضة وعميقة مثل ذلك الذي في أستراليا أو كاليدونيا الجديدة.
ربما أسأل عما إذا كان يمكنني تقديم أي دليلٍ مباشر على هبوط الحيود المرجانية أو الجزر الحلقية، لكن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار مدى صعوبة رصد حركة تميل لإخفاء الجزء المتأثر بها تحت الماء. مع ذلك، فقد لاحظت في جزيرة كيلينج المرجانية في كل جوانب البحيرة الضحلة أشجار جوز هند مدمَّرة ومتساقطة؛ وفي أحد الأماكن كانت أعمدة أساس إحدى السقيفات، والتي أكد سكانها أنها ظلَّت لسبع سنوات مرتفعة فوق منسوب المد الأقصى، تُغمر كل يوم بكل تيار للمد والجزر؛ وبعد السؤال اكتشفتُ أن هناك ثلاثة زلازل، أحدها كان شديد القوة، حدثت هنا خلال السنوات العشر الأخيرة.
في فانيكورو، كانت القناة عميقة على نحوٍ ملحوظ ونادرًا ما كانت تتراكم أي تربةٍ رسوبية عند سفح الجبال الشاهقة الموجودة داخلها، كما تكوَّنت القليل من الجُزيِّرات على نحوٍ ملحوظ عن طريق تكوُّم الشظايا والرمال فوق حيدٍ مرجاني يشبه الجدار؛ وقد دفعتني هذه الحقائق، وبعض الحقائق الأخرى المماثلة، للاعتقاد بأن هذه الجزيرة لا بد أنها قد هبطت مؤخرًا ونمت الشعاب لأعلى؛ ومرةً أخرى فالزلازل هنا متكررة وقوية جدًّا. على الجانب الآخر، وفي أرخبيل سوسياتي، حيث تكاد تكون القنوات مسدودة، وحيث تراكمت أرض رسوبية كبيرة، وفي بعض الحالات تكوَّنت جزيراتٌ طويلة فوق الحيود المرجانية — وهي الحقائق التي تشير جميعًا إلى أن الجزر لم تهبط مؤخرًا — تُستشعر هزاتٍ ضعيفةً فقط وكان هذا نادرًا للغاية. في هذه التكوينات المرجانية، حيث تبدو اليابسة والمياه في صراع من أجل السيطرة، لا بد أنه من الصعب الفصل بين آثار تغييرٍ ما بسبب اتجاه المد والجزر وبين تغييرٍ ناجم عن هبوطٍ طفيف؛ فتعرُّض الكثير من هذه الحيود والشعاب الحلقية لتغيرٍ من نوعٍ ما هو أمرٌ مؤكد؛ ففي بعض الجزر المرجانية يبدو أن عدد الجزيرات قد زاد مؤخرًا إلى حدٍّ كبير، وفي البعض الآخر انجرفت كليًّا أو جزئيًّا. يعرف سكان أجزاء من أرخبيل المالديف تاريخ أول تكوُّن لبعض الجزيرات، وفي أجزاءٍ أخرى يزدهر المرجان الآن فوق شعاب جرفتها المياه، حيث تشهد الحفر التي صُنِعَت بها كمقابر على الوجود السابق لأرض آهلة. من الصعب تصديق حدوث تغيُّراتٍ متكررة في تيارات المد والجزر في عرض محيطٍ ما؛ ففي حين أن لدينا في الزلازل المسجلة بواسطة السكان الأصليين فوق بعض الجزر الحلقية المرجانية، وفي الصدوع والانشقاقات العظيمة التي لوحظت في جزرٍ مرجانيةٍ أخرى؛ دليلًا واضحًا على وجود تغييرات واضطراباتٍ جارية في المناطق الواقعة تحت الأرض.
من الواضح، بناءً على نظريتنا، أن السواحل المحفوفة بالشعاب لا غير لا يمكن أن تكون قد هبطت بأي قدرٍ ملموس؛ ولذا لا بد أنها، منذ بدء نمو المرجان الذي يكوِّنها، إما ظلَّت مستقرة أو ارتفعت. من الملاحظ الآن كيف يمكن بصفةٍ عامة أن يتضح، من خلال وجود بقايا عضويةٍ مرتفعة، أن الجزر التي تحدُّها الشعاب المرجانية قد ارتفعت، وحتى الآن، يعتبر هذا دليلًا غير مباشر في صالح نظريتنا. وقد أدهشتني هذه الحقيقة بالذات عندما وجدت، لدهشتي، أن الأوصاف التي ذكرها السيدان كوي وجيمار منطبقة، ليس على الشعاب بشكلٍ عام كما أشارا، بل على تلك الشعاب المنتمية للفئة الهدابية فقط، غير أن دهشتي توقَّفت عندما اكتشفتُ لاحقًا، بصدفةٍ غريبة، أن جميع الجزر العديدة التي زارها العالمان البارزان في مجال الطبيعة قد تبيَّن من خلال تصريحاتهما، أنها ارتفعت خلال عصرٍ جيولوجيٍّ حديث.
لا تفسر نظرية الهبوط — وهي النظرية التي نحن مضطرون من تلقاء أنفسنا للاعتراف بها في المسائل الأساسية محل النقاش بسبب ضرورة إيجاد قواعد للمرجان في العمق المطلوب لنموه — السماتِ الكبرى في بنية الحيود المرجانية والجزر الحلقية المرجانية وتشابهها معًا في الشكل والحجم والسمات الأخرى فحسب، بل إن العديد من التفاصيل فيما يتعلق بالتكوين والحالات الاستثنائية يمكن تفسيرها أيضًا بالتبعية ببساطة. وسأذكر بضعة أمثلة فقط. في الحيود المرجانية، لوحظ منذ فترةٍ طويلة، على نحو أثار الدهشة، أن الممرات عبر الشعاب تواجه الوديان في الأرض المشمولة داخلها بالضبط، حتى في الحالات التي تكون فيها الشعاب منفصلة عن اليابسة بقناةٍ عريضة جدًّا وأعمق بكثير من الممر الحقيقي نفسه؛ حتى إنه يبدو من الصعب أن يكون بإمكان الكمية الضئيلة من المياه أو الرواسب الهابطة الإضرار بالمرجان على الشعاب. والآن، صار كل شعب من الشعاب الهدابية يخترقه مدخلٌ ضيق يواجه نهيرًا من أصغر ما يمكن، حتى لو كان جافًّا على مدار الجزء الأكبر من العام؛ إذ إن الطمي أو الرمل أو الحصى الذي ينجرف بين الفينة والأخرى يقتل المرجان الذي يترسب فوقه. وبناء عليه عند هبوط جزيرةٍ محاطة على هذا النحو، ورغم أن معظم المداخل الضيقة ستصير مسدودة على الأرجح بسبب نمو المرجان للخارج ولأعلى، فإن أي مداخل مفتوحة (وبعضها يجب أن يظل مفتوحًا دائمًا بسبب تدفق الرواسب والمياه العكرة من القناة) ستستمر في مواجهة الأجزاء العليا من تلك الوديان في المصبات التي اختُرِقَت فيها الشعاب الهدابية الأصلية القاعدية.
يمكننا بسهولة أن نرى كيف لجزيرة تواجه حيودًا مرجانية من أحد جوانبها أو تطوِّقها هذه الحيود من جانبٍ واحد وطرفٍ واحد أو كلا الطرفين، أن تتحول بعد فترةٍ طويلة من الهبوط إلى شعبٍ مرجاني مفرد يشبه الجدار أو إلى جزيرةٍ حلقيةٍ مرجانية يبرز منها نتوءٌ ضخمٌ مستقيم أو إلى جزيرتَين أو ثلاث جزرٍ مرجانيةٍ حلقية يربطها معًا شعابٌ مستقيمة؛ وهي كلها حالاتٌ استثنائية تحدث في الواقع. وبما أن المرجان المكوِّن للشعاب يحتاج للغذاء، وتتغذَّى عليه حيواناتٌ أخرى وينفُق بفعل الرواسب ولا يمكنه الالتصاق بقاعٍ مفكَّك وربما يُنقَل بسهولة إلى عمق لا يمكنه النمو فيه مجددًا، لا يجب أن نندهش عندما تصبح أجزاء من الشعاب المكوِّنة للحيود والجزر الحلقية غير تامة التكوين. هكذا يكون الحيد العظيم في كاليدونيا الجديدة غير مكتمل ومتكسرًا في عدة أجزاء؛ ومن ثم وبعد هبوط لفترةٍ طويلة، لم يكن هذا الحيد لينتج جزيرةً حلقيةً عظيمة يبلغ طولها ٤٠٠ ميل، بل سلسلةً أو أرخبيلًا من الجزر الحلقية بنفس أبعاد أرخبيل المالديف إلى حدٍّ بعيد. بالإضافة إلى ذلك، في جزيرةٍ حلقيةٍ مرجانية اخترقت في وقت من الأوقات على جوانبها المتقابلة بسبب احتمالية مرور تيارات المحيط والمد والجزر عبر هذه الأجزاء المخترقة في خطٍّ مستقيم، من غير المحتمل تمامًا أن يكون المرجان قادرًا مرةً أخرى، وخاصة خلال فترة الهبوط المستمر، على توحيد الحافة، وإذا لم يفعل، بينما تهبط الجزيرة الحلقية بالكامل إلى أسفل، فستنقسم أي جزيرةٍ حلقية إلى اثتنين أو أكثر. في أرخبيل المالديف، توجد جزرٌ مرجانيةٌ حلقيةٌ مميزةٌ مرتبطة بشكلٍ كبير بعضها ببعض في الموقع، وتفصل بينها قنوات لا يمكن الوصول إلى أعماقها أو عميقة للغاية (القناة بين جزيرتي روس وآري المرجانيتَين يبلغ عمقها ١٥٠ قامة، بينما يبلغ عمق القناة بين جزيرتي نيلاندو الشمالية والجنوبية ٢٠٠ قامة)؛ حتى إنه من المستحيل النظر في خريطة لها دون الاعتقاد بأنها كانت يومًا ما أكثر ارتباطًا فيما مضى. وفي هذا الأرخبيل نفسه، يقسم جزيرة مالوس مادو المرجانية قناةٌ متشعبة لفرعَين عمقها من ١٠٠ إلى ١٣٢ قامة على نحوٍ يجعل من المستحيل تقريبًا تحديد ما إذا كان يجب أن يُشار إليها كثلاث جزرٍ متفرقة أم جزيرةٍ واحدةٍ كبيرة لم تنقسم على نحوٍ نهائي بعدُ.
لن أخوض في المزيد من التفاصيل العديدة، لكن يجب أن أشير إلى أن ثمة تفسيرًا بسيطًا للتكوين الغريب لجزر المالديف المرجانية الحلقية الشمالية (مع الأخذ في الاعتبار المدخل الحر للبحر من خلال حوافه الوعرة) يكمن في النمو الصاعد والخارجي للمرجان، الذي كان قائمًا في الأساس على كلٍّ من شعابٍ صغيرةٍ منفصلة في بحيراته الضحلة، كتلك التي تظهر في الجزر الحلقية الشائعة، وعلى أجزاءٍ وعرة من الشعاب المرجانية الخطية الحديَّة كتلك التي تحدُّ كل جزيرةٍ مرجانيةٍ حلقية من الشكل المعتاد. لا يمكنني الإحجام عن التعليق مرةً أخرى على غرابة هذه التكوينات المعقدة؛ فهي عبارة عن قرصٍ رمليٍّ كبيرٍ مقعر في العادة يبرز فجأة من محيط لا يمكن الوصول إلى عمقه، نطاقه المركزي مرصَّع — وطرفه محفوف على نحوٍ متناسق — بأحواضٍ بيضاوية من الصخور المرجانية تلتصق بسطح البحر وأحيانًا ما تكون مغطاة بنباتات وكلٌّ منها يحوي بحيرة من المياه الشفافة الصافية!
ثمة نقطةٌ أخرى نتناولها بالتفصيل؛ وهي أنه بما أن المرجان يزدهر في أحد الأرخبيلَين المتجاورين دون الآخر، وبما أن الكثير جدًّا من الظروف تؤثر حتمًا في وجودها قبل حصر أعدادها، فستكون حقيقةً غير قابلة للتفسير إذا ظل المرجان المكوِّن للشعاب حيًّا للأبد في أي مكان أو منطقة، خلال التغييرات الحادثة في اليابسة والهواء والمياه. وبما أن المناطق التي تضم الحيود المرجانية والجزر المرجانية الحلقية آخذة في الهبوط، بناء على نظريتنا، فيفترض أن نجد بين الحين والآخر شعابًا ميتةً ومغمورة في المياه. وتعدُّ هذه الجهة في كل الشعاب هي الأقل ملاءمة للنمو القوي المستمر منذ فترةٍ طويلة للمرجان؛ نظرًا إلى انجراف الرواسب من البحيرة أو القناة إلى الجهة المعاكسة لهبوب الرياح؛ لذا فإن أجزاءً ميتة من الشعاب توجد على نحوٍ غير محدود في الجانب المعاكس للرياح؛ وهذه الأجزاء، رغم أنها ما زالت تحتفظ بشكلها الصحيح الذي يشبه الجدران، غارقة الآن في أمثلةٍ عدة لعدة قامات تحت سطح المياه. لسبب ما يبدو أرخبيل تشاجوس الآن، ربما بسبب السرعة البالغة التي حدث بها الهبوط، أقل ملاءمة بكثير لنمو الشعاب من ذي قبل؛ فثمة جزء من الحافة الشعابية لإحدى الجزر المرجانية يبلغ طوله تسعة أميال ميتٌ ومغمورٌ تحت المياه، بينما توجد جزيرةٌ ثانية بها بضع نقاطٍ حيةٍ صغيرة فقط منها الشعاب تصعد إلى السطح، وثمة ثالثة ورابعة ميتتان ومغمورتان بالكامل تحت الماء، وخامسة عبارة عن مجرد حطام حيث انطمس تكوينها تقريبًا. من اللافت للنظر في كل هذه الحالات أن الشعاب والأجزاء الميتة تقبع على العمق نفسه تقريبًا، وتحديدًا من ست إلى ثماني قامات تحت سطح الماء، كما لو كانت قد حُملت لأسفل بحركةٍ واحدةٍ منتظمة. إحدى هذه «الجزر المرجانية نصف الغارقة»، كما يطلق عليها الكابتن مورزبي (والذي أَدين له بالكثير من المعلومات التي لا تقدَّر بثمن)، ذات حجمٍ هائل؛ إذ يبلغ عرضها تحديدًا ٩٠ ميلًا بحريًّا في اتجاهٍ واحد و٧٠ ميلًا في صفٍّ آخر، وتتسم بالغرابة الشديدة في جوانبَ عدة. وطبقًا لنظريتنا، سوف تتكوَّن جزرٌ مرجانيةٌ حلقيةٌ جديدة عمومًا في كل منطقةٍ جديدة يحدث فيها هبوط، ربما يثار اعتراضان وجيهان؛ الأول: هو أن الجزر المرجانية الحلقية لا بد أن أعدادها تتزايد على نحوٍ لا نهائي؛ الثاني: أن كل جزيرةٍ مرجانيةٍ حلقية في مواضع الهبوط القديمة لا بد أن سمكها يتزايد على نحوٍ لا نهائي، إذا لم يكن من الممكن تقديم أدلة على تدميرها من حينٍ لآخر؛ لذا تتبعنا تاريخ هذه الحلقات العظمى من الصخور المرجانية بداية من نشأتها للمرة الأولى عبر التغيرات الطبيعية التي تمر بها والحوادث العارضة التي تقع خلال وجودها وحتى موتها وفنائها النهائي.
في كتابي عن «التكوينات المرجانية»، نشرتُ خريطةً لونتُ فيها كل الجزر المرجانية الحلقية باللون الأزرق الداكن، والحيود المرجانية بالأزرق الباهت، والشعاب الهدابية بالأحمر. هذه الأخيرة تكوَّنت عندما كانت الأرض مستقرة وثابتة، أو كما يظهر من الوجود المتكرر لبقايا عضويةٍ مرتفعة، بينما كانت ترتفع ببطء؛ على الجانب الآخر، نمت الجزر المرجانية الحلقية والحيود المرجانية في أثناء حركة الهبوط المضادة مباشرة، والتي لا بد أنها كانت تدريجية للغاية، وفي حالة الجزر المرجانية الحلقية كانت حركةٌ ضخمة للغاية؛ حتى إنها دفنت كل قمة جبلية على امتداد مساحاتٍ محيطيةٍ واسعة. في هذه الخريطة نرى أن الشعاب الملوَّنة بالأزرق الشاحب والداكن، والناتجة عن نفس ترتيب الحركة، تقف بوضوح بعضها بجانب بعض كقاعدةٍ عامة. مرةً أخرى، نرى أن المنطقتين، ذواتَيِ الدرجتَين الداكنة والشاحبة من الأزرق، ذواتا امتدادٍ شاسع، وتوجد منفصلة عن الخطوط الساحلية الممتدة الملونة بالأحمر، وربما أمكن استنتاج ظروف نموهما من خلال النظرية القائلة إن طبيعة نمو الشعاب تتحكم فيها طبيعة حركة الأرض. والأمر الجدير بالملاحظة أنه في أكثر من حالة تقترب بها النطاقات الحمراء والزرقاء بعضها من بعض، يمكنني توضيح حدوث تموُّجات أو تذبذبات في السطح؛ ففي مثل هذه الحالات تتألَّف هذه النطاقات الحمراء أو الهدابية من جزرٍ مرجانيةٍ حلقية، تكوَّنت في الأصل بناء على نظريتنا أثناء الهبوط، لكنها ارتفعت بعد ذلك؛ وعلى الجانب الآخر، بعض الجزر ذات اللون الأزرق الباهت أو الجزر المُطوَّقة مكونة من صخورٍ مرجانية، والتي لا بد أنها وصلت إلى ارتفاعها الحالي قبل حدوث هذا الهبوط، وهي المدة التي نمت خلالها الحيود المرجانية لأعلى.
لاحظ المؤلفون بدهشة أنه على الرغم من أن الجزر المرجانية الحلقية هي التكوينات المرجانية الأكثر شيوعًا في بعض الرقع المحيطية الشاسعة، فإنها تسجل غيابًا تامًّا في بحارٍ أخرى كما في جزر الهند الغربية، ويمكننا الآن إدراك السبب وراء ذلك فورًا؛ إذ إنه في الأماكن التي لم يحدث فيها هبوط، لم تتمكن الجزر الحلقية من التكون، وفي حالة جزر الهند الغربية وأجزاء من جزر الهند الشرقية، من المعروف أن هذه الرقع كانت ترتفع في غضون الحقبة الأخيرة. تستطيل المناطق الأكبر الملونة بالأحمر والأزرق جميعًا، وبين اللونَين توجد درجة من التناوب القوي كما لو كان ارتفاع الأولى وازن هبوط الثانية. بالأخذ في الاعتبار الأدلة على حدوث ارتفاع مؤخرًا على كلٍّ من السواحل التي تحدُّها الشعاب وبعض الجزر الأخرى (كما في أمريكا الجنوبية) حيث لا توجد أي شعاب، فإن هذا يقودنا لاستنتاج أن القارات الكبيرة هي مناطقُ مرتفعة في أغلب الأجزاء، ومن خلال طبيعة الشعاب المرجانية، نستنتج أن المناطق الوسطى من المحيطات الكبرى هي مناطق هابطة. ويعتبر أرخبيل الهند الشرقية، وهو أكثر مناطق اليابسة وعورة في العالم، في معظم أجزائه منطقةً مرتفعة لكنه محاط ومخترق، على الأرجح في أكثر من صف، بمناطق هبوط ضيقة.
جعلت بعض النقاط باللون القرمزي لتشير إلى جميع البراكين النشطة العديدة المعروفة داخل حدود نفس الخريطة. ولعل غيابها التام من كل مناطق الهبوط العظيمة، سواء الملونة بالأزرق الداكن أو الشاحب، أمرٌ بالغ الغرابة؛ ولكن ما لا يقل عنه غرابة هو تلك المصادفة المتمثلة في وجود السلاسل البركانية الرئيسة ذات الأجزاء الملوَّنة بالأحمر، وهو ما يقودنا لاستنتاج أنها إما ظلت ثابتة لفترةٍ طويلة، أو الأعم أنها ارتفعت مؤخرًا. ورغم أن بعض النقاط القرمزية توجد على مسافة ليست كبيرة من الدوائر الفردية الملونة بالأزرق، فإنه لا يوجد أي بركانٍ واحدٍ نشط يقع على مسافة عدة مئات من الأميال من أي أرخبيل أو حتى مجموعةٍ صغيرة من الجزر المرجانية الحلقية؛ لذا من المدهش أنه في أرخبيل فريندلي، الذي يتكوَّن من مجموعة من الجزر الحلقية ارتفعت ثم تآكلت جزئيًّا منذ ذلك الحين، يوجد بركانان — وربما أكثر— يعرف تاريخيًّا أنهما كانا في حالة نشاط. على الجانب الآخر، وعلى الرغم من أن معظم الجزر في المحيط الهادي المحاطة بحيودٍ مرجانية ذات أصلٍ بركاني، وغالبًا ما تكون بقايا الفوهات لا تزال ملحوظة ويسهل تمييزها، فلم يعرف عن أيٍّ منها أنه قد ثار من قبلُ؛ ومن ثم يبدو في هذه الحالات أن البراكين تثور وتخمد في المواضع نفسها وفقًا للحركات السائدة هناك سواء كانت ارتفاعًا أو هبوطًا. ثمة عدد لا يُحصى من الحقائق كان يمكن استنتاجها لإثبات أن البقايا العضوية المرتفعة الشائعة الوجود حيثما توجد براكينُ نشطة، لكن إلى أن يكون بالإمكان توضيح أن البراكين في مناطق الهبوط كانت إما غائبة وإما خامدة، فإن الاستنتاج، مهما كان محتملًا في حد ذاته، وهو أنها كانت تعتمد في توزيعها على ارتفاع أو هبوط سطح الأرض، كان سينطوي على مخاطرة. أما الآن، فأعتقد أنه يمكننا الاعتراف بأريحية بهذا الاستنتاج المهم.
بإلقاء نظرةٍ أخيرة على الخريطة، والوضع في الاعتبار التصريحات المتعلقة بالبقايا العضوية المرتفعة، يجب أن نشعر بالاندهاش من مدى اتساع المناطق التي مرت بتغيرات في السطح سواء لأعلى أو لأسفل خلال حقبة ليست بعيدة جيولوجيًّا. كذلك يبدو أن حركات الارتفاع والهبوط تتبع القوانين نفسها تقريبًا. فعلى مدى المساحات التي تتخللها جزرٌ مرجانيةٌ حلقية، حيث لم تبقَ قمةٌ واحدة من اليابسة المرتفعة فوق مستوى سطح البحر، لا بد أن قدر الهبوط كان هائلًا. علاوة على ذلك، فإن الهبوط سواء كان مستمرًّا أو متقطعًا على فتراتٍ طويلة بما يكفل للمرجان رفع تكويناته الحية إلى السطح، لا بد أنه كان بطيئًا للغاية بالضرورة. ولعل هذا الاستنتاج هو أهم ما يمكن التوصل إليه من خلال دراسة التكوينات المرجانية؛ وهو استنتاج يصعب تخيُّل الوصول إليه بأي شكلٍ آخر. كما لا يمكنني أن أتجاهل تمامًا احتمالية الوجود السابق لأرخبيلاتٍ كبيرة تضم جُزرًا مرتفعة لا يوجد مكانها الآن سوى حلقات من الصخور المرجانية نادرًا ما تكسر الرقعة الممتدة للبحر؛ ما يسلط بعض الضوء على توزيع سكان الجزر الأخرى المرتفعة والتي أصبحت تقف الآن بعيدة بعضها عن بعض بُعدًا بالغًا في وسط المحيطات الكبرى. لقد أنشأ المرجان المكوِّن للشعاب بالفعل شواهدَ رائعة للتغيرات تحت الأرضية للسطح وحافظ عليها؛ إذ نرى في كل حيدٍ مرجاني دليلًا على أن الأرض قد هبطت هناك، ونرى في كل جزيرةٍ مرجانيةٍ حلقية أثرًا لجزيرة اختفت الآن. وهكذا ربما نكتسب رؤيةً ثاقبة، كالتي يمكن أن يكتسبها جيولوجي عاش عشرة آلاف عام واحتفظ بسجل بالتغييرات العابرة، للنظام العظيم الذي انقسم به سطح هذا الكوكب وتناوب به المياه واليابسة معًا.