الفصل الثالث
مونتفيديو – مالدونادو – رحلة إلى نهر بولانكو – الوهق (حبل بأنشوطة) والبولاس – طيور الحَجَل – انعدام الأشجار – الأيل – الكابيبارا أو خنزير الماء – قوارض التوكو توكو – طيور شحارير البقر، سلوكيات شبيهة بسلوكيات طائر الوقواق – عصافير الملك – طائر المُحاكي – الصقور الجيفية – أنابيب صنعها البرق – منزل ضربه البرق.
***
مالدونادو
عندما وصلنا إلى منبع النهر، كنتُ مهتمًّا بملاحظة مياه البحر والنهر وهي تمتزج معًا ببطء. وكانت مياه النهر التي كانت عكرة ومتغيرة اللون، بسبب انخفاض كثافتها النوعية، تطفو فوق سطح مياه البحر المالحة. كان هذا واضحًا على نحو مثير للفضول في أثر السفينة في الماء، حيث شوهد خط من المياه الزرقاء يختلط في الدوامات الصغيرة بالمياه المجاورة.
•••
تقع مالدونادو على الضفة الشمالية لنهر لابلاتا ولا تبعد كثيرًا عن بداية المصب، وهي بلدة صغيرة هادئة وبائسة، وكما هو السائد في هذه البلاد، بُنِيَت طرقها ليلتقي بعضها بعضًا بزوايا قائمة ويوجد في قلب البلدة ميدان أو ساحة عامة كبيرة يتسبب حجمها في إظهار مدى قلة سكان البلدة أكثر. كان وجود أي تجارة في البلدة أمرًا نادرًا، مع اقتصار الصادرات على بعض جلود الحيوانات والماشية الحية. يتألف سكان البلدة من ملاك الأراضي في الأساس، بالإضافة إلى بعض أصحاب المتاجر وأصحاب الحرف الضرورية، مثل الحدَّادين والنجارين الذين ينحصر جل ما يقومون به من أعمال في نطاق دائرة محيطها خمسون ميلًا. يفصل البلدة عن النهر حزام من الروابي الرملية يصل عرضه إلى نحو ميل، ومحاطة من كل الجهات الأخرى بمنطقة ريفية مفتوحة ومتموجة قليلًا ومغطاة بطبقة متناسقة من الحشيش الأخضر الناعم ترعى فيه أعداد لا تحصى من الماشية والغنم والخيول. توجد أراضٍ مستصلحة محدودة للغاية بالقرب من البلدة. كما توجد بعض الأسيجة من الصبار والصَّبار الأمريكي (الأجاف) تحدد مكان زراعة بعض القمح أو الذرة الهندية. كانت معالم وملامح المنطقة الريفية متشابهة للغاية على طول الضفة الشمالية لنهر لابلاتا، الفرق الوحيد أن التلال الجرانيتية هنا أكثر تحدرًا قليلًا. كان المنظر يخلو من أي إثارة مطلقًا؛ إذ يوجد بالكاد بيت أو قطعة أرض مسوَّرة أو حتى شجرة لتكسب المشهد بعض المرح والبهجة، لكن بعد البقاء حبيسًا لفترة طويلة على متن سفينة، يجد المرء سحرًا في التجول بحُريَّةٍ عبر سهول مفتوحة بلا حدود من الكلأ. علاوة على ذلك، إذا كان مدى بصرك منحصرًا في مساحة محدودة، فستجد العديد من الأشياء التي تمتلك جمالًا. فثمة بعض الطيور الصغيرة ذات ألوان رائعة بالإضافة إلى مرج بلون أخضر زاهٍ قصير الحشائش من أثر رعي الماشية فيه، ومزين بأزهار صغيرة من بينها نبتة، تشبه زهرة الربيع، وقد احتلت مكان زهرة قديمة. ماذا سيكون انطباع بائع زهور إذا رأى حقولًا كاملة مغطاة بكثافة بزهور رعي الحمام؛ حتى إنها تبدو، من مسافة بعيدة، بلون قرمزي صارخ؟
مكثت عشرة أسابيع في مالدونادو جمعت خلالها مجموعة شبه متكاملة من الحيوانات والطيور والزواحف. قبل سرد أي ملاحظات بشأنها، سأصف رحلة قصيرة قمت بها في نهر بولانكو الذي يبعد حوالي ٧٠ ميلًا في اتجاه الشمال. وكدليل على مدى رخص كل شيء في هذا البلد، يمكنني أن أذكر أنني دفعت دولارين فقط في اليوم، أو ما يساوي ثمانية شلنات، لرجلين بالإضافة إلى مجموعة مكونة من نحو دزينة من خيول الركوب. كان رفيقاي مسلحَيْن جيدًا بالمسدسات والسيوف وهو احتراز رأيته غير ضروري إلى حد ما، لكن كان أول ما بلغنا من أخبار أن مسافرًا من مونتفيديو وُجِد قتيلًا في اليوم السابق على الطريق. وقد حدث هذا بالقرب من صليب وُضِع كعلامة على جريمة قتل سابقة.
بتنا ليلتنا الأولى في منزل ريفي صغير منعزل، ولم يمر وقت طويل قبل أن أكتشف أن بحوزتي شيئين أو ثلاثة، كان أبرزها بوصلة جيب كانت تثير دهشة لا حدود لها؛ ففي كل منزل زرته طُلِب مني إظهار البوصلة، واستخدامها، إلى جانب خريطة، لإيجاد اتجاه العديد من الأماكن. وكان مما يثير أشد درجات الإعجاب أنني، كغريب تمامًا عن المكان، أعرف الطريق (الاتجاهات والطرق مترادفين في هذه البلاد المفتوحة) لأماكن لم أكن قد زرتها من قبل. في أحد البيوت، كانت هناك امرأة شابة مريضة طريحة الفراش أرسلت تتوسل كي أزورها وأريها البوصلة. وإذا كانت دهشتهم كبيرة، فقد كانت دهشتي أكبر حين وجدت مثل هذا القدر من الجهل بين بشر يملكون آلافًا من رءوس الماشية ومراعيَ ممتدة على مساحات كبيرة. السبب الوحيد في هذا هو أن هذا الجزء المنعزل من البلاد نادرًا ما يزوره الأجانب. سئلت إذا ما كانت الأرض أو الشمس تدوران، وإذا ما كان الشمال باردًا أم حارًّا؛ وأين تقع إسبانيا وأسئلة أخرى عديدة. كان العدد الأكبر من السكان لديهم فكرة ملتبسة أن إنجلترا ولندن وأمريكا الشمالية هي أسماء مختلفة للمكان نفسه، لكن كان الأكثر علمًا ومعرفة منهم يعتقدون أن لندن وأمريكا الشمالية دولتان متجاورتان، وأن إنجلترا بلدة كبيرة في لندن! كنتُ أحمل معي بعضًا من الكبريت البروميثيوني الذي كنتُ أشعله بالعض؛ وكان من دواعي دهشتهم أن يتمكن رجل من إشعال النار بأسنانه؛ حتى إنهم اعتادوا جمع أفراد العائلة كلهم لمشاهدة الأمر؛ وقد عُرِض عليَّ ذات مرة الحصول على دولار مقابل عود كبريت. كان غسل وجهي في الصباح يثير الكثير من التساؤلات في قرية لاس ميناس؛ حتى إن واحدًا من كبار التجار جاء ليستجوبني عن قرب عن هذه العادة الشديدة الغرابة، كما سألني لماذا نطلق لحانا على متن السفينة؛ إذ سمع من دليلي أننا نفعل هذا. كان يراقبني بكثير من الشك؛ لعله قد سمع بممارسة الوضوء في الدين الإسلامي، ونظرًا لعلمه بأنني ملحد، فربما قاده هذا لاستنتاج أن كل المهرطقين من الأتراك. كان من العادات السائدة في هذه القرية طلب المبيت في أول بيت مناسب. كان الاندهاش من البوصلة وغيرها من أعمال الشعوذة التي كنت أمارسها، مفيدًا لي بدرجة ما؛ إذ كان ذلك، إلى جانب القصص الطويلة التي كان يرويها مرشداي عن تكسيري للصخور، وقدرتي على التمييز بين الثعابين السامة وغير السامة وجمع الحشرات وما إلى ذلك، وسيلتي لمكافأتهم على استضافتهم لي. أشعر وأنا أكتب الآن كما لو كنتُ جالسًا بين سكان وسط أفريقيا؛ لن تكون منطقة باندا الشرقية (الأوروجواي حاليًّا) أفضل بالمقارنة، لكن هذا ما كنتُ أشعر به آنذاك.
في اليوم التالي امتطينا الخيول إلى قرية لاس ميناس. كان الريف هناك ذا طبيعة جبلية أكثر نوعًا ما، لكن فيما عدا ذلك كان كل شيء يشبه ما رأيناه سابقًا؛ فكان من شأن أي شخص يقطن البامبا أن يعتبرها منطقة جبلية شاهقة الارتفاع بلا شك. كانت القرية مأهولة بالكاد؛ حتى إننا على مدى اليوم بأكمله نادرًا ما كنا نقابل ولو شخصًا واحدًا. كانت لاس ميناس أصغر من مالدونادو، وتقع فوق سهل صغير ومحاطة بجبال صخرية منخفضة. تتخذ البلدة الشكل المتساوق المعتاد، واكتسبت شكلًا جميلًا نوعًا ما بفضل كنيستها ذات اللون الأبيض الجيري الواقعة في قلبها. كانت المنازل الواقعة على الأطراف الخارجية للقرية تبرز من السهل ككيانات منعزلة بدون أي حدائق أو أفنية. وكان هذا هو المعتاد في الريف؛ ومِن ثَمَّ كان لكل المنازل منظر غير مريح. عندما حل الليل، ذهبنا إلى متجر للمشروبات. خلال الأمسية، جاء عدد كبير من فرسان الجاوتشو لشرب الكحول وتدخين السيجار. كان شكلهم لافتًا للغاية؛ إذ كانوا يتسمون عمومًا بطول القامة والوسامة، لكن كان سيماهم يعلوه تعبير من التكبر والانحلال الأخلاقي. كانوا كثيرًا ما يطلقون شواربهم ويتدلى على ظهورهم شعر طويل أسود مموج. كانت ملابسهم الزاهية الألوان والمهاميز الكبيرة التي تصلصل في كعوب أحذيتهم والسكاكين المعلقة كخناجر (وغالبًا ما تستخدم كذلك بالفعل) في خصورهم تجعلهم يبدون كجنس من البشر يختلف تمامًا عن الريفيين البسطاء أو الدلالة المتوقعة لاسم الجاوتشو. كان لطفهم وتهذيبهم زائدًا عن الحد؛ فكانوا لا يشربون أبدًا دون أن تتذوق الشراب معهم، لكن أثناء انحناءاتهم الشديدة الكياسة لتحيتك، يبدون كما لو كانوا متأهبين تمامًا لشق حلقك إذا استدعى الموقف هذا.
في اليوم الثالث، اتخذنا مسارًا غير منتظم إلى حد ما؛ إذ كنتُ منشغلًا في فحص بعض المِهَاد الرخامية. رأينا العديد من طيور النعام في سهول الحشائش الناعمة. كانت بعض أسرابها تحتوي عشرين أو ثلاثين طيرًا. كان المنظر مهيبًا للغاية عندما كانت تقف على أي ارتفاع طفيف قبالة السماء الصافية. لم أقابل أي نعام مستأنس بهذا الشكل في أي جزء من البلاد؛ فكان من السهل الاقتراب منها عدوًا بالخيول والبقاء على مسافة قصيرة منها، ولكن سرعان ما تتجاوز الخيول عندما تفرد أجنحتها وتنطلق في اتجاه الرياح.
وصلنا ليلًا إلى منزل دون خوان فوينتيس، وهو أحد ملاك الأراضي الأثرياء، لكنه لم يكن معروفًا على المستوى الشخصي لأي من رفيقيَّ. عند الاقتراب من بيت شخص غريب، من المعتاد اتباع العديد من النقاط البسيطة فيما يتعلق بالآداب العامة، كالاقتراب ببطء من الباب وإلقاء تحية «السلام عليكِ يا مريم.» وعدم الترجل من فوق ظهر الحصان إلا عندما يخرج شخص من المنزل ويطلب منك ذلك. وكان الرد المعتاد لمالك المنزل هو «حبلت بلا خطيئة.» بعد الدخول إلى المنزل، يدور حديث عام لبضع دقائق، حتى يطلب الإذن بقضاء الليلة في المنزل. وتكون الموافقة أمرًا مفروغًا منه. بعد ذلك يتناول الغريب وجباته بصحبة العائلة وتُخصَّص له غرفة؛ حيث يصنع لنفسه فراشًا باستخدام غطاء سرج حصانه أو الريكادو. من الغريب أن الظروف المتشابهة تؤدي لنتائج مشابهة على مستوى السلوك والآداب؛ ففي منطقة رأس الرجاء الصالح، يُلاحظ عمومًا اتباع نفس أسلوب الضيافة ونفس آداب التعامل تقريبًا. ومع ذلك، يتضح الفارق بين شخصية الإسباني وشخصية المزارع الهولندي؛ إذ لا يوجه الأول إلى ضيفه أبدًا أي سؤال يتجاوز أشد قواعد التهذيب والكياسة، بينما يظل الهولندي الصريح البسيط يسأله من أين أتى وإلى أين هو ذاهب وماذا يعمل، بل ربما أيضًا كم عدد أشقائه أو شقيقاته أو أطفاله إذا كان لديه.
بعد قليل من وصولنا إلى بيت دون خوان، كان قطيع من أكبر قطعان الماشية يُساق نحو المنزل واختير ثلاث منها لتُذبَح لتوفير الطعام للمنزل. كانت هذه الماشية نصف البرية نشطة للغاية، وأرهقت الخيول في مطاردة استمرت طويلًا بسبب درايتها التامة باللازو المميت (الحبل ذي الأنشوطة أو الوهق) الذي يستخدم في اقتيادها. بعد مشاهدة استعراض ثرائه الفاحش الممثل في أعداد الماشية والخيول والرجال التي يمتلكها، كان منزل دون خوان البائس غريبًا ومثيرًا للفضول للغاية. كانت الأرضية من الطين المقسَّى، وكانت النوافذ بلا زجاج، وكانت غرفة الجلوس لا تحوي إلا بضعة كراسٍ قاسية ومقاعد بلا ظهر وطاولتين. رغم وجود عدة غرباء، كان العشاء عبارة عن كومتين ضخمتين، الأولى من اللحم المشوي والأخرى من اللحم المسلوق، مع بعض قطع من اليقطين، دون إضافة أي خضراوات أو حتى كسرة خبز بجانب الأخيرة. أما بالنسبة إلى الشراب، فكان ثمة وعاء كبير للمياه مصنوع من الخزف يشرب منه كل الحاضرين. ورغم ذلك، كان ذلك الرجل يملك العديد من الأميال المربعة من الأراضي، من شأن كل فدان فيها إنتاج الذرة، وبقليل من المجهود، كل أنواع الخضراوات الشائعة. قضينا المساء في التدخين والغناء المرتجل المصحوب بعزف القيثارة، فيما انتبذت كل النسوة أحد أركان الغرفة وجلسن معًا ولم يتناولن العشاء مع الرجال.
كُتِب العديد من الأعمال عن هذه البلاد، حتى إنه يكاد من النافلة وصف الوهق، أو البولاس. يتكون الوهق من حبل رفيع لكنه قوي للغاية ومجدول جيدًا مصنوع من جلد الحيوان الخام. يثبت أحد طرفي الحبل بالحزام العريض الخاص بسرج الحصان والذي يربط المعدات المعقدة الخاصة بالريكادو، بينما ينتهي الطرف الآخر بحلقة صغيرة من الحديد أو النحاس يمكن استخدامها في صنع أنشوطة. يحتفظ الجاوتشو، عندما يقدم على استخدام الوهق، بملف صغير في يده الممسكة باللجام، بينما يمسك في الأخرى الأنشوطة المتحركة التي تكون كبيرة جدًّا، وعادة ما يبلغ قطرها نحو ثماني أقدام. يدير الجاوتشو الأنشوطة فوق رأسه، وبحركة متقنة من رسغه يبقي الأنشوطة مفتوحة، ثم يرميها بحيث تسقط في أي مكان يحدده. وعندما لا يُستَخدَم الوهق، يُربط في لفة صغيرة في الجزء الخلفي من الريكادو. ثمة نوعان من البولاس، أو الكرات: الأول وهو الأبسط والذي يستخدم بالأساس في صيد النعام، يتكون من حجرين دائريين مغطيين بالجلد ومربوطين معًا بسير جلدي مجدول رفيع يبلغ طوله نحو ثماني أقدام. يختلف النوع الآخر عن الأول فقط في كونه مكونًا من ثلاث كرات تجتمع معًا في مركز مشترك بواسطة سيور جلدية. يمسك الجاوتشو بأصغر كرة من الثلاث في يده بينما يدير الكرتين الأخريين فوق رأسه عدة مرات؛ ثم يحدد الهدف ويرسلهما كطلقة مدفع مسلسلة تدور في الهواء. وما إن تضرب الكرتان أيَّ هدف حتى تلتفَّا حوله ويتقاطع مسارهما ليلتف بعضهما حول بعض بإحكام. يختلف حجم الكرات ووزنها وفقًا للغرض الذي تُصنَع من أجله: فعندما تُصنَع من الحجر، رغم أن كل حجر لا يزيد في حجمه عن التفاحة، تُرمَى بقوة يمكنها أحيانًا كسر أي ساق حتى ساق الحصان. رأيت كراتٍ أخرى صُنِعَت من الخشب ويصل حجم الواحدة إلى حجم ثمرة اللفت، من أجل الإيقاع بهذه الحيوانات دون إصابتها بأي أذًى. وأحيانًا ما تُصنَع الكرات من الحديد ويمكن في هذه الحالة إطلاقها إلى أبعد مسافة ممكنة. تكمن الصعوبة الأساسية في استخدام الوهق أو البولاس في التمكن التام من ركوب الخيل بحيث تتمكن أثناء الاندفاع بأقصى سرعة وعند تغيير الاتجاه فجأة، من تدويرها فوق الرأس ومِن ثَمَّ تصويبها. أي شخص يسير على الأرض سيتقن استخدامهما في وقت قصير. في أحد الأيام، كنت أسلي نفسي بالعدو بالفرس ولف الكرات فوق رأسي، وبدون قصد اصطدمت الكرة الحرة بأجمة من الشجيرات وتوقفت حركتها الدائرية وسرعان ما سقطت على الأرض، ومثل السحر، أمسكت بإحدى الساقين الخلفيتين لحصاني، ثم أفلتت الكرة الأخرى من يدي وأصبح الحصان مقيدًا إلى حد ما. من حسن الحظ أنه كان حيوانًا مخضرمًا مدربًا وكان يدرك ما يعنيه هذا، وإلا فربما ظل يركل حتى يسقط أرضًا. انفجر الجاوتشو في الضحك وصاحوا قائلين إنهم رأوا كل أنواع الحيوانات يوقع بها، لكنهم لم يروا من قبل رجلًا يوقع بنفسه.
أثناء عودتنا إلى مالدونادو، سلكنا طريقًا مختلفًا نوعًا ما. بالقرب من بان دي أزوكار وهي معلم رئيسي معروف جيدًا لكل مَن أبحر عبر نهر لابلاتا، مكثت يومًا في بيت إسباني عجوز مضياف لأقصى حد. وفي وقت مبكر من الصباح، صعدنا سلسلة جبال لاس أنيماس. وبفضل الشمس المشرقة، كان المشهد ساحرًا للغاية. وامتد المشهد غربًا ليشمل سهلًا مستويًا شاسعًا ليصل إلى الجبل في مونتفيديو، وشرقًا ليشمل الريف في مالدونادو. على قمة الجبل كانت هناك عدة أكوام صغيرة من الحجارة كان من الواضح أنها هناك منذ سنين عدة. وقد أكد لي مرافقي أن هذا من فعل الهنود في الأزمنة الغابرة. كانت الأكوام مشابهة، وإن كان التشابه على نطاق أقل بكثير، لتلك التي يشيع وجودها على جبال ويلز. يبدو أن الحاجة لتمييز أو إبراز أي حدث، فوق أعلى نقطة في الأرض المجاورة، تمثل شغفًا عامًّا لدى جميع البشر. فاليوم، لا يوجد أي هندي، متحضرًا كان أو همجيًّا، في هذا الجزء من الإقليم؛ كما أني لا أعلم إن كان سكانه السابقون قد تركوا وراءهم أي سجلات دائمة أخرى بخلاف هذه الأكوام البسيطة من الحجارة فوق قمة جبال لاس أنيماس.
•••
بالتركيز على أمريكا الجنوبية، لا بد أننا سنجد بالتأكيد ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأشجار تزدهر فقط في مناخ شديد الرطوبة؛ وهذا لأن الحد الجغرافي لأراضي الغابات يتبع على نحو استثنائي الحد الجغرافي للرياح الرطبة؛ ففي الجزء الجنوبي من القارة، حيث تسود نَوَّات الرياح الغربية المحملة برطوبة المحيط الهادي، تكتسي كل جزيرة على الساحل الغربي المتقطع بداية من دائرة عرض ٣٨ درجة إلى أقصى نقطة في أرخبيل أرض النار بغطاء كثيف من غابات غير قابلة للاختراق. وعلى الجانب الشرقي من سلسلة جبال كورديليرا، وعلى امتداد نفس دائرة العرض، حيث تدل السماء الزرقاء الصافية والمناخ المعتدل على انخفاض معدل الرطوبة في الجو بسبب المرور بالجبال، تحوي سهول باتاجونيا المقفرة أقل القليل من النباتات. أما في الأجزاء الأكثر اتجاهًا نحو الشمال من القارة، داخل الحدود الجغرافية للرياح التجارية الجنوبية الشرقية الدائمة، فيزدان الجانب الشرقي منها بغابات رائعة، بينما الساحل الغربي، الممتد من دائرة عرض ٤ درجات جنوبًا إلى دائرة عرض ٣٢ درجة جنوبًا، قد يوصف بأنه صحراء؛ فعلى هذا الساحل الشرقي، شمال دائرة عرض ٤ درجات جنوبًا، حيث تفقد الرياح التجارية انتظامها، وتتساقط سيول الأمطار على نحو دوري، نجد أن سواحل المحيط الهادي، المقفرة تمامًا في بيرو، تكتسب بالقرب من كيب بلانكو الوفرة في النماء التي تميز بنما وجواياكيول. وعلى ذلك، تحتل الغابات والصحاري في الأجزاء الشمالية والجنوبية من القارة، مواقع معكوسة فيما يتعلق بسلسلة جبال كورديليرا، وهذه المواقع تتحدد فيما يبدو باتجاه الرياح السائدة. ففي وسط القارة يوجد نطاق عريض متوسط يضم وسط تشيلي وأقاليم لابلاتا؛ حيث لا يفترض أن تمر الرياح المحمَّلة بالأمطار فوق قمم الجبال الشاهقة، وحيث الأرض ليست صحراء وليست مغطاة بالغابات كذلك، لكن حتى قاعدة ازدهار الأشجار فقط في مناخ صار رطبًا بفعل الرياح المحملة بالأمطار، إن كانت مقتصرة على أمريكا الجنوبية فقط، فإن لها استثناءً ملحوظًا بقوة في حالة جزر الفوكلاند. تقع هذه الجزر على نفس دائرة عرض أرخبيل أرض النار وتبعد عنها مسافة ٢٠٠ أو ٣٠٠ ميل فقط، وتتمتع بمناخ مشابه لها تقريبًا مع تكوين جيولوجي شبه متطابق، إلى جانب الموقع الملائم نفسه والتربة ذات الطبيعة الخُثَّة نفسها، إلا أنها تحوي بعض النباتات التي يمكن أن يُطلَق عليها اسم شجيرات، بينما من المستحيل أن تعثر في أرض النار على فدان من الأرض غير مغطًّى بالغابات. في هذه الحالة، فإن اتجاه نَوَّات الرياح الشديدة وتيارات مياه البحار يكونان مناسبين لنقل البذور من أرض النار، كما هو واضح من القوارب الخفيفة وجذوع الأشجار التي انجرفت منها وكثيرًا ما يُقذَف بها على شواطئ فوكلاند الغربية. وبناء عليه ربما يوجد بالفعل العديد من النباتات المشتركة بين الإقليمين؛ أما بالنسبة إلى الأشجار في أرض النار، فإن حتى محاولات زرعها باءت بالفشل.
خلال إقامتنا في مالدونادو جمعت عددًا من رباعيات الأقدام، وثمانين نوعًا من الطيور، والعديد من الزواحف، منها تسعة أنواع من الثعابين. من بين الثدييات الأصلية للبلاد، كان الحيوان الوحيد المتبقي من أي حجم وكان منتشرًا هو الأُيَّل الحقلي. كان هذا الأُيَّل متوفرًا بكثرة وغالبًا ما يكون في قطعان صغيرة على امتداد الأقاليم المتاخمة لنهر لابلاتا وفي باتاجونيا الشمالية. إذا ما زحف شخص ما بالقرب منه على الأرض واقترب ببطء من القطيع، فإن الأُيَّل كثيرًا ما يقترب من الشخص ليفحصه بدافع الفضول. وبذلك أمكنني قتل ثلاثة من القطيع نفسه في مكان واحد. وبالرغم من أنه مستأنس وفضولي إلى حد كبير، فإنه يصبح حذرًا للغاية عندما يقترب منه أحد على ظهر خيل. ففي هذه البلاد، لا يمشي شخص على قدميه، ويدرك الأُيَّل أن الإنسان عدوه فقط عندما يكون على صَهْوة حصان ومسلَّحًا بالبولاس. في باهيا بلانكا، وهي منشأة حديثة في باتاجونيا الشمالية، فوجئت من قلة الاهتمام التي أولاها الأيل للضوضاء الصادرة من سلاح ناري؛ فذات يوم أطلقت النار عشر مرات من مسافة ثمانين ياردة تجاه واحد منها لكن خوفه من كرة البولاس التي كانت تقطع الأرض قطعًا كان أكثر بكثير من خوفه من فرقعة البندقية. نفد البارود مني واضطررت للنهوض (وهذا مدعاة للخجل كرجل رياضي رغم قدرتي على إصابة الطيور أثناء طيرانها) والصياح بصوت عالٍ حتى فر الأيل.
كانت الحقيقة الأكثر غرابة بشأن هذا الحيوان هي الرائحة القوية والكريهة إلى حد لا يطاق التي تنبعث من الذكر (الظبي). إنها رائحة لا توصف؛ حتى كاد يغشى عليَّ من الغثيان عدة مرات عند سلخي للعينة المعلقة الآن في متحف علم الحيوان. كنت قد ربطت الجلد بمنديل جيب من الحرير وحملته عائدًا إلى الوطن؛ وقد استمررت في استخدام هذا المنديل بعد غسله جيدًا، كما أنه غُسِل مرارًا بالطبع، إلا أنني ظللت أشم الرائحة تفوح بوضوح كلما فتحته لأول مرة بعد غسله على مدى سنة وسبعة أشهر، ما يبدو أنه مثال مدهش لدوام مادة ما رغم أنها في طبيعتها لا بد أنها ذات كثافة منخفضة وسريعة التطاير إلى أقصى حد. وكثيرًا ما حدث، عند المرور على مسافة نصف ميل من أحد القطعان باتجاه الرياح، أن شعرت بالهواء وقد تلوث بتلك الرائحة الكريهة. في ظني أن رائحة الظبي تكون في أقوى درجة عندما تكتمل قرونه أو يخلو من الجلد المشعر. بالطبع عندما يكون في هذه الحالة، يكون لحمه غير مستساغ تمامًا بالطبع، لكن الجاوتشو يؤكدون أنه إذا دفن لفترة من الوقت في تربة نقية، فإن الرائحة السيئة تزول عنه. وقد قرأت في موضع ما أن سكان الجزر في شمال اسكتلندا يعالجون الجثث المتعفنة للطيور الآكلة للسمك بالطريقة نفسها.
ثمة أنواع عديدة من الطيور تتوافر بغزارة في البامبا المتموجة حول مالدونادو. ويوجد العديد من العينات من عائلة من الطيور تماثل في التكوين والسلوك طائر الزرزور لدينا، يتميز أحدها (ويسمى بشحرور البقر) بعادات لافتة للانتباه. فغالبًا ما قد تُرى جماعات منها واقفة معًا على ظهر بقرة أو خيل؛ وأثناء جثومها فوق أي سياج لتهذيب ريشها والتباهي به في ضوء الشمس، أحيانًا ما تحاول الغناء، أو بالأصح الهسهسة؛ مصدرةً صوتًا مميزًا للغاية يشبه صوت فقاقيع الهواء التي تمر سريعًا من فتحة صغيرة تحت الماء لتصدر صوتًا حادًّا. ووفقًا لأزارا، فإن هذا الطائر يفعل مثلما يفعل طائر الوقواق؛ إذ يضع بيضه في أعشاش الطيور الأخرى. وقد أخبرني الريفيون عدة مرات أن هناك بالتأكيد نوعًا من الطيور لديه هذه العادة، كما وجد مساعدي في جمع العينات، وهو شخص دقيق للغاية، عشًّا لعصفور الدوري (العصفور الصباحي) في هذه المنطقة يحتوي على بيضة أكبر من بقية البيض ولها شكل ولون مختلف. ثمة نوع آخر من شحارير البقر وهو شحرور البقر البني الرأس في أمريكا الشمالية له سلوك مشابه للوقواق، ويتشابه إلى حد كبير في كل الجوانب أنواع الشحارير القاطنة في نهر لابلاتا حتى في تفاصيل تافهة، مثل الوقوف على ظهور الماشية، لكنه يختلف فقط في كونه أصغر قليلًا، كما أن ريشه وبيضه من درجة لونية مختلفة قليلًا. هذا التقارب الشديد في التكوين والسلوك في الأنواع النموذجية الآتية من ربوع متضادة لقارة كبيرة دائمًا ما يبدو مثيرًا للاهتمام رغم كونه ظاهرة شائعة.
من شأن عدد الصقور الجيفية في أمريكا الجنوبية، وألفتها وعاداتها المقززة أن يجعلها لافتة للانتباه بلا نزاع لأي شخص لم يألف سوى طيور شمال أوروبا فقط. يمكن أن تضم هذه القائمة أربعة أنواع من آكلات الجيف؛ وهي صقر الكاراكارا أو الأشبور المتوج الشمالي، والصقر الحوام الرومي، والنسر الأسود الأمريكي، ونسر الكوندور. يعتبر الكاراكارا من النسور بسبب تكوينه الجسماني؛ وسنرى بعد قليل كيف أنه من الخطأ وضعه ضمن رتبة راقية مثل هذه. تشبه هذه الطيور في سلوكها إلى حد بعيد الغربان الآكلة للجيف وغربان العقعق وغربان الغداف، وهي فصيلة من الطيور موزعة على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، لكن لا وجود لها تمامًا في أمريكا الجنوبية. لنبدأ بالأشبور البرازيلي؛ وهو طائر شائع الوجود ذو نطاق جغرافي واسع، يوجد بأعداد كبيرة في سهول السافانا العشبية في لابلاتا (حيث يُعرف باسم الكارانشا)، كما يشيع وجوده عبر سهول باتاجونيا المقفرة. في الصحراء بين نهري نيجرو وكولورادو، تأتي أعداد من الأشبور باستمرار على الطريق لالتهام جثث الحيوانات المرهقة التي تصادف أن نفقت من التعب والعطش. ورغم شيوع وجودها في هذه الأراضي الجافة والمفتوحة، وكذلك على سواحل المحيط الهادي المجدبة، فإنها تسكن الغابات الرطبة الكثيفة في غرب باتاجونيا وأرخبيل أرض النار. ودائمًا ما تتردد أفواج صقور الكارانشا والشيمانجو على مزارع الماشية والمذابح. فإذا نفق حيوان في السهول، يفتتح النسر الأسود الوليمة فيلتهم جثته، ثم يأتي الكاراكارا بنوعَيه لالتقاط العظام بعد تنظيفها من اللحم. ورغم أن هذه الطيور، بناء على ذلك، تتناول طعامها معًا، فإنها أبعد ما تكون عن الصداقة. فعندما يكون الكارانشا رابضًا في هدوء فوق فرع شجرة أو على الأرض، غالبًا ما يستمر صقر الشيمانجو في الطيران لوقت طويل ذهابًا ومجيئًا وصعودًا وهبوطًا في أشكال شبه دائرية، محاولًا في كل مرة ضرب قريبه الأكبر حجمًا عند بلوغ الطرف الأدنى من نطاق طيرانه شبه الدائري. لا يلقي الكارانشا بالًا إلى ما يحدث إلا بهز رأسه. وعلى الرغم من أن الكارانشا كثيرًا ما تتجمع معًا بأعداد كبيرة، فإنها لا تنزع إلى السلوك القطيعي الاجتماعي؛ إذ قد تُرى في المناطق الصحراوية فرادى أو، وهو الأكثر شيوعًا، في أزواج.
يعتبر صقر الشيمانجو الأشبور أصغر حجمًا بكثير من النوع السابق. وفي الواقع فهو يأكل كل شيء حتى الخبز، كما تأكدتُ أنه يؤذي محاصيل البطاطس في جزيرة تشيلوي بنزع الجذور عند زراعتها في البداية. من بين جميع آكلات الجيف، فإنه آخر من يترك الهيكل العظمي لحيوان نافق، وقد يُشاهَد أحيانًا داخل ضلوع بقرة أو حصان، كطائر في قفص. ثمة نوع آخر وهو الأشبور النيوزلندي والذي يشيع وجوده لحد بعيد في جزر الفوكلاند. تشبه هذه الطيور صقور الكارانشا في عاداتها من جوانب عدة؛ فهي تعيش على لحم الحيوانات النافقة والكائنات البحرية، ومن يعيش منها على صخور راميريز يعتمد اعتمادًا كليًّا في غذائه على البحر. تعتبر هذه الصقور أليفة وجريئة إلى أقصى حد، وتلازم الأماكن المجاورة للبيوت من أجل فضلات الذبائح. وإذا قتلت مجموعة صيد حيوانًا، فسرعان ما يجتمع عددٌ من هذه الصقور على الأرض منتظرة على أحر من الجمر دورها في تناول الطعام، محيطة بالفريسة من جميع الأنحاء. بعد الانتهاء من تناول الطعام تبرز حوصلاتها العارية إلى حد كبير، مما يعطيها مظهرًا منفرًا. تهاجم هذه الصقور الطيور الجريحة بسهولة؛ فقد شاهدت طيرًا جريحًا من طيور الغاق وقد قبض عليه بواسطة العديد منها فور جنوحه إلى الشاطئ، وسرعان ما نفق بسبب ضرباتها له. كانت سفينة «البيجل» ترسو في جزر الفوكلاند فقط خلال الصيف، لكن ضباط سفينة «أدفينتشر» الذين كانوا هناك في الشتاء يذكرون أمثلة كثيرة غير اعتيادية لجرأة وضراوة هذه الطيور. ففي إحدى المرات، انقضت بالفعل على كلب كان نائمًا بالقرب من أحد أفراد المجموعة؛ كذلك وجد الرياضيون صعوبة في الحيلولة دون إمساكها بالإوز الجريح أمام أعينهم. يُقال إن العديد من هذه الطيور يجتمع معًا (وهم في هذا يشبهون الكارانشا) وينتظر عند فتحات جحور الأرانب لاصطيادها فور خروجها. كانت هذه الصقور تحوم على نحو مستمر فوق سطح السفينة أثناء رسوها في الميناء، وكان من الضروري مراقبتها جيدًا لمنعها من تمزيق الجلد على الأشرعة والصواري واللحم أو الطرائد من مؤخرة السفينة. تتسم هذه الطيور بأنها فضولية ومشاغبة للغاية؛ فهي تلتقط أي شيء تقريبًا على الأرض؛ فقد التقطت في إحدى المرات قبعة سوداء كبيرة لامعة وفي مرة أخرى زوجًا من الكرات الثقيلة التي تستخدم في صيد الماشية وحملتها لمسافة ميل تقريبًا. وعانى السيد أوسبورن من خسارة أكثر فداحة خلال إجراء عملية المسح؛ إذ سرقت الطيور بوصلة كيتر صغيرة كانت في حقيبة من الجلد المغربي الأحمر ولم يستعدها مرة أخرى. علاوة على ذلك، فإن هذه الطيور مشاكسة وسريعة الغضب للغاية؛ إذ تنتزع الحشائش بمناقيرها عندما تغضب. لا تعتبر هذه الطيور اجتماعية في الواقع، كما أنها لا تحلق عاليًا ويتسم طيرانها بعدم الإتقان والبطء؛ أما على الأرض فهي تجري بسرعة رهيبة تضاهي سرعة طيور التَّدْرُج إلى حد كبير. كما تتسم بأنها مزعجة؛ إذ تصدر العديد من الصيحات الخشنة كصيحات غراب الغداف الإنجليزي؛ لذا دائمًا ما يسميها البحارة بالغداف. من الغريب أنها عندما تصيح، ترمي رءوسها إلى أعلى وإلى الوراء كما تفعل صقور الكارانشا. تشيد هذه الطيور أعشاشها في المنحدرات الصخرية على شواطئ البحار، لكن هذا فقط على الجُزَيِّرات الصغيرة المجاورة وليس على الجزيرتين الرئيستين؛ وهو ما يعد إجراءً احترازيًّا غريبًا بالنسبة إلى طائر مستأنس وشجاع. يقول صائدو الفُقْمة إن لحم هذه الطيور عندما يُطهى، يكون شديد البياض ومستساغًا إلى حد كبير، لكن من يحاول اصطيادها للحصول على هذه الوجبة يجب أن يتسم بالجرأة والشجاعة.
بقي أن نذكر الصقر الرومي والنسر الأسود. يوجد الأول في أي مكان معتدل الرطوبة من رأس هورن وحتى أمريكا الشمالية. على عكس الأشبور البرازيلي والشيمانجو، وجد الصقر الرومي طريقه إلى جزر الفوكلاند. يعتبر الصقر الرومي طائرًا منعزلًا أو يعيش في أزواج على أقصى تقدير. ويمكن التعرف عليه فورًا من مسافة بعيدة من طيرانه الرائع وتحليقه على ارتفاعات شاهقة. من المعروف تمامًا أنه آكل للجيف. فعلى الساحل الغربي لباتاجونيا، بين الجُزَيِّرات المغطاة بالغابات الكثيفة واليابسة الوعرة المتعرجة، يعيش حصريًّا على ما يقذفه البحر وجيف الفقمات النافقة. وأينما تجمعت هذه الحيوانات على الصخور، قد يُشَاهد الصقر الرومي. أما النسر الأسود فيعيش في نطاق جغرافي مختلف عن الصقر الرومي؛ فهو لا يوجد مطلقًا جنوب دائرة عرض ٤١ درجة. يقول أزارا إن هذه الطيور يُعتقد أنها لم توجد قط خلال فترة الاحتلال بالقرب من مونتفيديو، لكنها بعد ذلك تتبعت أثر السكان من المناطق الأكثر تطرفًا إلى الشمال. أما في الوقت الحاضر، فتوجد بأعداد كبيرة في وادي كولورادو الذي يقع على مسافة ٣٠٠ ميل جنوب مونتفيديو. يبدو من المحتمل أن هذا النزوح الإضافي قد حدث منذ زمن أزارا. فالنسر الأسود يفضل عمومًا المناخ الرطب أو بالأصح المناطق المجاورة للمياه العذبة؛ ومِن ثَمَّ فإنه يوجد بوفرة بالغة في البرازيل ولابلاتا، بينما لا يوجد أبدًا في الصحراء والسهول المقفرة في باتاجونيا، إلا بالقرب من أحد المجاري المائية. تتردد هذه الطيور على البامبا بالكامل حتى سفح سلسلة كورديليرا الجبلية، لكني لم أرَ أو أسمع بوجود أحدها في تشيلي، كما أنها محفوظة في بيرو كحيوانات نابشة للقمامة. بالتأكيد قد يُنظَر لهذه الحيوانات باعتبارها قطيعية؛ إذ يبدو أنها تجد متعة في التجمعات ولا يقتصر تجمعها معًا على الأوقات التي توجد فيها فريسة مشتركة تجذبها. ففي يوم صحو، كثيرًا ما قد يشاهد سرب منها يحلق على ارتفاع كبير؛ حيث يدور كل طائر في دوائر متتالية بدون ضم الجناحين في مناورات رشيقة لأبعد حد. من الواضح أنها تقوم بهذا لمجرد متعة الممارسة، أو ربما يرتبط هذا بتحالفاتها التزاوجية.
لقد ذكرت حتى الآن كل أنواع آكلات الجيف فيما عدا نسر الكوندور، وهو تقرير سيكون من الأفضل ذكره عندما نزور منطقة أكثر ملاءمة لعاداته من سهول لابلاتا.
•••
كما ذكرت، تدخل هذه الأنابيب الرمال في اتجاه رأسي تقريبًا. غير أن أحدها، وكان أقل انتظامًا من الأخرى، انحرف عن الخط المستقيم بانحناء ملحوظ إلى أقصى حد بلغ ٣٣ درجة. من نفس هذا الأنبوب، خرج فرعان صغيران يفصل بينهما قدم؛ أحدهما يتجه إلى الأسفل والآخر يتجه إلى الأعلى. كانت هذه حالة لافتة؛ إذ إن التيار الكهربائي لا بد أنه قد ارتد بزاوية حادة بلغت ٢٦ درجة إلى خط مساره الأساسي. بالإضافة إلى الأنابيب الأربعة التي وجدتها في وضع رأسي، وتتبعتها تحت سطح الرمال، كان ثمة عدة مجموعات أخرى من الشظايا كانت المواقع الرئيسية لها قريبة بلا شك. وقد ظهرت جميعًا في منطقة مستوية من الرمال المتحركة بلغت مساحتها ستين ياردة في عشرين ياردة، وتقع بين بعض الكثبان الرملية المرتفعة وعلى مسافة نحو نصف ميل من سلسلة من التلال يبلغ ارتفاعها ٤٠٠ أو ٥٠٠ قدم. أكثر ما يلفت الانتباه، كما يتراءى لي، في هذه الحالة وكذلك في نظيرتها في دريج، وفي حالة أخرى وصفها السيد ريبينتروب في ألمانيا، هو عدد الأنابيب التي توجد في مثل هذه المساحات المحدودة؛ ففي دريج، شوهد ثلاثة منها في منطقة مساحتها خمس عشرة ياردة، والعدد نفسه شوهد في ألمانيا. وفي الحالة التي وصفتها، كان هناك بالتأكيد أكثر من أربعة في مساحة ستين ياردة في عشرين ياردة. ونظرًا لأنه لا يبدو من المحتمل أن هذه الأنابيب ناتجة عن صدمات كهربائية واضحة متتالية، يجب أن نصدق أن البرق، قبيل ضربه للأرض مباشرة، يتشعب إلى فروع متفرقة.