الفصل الرابع
ريو نيجرو – هجوم الهنود على مزارع الماشية – بحيرات الملح – طيور النحام الوردي أو الفلامنجو – من نهر ريو نيجرو إلى نهر كولورادو – الشجرة المقدسة – أرنب بري باتاجوني – عائلات هندية – الجنرال روساس – التوجه إلى باهيا بلانكا – كثبان رملية – الملازم الأسود – باهيا بلانكا – طبقات قشرية ملحية – بونتا ألتا – الظربان.
***
ريو نيجرو إلى باهيا بلانكا
كانت المناطق الريفية بالقرب من مصب النهر مقفرة إلى أقصى درجة؛ ففي الجهة الجنوبية تبدأ سلسلة طويلة من المنحدرات الصخرية الشديدة التحدُّر، والتي تكشف جزءًا من الطبيعة الجغرافية للبلاد. كانت طبقات الأرض مكونة من الحجر الرملي، وكانت هناك طبقة منها مميزة بسبب تكونها من كتلة من حصوات الحجر الإسفنجي ملتصقة معًا بصلابة، لا بد أنها سافرت لأكثر من ٤٠٠ ميل من جبال الأنديز. كان السطح في كل مكان مغطًّى بطبقة سميكة من الحصى تمتد في كل مكان عبر السهل المفتوح. ثمة ندرة شديد للمياه، وحيثما وُجدت، تكون مالحة على نحو شبه دائم. كانت النباتات شحيحة، ورغم وجود شجيرات من أنواع عدة، فإنها جميعًا مغطاة بأشواك مخيفة يبدو أنها ترسل تحذيرًا للغرباء من دخول هذه المناطق الموحشة.
كان الهنود من الأروكانيين من جنوب تشيلي، وكان عددهم بضع مئات ومنظمين للغاية. ظهروا لأول مرة في مجموعتين على تل مجاور، وهناك ترجلوا عن خيولهم وخلعوا عباءاتهم المصنوعة من الفراء وتقدموا للهجوم وهم عراة. كان السلاح الوحيد لدى الهنود هو عصاة طويلة للغاية من الخيزران تسمى تشوزو مزينة بريش نعام وفي مقدمتها رأس رمح حاد. كان محدثي يبدو كما لو كان يتذكر برعب مهول اهتزاز تلك العصي بينما يقترب الهنود. عند اقترابهم، صاح بينشيرا، زعيم القبيلة، في سكان المزارع المحاصرين آمرًا إياهم بالتخلي عن أسلحتهم وإلا ذبحهم جميعًا. وبما أنه من المحتمل أن هذا كان سيحدث على أي حال بعد دخولهم، كان الرد وابلًا من رصاص البنادق. وصل الهنود بعزم شديد إلى سور الحظيرة، لكن كان في انتظارهم مفاجأة؛ إذ وجدوا أن أعمدة السور مثبتة معًا بمسامير حديدية بدلًا من السيور الجلدية، وبالطبع حاولوا قطعها بالسكاكين لكن بلا جدوى. أدى هذا إلى إنقاذ أرواح المسيحيين، وحُمِل العديد من الهنود المصابين بواسطة رفاقهم مبتعدين عن المكان، وفي النهاية، وبعد إصابة أحد مساعدي الزعيم، أُطلِق نفير الانسحاب. فتراجعوا عائدين إلى خيولهم وبدا كما لو كانوا يعقدون مجلس حرب. كان هذا التوقف أمرًا سيئًا بالنسبة إلى الإسبان؛ إذ كانت كل ذخيرتهم قد نفدت إلا من بعض الأعيرة النارية. وفي ثوانٍ، كان الهنود قد اعتلوا صهوة خيولهم وانطلقوا حتى تواروا عن الأنظار. تم صد هجوم آخر على نحو سريع. كان هناك فرنسي رابط الجأش يمسك بالسلاح، فانتظر حتى اقترب الهنود ثم قذف صفوفهم بقنبلة عنقودية مما أدى لوقوع تسع وثلاثين ضحية منهم، وبالطبع سرعان ما أنزلت هذه الضربة بصفوفهم هزيمة منكرة.
في أحد الأيام، ذهبت إلى بحيرة مالحة كبيرة، أو ملاحة، تبعد مسافة خمسة عشر ميلًا عن البلدة. خلال فصل الشتاء، تكون هذه البحيرة عبارة عن بحيرة ضحلة شديدة الملوحة، تتحول في الصيف إلى حقل من الملح الأبيض بلون الثلج. يبلغ سُمك طبقة الأرض القريبة من حافة البحيرة من أربع إلى خمس بوصات، ولكن هذا السمك يزداد كلما اتجهنا إلى المركز. كان طول البحيرة يبلغ ميلين ونصفًا وعرضها ميلًا واحدًا. توجد بحيرات أخرى في الجوار تكبرها عدة مرات، ويتألف قعرها من الملح ويتراوح سمكه بين قدمين وثلاث أقدام حتى عندما تغمره المياه في الشتاء. كان وجود إحدى هذه الرقع البيضاء المستوية وسط السهل البني المقفر يمثل مشهدًا رائعًا. تُسحب كمية كبيرة من الملح سنويًّا من البحيرة المالحة، وكانت ثمة أكوام ضخمة يصل وزنها إلى بضع مئات من الأطنان، ترقد على الأرض في انتظار التصدير.
يتكون حدُّ هذه البحيرة من الطين، وتقبع فيه العديد من البلورات الجبسية الضخمة، والتي يبلغ طول بعضها ثلاث بوصات، بينما يتناثر فوق أنحاء السطح بلورات أخرى من كبريتات الصوديوم. كان الجاوتشو يطلقون على الأولى «أبو الملح» وعلى الأخيرة «أم الملح»، ويقولون إن هذه الأملاح التكاثرية دائمًا ما تظهر على حدود البحيرات المالحة عندما تتبخر المياه. كان الطين أسود اللون وذا رائحة نتنة. لم أستطع في البداية تصور السبب وراء هذا، لكن بعد ذلك أدركت أن الزبد الذي تجرفه الرياح على الشاطئ ذو لون أخضر كما لو كان مليئًا بطحالب الكونفيرفا؛ وقد حاولت أن أحمل معي إلى الوطن قدرًا من هذه المادة الخضراء، لكني فشلت بسبب حادثة ما. كانت أجزاء من البحيرة تُرى من مسافة قصيرة وقد بدت مصبوغة بلون مائل إلى الحمرة، وربما يعود هذا إلى وجود بعض الحييوينات النقاعية. كان الطين في مواضع عديدة يقُذف عاليًا بفعل أعداد من نوع معين من الديدان أو الحيوانات الحلقية. كم كان أمرًا مفاجئًا أن يكون هناك مخلوقات قادرة على العيش في مياه شديدة الملوحة وتسبح وسط بلورات من كبريتات الصوديوم والكِلْس! وما الذي يحدث لهذه الديدان عندما يأتي الصيف الطويل ويتحول سطح البحيرة إلى طبقة صلبة من الملح؟
إلى الشمال من نهر نيجرو، بينه وبين الأرض المنطقة المأهولة القريبة من بيونس أيرس، لا يملك الإسبان سوى مستوطنة واحدة فقط صغيرة تأسَّسَت مؤخرًا في باهيا بلانكا. كانت المسافة على خط مستقيم يقود إلى بيونس أيرس تقترب من ٥٠٠ ميل إنجليزي. وبسبب تكرار هجوم القبائل الهندية التي تعتلي صهوة الخيول، والتي دائمًا ما كانت تشغل الجزء الأكبر من هذه المنطقة، مؤخرًا على مزارع الماشية الواقعة على الأطراف، أعدت حكومة بيونس أيرس جيشًا تحت إمرة الجنرال روساس بغرض إبادتهم. كانت القوات في ذلك الوقت معسكرة على ضفتي نهر كولورادو، وهو نهر يقع على مسافة حوالي ثمانين ميلًا شمال نهر ريو نيجرو. عندما غادر الجنرال روساس بيونس أيرس، انطلق في خط مباشر عبر السهول غير المستكشفة، وهكذا ومع خلو الريف من الهنود، ترك الجنرال وراءه مجموعات صغيرة من الجنود ومعهم مجموعة من الخيول (سرايا) على مسافات فاصلة واسعة، حتى يتمكن من البقاء على اتصال مع العاصمة. ولما كان مزمعًا أن تتوجه البيجل إلى باهيا بلانكا، قررتُ مواصلة السير برًّا، وفي النهاية وسَّعت نطاق خطتي لتشمل قطع الطريق كاملًا مرورًا بالسرايا حتى بيونس أيرس.
•••
كان وادي ريو نيجرو، على امتداده العريض، يخرج بالكاد من سهل من الحجر الرملي؛ ففوق ضفته مباشرة التي تقف البلدة فوقها، تبدأ منطقة ريفية مستوية لا يعترضها سوى بعض الوُدْيان والمنخفضات التي لا قيمة لها. كان المشهد في كل مكان يتخذ نفس الهيئة المجدبة؛ تربة جافة مفروشة بالحصباء تدعم أجمات صغيرة من الحشائش البنية الذابلة، وشجيرات قصيرة متناثرة مسلحة بالأشواك.
بعد المرور بأول ينبوع مياه بقليل، قابلنا على مرمى البصر شجرة شهيرة كان الهنود يقدسونها باعتبارها مذبح واليتشو. تقع هذه الشجرة فوق جزء مرتفع من السهل؛ ومِن ثَمَّ يعتبر علامة مميزة على الطريق تظهر من مسافة بعيدة. وما إن رأتها قبيلة من الهنود حتى شرعوا في إظهار تقديسهم لها بصيحات عالية. كانت الشجرة نفسها منخفضة وكثيرة الأفرع وشائكة، وكان قطرها فوق الجذر مباشرة يصل إلى ثلاث أقدام. تقف الشجرة وحيدة منفردة دون أي أشجار مجاورة لها، وكانت بالفعل أول شجرة نراها؛ بعد ذلك، قابلنا أشجارًا من النوع نفسه، لكنها كانت بعيدة عن أن تكون شائعة. ولما كنا في فصل الشتاء، كانت الشجرة مجردة تمامًا من أي أوراق، لكن حل مكانها عدد لا يُحصى من الخيوط تتدلَّى منها قرابين عديدة مثل السيجار والخبز واللحم وقطع من الملابس … إلخ. كان الهنود الفقراء، نظرًا لعدم امتلاكهم أي شيء أفضل، يجذبون خيطًا من عباءاتهم ويربطونه في الشجرة. أما الهنود الأكثر ثراءً، فقد اعتادوا صب المشروبات الروحية ومشروب أوراق البهشية في حفرة معينة وكذلك نفث الدخان لأعلى ظانين أنهم بذلك يقدمون كل الاسترضاء الممكن لواليتشو. وليكتمل المشهد، كانت الشجرة محاطة بالعديد من عظام الخيول البيضاء التي كانت تذبح كقرابين. كان الهنود جميعًا من كل عمر وجنس يقدمون قرابينهم، وبهذا يعتقدون أن خيولهم لن ترهق وأن أحوالهم ستزدهر. قال الجاوتشو الذي أخبرني بهذا أنه في وقت السلام، رأى هذا المشهد، وأنه هو وآخرين اعتادوا الانتظار حتى رحيل الهنود من أجل سرقة القرابين من واليتشو.
يظن الجاوتشو أن الهنود يعتبرون أن الشجرة إله في حد ذاتها، لكن يبدو أن الاحتمال الأرجح أنهم يعتبرونها مذبحًا. ولعل السبب الوحيد الذي يمكنني تصوره لهذا الخيار هو كونها علامة مميزة في مسار خطير. كانت سلسلة جبال لا فينتانا تظهر من مسافة بعيدة جدًّا، وقد أخبرني واحد من الجاوتشو أنه ذات مرة كان ممتطيًا أحد الخيول بصحبة هندي لبضعة أميال شمال ريو كولورادو، عندما بدأ الهندي في إصدار الصيحة العالية نفسها المعتاد إصدارها فور وقوع أعينهم على الشجرة البعيدة، ووضع يده على رأسه ثم أشار في اتجاه سلسلة الجبال. عندما سئل عن سبب هذا، قال الهندي بإسبانية ركيكة: «لقد رأيت الجبال أولًا.»
توقفنا على بُعد حوالي فرسخين بعد تجاوز هذه الشجرة الغريبة لقضاء ليلتنا، وفي هذه اللحظة كان الجاوتشو يراقبون بقرة تعيسة الحظ بعيونهم الحادة البصر كعيون الوشق وبدءوا في مطاردتها فورًا، وفي خلال دقائق عادوا وهم يجرونها بالوَهَق ثم نحروها. كنا في هذا المكان نمتلك العناصر الأربعة الضرورية للحياة في معسكر: مرعى للخيول، وماء (مجرد بركة طينية)، ولحم، وخشب للنيران. كانت معنويات الجاوتشو مرتفعة بسبب وجود كل وسائل الترف هذه، وسرعان ما بدأنا الإجهاز على البقرة المسكينة. كانت هذه هي أول ليلة أقضيها في العراء وكان فراشي هو مُعدات السرج. ثمة متعة كبيرة في الاستقلالية التي تتميز بها حياة الجاوتشو؛ ففي أي لحظة يمكنك إيقاف حصانك لتقول: «سنقضي ليلتنا هنا.» ترك صمت القبور الذي يلف السهل، والكلاب التي تقوم بالحراسة ومجموعات الغجر من الجاوتشو الذين يعدون أسرَّتهم حول النيران؛ في ذهني صورة قوية شديدة الوضوح لهذه الليلة الأولى التي لن أنساها أبدًا.
في اليوم التالي، لم تتغير ملامح الريف عما وصفته آنفًا. كان يسكنه القليل من الطيور أو الحيوانات من أي نوع. وبين الحين والآخر، قد يُشاهَد أيل أو جوناق (اللاما البرية)، لكن يعتبر الأجوتي (الكابياء البتاجوني) أكثر رباعيات الأقدام شيوعًا. يمثل هذا الحيوان بالنسبة إلينا هنا الأرنب البري، غير أنه يختلف عن هذا النوع في عدة أمور أساسية؛ على سبيل المثال يمتلك الأجوتي في قدمه الخلفية ثلاث أصابع فقط. كما أن حجمه يبلغ الضعف تقريبًا؛ إذ يزن ما بين عشرين وخمسة وعشرين رطلًا. يعد الأجوتي صديقًا حقيقيًّا للصحراء؛ إذ يعتبر من السمات العامة للمكان رؤية اثنين أو ثلاثة منه تتواثب سريعًا واحدًا تلو الآخر في خط مستقيم عبر هذه السهول البرية. توجد هذه الحيوانات شمالًا عند جبال تابالجوين (دائرة عرض ٣٧ درجة ٣٠ دقيقة)؛ حيث يصبح السهل فجأة أكثر اخضرارًا ورطوبة، كما تقع حدودها الجنوبية بين بورت ديزاير وسان جوليان؛ حيث لا يوجد أي تغيير في طبيعة الريف.
من الغريب أنه على الرغم من عدم وجود الأجوتي الآن جنوبًا حتى سان جوليان، فإن الكابتن وود في رحلته البحرية عام ١٦٧٠ يتحدث عن وجودها بكثرة هناك. ما السبب الذي يمكن أن يكون قد ساهم في تغيير نطاق وجود حيوان مثل هذا في بلد واسع مهجور نادرًا ما يزوره أحد؟ يبدو كذلك، من خلال العدد الذي اصطاده وود في يوم واحد في بورت ديزار، أنها لا بد كانت أكثر وفرة من الوقت الحاضر. وأينما تعيش حيوانات البيزكاتشا وتصنع جحورها، يستخدمها الأجوتي، لكن عندما لا يوجد البيزكاتشا، كما في باهيا بلانكا، يتولى الأجوتي حفر جحوره بنفسه. الشيء نفسه يحدث مع البومة الصغيرة (المسماة بومة الجحور) التي تسكن البامبا، والتي كثيرًا ما وصفت بأنها تقف كحارس عند فتحات تلك الجحور؛ إذ إنها في منطقة باندا الشرقية، وبسبب غياب البيزكاتشا، تكون مضطرة لحفر مأواها بنفسها.
في صباح اليوم التالي، مع اقترابنا من نهر ريو كولورادو، تغير المنظر المميز للريف؛ حيث عثرنا بعد فترة قصيرة على سهل مغطًّى بالعشب يشبه البامبا بزهوره ونباتات البرسيم الطويلة والبوم الصغير. مررنا كذلك بمستنقع طيني ذي امتداد كبير يجف صيفًا، ويصبح مغطًّى بقشور من أملاح عديدة؛ ومِن ثَمَّ يطلق عليه مستنقعًا للملح الصخري. كان المستنقع مغطًّى بنباتات قصيرة غضَّة ونضرة من نفس نوع النباتات التي تنمو على ساحل البحر. كان عرض نهر كولورادو يصل في المنطقة التي عبرناه منها إلى حوالي ٦٠ ياردة فقط؛ ولكن لا بد أن عرضه يبلغ ضعف هذا الرقم تقريبًا في العموم. كان مساره متعرجًا للغاية إلى حد مرهق، ويتميز بأشجار الصفصاف وأغوار القصب، ويقال إن المسافة في خط مستقيم حتى مصب النهر تصل إلى تسعة فراسخ، لكن عبر المياه تصل إلى خمسة وعشرين فرسخًا. تأخرنا أثناء عبورنا بالقوارب بسبب قُطْعان هائلة من الأفراس كانت تسبح في النهر متتبعة كتيبة من الجنود إلى داخل البلاد. لم أرَ في حياتي مشهدًا أغرب من تلك الرءوس التي كانت بالمئات، كلها موجهة في اتجاه واحد وتظهر آذانها المنتصبة وفتحات أنوفها الواسعة الناخرة بالكاد فوق سطح المياه كقطيع هائل من الحيوانات البرمائية. كان لحم الفرس هو الطعام الوحيد للجنود خلال حملاتهم. وكان هذا يتيح لهم سهولة كبيرة في الحركة؛ إذ إن المسافة التي يمكن قطعها بالخيول عبر السهول مدهشة إلى حد بعيد؛ فقد تأكد لي أن الخيل بدون أي أحمال يمكنه أن يسافر مائة ميل يوميًّا لعدة أيام متتالية.
مكثنا يومين عند نهر كولورادو، ولم يكن لديَّ الكثير لأقوم به؛ إذ كان الريف المحيط عبارة عن مستنقع تغمره مياه النهر في الصيف (شهر ديسمبر)، عندما يذوب الثلج على قمم جبال كورديليرا. كانت تسليتي الأساسية هي مراقبة العائلات الهندية عند قدومها لشراء أغراض بسيطة من المزرعة التي كنا نسكنها. كان من المفترض أن الجنرال روساس لديه حوالي ٦٠٠ حليف هندي. كان الرجال ينتمون لعرق جميل يتميز بطول القامة، لكن بعد ذلك كان من السهل ملاحظة الملامح نفسها لدى الفوجيين غير المتحضرين وقد صارت بشعة من أثر البرد والجوع وقلة التحضُّر.
قسَّم بعض الكُتَّاب، في معرض تعريفهم للأجناس البشرية الرئيسة، هؤلاء الهنود إلى طبقتين، لكن هذا خطأ بالتأكيد. كان هناك بين الفتيات من تستحق أن تعد جميلة. كان شعرهن خشنًا، لكنه أسود ولامع، وكن يصففنه على هيئة جديلتين تتدليان حتى الخصر. كن يتميزن ببشرة حمراء وعيون تشع تألقًا ولمعانًا، بينما كانت سيقانهن وأقدامهن وأذرعهن صغيرة ورائعة، وكانت كواحلهن، وأحيانًا معاصمهن، مزينة بأساور عريضة من الخرز الأزرق. لا يوجد ما هو أكثر إثارة للاهتمام من بعض التجمعات العائلية؛ فغالبًا ما تأتي أم بصحبة ابنة أو ابنتين إلى مزرعتنا على ظهر الحصان نفسه. كانت النساء تمتطي الخيول مثل الرجال لكن مع تثبيت ركبهن في وضع أعلى كثيرًا. ربما تعزى هذه العادة إلى اعتيادهن ركوب الخيول المحملة بالأغراض أثناء السفر. كان من مهام النساء تحميل الخيول وإنزال حمولتها ونصب الخيام للمبيت، باختصار يجب أن يكنَّ مثل زوجات كل من يتسمون بالهمجية وعدم التحضُّر، جواري نافعات. أما الرجال فيقاتلون ويصطادون ويعتنون بالخيول ويصنعون معدات الركوب. إحدى الوظائف المنزلية الرئيسية للنساء هي قرع حجرين معًا حتى يصبحا ذوَيْ شكل دائري بغرض صنع البولاس. يستخدم الهندي هذا السلاح المهم في الإمساك بطريدته، وكذلك جواده الذي يهيم حرًّا عبر السهل. أثناء القتال، تكون أولى محاولاته هي رمي البولاس تجاه جواد الخصم وعندما يتعثر نتيجة السقوط أرضًا يقتله بعصا التشوزو. أما إذا التفت كرات البولاس حول رقبة أو جسم الحيوان فقط، فإنه غالبًا ما يحملها ويبتعد بها وتضيع. ولما كان تحويل الأحجار إلى كرات مستديرة يستغرق يومين من العمل، فإن صناعة كرات البولاس تعد مهنة شائعة للغاية. كانت وجوه العديد من الرجال والنساء ملونة باللون الأحمر، لكني لم أرَ على وجوههم الخطوط العرضية المميزة للهنود الفوجيين. كان مصدر فخرهم الأساسي هو أن يكون كل شيء يمتلكونه مصنوعًا من الفضَّة؛ فقد رأيت زعيم إحدى القبائل وقد صنعت مهاميزه، ورِكَاب أسراجه، ومقبض سكينه ولجامه من الفضة؛ فيما كان الزمام والعذار مصنوعين من أسلاك لا يزيد سمكها عن سمك وتر القوس؛ ولذا فإن رؤية جواد متقد الحماس يتجول تحت سيطرة مثل هذا القيد البسيط منحت ركوب الخيل سمتًا أنيقًا متميزًا.
في أحد أيام الآحاد، جاء الحاكم ليزور مزرعة الماشية في موكب مهيب، وهرع الجنرال روساس في عجالة لاستقباله وسكينه معلق كالعادة إلى حزامه. لمس مساعده ذراعه مذكرًا إياه بالقانون ليلتفت الجنرال بسرعة إلى الحاكم معتذرًا بشدة، وقال إنه يجب أن يُعاقَب بعمود التشهير، وإنه حتى يطلق سراحه من عقابه فلا سلطة له حتى في منزله. بعد مرور وقت قصير، تم إقناع مساعده بفتح عمود التشهير وإطلاق سراحه، لكن ما إن تم هذا حتى التفت إليه الجنرال قائلًا: «أنت الآن خالفت القوانين؛ ولذا يجب أن تحل محلي على عمود التشهير.» كانت مثل هذه الأفعال تسعد الجاوتشو الذين كانوا جميعًا يملكون مفاهيم كبرى خاصة بهم عن المساواة والكرامة.
كان الجنرال روساس كذلك فارسًا مثاليًّا، وكان هذا إنجازًا لا يستهان به في بلد كان ينتخب فيه الجيش — بعد حشده — قائده بواسطة الاختبار الآتي: يُساق قطيع من الخيول غير المروضة إلى حظيرة، ثم يتم إخراجها من بوابة يعلوها قضيب عرضي؛ واتُّفق على أن من سيستطيع القفز فوق هذه العارضة وينزل على ظهر أحد هذه الحيوانات أثناء انطلاقها، ويتمكن ليس فقط من ركوبه بدون سرج أو لجام، بل إعادته إلى باب الحظيرة، يصبح هو القائد. كان الشخص الذي ينجح يُنتَخَب وفقًا لهذا، وبلا شك يكون قائدًا مناسبًا لجيش كهذا. وقد نجح الجنرال روساس في تنفيذ هذا العمل الاستثنائي الفذ.
بهذه الطريقة، وبالتزامه بملابس وعادات الجاوتشو، اكتسب شهرة لا حدود لها في البلاد؛ ومِن ثَمَّ اكتسب قوة استبدادية. فقد أكد لي تاجر إنجليزي أنه في إحدى المرات قتل رجلٌ آخرَ وعند القبض عليه واستجوابه بشأن دافعه للقتل قال: «لقد تحدث عن الجنرال روساس بوقاحة؛ لذا قتلتُه.» بعد أسبوع، أُطلِق سراح القاتل. كان هذا بلا شك تصرفًا صادرًا عن أتباع الجنرال، وليس الجنرال نفسه.
يتميز الجنرال في حديثه بالحماس والتعقل والرصانة الشديدة. كانت رصانته على درجة عالية جدًّا؛ فقد سمعت أحد مهرجيه المجانين (إذ كان يحتفظ باثنين على غرار البارونات القدامى) يروي الواقعة التالية: «في يوم ما أردت سماع مقطوعة موسيقية بعينها؛ لذا ذهبت إلى الجنرال مرتين أو ثلاثًا لأطلب منه السماح لي بذلك، فقال لي: «امض لشأنك، فأنا مشغول.» ذهبت إليه مرة ثانية فقال: «إذا أتيت مجددًا، فسأعاقبك.» عاودت الطلب مرة ثالثة، فضحك. اندفعت خارجًا من الخيمة لكن كان قد فات الأوان؛ فقد أمر اثنين من الجنود بالإمساك بي وتقييدي إلى وتد. توسلت إليه مستحلفًا بكل القديسين أن يتركني لكن بلا جدوى، فعندما يضحك الجنرال، لا يصفح عن أي شخص سواء كان مجنونًا أم عاقلًا.» كان الرجل المسكين الأرعن يبدو حزينًا للغاية بسبب ذكرى ربطه إلى الوتد. فتلك عقوبة قاسية للغاية؛ حيث يُغرَس أربعة أعمدة في الأرض وتربط أطراف الرجل فيها بشكل أفقي ويُترَك لساعات على هذا النحو. كانت هذه العقوبة مستمدة بوضوح من الطريقة المعتادة لتجفيف الجلود. حتى مقابلتي الشخصية معه انتهت دون أي ابتسامة، وحصلت على جواز سفر وأمر باستخدام خيول البريد الحكومية، وقد منحني هذا بكل جود وطيب خاطر.
في الصباح، انطلقنا إلى باهيا بلانكا ووصلنا إلى هناك خلال يومين. بعد تركنا المعسكر النظامي مررنا بأكواخ الهنود. كانت مستديرة مثل الأفران ومغطاة بالجلود، وعند مدخل كل منها يوجد رمح مدبب (تشوزو) مغروس في الأرض. كانت الأكواخ مقسمة إلى مجموعات متفرقة تنتمي إلى القبائل المختلفة التابعة للزعماء، كما كانت المجموعات نفسها تُقسَّم إلى مجموعات أصغر وفقًا لصلات القرابة بين مالكيها. ارتحلنا لعدة أميال بمحاذاة وادي كولورادو. كانت السهول الرسوبية على الجوانب تبدو خصبة، ومن المفترض أنها ملائمة تمامًا لنمو الذرة.
بعد الابتعاد عن النهر متجهين شمالًا، لم يمر وقت طويل حتى دخلنا منطقة ريفية تختلف أراضيها عن السهول الواقعة جنوب النهر. كانت الأرض ما زالت جافة ومقفرة، لكن كان ينمو فيها العديد من أنواع النباتات، ورغم أن الحشائش كانت بنية وذابلة، فقد كانت أكثر وفرة، بينما كانت الشجيرات الشائكة أقل وفرة. وقد اختفت هذه الأخيرة تمامًا بعد مسافة صغيرة، تاركة السهول عارية بدون أي أجمات تغطيها. وهذا التغير في الحياة النباتية في المنطقة يشير إلى بداية حدود الراسب الطيني الكِلْسي العظيم الذي يشكل المدى الواسع للسهول المعشوشبة، ويغطي الصخور الجرانيتية في باندا الشرقية. بداية من مضيق ماجلان وحتى وادي كولورادو، وهي مسافة تصل إلى حوالي ٨٠٠ ميل، يتألف سطح المنطقة في كل مكان من الحصباء؛ والذي تتكون حباته في الأساس من الرخام السُّماقي، ومن المحتمل أن أصلها يعود إلى صخور الجبال. يقل سمك هذه الطبقة الحصوية كلما اتجهنا إلى شمال الوادي، وتصبح حبات الحصى صغيرة إلى أقصى حد، لينتهي هنا الغطاء الأخضر المميز لباتاجونيا.
بعد السير بالخيول لمسافة خمسة وعشرين ميلًا، بلغنا حزامًا عريضًا من الكثبان الرملية يمتد على مدى البصر شرقًا وغربًا. ترتكز التلال الرملية على أرض طينية، مما يسمح لبرك صغيرة من المياه بالتجمع ومِن ثَمَّ توفر للأراضي الريفية الجافة مصدرًا لا يقدر بثمن للمياه العذبة. أما الميزة الكبرى لوجود منخفضات ومرتفعات في التربة فغالبًا ما تغيب عن الأذهان. فقد تشكل الينبوعان البائسان الواقعان في المسار الطويل بين ريو نيجرو وكولورادو عن تفاوتات بسيطة في أرض السهل، ولولاهما لما وُجِدت نقطة مياه واحدة. ويصل عرض حزام الكثبان الرملية إلى ثمانية أميال، وفي زمن سابق، من المحتمل أنه كان يشكِّل حافة مصب عظيم حيث يتدفق نهر كولورادو الآن. في هذه المنطقة، حيث توجد أدلة واضحة على الارتفاع الحديث الذي حدث في الأرض، لا يمكن تجاهل هذه التخمينات، رغم أن الأمر لا يتطلب سوى مجرد التأمل في الجغرافيا الطبيعية للمنطقة. بعد عبورنا الأراضي الرملية، وصلنا مساءً إلى أحد السرايا، وبينما كانت الخيول النشطة ترعى على مسافة منا، عزمنا على قضاء تلك الليلة هنا.
كان المنزل يقع عند قاعدة نتوء جبلي على ارتفاع بين ١٠٠ و٢٠٠ قدم، وكانت هذه سمة لافتة للانتباه للغاية في هذه المنطقة. كان القائم على هذه السرية ملازمًا أسود وُلِد في أفريقيا، ومما يُحسَب له أنه لم تكن ثمة مزرعة بين كولورادو وبيونس أيرس بنفس التنظيم الذي كانت عليه مزرعته. كان لديه غرفة صغيرة لاستضافة الغرباء، وحظيرة صغيرة للخيول وكلتاهما مصنوعة من العصي وأعواد البوص، كما كان قد حفر خندقًا حول منزله كحصن دفاعي حال تعرضه لهجوم. غير أن هذا الخندق لم يكن ليجدي كثيرًا إذا ما أتى الهنود، لكن السبب الرئيسي للطمأنينة كان يكمن في ظنه أنه يقدم حياته بثمن غالٍ. منذ فترة، كانت مجموعة من الهنود تسافر ليلًا؛ لو كانوا يدرون بوجود سرية، لكان ذلك الملازم الأسود وجنوده الأربعة قد ذُبحوا بكل تأكيد. لم أقابل في أي مكان رجلًا أكثر تحضرًا وجودًا من هذا الزنجي؛ ولذا كان من المؤلم جدًّا أن أدرك أنه لن يجلس ويتناول الطعام معنا.
في الصباح، أرسلنا في طلب الخيول مبكرًا جدًّا، وانطلقنا في رحلة أخرى مثيرة. مررنا بكابيزا ديل بوي، وهو اسم قديم أُطلِق على قمة أرض مستنقعية كبيرة تمتد ابتداء من باهيا بلانكا، وهناك قمنا بتبديل الخيول ومررنا ببعض المستنقعات والسبخات الملحية التي تمتد لبضعة فراسخ. استبدلنا الخيول لآخر مرة، وبدأنا الخوض في الطين مرة أخرى. وقع الحصان الذي كنت أركبه وغصت تمامًا في مستنقع طيني أسود وهو حادث مؤسف تمامًا لمن لا يملك ملابس احتياطية. بعد الحصن ببضعة أميال، قابلنا رجلًا أخبرنا بأنه سمع دوي مدفع ضخم وهي علامة على اقتراب الهنود. تركنا الطريق فورًا وتتبعنا حافة أحد الأراضي السبخية، والتي توفر أفضل سبيل للهروب عند تعقبها. كنا سعداء عندما وصلنا وصرنا داخل الأسوار واكتشفنا أن الإنذار كان كاذبًا واتضح أن الهنود مسالمون ويودون الانضمام إلى قوات الجنرال روساس.
تستحق باهيا بلانكا بالكاد أن يُطلَق عليها اسم قرية. فثمة القليل من المنازل بها وثُكنَات للقوات محاطة بخندق عميق وسور محصن. تعتبر المستعمرة حديثة (منذ عام ١٨٢٨)، وكان توسعها بمنزلة معضلة. فقد استولت حكومة بيونس أيرس عليها بالقوة بغير وجه حق، بدلًا من اتباع النموذج الحكيم لنواب الملك الإسبان الذين اشتروا الأراضي القريبة من المستعمرة القديمة في ريو نيجرو من الهنود. وهذا هو سبب الحاجة إلى تحصينات وقلة البيوت والأراضي المزروعة خارج حدود الأسوار، حتى إن الماشية ليست في مأمن من هجمات الهنود فيما وراء حدود السهل الذي يقع عليه الحصن.
كان الجزء من الميناء الذي تنوي البيجل الرسو فيه يبعد مسافة خمسة وعشرين ميلًا؛ لذا حصلت على خيول ودليل من قائد الحصن لأذهب وأرى إذا ما كانت قد وصلت بالفعل. بعد أن تركنا السهل المعشوشب الذي امتد بمحاذاة مسار غدير صغير، سرعان ما دخلنا أرضًا جدباء مستوية واسعة تتكون إما من الرمال، أو المستنقعات الملحية، أو الطين. كانت بعض الأجزاء مكسوة بشجيرات قصيرة وأخرى مغطاة بتلك النباتات العصارية الكثيفة الأوراق التي تزدهر فقط عند توافر الملح بكثرة. ورغم سوء هذه الأراضي في هذه المنطقة، كانت طيور النعام والأيائل وحيوانات الأجوتي والمدرع تتوافر بأعداد كبيرة. أخبرني دليلي أنه قبل شهرين نجا بحياته بأعجوبة؛ إذ كان يصطاد بصحبة رجلين آخرين في مكان لا يبعد كثيرًا عن هذا المكان حين قابلوا فجأة مجموعة من الهنود الذين طاردوهم ولحقوا بهم وقتلوا رفيقَيه. كما أمسكت البولاس بسيقان حصانه، لكنه قفز وحررها بسكينه، وفي أثناء ذلك اضطر للدوران حول حصانه مراوغًا، لكنه تلقى إصابتين بليغتين من رماحهم المدببة. بعد أن قفز على السرج، نجح بعد مجهود من أروع ما يكون في تجاوز رماح مطارديه الطويلة، الذين تبعوه حتى أصبح الحصن على مرأى البصر. منذ ذلك الوقت، صدر أمرٌ بألَّا يبتعد أي شخص عن المستعمرة بمسافة كبيرة. لم أكن أعلم هذا عندما بدأت التحرك، واندهشت حين لاحظت كيف يراقب دليلي باهتمام شديد أُيلًا كان يبدو عليه الخوف من مسافة بعيدة.
وجدنا أن سفينة البيجل لم تصل بعد؛ ومِن ثَمَّ بدأنا رحلة العودة، لكن الخيول سرعان ما أرهقت واضطررنا إلى العسكرة مؤقتًا على السهل. وفي الصباح، أمسكنا بحيوان من حيوانات المدرع الذي على الرغم من كونه يعتبر طبقًا شهيًّا للغاية عندما يُشوَى في صدفته، فإنه لم يوفر إفطارًا وعشاءً حقيقيين لرجلين جائعين. كانت الأرض في المكان الذي توقفنا لمبيت ليلتنا مغطاة بطبقة من كبريتات الصوديوم؛ لذا كانت بالطبع لا تحتوي على أي مياه. ومع ذلك، تمكن العديد من القوارض الأصغر حجمًا من العيش حتى هنا، وكان التوكو توكو يصدر نخرته الضئيلة الغريبة تحت رأسي في جوف الليل. كانت خيولنا هزيلة للغاية، وحل بها الإرهاق سريعًا في الصباح جراء عدم تناولها لأي شراب؛ لذا اضطررنا للمشي على الأقدام. عند الظهيرة تقريبًا، قتلت الكلاب جديًا قمنا بشيِّه، وتناولت جزءًا منه، لكن لحمه أصابني بظمأ لا يحتمل. ومما زاد الأمر سوءًا تلك البرك الصغيرة من المياه النقية التي ملأت الطريق جراء أمطار حديثة، لكن لم تكن هناك قطرة واحدة منها تصلح للشرب. نادرًا ما يمر عليَّ عشرون ساعة دون شرب أي مياه، ورغم أننا أمضينا جزءًا فقط من الوقت تحت الشمس، لكن العطش جعلني في هزال شديد. لا يمكنني أن أتخيل كيف يظل الناس أحياء بعد يومين أو ثلاثة تحت ظروف مشابهة؛ وفي الوقت نفسه، يجب أن أعترف أن مرشدي لم يعانِ مطلقًا، واندهشت من أن يومًا واحدًا من الحرمان من المياه يمكن أن يكون مرهقًا لي إلى هذه الدرجة.
تتكون هذه الملاحات فوق أراضٍ مستوية ترتفع بضع أقدام فقط فوق سطح البحر أو في أراضٍ طينية تتاخم الأنهار. وجد السيد بارشاب أن القشرة الملحية فوق أرض السهل، على مسافة بضعة أميال من البحر، تتكوَّن بالأساس من كبريتات الصوديوم، بينما يشكل الملح الشائع نسبة سبعة بالمائة فقط منها، بينما زادت نسبة الملح الشائع إلى ٣٧ جزءًا من المائة كلما اقتربنا من البحر. من الممكن أن يدعو هذا المرء للاعتقاد أن كبريتات الصوديوم تتكوَّن في التربة بسبب حامض المورياتيك الذي ترسب على السطح أثناء الارتفاع البطيء والحديث في هذه الأراضي الجافة. كانت الظاهرة بأكملها تستحق انتباه علماء الطبيعة عن جدارة. هل تملك النباتات العصارية المحبة للملح والمعروف عنها احتواؤها على الكثير من الصوديوم، القدرة على تحليل حامض المورياتيك؟ هل الطين الأسود المتعفن الزاخر بالمواد العضوية ينتج الكبريت ومِن ثَمَّ حمض الكبريتيك؟
بعد مرور يومين، ذهبت مجددًا إلى الميناء، وعلى مسافة قريبة من وجهتنا، لمح رفيقي، وهو نفس الرجل السابق، ثلاثة أشخاص يمارسون الصيد على ظهور الخيول. فترجل من فوره من فوق حصانه وقال وهو يراقبهم بتركيز واهتمام: «إنهم لا يركبون الخيول كالمسيحيين، ولا يمكن لأي شخص أن يغادر الحصن.» انضم الصيادون الثلاثة إلى مجموعة وترجلوا بالمثل من فوق خيولهم. همَّ واحد منهم في النهاية بركوب حصانه مرة أخرى وصعد التل مختفيًا عن الأنظار. قال رفيقي: «يجب أن نمتطي خيولنا الآن. قم بحشو مسدسك.» ثم نظر إلى سيفه. سألته: «هل هم هنود؟» رد قائلًا: «من يدري؟ إذا لم يكونوا أكثر من ثلاثة، لا يوجد ما يدل على هذا.» خطر لي حينها أن الرجل الذي صعد التل ذهب ليحضر بقية قبيلته. أفصحت عن هذا، لكن كانت الإجابة التي تلقيتها هي «من يدري؟» لم يتوقف رأسه وعينه لحظة عن مسح الأفق البعيد ببطء. ظننت أن هدوءه غير المعتاد لا يمكن أن يكون إلا دعابة، وسألته لماذا لم يعد إلى الحصن. أجفلت عندما رد قائلًا: «نحن نعود، لكن في مسار يجعلنا نسير بالقرب من مستنقع يمكننا عبوره عدوًا بالخيول إلى أقصى مسافة يمكن قطعها، ثم نعتمد على أرجلنا حتى لا نتعرض لأي خطر.» لم أشعر بالثقة الكاملة فيما يقول، وأردت إسراع خطانا. قال: «لا، ليس قبل أن يسرعوا هم.» عندما كنا نختفي وراء أي بروز وعر في الأرض، كنا نسرع بالخيول، لكن عندما نكون في مرمى البصر، كنا نواصل السير. في النهاية، وصلنا إلى وادٍ، وبالتفاتنا يسارًا، أسرعنا بالخيول إلى سفح تل، وناولني حصانه لأمسكه وجعل الكلاب تبطح أرضًا ثم زحف على يديه وركبتيه ليقوم بالاستطلاع. وبقي على وضعه هذا لبعض الوقت، وفي النهاية، انفجر في الضحك متعجبًا: «نساء!» تعرَّف إليهما على أنهما زوجة ابن القائد وزوجة أخيه تصيدان بيض النعام.
لقد وصفتُ سلوك هذا الرجل؛ لأنه كان يتصرف تحت تأثير الانطباع الكامل أنهما من الهنود. على الرغم من ذلك، وبمجرد أن اتضح خطؤه السخيف هذا، سرد لي مائة سبب يجعل من غير الممكن أن تكونا هنديتين، لكن كل هذا نُسيَ آنذاك. واصلنا السير بالخيول في سلام وهدوء إلى نقطة منخفضة تسمى بونتا ألتا؛ حيث استطعنا رؤية ميناء باهيا بلانكا الكبير بأكمله تقريبًا.
كان الامتداد الواسع للمياه يختنق بفعل العديد من التراكمات الطينية الضخمة يسميها السكان «حفر السلطعون» بسبب أعداد السلطعون الصغيرة المتوفرة بها. يتسم الطين بنعومة شديدة لدرجة يستحيل معها المشي عليه حتى لأقصر المسافات. كانت أسطح العديد من التراكمات مغطاة بنباتات الأسل الطويلة التي ترى قممها فقط عند ارتفاع مستوى المياه. في إحدى المرات، عندما كنا في قارب، كنا عالقين بشدة في هذه الأراضي الضحلة حتى إننا بالكاد وجدنا طريقنا خلالها. لم يكن هناك ما هو مرئي سوى قيعان مستوية من الطين، ولم يكن النهار صحوًا للدرجة، وكان ثمة الكثير من انكسار الأشعة أو كما يعبر عنها البحارة «أشياء تلوح عاليًا». الشيء الوحيد المستوي الذي كان في مجال رؤيتنا هو الأفق؛ حيث بدت نباتات الأسل مثل شجيرات تحوم في الهواء وبدت التراكمات الطينية كالمياه بينما بدت المياه كتراكمات طينية.
قضينا الليلة في بونتا ألتا، وشغلت نفسي بالبحث عن عظام الأحفوريات؛ إذ كانت هذه المنطقة تعتبر مقبرة مثالية للوحوش المنقرضة. كان المساء صحوًا وهادئًا تمامًا، وساهمت الرتابة الشديدة للمشهد في إكسابه صفة إثارة حتى في وجود التراكمات الطينية والنوارس والنسور المنعزلة والتلال الرملية. أثناء عودتنا صباحًا، عثرنا على أثر حديث للغاية لأسد جبلي لكننا لم ننجح في العثور عليه. ورأينا كذلك بعضًا من حيوانات الظَّرِبان، وهي حيوانات ذات رائحة نتنة شائعة للغاية. يشبه الظَّرِبان في شكله العام حيوان ابن عرس، لكنه أكبر في الحجم نوعًا ما وأكثر سمكًا بكثير. نظرًا لإدراكه لقوته، يطوف نهارًا في السهل المفتوح ولا يخاف إنسانًا أو كلبًا. وإذا حاول كلب الهجوم عليه، تكبح شجاعته فورًا بضع قطرات من زيت ذي رائحة نتنة يصدر من الظَّرِبان ويصيب بغثيان قوي وسيلان بالأنف. وإذا تلوث به شيء ما، يصبح غير ذي نفع للأبد. يقول أزارا إنه يمكن شم رائحته النتنة على بعد فرسخ؛ وفي أكثر من مرة، عند دخول ميناء مونتفيديو، حيث تهب الريح من اتجاه الشاطئ، شممنا الرائحة على متن البيجل. من المؤكد أن أي حيوان يفسح الطريق طوعًا للظَّرِبان.