الفصل الخامس
باهيا بلانكا – جيولوجيا – العديد من رباعيات الأقدام العملاقة – انقراض حديث – طول عمر الأنواع – حيوانات ضخمة لا تحتاج لنباتات وافرة النماء – جنوب أفريقيا – حفريات سيبيرية – نوعان من النعام – سلوكيات طائر الفران – حيوانات المدرع – ثعبان سام، وعُلْجُوم، وسحلية – البيات الشتوي للحيوانات – سلوك أقلام البحر – حروب ومذابح هندية – رأس رمح – تذكار أثري.
***
باهيا بلانكا
وصلت البيجل هنا في ٢٤ أغسطس، وأبحرت بعد ذلك بأسبوع إلى لابلاتا. وبناء على موافقة من الكابتن فيتزروي، تركوني لأسافر برًّا إلى بيونس أيرس. سأضيف هنا بعض الملاحظات التي وضعتها خلال هذه الزيارة وفي مرة سابقة حين كانت البيجل تقوم بمسح الميناء.
كان السهل الواقع على بعد بضعة أميال من الساحل ينتمي إلى التكوين البامبيني (نسبة إلى سهول البامبا) العظيم الذي يتكون في جزء منه من طين مائل إلى الحمرة وفي جزء آخر من طين جيري (حجر مرلي) يحتوي على نسبة عالية من الكِلْس. بالاقتراب أكثر من الساحل هناك بعض السهول تشكَّلت من بقايا السهل الأعلى ومن الطين والحصى والرمال التي لفظها البحر خلال الارتفاع البطيء للأرض الذي لدينا دلائل تشير إليه في قيعان مرتفعة من القواقع الحديثة وفي حصوات دائرية من الحجر الخفاف متناثرة في جميع أنحاء المنطقة. في بونتا ألتا، كان لدينا جزء من تلك السهول الصغيرة التي تشكلت لاحقًا وكانت مثيرة للاهتمام إلى حد كبير جراء العدد والسمة الاستثنائية لبقايا الحيوانات الأرضية العملاقة المدفونة فيها. وقد وصف البروفيسور أوين هذه البقايا وصفًا وافيًا في كتاب «علم الحيوان في رحلة البيجل» وهي مودعة في كلية الجراحين. وسأقدم هنا ملخصًا موجزًا لطبيعتها.
في البداية: ثمة أجزاء من ثلاثة رءوس وعظام أخرى لحيوان البهضم (أو الميجاثيريوم) الذي يعبِّر اسمه عن أبعاده الضخمة. ثانيًا: حيوان الميجالونيكس (الكسلان الأرضي العملاق) وينتمي إلى نوع قريب للأول. ثالثًا: حيوان السكاليدوثيريوم الذي ينتمي كذلك لنفس النوع، والذي حصلت له على هيكل شبه كامل. لا بد أنه كان ضخمًا في حجم الكركدن، أما في تكوين الرأس، وفقًا للسيد أوين، فإنه أقرب ما يكون إلى الخنزير شفاط النمل، لكنه في جوانب أخرى يميل أكثر إلى المدرع. رابعًا: الميلودون الدارويني وهو من رتبة قريبة إلى حد بعيد لكنه أصغر حجمًا قليلًا. خامسًا: حيوان ضخم آخر رباعي الأقدام من عديمات الأسنان. سادسًا: حيوان ضخم مغطًّى بطبقةٍ خارجية عظمية تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ الغطاء العظمي للمدرع. سابعًا: نوع منقرض من الخيول الذي سأعود إليه مجددًا. ثامنًا: سن لحيوان من ذوات الجلد السميك، وربما نفس الأمر مع حيوان الماكروتشينيا، وهو حيوان عملاق طويل العنق مثل الجمل سأشير له لاحقًا أيضًا. وأخيرًا: حيوان التوكسودون الذي قد يكون أحد أغرب الحيوانات التي اكتُشفت على الإطلاق؛ إذ يضاهي في حجمه الفيل أو البهضم، لكن تركيب أسنانه، كما يقول السيد أوين، كان يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه وثيق الصلة بالقوارض، وهي الرتبة التي تضم في الوقت الحاضر أصغر رباعيات الأقدام؛ وفي كثير من التفاصيل، يقترب من الحيوانات السميكة الجلد، ومن موضع عينيه وأذنيه ومنخاريه، من المحتمل أنه كان حيوانًا مائيًّا مثل الأطوم أو خروف البحر اللذين يرتبط بهما بصلة قرابة كذلك. ما أروع أن تمتزج رتب الحيوانات المختلفة — المتفرقة في الوقت الحاضر — معًا في نقاطٍ مختلفةٍ من تكوين التوكسودون!
كانت القيعان، التي تتضمن البقايا الأحفورية المذكورة آنفًا، تعلو منسوب المياه المرتفعة أو المد ما بين خمس عشرة إلى عشرين قدمًا؛ وبناء عليه فإن ارتفاع الأرض كان قليلًا (باستبعاد فترة دخيلة من الانخفاض ليس لدينا دليل عليها) منذ أن كانت رباعيات الأقدام العملاقة تعيش في السهول المحيطة، ولا بد أن السمات الخارجية للريف آنذاك كانت مقاربة إلى حد كبير للوضع الحالي. قد يكون بديهيًّا التساؤل عن طبيعة وشكل الغطاء النباتي في ذلك الوقت، وهل كان الريف شديد الجَدْب كما هو عليه الآن؟ بما أن العديد من القواقع المطمرة معًا هي نفسها التي تعيش الآن في الخليج، كنتُ أميل في البداية إلى الاعتقاد بأن الغطاء النباتي السابق ربما كان مماثلًا للحالي، لكن هذا كان سيصبح استنتاجًا خاطئًا؛ لأن بعضًا من هذه القواقع نفسها تعيش على ساحل البرازيل الوارف، وبصفة عامة، لا تجدي طبائع وسمات الحيوانات التي تسكن البحر كمرشد للحكم على طبائع الحيوانات التي تعيش على اليابسة. ومع ذلك، وبناء على الاعتبارات التالية، لا أعتقد أن الحقيقة البسيطة القائلة إن العديد من رباعيات الأقدام العملاقة قد عاشت في السهول المحيطة بباهيا بلانكا تعتبر بأي حال دليلًا مؤكدًا على أنها كانت مغطاة في الماضي بغطاء نباتات وارف، وليس لديَّ أدنى شك أن الريف المقفر إلى الجنوب قليلًا بالقرب من نهر ريو نيجرو بأشجاره الشائكة المتناثرة كان يمكنه أن يوفر مأوًى للعيش للعديد من رباعيات الأقدام الضخمة.
ثمة افتراض عام تناقلته الكتب بأن هذه الحيوانات الضخمة تتطلب غطاءً نباتيًّا وافرًا، لكني لا أجد غضاضة في قول إنه افتراض غير حقيقي تمامًا، وأنه أفسد تفكير الجيولوجيين فيما يخص بعض النقاط ذات الأهمية الكبرى في تاريخ العالم القديم. ربما اشتق هذا الحكم المسبق من الهند والجزر الهندية حيث ترتبط قطعان الأفيال والغابات المهيبة والأدغال العصية على الاختراق بعضها ببعض في أذهان الجميع. ومع ذلك، إذا عدنا إلى أي كتب عن الأسفار عبر الأجزاء الجنوبية من أفريقيا، سنجد إشارات في كل صفحة تقريبًا إما إلى الطابع الصحراوي للمنطقة أو إلى أعداد الحيوانات الضخمة التي تسكنها. الشيء نفسه يتضح من خلال العديد من النقوش التي نُشرت للعديد من المناطق الداخلية بالبلاد. عندما كانت البيجل راسية في كيب تاون، ذهبت في رحلة قصيرة لبضعة أيام إلى داخل البلاد والتي كانت كافية على الأقل لجعل ما قرأته واضحًا تمامًا.
بجانب هذه الحيوانات الضخمة، فإن كل شخص لا يمتلك معرفة كبيرة بتاريخ كيب تاون الطبيعي قرأ عن قطعان الظبي الوحشي التي لا يمكن مقارنتها إلا بأسراب الطيور المهاجرة. كانت أعداد الأسود والفهود والضباع والعدد الوافر من الطيور الجارحة تدلل بوضوح على مدى وفرة رباعيات الأقدام الأصغر حجمًا؛ فذات مساء، رُصِدت سبعة أسود تجول خلسة حول معسكر د. سميث في نفس الوقت. وكما أخبرني هذا العالم القدير في الطبيعيات، لا بد أن المذابح اليومية في جنوب أفريقيا كلَّ يومٍ مروعةٌ حقًّا! أعترف أن الأمر مفاجئ لي حقًّا؛ فكيف لهذا العدد من الحيوانات أن يجد ما يكفي لإعالته في بلد ينتج هذا القدر القليل جدًّا من الغذاء. لا شك أن رباعيات الأقدام الأكبر حجمًا تجول عبر مناطق أكبر بحثًا عن الطعام، الذي يتكون في الأساس من الشجيرات التي تنمو تحت الشجر الكبير والتي ربما تحتوي على الكثير من العناصر الغذائية المتوفرة بكميات صغيرة. أخبرني د. سميث كذلك أن الغطاء النباتي ينمو بسرعة، فما يلبث أن يُؤكَل جزء منه حتى يُستَبدل به آخر جديد. ومع ذلك، لا يمكن أن يكون ثمة شك في أن أفكارنا المتعلقة بالكم الظاهري من الغذاء اللازم لإعاشة رباعيات الأقدام الضخمة هي أفكار مبالغ فيها إلى حد بعيد؛ يجب أن نتذكر أن الجمل، وهو حيوان ليس بالحجم المتوسط، دائمًا ما كان يعتبر رمز الصحراء.
أما بالنسبة إلى عدد رباعيات الأقدام الضخمة، فلا يوجد بالتأكيد أي جزء من العالم يمكن أن يدخل في مقارنة مع جنوب أفريقيا. وبعد التصريحات المختلفة التي قدمت، لن يكون ثمة جدل بشأن الطابع الشديد الجَدْب لتلك المنطقة. أما في القسم الأوروبي من العالم، فيجب أن نعود إلى عهود العصر الثالث الجيولوجي لاستيضاح حالة الأمور بين الثدييات والتي تشبه الموجودة الآن في رأس الرجاء الصالح. يمكن بالكاد لتلك العهود الثلاثة، والتي نميل لاعتبارها حقبًا زاخرة إلى درجة مدهشة بالحيوانات الضخمة؛ كوننا نجد بقايا العديد من العصور متراكمة في مواضع محددة، التفاخر بامتلائها برباعيات أقدام ضخمة أكثر مما يمتلئ بها جنوب أفريقيا في الحاضر. إذا تأملنا حالة النباتات خلال هذه العهود، فإننا ملزمون حتى الآن على الأقل بالنظر للتشابهات الحالية حتى لا نتعجل في الجزم على نحو مطلق بضرورة وجود غطاء نباتي وافر عندما نرى أن الوضع في رأس الرجاء الصالح مختلف تمامًا.
وإذا كان لي أن أضيف شيئًا، فإن هذه الملاحظات ترتبط ارتباطًا مباشرًا بحالة الحيوانات المحفوظة في الجليد في سيبيريا. لقد كان الاعتقاد الراسخ بضرورة أن يمتلك الغطاء النباتي سمة الوفرة الاستوائية لإعاشة مثل هذه الحيوانات الضخمة، واستحالة توافق هذا مع احتمالية التجمد الدائم، سببًا رئيسًا لظهور النظريات العديدة الخاصة بالانقلابات المفاجئة للمناخ والكوارث العظمى، والتي وضعت لتفسير طمر هذه الحيوانات. أنا أبعد ما يكون عن افتراض أن المناخ لم يتغير منذ ذلك الوقت الذي عاشت فيه هذه الحيوانات والتي تقبع الآن راقدة تحت الثلج. حاليًّا أريد فقط أن أوضح أنه فيما يخص «كمية» الغذاء «فقط»، فإن حيوانات الكركدن القديمة ربما كانت تجول عبر «سهوب» سيبيريا الوسطى الواسعة الجرداء (مع احتمال وجود الأجزاء الشمالية منها تحت المياه) حتى في وضعها الحالي، وكذلك الأفيال وأفراد الكركدن الحية التي تعيش في جنوب أفريقيا.
عندما كنا في ريو نيجرو شمال باتاجونيا، سمعت مرارًا الجاوتشو يتحدثون عن نوع نادر جدًّا من الطيور يسمى الريا الصغرى (ريا ريشي). كانوا يصفونه بأنه أقل حجمًا من النعامة الشائعة (المتوفرة بكثرة هناك) لكنه شديد الشبه بها في العموم. كانوا يقولون إن لونه داكن ومرقش، وسيقانه أقصر ومكسوة بالريش لموضع أكثر انخفاضًا من سيقان النعام الشائع، كما يسهل صيده بالبولاس أكثر من الأنواع الأخرى. وأكد السكان القليلون الذين رأوا كلا النوعين أنهم استطاعوا التمييز بينهما من مسافة كبيرة. غير أن بيض النوع الأصغر كان معروفًا أكثر وكان يتميَّز، وهو الأمر المدهش، بأنه أصغر حجمًا بكثير من بيض طائر الريا، لكنه ذو شكل مختلف قليلًا وبه مسحة من اللون الأزرق الباهت. يندر ظهور هذه الفصيلة في السهول المتاخمة لريو نيجرو، لكن من المحتمل توافره بكثرة إذا اتجهنا جنوبًا بمقدار درجة ونصف. عندما كنا في بورت ديزاير في باتاجونيا (عند دائرة عرض ٤٨ درجة)، أطلق السيد مارتينز النار على نعامة ونظرت إليها، ناسيًا في تلك اللحظة، على نحو لا يمكن تفسيره مطلقًا، أمر الريا الصغرى وظننت أنه طائر لم يكتمل نموه من النعام الشائع. طُبِخ الطائر وأُكِل قبل أن تعود لي ذاكرتي. ولحسن الحظ، احتُفظ بالرأس والرقبة والسيقان والأجنحة وكثير من الريش الكبير الحجم وجزء كبير من الجلد، ومن هذه العناصر تم تجميع عينة شبه كاملة منه، تُعرَض الآن في متحف جمعية علم الحيوان. وفي معرض وصف السيد جولد لهذا النوع الجديد، منحني شرف أن سماه على اسمي.
ثمة طائر صغير غريب للغاية يشيع وجوده هنا، وهو تينوكورس روميسيفيروس أو خوذية الشواطئ الأصغر؛ ويشترك في سماته، على اختلافها، ومظهره العام مع السمان والشنقب. يوجد الخوذية في جميع أنحاء الجزء الجنوبي من أمريكا الجنوبية حيثما وُجِدت سهول مجدبة أو مراعٍ مفتوحة جافة. يتردد هذا الطائر على أكثر الأماكن المقفرة المهجورة في أزواج أو أسراب صغيرة، حيث يندر وجود أي كائن حي آخر. عند الاقتراب منه، يجثم على الأرض بقوة بحيث يصعب تمييزه عن الأرض على نحو بالغ. وعندما يعمد إلى تناول الطعام، يمشي ببطء مباعدًا بين ساقيه. يعفر الخوذية نفسه بالغبار في الطرق والأماكن الرملية، ويتردد على مواضع بعينها يمكن العثور عليه فيها يومًا بعد آخر، ويطير في أسراب على غرار طائر الحَجَل. في كل هذه الأمور، وكذلك فيما يتعلق بالقانصة العضلية المهيأة للغذاء النباتي، والمنقار المقوس وفتحتي الأنف اللحميتين، والسيقان القصيرة وشكل القدم، يتشابه طائر الخوذية مع السمان إلى حد كبير، لكن بمجرد أن يُشاهد وهو يطير، فإن شكله يتغير بالكامل؛ فالأجنحة الطويلة المدببة التي تختلف تمامًا عن أجنحة الطيور في رتبة الدجاجيات، وأسلوب الطيران غير المنتظم، والصيحة النائحة التي تصدر لحظة البدء في الطيران تستدعي للأذهان طائر الشنقب. وقد دعاه صيادو البيجل بالإجماع الشنقب القصير المنقار. ويُظهر هيكله العظمي أنه ذو صلة قرابة حقًّا بهذه الرتبة، أو بالأحرى فصيلة الطيور الخوَّاضة.
يرتبط طائر الخوذية بقرابة وثيقة ببعض طيور أمريكا الجنوبية الأخرى. ثمة نوعان من فصيلة طائر الحقم يشبهان طائر الترمجان في كل عاداته تقريبًا؛ أحدهما يعيش في أرض النار فوق حدود الأراضي الحَرَجيَّة، والآخر تحت خط الثلج مباشرة في السلسلة الجبلية في وسط تشيلي. ثمة طائر آخر ينتمي إلى نوع ذي صلة قرابة كبيرة به هو مغمد المنقار الثلجي، والذي يعيش في المناطق القطبية الجنوبية ويتغذى على طحالب البحر والقواقع الموجودة على صخور المد والجزر. ورغم أنه ليس مكفَّف القدم، فإنه نتيجة لسلوك لا تفسير له، كثيرًا ما يُشاهد في عرض البحر. وهذه العائلة الصغيرة من الطيور هي إحدى تلك العائلات التي من خلال علاقاتها المتنوعة بالعائلات الأخرى، رغم أن ذلك لا يجلب حاليًّا سوى الصعوبات لعالِم الطبيعيات المنهجي، ربما تساعد في النهاية في كشف المخطط الكبير الشائع في الأزمان السابقة والحاضرة الذي خُلِقَت على أساسه الكائنات المتعضية.
تضم رتبة الفرناريات العديد من الأنواع، كلها من الطيور الصغيرة الحجم التي تعيش على اليابسة وتسكن الأراضي الجافة المفتوحة. لا يمكن مقارنة تكوينها بأي طائر أوروبي. وقد أدرجها علماء الطيور عامة ضمن عائلة الطيور المتسلقة رغم أنها تختلف عنها في كل عاداتها. يعتبر أشهر أنواع طائر الفرَّان الشائع في لابلاتا، أو الكاسارا، أو صانع المنزل كما يسميه الإسبان. يقع عشه الذي استمد منه اسمه في أكثر المواقع المكشوفة، كأن يكون فوق عمود أو صخرة عارية أو نبات صبار. يتكون العش من طين وأعواد من القش، وله جدران سميكة قوية ويشبه الفرن تمامًا أو خلية نحل منخفضة، وفتحته كبيرة ومقوَّسة، وتقع في الأمام مباشرة، وبداخل العش يوجد فاصل يكاد يصل إلى السقف، ليشكل بذلك ممرًّا أو حجرة انتظار تؤدي إلى العش الحقيقي.
ثمة نوع آخر من الفرناريات أصغر حجمًا (وهو الفران الوجاري) يشبه الطائر الفرَّان في المسحة الحمراء العامة التي تغطي ريشه وصرخته الغريبة المتكررة وفي أسلوبه الغريب في الركض باستخدام الوثبات. ونظرًا للتشابه، فإن الإسبان يسمونه كاساريتا (أو صانع المنزل الصغير) رغم أن طريقته في بناء الأعشاش مختلفة تمامًا. يبني صانع المنزل الصغير عشه في قاع حفرة أسطوانية ضيقة، يُقال إنها تمتد أفقيًّا إلى حوالي ست أقدام تحت الأرض. أخبرني العديد من سكان المنطقة أنهم عندما كانوا صبية، كانوا يحاولون اقتلاع هذه الأعشاش من تحت الأرض، لكن نادرًا ما كانوا ينجحون في الوصول إلى نهاية الحفرة. يتخير الطائر أي ضفة منخفضة ذات تربة رملية متماسكة بجانب طريق أو مجرى مائي. هنا (في باهيا بلانكا) تكون الجدران المحيطة بالمنازل مبنية من طين مقسى، ولاحظت أن أحدها، والذي كان يحيط بباحة منزل كنت أقيم به، كان مثقوبًا بفتحات دائرية في عدة أماكن. عند سؤال مالك المنزل عن السبب، اشتكى شكوى مريرة من طيور الكاساريتا الصغيرة التي لاحظتها فيما بعد وهي تقوم بعملها. كان من المثير لي نوعًا ما أن أكتشف أن هذه الطيور لا بد أنها غير قادرة على إدراك أي فكرة عن مدى سماكة الحائط؛ فعلى الرغم من أنها كانت دائمًا ما ترفرف فوق الحائط المنخفض، فقد استمرت في محاولة ثقبه عبثًا؛ ظنًّا منها أنه يمثل ضفة ممتازة لحمل أعشاشها. لا أشك في أن كل طائر، حينما يبلغ ضوء النهار المشرق في الجانب المقابل، كان يفاجَأ بهذه الحقيقة المذهلة.
لقد ذكرت بالفعل أن كل الثدييات تقريبًا يشيع وجودها في هذه المنطقة. فثمة ثلاثة أنواع من المدرع، وهي المدرع البيشي، أو المدرع القزم، والمدرع المشعر الكبير، والمدرع الجنوبي الثلاثي الأحزمة. يمتد نطاق وجود الأول إلى عشر درجات إلى الجنوب أكثر من أي نوع آخر، وثمة نوع رابع وهو مدرع ييبس والذي لا يصل نطاق وجوده إلى الجنوب حتى باهيا بلانكا. تشترك هذه الأنواع الأربعة في عادات شبه متماثلة؛ غير أن المدرع المشعر الكبير ينشط ليلًا، بينما تتجول الأنواع الأخرى نهارًا في السهول المفتوحة، حيث تتغذى على الخنافس واليرقات والجذور وحتى الثعابين الصغيرة. ويتميز المدرع الجنوبي الثلاثي الأحزمة، المعروف باسم ماتاكو، بأن لديه ثلاث طبقات قابلة للتحرك تغطي جسده بينما بقية درعه المضلع شبه صلب، ويمتلك القدرة على تكوير نفسه في شكل دائرة كاملة، مثل أحد أنواع قمل الخشب الإنجليزي، وفي هذه الحالة يكون في مأمن من هجمات الكلاب؛ إذ لا يستطيع الكلب وضعه بالكامل في فمه، فيحاول قضم أحد جانبيه ما يجعل الكرة تتدحرج بعيدًا. يتيح الغطاء القاسي الأملس لمدرع الماتاكو آلية دفاعية أفضل من الأشواك الحادة التي تغطي القنفذ. أما المدرع البيشي فيفضل التربة الجافة تمامًا، وتعتبر الكثبان الرملية القريبة من الساحل، التي تظل شهورًا بلا قطرة ماء، هي ملاذه المفضل. وغالبًا ما يحاول ألَّا يلاحظه أحد بالجثوم بشدة على الأرض؛ فقد كنا نصادف العديد منها عادة بالقرب من باهيا بلانكا خلال مسيرة يوم، وبمجرد رؤية أحدها، كان من الضروري للإمساك به النزول من فوق الحصان؛ لأنه كان يحفر الرمال الناعمة بسرعة؛ حتى إن أطرافه الخلفية تكاد تختفي بالكامل قبل أن يترجل الراكب. يبدو مؤسفًا قتل مثل هذه الحيوانات الصغيرة اللطيفة؛ فهي كما قال عنها أحد رعاة الجاوتشو بينما يسن سكينه على ظهر أحدها: «هادئة جدًّا.»
يوجد أنواع عديدة من الزواحف؛ فهناك أفعى (تسمى تريجونوسيفالوس أو الكوفياس، والتي أطلق عليها السيد بيبرون، فيما بعد، الحية المثلثية الرأس) التي يبيِّن حجم قناة السم في أنيابها أنها مميتة حتمًا. وخلافًا لبعض علماء الطبيعة الآخرين، يصنفها كوفييه جنسًا فرعيًّا من الأفعى المجلجلة، وتقع في مرتبة وسطى بينها وبين الأفعى الخبيثة. وتأكيدًا لهذا الرأي، فقد لاحظت حقيقة تبدو لي مثيرة للاهتمام وتثقيفية بشكل كبير؛ إذ توضح كيف أن كل سمة، حتى لو كانت من المحتمل أن تكون مستقلة عن التكوين الجسماني بدرجة ما، تميل للاختلاف بدرجات بطيئة. فذيل هذه الأفعى ينتهي بطرف هو عبارة عن رأس متضخم على نحو طفيف للغاية، وحين ينسل الحيوان يهتز الجزء الأخير من ذيله على نحو متواصل، وعندما يصطدم هذا الجزء بالعشب الجاف والأغصان المقطوعة، يُصدر صوت خشخشة يمكن سماعه بوضوح من مسافة ست أقدام. وكلما كان يتعرض الحيوان للمضايقة أو المفاجأة، اهتز الذيل بذبذبات سريعة جدًّا. حتى عندما كان الجسم يحتفظ بتهيجه، ظل هناك نزعة واضحة للقيام بهذه الحركة المألوفة؛ لذا فإن أفعى التريجونوسيفالوس لها نفس تكوين الأفعى الخبيثة في بعض الجوانب، وعادات الأفعى المجلجلة؛ غير أن الصوت يصدر بواسطة آلية أبسط. كان تعبير وجه هذه الأفعى شرسًا وبشعًا، وكان بؤبؤ العين يتكون من شق طولي في قزحية مرقشة ونحاسية اللون، وكان فكاها عريضين عند القاعدة بينما ينتهي الأنف بنتوء مثلثي الشكل. لا أظن أني رأيت من قبل شكلًا أقبح من هذا، عدا بعض الخفافيش المصاصة الدماء. أظن أن هذا الشكل المنفر نابع من وجود ملامح الوجه في مواضع متناسبة نوعًا ما، بعضها بالنسبة إلى بعض، مع ملامح الوجه البشري؛ ومِن ثَمَّ فنحن لنا نصيب من البشاعة.
أما بين الزواحف البرمائية، فلم أجد سوى عُلْجومًا صغيرًا (الفرينيسكوس الأسود) الذي كان مميزًا إلى أقصى حد بسبب لونه. إذا تخيلنا للوهلة الأولى أنه غُمِر في أكثر أنواع الحبر قتامة ثم عندما جف الحبر، سُمِح له بالزحف فوق لوح مطل حديثًا بأزهى درجات اللون القرمزي حتى اصطبغ به باطن قدميه وجزء من بطنه، سنكتسب حينها فكرة جيدة عن لونه. لو لم يكن له اسم، لكان يجب تسميته «الشيطان» بالتأكيد؛ لأنه يصلح لإلقاء المواعظ على أسماع حواء. وبدلًا من أن يكون حيوانًا ليليًّا، مثل غيره من العلاجيم، ويعيش في تجاويف خفية رطبة، فهو يزحف نهارًا في حرارة الشمس عبر التلال الرملية الجافة والسهول المجدبة حيث لا توجد نقطة واحدة من المياه. لا بد أنه يعتمد بالضرورة على قطرات الندى من أجل الرطوبة، والتي ربما يمتصها الجلد لأنه من المعروف أن هذه الزواحف تمتلك قوى امتصاص جلدية هائلة. في مالدونادو، وجدت علجومًا مماثلًا في مكان بمثل جفاف باهيا بلانكا تقريبًا، وفكرت في أن أمنحه هدية كبرى حيث حملته إلى بركة مياه، لكن الحيوان الصغير لم يكن فقط غير قادر على السباحة، بل أظن أنه لولا المساعدة، لكان قد غرق عاجلًا.
خلال إقامتي في باهيا بلانكا، أثناء انتظاري لسفينة البيجل، كان المكان في حالة اضطراب دائم بسبب شائعات الحروب والانتصارات بين قوات الجنرال روساس والهنود البربريين. في أحد الأيام، جاء خبر بأن مجموعة صغيرة في أحد السرايا على الطريق إلى بيونس أيرس وُجِد جميع أفرادها قتلى. وفي اليوم التالي وصل ٣٠٠ رجل من كولورادو تحت قيادة القائد ميراندا. كان جزء كبير من هؤلاء الرجال هنودًا (من المانسو) ينتمون إلى قبيلة الزعيم بيرنانتيو. قضوا الليل هنا وكان من المستحيل رؤية أي شيء أكثر وحشية وبربرية من منظرهم في معسكرهم المؤقت؛ فقد ظل بعضهم يشربون حتى ثملوا، بينما راح آخرون يزدردون الدم الحار للماشية التي ذُبِحَت من أجل العشاء، وبعد ذلك، وبسبب إصابتهم بالغثيان بسبب السُّكر، لفظوه مرة أخرى، وصاروا ملوثين بالوسخ والدم.
في الصباح، انطلقوا نحو مسرح حادثة القتل، وكان لديهم أوامر بتتبع الأثر حتى لو قادهم إلى تشيلي. بعد ذلك سمعنا أن الهنود المتوحشين هربوا إلى سهول البامبا الكبرى ولسبب ما فُقِد الأثر. إن نظرة واحدة للأثر من شأنها أن تخبر هؤلاء الناس بقصة كاملة. على افتراض أنهم فحصوا أثر ١٠٠٠ حصان، سرعان ما سيخمنون عدد الخيول الممتطاة بإحصاء كم منها كان يسير خبَبًا؛ وإذا ما كانت محملة بالبضائع أم لا من خلال عمق آثار أقدامها؛ وإلى أي مدى هي مرهقة من خلال عدم انتظام الخطوات؛ وإذا ما كان المُطارَدون قد سافروا في عجالة أم لا من خلال أسلوب طهي الطعام؛ وكم مر من الوقت منذ عبورهم من خلال الشكل العام. وهم يعتبرون أن أثرًا يرجع إلى عشرة أيام أو أسبوعين هو أثر حديث نسبيًّا بما يكفي لاقتفائه. سمعنا كذلك أن ميراندا قد هجم من الطرف الغربي لسلسلة جبال فينتانا في خط مستقيم نحو جزيرة كولتشيل الواقعة على مسافة سبعين فرسخًا شمال أعالي ريو نيجرو، ما يعني مسافة بين ٢٠٠ و٣٠٠ ميل عبر منطقة مجهولة تمامًا. أي قوات أخرى في العالم تتمتع بالاستقلالية لهذا الحد؟ باتخاذ الشمس دليلًا لهم، ولحم الأمهار طعامًا، وقماش السروج أسِرَّة، فما دامت المياه شحيحة، كان هؤلاء الرجال مستعدون للذهاب إلى نهاية العالم.
بعد بضعة أيام، رأيت مجموعة أخرى من هؤلاء الجنود الذين يشبهون قطاع الطرق ينطلقون في حملة ضد قبيلة من الهنود في البحيرات الملحية الصغيرة، وشى بهم زعيم قبيلة مأسور. كان الإسباني الذي جاء بالأوامر بإطلاق الحملة رجلًا غاية في الذكاء. وقد حكى لي عن الاشتباك الأخير الذي حضره. كان بعض الهنود الذين كانوا في السجن قد أدلوا بمعلومات عن قبيلة تعيش شمال كولورادو. فأُرسِل مائتا جندي واستطاعوا في البداية اكتشاف موضع الهنود عن طريق سحابة ترابية خلَّفتها خيول الهنود؛ إذ تصادف أنهم كانوا مسافرين. كانت المنطقة ذات طبيعة جبلية وعرة ومقفرة، ولا بد أنها كانت تقع على مسافة كبيرة نحو الداخل؛ إذ كانت سلسلة الجبال في مرمى البصر. كان عدد الهنود، رجالًا ونساءً وأطفالًا نحو ١١٠، وقد وقعوا جميعهم تقريبًا بين أسير وقتيل؛ إذ كان الجنود يطعنون أي رجل بالسيف. كان الهنود آنذاك في هلع؛ حتى إنهم لم يُبدوا أي مقاومة جماعية، بل فر كل فرد وحده تاركًا حتى زوجته وأولاده، لكن عندما يُحاصرون، فهم يقاتلون أي عدد من الأعداء حتى الرمق الأخير بشراسة تضاهي الحيوانات الضارية. فقد أمسك أحد الهنود المحتضرين إبهام خصمه بأسنانه وفضَّل أن تقتلع عينه عن تخفيف قبضة أسنانه. ثمة هندي آخر جريح تظاهر بالموت بينما يخبئ سكينًا استعدادًا لتسديد ضربة أخرى قاتلة. وقد أخبرني مرشدي أنه أثناء مطاردته لأحد الهنود، توسل إليه الأخير طالبًا الرحمة بينما راح في الوقت نفسه يفك البولاس من خصره سرًّا معتزمًا تدويرها حول رأسه ومِن ثَمَّ مهاجمة مطارده. وأضاف: «ولكني طرحته أرضًا بسيفي ثم ترجلت من فوق حصاني وذبحته بسكيني.» كانت صورة قاتمة، لكن ما هو أشنع بكثير من ذلك هو الحقيقة التي لا تقبل الشك، أن كل النساء اللاتي يبدو أنهن يتجاوزن العشرين قد قُتِلن بدم بارد! عندما تعجبت من أن هذا يبدو تصرفًا غير إنساني، رد قائلًا: «ما الذي يمكن فعله؟ إنهم يتناسلون بكثرة!»
إن الجميع هنا مقتنعون أنهم يخوضون الحرب الأكثر عدالة لأنها ضد همجٍ متوحشين. من يصدق أن مثل هذه الفظاعات الوحشية يمكن أن تُرتكَب في بلد مسيحي متحضر؟ لا يتعرض أطفال الهنود للقتل لكي يُباعوا أو يُمنَحوا كعبيد، أو بالأصح كعبيد لأطول فترة يمكن لسادتهم خلالها أن يقنعوهم بأنهم عبيدٌ، لكني أعتقد أن معاملتهم كخدم لا تثير الكثير من الشكوى.
أثناء المعركة هرب أربعة رجال معًا، ولكنهم تعرضوا للمطاردة وقُتِل أحدهم بينما أُسِر الثلاثة المتبقُّون أحياءً. واتضح أنهم رسل أو سفراء من طرف مجموعة أكبر من الهنود اتحدوا معًا من أجل قضية الدفاع المشتركة بالقرب من سلسلة الجبال. كانت القبيلة التي أُرسلوا إليها على وشك عقد مجلس عظيم وأُعدت وليمة من لحم الأمهار جاهزة، وأُعدت العدة للرقص، وكان من المفترض أن يعود الرُّسُل إلى الجبال في الصباح. كانوا رجالًا أنيقين على نحو لافت للنظر، وكانوا في غاية الوسامة، يتجاوز طولهم الست أقدام وكانوا جميعًا دون الثلاثين. بالطبع كان الناجون الثلاثة يملكون معلومات قيِّمة جدًّا ولانتزاعها منهم وُضِعوا في صف. عند استجواب أول اثنين منهم، أجابا قائلين: «لا أدري.» وأُعدما رميًا بالرصاص واحدًا تلو الآخر. وقال الثالث كذلك: «لا أدري.» لكنه أضاف: «أطلِق النار. أنا رجل ويمكنني أن أموت!» لم يتفوهوا بأي كلمة من شأنها أن تضر بقضية بلادهم المشتركة! كان سلوك زعيم القبيلة المذكور آنفًا مختلفًا تمامًا؛ فقد أنقذ حياته بالإفصاح عن الخطة المزمعة للحرب ونقطة التجمع الموجودة في جبال الأنديز. كان الاعتقاد أن هناك بالفعل ٦٠٠ أو ٧٠٠ من الهنود متجمعين، وأن أعدادهم تتضاعف في الصيف. كان من المزمع إرسال السفراء إلى الهنود في البحيرات الملحية الصغيرة بالقرب من باهيا بلانكا التي سبق أن ذكرتُ أن نفس الزعيم قد فضح سرهم؛ لذا فإن التواصل بين الهنود يمتد من سلسلة الجبال إلى ساحل الأطلنطي.
كانت خطة الجنرال روساس هي قتل كل الشاردين عن الجمع ودفع البقية إلى نقطة مشتركة ليهاجمهم كجماعة واحدة في الصيف بمساعدة التشيليين، على أن تتكرر هذه العملية لثلاث سنوات متتالية. أظن أن اختيار الصيف موعدًا للهجوم الرئيسي جاء لأن السهول تكون حينذاك بلا مياه، ولا يستطيع الهنود إلا السفر في اتجاهات محددة. وفي هذا الصدد مُنع هروب الهنود إلى جنوب نهر ريو نيجرو، حيث يمكنهم أن يكونوا بأمان في منطقة شاسعة مجهولة، بمقتضى اتفاقية مع شعب التيشوليتشي، ويدفع لهم روساس الكثير لذبح أي هندي يمر إلى جنوب النهر، لكن إذا فشلوا في القيام بهذا، يتعرضون هم أنفسهم للقتل. إن الحرب قائمة بالأساس ضد الهنود الموجودين بالقرب من سلسلة الجبال؛ إذ إن العديد من قبائل الهنود في هذا الجانب الشرقي يحاربون مع روساس. غير أن الجنرال، على غرار اللورد تشسترفيلد، يظن أن أصدقاءه ربما يصبحون أعداءه يومًا ما في المستقبل؛ ولذا دائمًا ما يضعهم في الصفوف الأولى لعل أعدادهم تقل. منذ رحيلنا من أمريكا الجنوبية سمعنا أن حرب الإبادة هذه قد فشلت فشلًا ذريعًا.
سمعت كذلك عن قصة لاشتباك حدث في كولتشيل قبل بضعة أسابيع من الاشتباك المذكور. كان هذا المكان محطة غاية في الأهمية كونها نقطة مرور للخيول؛ ومِن ثَمَّ كانت لبعض الوقت المقر الرئيسي لكتيبة من الجيش. عندما وصلت القوات لأول مرة، وجدوا قبيلة من الهنود قُتل منها عشرون أو ثلاثون فردًا، بينما فر زعيم القبيلة هاربًا على نحوٍ أدهش الجميع؛ فقد كان زعماء الهنود دائمًا ما يكون لديهم حصان أو اثنان مختاران يحتفظون بهما لأي حدث طارئ. امتطى الزعيم أحد هذين الحصانين وكان حصانًا أبيض عجوزًا مصطحبًا معه ابنه الصغير. لم يكن للحصان سرج أو لجام. ولتجنب طلقات النار، ركب الهندي الجواد بطريقة غريبة تميِّز قومه؛ إذ وضع إحدى ذراعيه حول عنق الحصان وساقًا واحدة على ظهره. وبذلك كان الهندي معلقًا بجانب واحد من الحصان وشوهد وهو يربت على رأس الحصان ويتحدث إليه. بذل المُطارِدون كل جهد ممكن في المطاردة؛ حتى إن القائد استبدل حصانه ثلاث مرات، لكن كل هذا ذهب سدًى. ونجح الأب الهندي العجوز وابنه في الهرب وصارا حرين. يا لها من صورة رائعة تلك التي يستدعيها هذا إلى العقل؛ الجسد العاري البرونزي للرجل العجوز وابنه الصغير يمتطيان الحصان الأبيض مثل مازيبا تاركين وراءهما حشد مطارديهم على مسافة بعيدة!