من باهيا بلانكا إلى بيونس أيرس
«٨ سبتمبر»، استأجرت أحد أفراد الجاوتشو ليرافقني في رحلتي إلى بيونس
أيرس، وإن تم ذلك بصعوبة؛ لخشية والد أحدهم من تركه، بينما كان هناك آخر بدا مستعدًّا
للذهاب، لكنه وُصِف لي بأنه في غاية الجبن حتى إني خفت أن أصحبه معي؛ إذ قيل لي إنه حتى
لو رأى نعامة على بعد، فسيظنها هنديًّا وسيهرب بسرعة الريح. تبلغ المسافة حتى بيونس
أيرس حوالي ٤٠٠ ميل والطريق كله تقريبًا يمر في منطقة غير مأهولة. بدأنا التحرك في وقت
مبكر من الصباح بصعود بضع مئات من الأقدام من حوض الأرض العشبية الخضراء التي تقف عليها
باهيا بلانكا ثم الدخول إلى سهل واسع مقفر، يتكون من صخرة طينية كلسية مفتتة، والتي
كانت بسبب طبيعة المناخ الجاف لا تحوي سوى تجمعات متفرقة من الحشائش الذابلة بدون شجيرة
أو شجرة واحد لكسر الوحدة الرتيبة للمشهد. كان الطقس لطيفًا لكن الجو العام كان
ضبابيًّا بدرجة ملحوظة؛ حتى إنني ظننت أن المنظر ينذر بعاصفة، لكن الجاوتشو أخبروني أن
هذا يرجع إلى اشتعال السهل على مسافة بعيدة إلى الداخل. بعد فترة طويلة من العدو
بالخيول، والتي استبدلناها مرتين، وصلنا إلى ريو سوسيه؛ وهو عبارة عن مجرًى مائي صغير
وعميق وسريع لا يزيد عرضه عن ٢٥ قدمًا. كانت السرية الثانية في الطريق إلى بيونس أيرس
تقع على ضفاف هذا المجرى وفوقها بقليل يوجد معبرًا ضحلًا للخيول، حيث لا تصل المياه إلى
بطونها، لكن مساره من تلك النقطة في اتجاه البحر، لا يمكن عبوره تمامًا ما يجعله حاجزًا
مفيدًا جدًّا ضد الهنود.
بقدر ما كان هذا المجرى المائي عديم الأهمية، فإن الراهب اليسوعي جون فالكونر، الذي
عادة ما تكون معلوماته على قدر عظيم من الصحة، يعتبره نهرًا كبيرًا ينبع من سفح الجبال.
لا أشك في أن هذا صحيح بالنسبة إلى مصدره؛ إذ أكد لي الجاوتشو أنه في منتصف الصيف
الجاف، يفيض هذا المجرى دوريًّا بالتزامن مع نهر كولورادو، وهو ما لا يمكن أن ينشأ إلا
نتيجة ذوبان الجليد في جبال الأنديز. فمن غير المحتمل تمامًا أن مجرى مائيًّا صغيرًا
كما كان ريو سوسيه حينها يمكن أن يخترق عرض القارة بأكملها؛ والواقع أنه لو كان حقًّا
راسبًا لنهر كبير، لكانت مياهه مالحة، كما في حالات أخرى مؤكدة خلال الشتاء، يجب أن
نلتفت إلى الينابيع حول جبال فينتانا كمصدر لمياهه النقية الصافية. أشك أن سهول
باتاجونيا، مثل تلك التي في أستراليا، يشقها العديد من المجاري المائية التي تقوم
بأدوارها المفترضة فقط في فترات زمنية محددة. ربما يكون هذا هو الحال بالنسبة إلى
المياه التي تتدفق عند رأس ميناء بورت ديزاير، وكذلك في نهر ريو شوبات الذي وُجِدت على
ضفتَيه صخور من الطفف البركاني (سكوريا) عالي المسامية بواسطة المسئولين الذين استُعين
بهم في مسح المنطقة.
بوصولنا في وقت مبكر بعد الظهر، حصلنا على خيول نشيطة وجنديٍّ للعمل مرشدًا لنا،
وبدأنا التحرك نحو جبال فينتانا. كان هذا الجبل ظاهرًا من مرسى باهيا بلانكا، ويقدر
الكابتن فيتزروي أن ارتفاعه ٣٣٤٠ قدمًا، وهو ارتفاع كبير للغاية في هذا الجانب الشرقي
من القارة. ولا أعلم أي شخص أجنبي ارتقى هذا الجبل قبل مجيئي، والواقع أن قلة قليلة من
الجنود في باهيا بلانكا هم من كانوا يعرفون أي شيء بشأنه. وهكذا سمعنا عن قيعان الفحم
والذهب والفضة والكهوف والغابات، وأثار كل هذا فضولي ليخيب أملي بعد ذلك. كانت المسافة
من السرية حوالي ستة فراسخ عبر سهل مستوٍ بنفس سمات السهل السابق. ومع ذلك، كانت رحلة
مثيرة؛ إذ بدأ شكل الجبل الحقيقي في الظهور. عندما وصلنا إلى سفح القمة الجبلية
الرئيسة، وجدنا صعوبة كبيرة في العثور على أي ماء، وظننا أننا سنضطر لقضاء الليل بدون
أي مياه. في النهاية عثرنا على بعض المياه بالبحث بالقرب من الجبل؛ لأنه حتى على مسافة
تصل إلى بضع مئات من الياردات كانت النهيرات المائية مدفونة وضائعة تمامًا وسط الأحجار
الكِلْسية الهشة وحطام الصخور المفكك. لا أظن أنه سبق أن أنتجت الطبيعة مثل هذه الكومة
المقفرة والمنعزلة من الصخور؛ فهي تستحق الاسم الذي أطلق عليها وهو «هورتادو» أو
المنعزل. كان الجبل منحدرًا ووعرًا إلى أقصى حد ومتكسرًا وخاليًا تمامًا من الأشجار،
وحتى الشجيرات، حتى إننا لم نستطع فعليًّا صنع سيخ لنمدد عليه اللحم فوق نيران سويقات
النباتات الشوكية.
١ ثمة تباين بين هذه السيماء الغريبة للجبل يتضح من مقارنته بالسهل الشبيه
بالبحر والذي لا يتاخم فقط جوانبه المنحدرة بل كذلك يفصل بين سلاسل الجبال المتوازية.
كانت وحدة الألوان تمنح المشهد سكونًا شديدًا؛ فاللون الرمادي المائل إلى البياض لصخور
الكوارتز واللون البني الفاتح لحشائش السهل الذابلة لا يخفف منهما أي مسحة لونية أكثر
سطوعًا. وبحكم العادة يتوقع المرء أن يرى بجوار جبل شاهق وشديد التحدُّر أرضًا متكسرة
تتناثر فيها شظايا ضخمة من الصخور. هنا ترينا الطبيعة أن الحركة الأخيرة قبل تحول قاع
البحر إلى أرض جافة أحيانًا ما تكون حركة هادئة. في ظل هذه الظروف، انتابني الفضول
لمعرفة على أي مسافة من الصخرة الأم يمكنني العثور على أي حصوات. على سواحل باهيا
بلانكا وبالقرب من المستعمرة، كان ثمة بعض أحجار الكوارتز التي جاءت بالتأكيد من هذا
المصدر والمسافة بينهما تبلغ خمسة وأربعين ميلًا.
كانت قطرات الندى، التي بللت أقمشة سروج الخيول التي كنا ننام عليها في بداية الليل،
قد تجمدت في الصباح. ورغم أن السهل كان يبدو أفقيًّا، فقد كان يتجه لأعلى على نحو غير
ملموس إلى ارتفاع يصل لما بين ٨٠٠ و٩٠٠ قدم فوق سطح البحر. في الصباح (التاسع من
سبتمبر) أخبرني الدليل بأن نصعد أقرب نتوء جبلي والذي كان يظن أنه سيقودني إلى القمم
الأربع التي تتوج أعلى الجبل. كان تسلق مثل هذه الصخور الوعرة أمرًا مرهقًا للغاية؛ إذ
كانت الجوانب مسننة إلى حد كبير؛ حتى إن ما كنا نقطعه في أول خمس دقائق كان غالبًا ما
يضيع في الخمس الدقائق التالية. أخيرًا، عندما وصلت إلى النتوء، انتابني إحباط شديد
عندما وجدت واديًا شديد التحدُّر بعمق السهل كان يقطع سلسلة الجبال بشكل مستعرض إلى
سلسلتين وحال بيني وبين القمم الأربع. كان هذا الوادي ضيِّقًا جدًّا، لكنه مسطح القاع
ويشكل ممرًّا رائعًا لعبور الهنود بالخيول؛ إذ يصل بين السهول في الجانبين الشمالي
والجنوبي من سلسلة الجبال. بعد نزولي إلى الوادي وأثناء اجتيازه، رأيت حصانين يرعيان؛
وسرعان ما اختبأت بين الحشائش الطويلة وبدأت الاستطلاع، لكني عندما لم أستطع رؤية أي
أثر لهنود، شرعت بحذر في صعودي الثاني. كان الوقت متأخرًا من الصباح وكان هذا الجزء من
الجبل، مثل الآخر، منحدرًا ووعرًا. بلغت أعلى القمة الثانية في تمام الثانية لكني وصلت
بصعوبة شديدة؛ فكنت أصاب بتقلص في عضلات أعلى الفخذين كل عشرين ياردة؛ لذا كنت أخشى
ألَّا أستطيع النزول مرة أخرى. كان من الضروري كذلك العودة من طريق آخر؛ إذ كان من
المستحيل العبور فوق صهوة الفرس؛ لذا كنتُ مضطرًّا للتخلي عن الصعود إلى القمتين الأكثر
ارتفاعًا. كان ارتفاعهما أعلى بقليل، وكان كل غرض جيولوجي لي قد استُوفي؛ لذا لم يكن
الأمر يستحق المزيد من المخاطرة. أظن أن سبب التقلص العضلي هو التغير الكبير في نوعية
الحركة العضلية التي بذلَتْها ساقاي، من ركوب الخيول الشاق إلى التسلق الأكثر مشقة. إنه
درس يستحق التذكر؛ إذ إنه في بعض الحالات قد يتسبب في الكثير من الصعوبات.
ذكرت بالفعل أن الجبل يتكون من صخور كوارتز بيضاء مع قليل من الإردواز الطيني اللامع.
على ارتفاع بضع مئات من الأقدام فوق مستوى السهل، توجد رقع من تكتلات مختلطة متكورة
ملتصقة في مواضع عديدة بالصخر الصلب. كانت تلك التكتلات تشبه في صلابتها، وفي طبيعة
اللِّصَاق الذي يربطها معًا، التكتلات التي يمكن رؤيتها تتشكل يوميًّا على بعض السواحل.
لا أشك في أن هذه الحصوات قد تجمعت معًا بالطريقة نفسها في حقبة زمنية كان يترسب فيها
التكوين الكِلْسي العظيم تحت البحر. ربما يمكننا الاعتقاد بأن الأشكال المسننة والمحطمة
من الكوارتز الصلب تبين آثار أمواج محيط مفتوح.
كنت محبطًا من هذا الصعود بشكل عام. حتى المشهد من أعلى كان بلا قيمة؛ فقد كان سهلًا
مثل البحر لكن بدون ألوانه الجميلة وحدوده الكفافية الواضحة. على الرغم من ذلك، كان هذا
المشهد غير مألوف وبه شيء من الخطورة، كالملح على اللحم، يمنحه نكهة شهية. كان من
المؤكد أن الخطر كان محدودًا للغاية؛ إذ أشعل رفيقاي النار وهو شيء لا يحدث أبدًا إذا
ما كان ثمة شك في أن الهنود قريبون. وصلت إلى مكان المعسكر مع غروب الشمس، وشربت الكثير
من شراب أوراق البهشية ودخنت العديد من السجائر ولم يمر وقت طويل حتى أعددت سريري
للنوم. كانت الرياح قوية جدًّا وباردة لكني لم أنم بمثل هذه الراحة من قبل.
•••
«١٠ سبتمبر»، في الصباح، وبعد انطلاقنا بسرعة نسبيًّا بفعل العاصفة، وصلنا إلى سرية
سوسيه في منتصف اليوم. في الطريق رأينا أعدادًا ضخمة من الأيائل وواحدًا من حيوانات
الجوناق بالقرب من الجبل. كان السهل المتاخم للجبل يقطعه عرضيًّا بعض الأخاديد المثيرة
للاهتمام، كان عرض أحدها حوالي ٢٠ قدمًا وعمقه ٣٠ قدمًا على الأقل؛ ومِن ثَمَّ كان
علينا القيام بالتفافة معتبرة قبل أن نجد ممرًّا. قضينا ليلتنا في السرية وكان الحوار
يدور كما هي العادة عن الهنود. كانت جبال فينتانا فيما مضى ملاذًا رائعًا، ومنذ ثلاث
سنوات أو أربع كان هناك الكثير من القتال هنا. وقد شهد مرشدي مقتل الكثير من الهنود؛
فيما هربت النساء إلى قمة النتوء الجبلي وحاربن باستماتة شديدة بالأحجار الضخمة ونجت
الكثيرات منهن بأنفسهن.
•••
«١١ سبتمبر»، واصلنا المسير حتى السرية الثالثة بصحبة الملازم القائد لها. يُقال إن
المسافة خمسة عشر فرسخًا لكن هذا تخمين فقط وهو مبالغ فيه في العموم. لم يكن في الطريق
ما يلفت الانتباه، وكان يمر عبر سهل جافٍّ معشوشب، وعلى يسارنا كان هناك بضعة تلال
منخفضة الارتفاع على مسافة متفاوتة؛ حيث مررنا بسلسلة منها بالقرب من السرية. قبل
وصولنا قابلنا قطيعًا ضخمًا من الماشية والخيول يحرسه خمسة عشر جنديًّا، لكننا عرفنا
أن
الكثير منها قد فُقد. فقيادة الحيوانات عبر السهول أمر غاية في الصعوبة؛ لأنه في حالة
اقتراب أسد أمريكي أو حتى ثعلب أثناء الليل، لا يمكن لشيء أن يمنع الخيول من التفرُّق
في كل اتجاه، ومن شأن أي عاصفة أن تُحدث الأثر نفسه. فقبل وقت قصير ترك أحد الضباط
بيونس أيرس ومعه ٥٠٠ حصان، وعندما وصل إلى الجيش كان معه أقل من عشرين حصانًا.
بعد فترة قصيرة، أدركنا من خلال سحابة الغبار أن مجموعة من الفرسان متجهون نحونا؛
وأدرك رفيقاي من بعد أنهم هنود من شعورهم الطويلة المنسدلة على ظهورهم. كان الهنود عادة
ما يلفون عصابات حول رءوسهم لكنهم لا يغطونها أبدًا وكان شعرهم الأسود يتطاير ليغطي
وجوههم الداكنة مما يزيد من مظهرهم وحشية بدرجة لا توصف. اتضح أنها كانت مجموعة من
قبيلة بيرنانتيو الصديقة في طريقهم إلى بحيرة ملحية من أجل الملح. كان الهنود يأكلون
الكثير من الملح، وكان أطفالهم يمصونه كالسكر. كانت هذه العادة تختلف تمامًا عن عادات
الجاوتشو الإسبان، رغم اتباعهم أسلوبًا معيشيًّا مماثلًا؛ إذ كانوا نادرًا ما
يتناولونه؛ ووفقًا لمونجو بارك،
٢ فإن من يعيشون على الغذاء النباتي يكون لديهم رغبة لا يمكن التغلب عليها في
تناول الملح. أومأ الهنود برءوسهم لنا إيماءات لطيفة ودودة أثناء مرورهم أمامنا بأقصى
سرعتهم وهم يسوقون أمامهم مجموعة من الخيول يتبعها قافلة من الكلاب الهزيلة.
•••
«١٢ و١٣ سبتمبر»، مكثت في هذه السرية يومين في انتظار مجموعة من الجنود، كان الجنرال
روساس قد أرسل لي مشكورًا ليخبرني أنهم سيرحلون إلى بيونس أيرس، ونصحني بأن أغتنم
الفرصة لمصاحبتهم. في الصباح، ذهبنا إلى التلال المجاورة لمشاهدة المنطقة وفحص جيولوجيا
المكان. وبعد العشاء، قسَّم الجنود أنفسهم إلى مجموعتين من أجل استعراض مهاراتهم في
استخدام البولاس. غُرِس رمحان في الأرض يفصل بينهما خمس وعشرين ياردة لكنهما لم يصيبا
ويتشابكا معًا إلا مرة واحدة من إجمالي أربع مرات أو خمس. من الممكن رمي كرات البولاس
إلى مسافة خمسين أو ستين ياردة، لكن بالقليل من الدقة. غير أن هذا لا ينطبق على رجل على
صهوة حصان؛ فعندما تضاف سرعة الحصان إلى قوة ذراع الفارس، يقال إنه يمكن تدويرها لتصل
إلى مسافة ثمانين ياردة. وكإثبات لقوتها، يمكن أن أذكر أنه في جزر الفوكلاند عندما قتل
الإسبان عددًا من بني بلادهم وكل الإنجليز، كان ثمة شاب إسباني ودود يفر مسرعًا عندما
بدأ رجل طويل القامة ضخم يُدعى لوتشيانو بالعدو بحصانه وراءه بكل سرعة صارخًا فيه بأن
يتوقف قائلًا إنه لا يريد إلا التحدث إليه. وبينما كان الإسباني على وشك الوصول إلى
القارب، رمى لوتشيانو الكرات لتصيبه في ساقيه بقوة كافية لإيقاعه أرضًا وإفقاده الوعي
لبعض الوقت. بعد أن انتهى لوتشيانو من حديثه معه سُمِح له بالهرب. أخبرنا أن ساقيه
كانتا تحملان آثارًا شديدة للضربة في المكان الذي التف حوله الحبل، كما لو كان جُلد
بسوط. في منتصف اليوم، وصل رجلان جلبا طردًا من السرية التالية على الطريق موجَّهًا إلى
الجنرال؛ وعلى ذلك كانت مجموعتنا في ذلك المساء تتألَّف، بالإضافة إلى هذين الرجلين،
مني ودليلي والملازم وأربعة جنود تابعين له. وقد كانت هذه المجموعة الأخيرة مؤلفة من
كائنات غريبة؛ إذ كان الأول شابًّا زنجيًّا حسن المظهر، وكان الثاني نصف زنجي ونصف
هندي، بينما كان الاثنان المتبقيان متعذرين على الوصف؛ كان الأول عامل مناجم تشيليًّا
عجوزًا ذا بشرة بلون خشب الماهوجاني، بينما كان الآخر خلاسيًّا (مُولَّدًا) إلى حد ما،
لكن هذين الهجينين كانا ذَوَيْ تعبيرات وجه مقيتة لم أرَها من قبل. عندما كانوا جالسين
حول النيران ليلًا يلعبون بأوراق اللعب، انزويت وحيدًا لأراقب مشهدًا يشبه لوحات
سلفاتور روزا. كانوا يجلسون تحت جُرْف صخري منخفض؛ لذا أمكنني أن أراهم من أعلى؛ كان
هناك كلاب ترقد حولهم وأسلحة وبقايا أيل ونعام وكانت رماحهم الطويلة مغروسة في الأرض
العشبية. في الخلفية المظلمة وعلى مسافة أبعد كانت الخيول مقيدة ومستعدة لأي خطر مفاجئ.
إذا قطع سكون السهل المقفر نباح أحد الكلاب، كان أحد الجنود يترك النيران ويقرب رأسه
من
الأرض ليمسح الأفق ببصره ببطء. حتى لو أطلق طائر التيرو تيرو المزعج صيحته، كان الحديث
يتوقف وتميل جميع الرءوس قليلًا للحظات.
يا لها من حياة بائسة تلك التي يبدو أن هؤلاء الرجال يحيونها! كانوا يبعدون على الأقل
عشرة فراسخ عن سرية سوسيه، ويبعدون عشرين فرسخًا عن أية سرية أخرى منذ أن ارتكب الهنود
جريمة القتل. كان من المفترض أن يشن الهنود هجومهم في منتصف الليل؛ إذ كان من حسن الحظ
أنهم شوهدوا يقتربون من النقطة العسكرية في وقت مبكر للغاية في صباح اليوم التالي
للجريمة. غير أن المجموعة بأكملها فرت هاربة ومعها الخيول؛ حيث تولى كل فرد إدارة طابور
منها مصطحبًا معه أكبر عدد من الحيوانات يمكنه السيطرة عليه.
لم تكن الحظيرة الصغيرة المصنوعة من سويقات النباتات الشائكة التي ناموا فيها تحجب
الرياح أو المطر، والواقع فيما يتعلق بالمطر، كانت الفائدة الوحيدة للسقف هي تكثيف
قطرات المطر لقطرات أكبر حجمًا. لم يكن لديهم ما يأكلونه سوى ما تيسر لهم صيده مثل
النعام والأيائل والمدرع وغيرها، وكان الوقود الوحيد المتاح لهم هو السويقات الجافة
لنبات صغير الحجم يشبه نبات الصبر نوعًا ما. كانت الرفاهية الوحيدة التي كان ينعم بها
هؤلاء الرجال هي تدخين سيجار من لفائف ورقية صغيرة ومص أوراق البهشية. كنتُ أعتقد أن
النسور آكلة الجيف، الملازم الدائم للإنسان في هذه السهول الموحشة، تبدو كأنها تحدث
نفسها بينما هي جالسة على الجروف الصغيرة المجاورة بصبر شديد قائلة: «آها! سنحصل على
وليمة عندما يأتي الهنود.»
في الصباح، انطلقنا جميعًا نحو الشمال للصيد ورغم أننا لم نحرز قدرًا كبيرًا من
النجاح، كان ثمة بعض المطاردات المثيرة. وما لبث أن تفرقت المجموعة؛ ومِن ثَمَّ خططوا
للقاء جميعًا في وقت محدد من اليوم (وهو الأمر الذي يظهرون في تخمينه الكثير من
المهارة) من جميع الاتجاهات على البوصلة في قطعة أرض منبسطة؛ ومِن ثَمَّ يتمكنون من
دفع
الحيوانات البرية معًا. في يوم ما، ذهبت للصيد في باهيا بلانكا، لكن الرجال هناك كانوا
يسيرون في تشكيل هلالي فقط يفصل بين كل منهم ربع ميل. لمح فرسان المقدمة ذكر نعام بديع
الشكل، فحاول الهرب إلى أحد الجوانب؛ فطارده الجاوتشو بخطًى سريعة حد التهور، وكانوا
يقودون خيولهم في مسار متعرج في كل جانب على نحو مثير للإعجاب للغاية، وكان كل منهم
يدير الكرات حول رأسه. وأخيرًا أقدم الجاوتشو الذي كان يتقدم الصفوف على رمي الكرات،
التي أخذت تدور في الهواء وفي لحظة تدحرج ذكر النعام عدة مرات وكانت سيقانه موثقة معًا
بحبل البولاس على نحو تام.
تزخر السهول بثلاثة أنواع من طائر الحَجَل،
٣ اثنان منها في حجم إناث طائر التدرج. كان عدوها، وهو ثعلب جميل الشكل صغير
الحجم، وافر العدد كذلك؛ فعلى مدى اليوم لم نرَ أقل من أربعين أو خمسين منها. كانت
الثعالب عادة ما تكون قريبة من وجارها، لكن الكلاب قتلت واحدًا منها. عندما عدنا إلى
السرية، وجدنا فردين من المجموعة كانا يصيدان بمفردهما وقد عادا. كانا قد قتلا أحد
الأسود الجبلية، ووجدا عش نعامة به سبع وعشرون بيضة، يقال إن الواحدة منها تساوي في
وزنها إحدى عشرة بيضة وبذلك نكون قد حصلنا من هذا العش على طعام يساوي ما توفره ٢٩٧
بيضة دجاجة.
•••
«١٤ سبتمبر»، اعتزم الجنود المنتمون إلى السرية التالية العودة، وكان علينا تكوين
مجموعة من خمسة أفراد جميعهم مسلحون، قررت عدم انتظار الجنود المرتقب وصولهم. ألح عليَّ
مضيفي، الملازم، كثيرًا لكيلا أرحل. ونظرًا لما أبداه تجاهي من كرم شديد، إذ لم يمدني
بالطعام فقط بل أعطاني خيوله الخاصة، أردت رد شيءٍ من جميله. سألت دليلي ما إن كان
عليَّ فعل هذا، لكنه أخبرني أن عليَّ ألا أقوم بهذا بكل تأكيد؛ لأن الإجابة الوحيدة
التي سأحصل عليها من المحتمل أن تكون: «لدينا لحم للكلاب في بلادنا ولذا لن نبخل به على
أي مسيحي.» لا يجب افتراض أن رتبة ملازم في جيش مثل هذا من شأنها أن تحول دون قبول أي
مال بتاتًا، لكنه فقط حس الضيافة العالي الذي يشعر كل مسافر حتمًا بشيوعه عبر أنحاء كل
هذه المقاطعات. بعد العدو بالحصان لبضعة فراسخ، وصلنا إلى أرض منخفضة سبخة تمتد حوالي
ثمانين ميلًا شمالًا حتى جبال تابالجوين. يوجد في بعض الأجزاء سهول رطبة رائعة مغطاة
بالحشائش بينما، كانت الأخرى ذات تربة سوداء ناعمة خُثية. يوجد كذلك الكثير من البحيرات
الضحلة الممتدة، وقيعان كبيرة من أعواد البوص. كان المكان ككل يشبه الأجزاء الأفضل
حالًا من مستنقعات كمبريدجشاير. وواجهتنا صعوبة ليلًا في العثور على مكان جافٍّ لإقامة
معسكرنا وسط المستنقعات.
•••
«١٥ سبتمبر»، استيقظنا مبكرًا جدًّا في الصباح، وما لبثنا أن مررنا بالسرية التي قتل
فيها الهنود الجنود الخمسة. كان جسد الضابط يحمل ثماني عشرة طعنة رمح. بحلول منتصف
اليوم، وبعد عدو شاق بالخيول، وصلنا إلى السرية الخامسة، وقضينا ليلتنا هناك بسبب بعض
الصعوبات في تدبير الخيول. وبما أن هذه كانت أكثر النقاط المكشوفة على الطريق بأكمله،
كان يتمركز فيها واحد وعشرون جنديًّا، حيث عادوا في وقت الغروب من الصيد وأحضروا معهم
سبعة أيائل وثلاث نعامات والكثير من طيور الحَجَل وحيوانات المدرع. من العادات الشائعة
عند التجول بالخيول في المكان إشعال النار في السهل؛ لذا كان الأفق ليلًا، كما في هذه
المناسبة، مضاءً في أماكن عدة بحرائق هائلة مستعرة. يحدث هذا جزئيًّا من أجل إرباك أي
هنود شاردين، لكنه يحدث بالأساس لتحسين جودة الكلأ. في السهول العشبية غير المأهولة
برباعيات الأقدام المجترة الأضخم حجمًا، يبدو من الضروري إزالة النباتات الزائدة
بالنيران حتى تصبح نبتة في العام الجديد قوية ونافعة.
لم يكن لحظيرة الماشية في هذا المكان حتى سقف لمواجهة الرياح القوية، بل كانت تتكوَّن
فقط من حلقة من سويقات النباتات الشائكة. كانت تقع على حدود بحيرة ضحلة واسعة زاخرة
بطيور الصيد البرية، كان من أبرزها الإوز العراقي ذو الرقبة السوداء.
كان طائر الزقزاق، الذي يبدو كما لو كان يقف على طوالات من نوع يشيع وجوده هنا في
أسراب ضخمة (الكرسوع الطويل العنق). يُتهم هذا الطائر ظلمًا بعدم الأناقة؛ فعندما يخوض
في المياه الضحلة، التي تعد ملاذه المفضل، تكون مشيته بعيدة كل البعد عن أن تتسم بأنها
خرقاء. عندما تكون هذه الطيور في أسراب تصدر ضوضاء تحمل تشابهًا فريدًا مع نباح قطيع
من
الكلاب الصغيرة في مطاردة؛ فحين أكون ساهرًا ليلًا، أصابني الفزع أكثر من مرة من هذا
الصوت القادم من بعيد. يعتبر طائر التيرو تيرو (أو الزقزاق المرقط) نوعًا آخر من الطيور
التي غالبًا ما تبدد سكون الليل، ويشبه في شكله وسلوكه، في عدة جوانب، طائر أبا طيط؛
غير أن أجنحته مزودة بمهاميز حادة كتلك التي توجد في سيقان الديك الشائع. ومثلما يستمد
أبو طيط اسمه من صوته، كذلك الحال مع التيرو تيرو. أثناء عبور السهول العشبية بالخيول،
دائمًا ما تطارد المرءَ هذه الطيور، التي يبدو أنها تكره البشر، وأنا على يقين أنها
تستحق الكراهية بسبب صرخاتها المزعجة المتشابهة التي لا تتوقف. كما أنها مثيرة للإزعاج
والضيق لأقصى حد لممارسي الصيد؛ لأنه يخبر الطيور والحيوانات الأخرى بقدومهم؛ أما
بالنسبة إلى المسافر عبر المنطقة فربما تكون مفيدة، كما يقول مولينا؛ لأنها تحذره من
لصوص منتصف الليل. وخلال موسم التوالد، تحاول كما يفعل أبو طيط، إبعاد الكلاب وأعدائها
الآخرين عن أعشاشها بالتظاهر بأنها مصابة. ويعتبر بيض هذه الطيور طعامًا فاخرًا
للغاية.
•••
«١٦ سبتمبر»، اتجهنا نحو السرية السابعة عند سفح جبال تابالجوين. كانت الأرض مستوية
تمامًا بنجيل خشن وتربة خُثِّية ناعمة. كانت الحظيرة هنا منظمة على نحو ملحوظ، وكانت
الأعمدة والعوارض الخشبية مصنوعة من حوالي دزينة من السويقات الشوكية مربوطة معًا بسيور
من جلد الحيوانات؛ أما السقف والجوانب، المدعومة بهذه الأعمدة التي تشبه الأعمدة
الأيونية، فكانت مسقفة بالبوص. وقد نما إلينا حقيقة لم أكن لأصدقها لو لم يكن لديَّ
دليل شبه مرئي عليها، وهي أنه خلال الليلة الفائتة تساقطت حبات بَرَد بحجم التفاح
الصغير وكانت خشنة للغاية، وكانت تتساقط بعنف شديد يكفي لقتل أكبر عدد من الحيوانات
البرية. كان أحد الرجال قد وجد بالفعل ثلاثة عشر أيلًا حقليًّا نافقة، ورأيت جلودها
«المنزوعة حديثًا»؛ وأحضر فرد آخر من المجموعة سبعة أخرى بعد وصولي بدقائق قليلة. أدرك
جيدًا الآن أنه من الصعب أن يقتل رجلٌ سبعة أيائل في أسبوع واحد بدون استخدام الكلاب.
كان الرجال يعتقدون أنهم رأوا حوالي خمس عشرة نعامة (تناولنا جزءًا من إحداها على
العشاء)؛ وقالوا إن كثيرًا منها كان يجري هنا وهناك وكان واضحًا أنها فقدت إحدى عينيها.
قُتِل كذلك أعداد من طيور أصغر حجمًا كالبط والصقور والحَجَل. وقد رأيت أحد أفراد
الأخير على ظهره علامة سوداء كما لو كان قد أصيب بحجر رصف. كان ثمة سياج من السويقات
الشائكة حول الحظيرة على شفا الانهيار، وأصيب مرشدي، الذي أخرج رأسه ليستطلع الأمر،
بقطع خطير ويرتدي الآن ضمادة. قيل إن العاصفة كان مداها محدودًا؛ وقد رأينا يقينًا من
مخيمنا ليلة أمس سحابة كثيفة وبرقًا في هذا الاتجاه. من المثير للدهشة كيف أن حيوانات
بقوة الأيل لقيت حتفها، لكن لا شكَّ لديَّ، من
الدليل الذي أوضحته، في أن القصة بها أدنى حد من المبالغة. مع ذلك، فأنا سعيد بأن
مصداقيتها تحظى بدعم الراهب اليسوعي دوبريتزوفر
٤ الذي قال في معرض حديثه عن بلد يقع في أقصى الشمال، إن قطرات بَرَد عملاقة
سقطت وقتلت أعدادًا ضخمة من الماشية؛ ولذا سمى الهنود المكان
Lalegraicavalca والتي تعني «الأشياء البيضاء
الصغيرة». كذلك، يخبرني د. مالكومسون بأنه شهد في عام ١٨٣١ في الهند عاصفة بَرَد قتلت
عددًا كبيرًا من الطيور الكبيرة وألحقت بالماشية إصابات بليغة. كانت هذه الأحجار
البردية مسطحة وكان محيط أحدها يبلغ عشر بوصات، بينما كان آخر يزن حوالي أوقيتين؛ وتسبب
في تجريف ممشى من الحصباء كأنه قذائف من بندقية اخترقت نوافذ الزجاج صانعة بها ثقوبًا
دائرية، لكنها لم تتسبب في انهيارها.
بعد أن أنهينا عشاءنا، الذي كان عبارة عن لحم حيوانات أصيبت بقذائف البَرَد، عبرنا
جبال تابالجوين، وهي سلسلة من التلال المنخفضة يبلغ ارتفاعها بضع مئات من الأقدام تبدأ
من كيب كورينتس. كانت الصخور في هذا الجزء من الكوارتز النقي، وأدركت أننا كلما اتجهنا
إلى الشرق صارت جرانيتية. تتسم التلال بشكل لافت للنظر، وتتكون من رقع مسطحة من نجاد
واسعة محاطة بجروف صخرية عمودية منخفضة مثل تكوينات صخرية منعزلة من الرواسب المتراكمة.
كان التل الذي تسلقته صغيرًا جدًّا لا يزيد قطره على بضع مئات من الياردات، لكني رأيت
تلالًا أخرى أكبر حجمًا. يقال إن أحدها، ويطلق عليه اسم «كورال»، يصل قطره إلى ميلين
أو
ثلاثة أميال، ويقع بين جروف صخرية عمودية يتراوح ارتفاعها بين ٣٠ و٤٠ قدمًا، إلا عند
نقطة واحدة حيث يقع المدخل. يسرد فالكونر
٥ قصة غريبة لهنود يسوقون قطعانًا من الخيول البرية إلى داخل هذا النطاق،
ويبقونها في أمان عن طريق حراسة المدخل. لم أسمع من قبل قط بوجود نجد مسطح داخل تكوين
جيولوجي من الكوارتز، لم يكن له في التل الذي فحصته أي شق أو تراصف. وقد قيل لي إن
الصخر في تل «كورال» أبيض اللون، ومن الممكن إشعال النيران منه.
لم نصل إلى السرية الواقعة عند نهر تابالجوين إلا بعد حلول الظلام. وبينما كنا نتناول
العشاء، وبسبب شيء ما قد قيل، أصابني ذعر مفاجئ حين ظننت أنني كنت أتناول أحد الأطباق
المحلية المفضلة في المنطقة، عبارة عن عجل صغير غير
مكتمل النمو ولد قبل موعده بوقت طويل، ليتضح بعدها أنني آكل لحم أسد جبلي؛ كان لحمه
شديد البياض وله مذاق يشبه إلى حد كبير مذاق لحم العجل. وقد أثار ذلك سخرية من د. شو
لقوله: إن «لحم الأسد طعام له شأن كبير وليس له أدنى صلة بلحم العجل في اللون والطعم
والنكهة.» ولا شك أن هذا هو الحال بالنسبة إلى الأسد الجبلي. يختلف الجاوتشو في الرأي
فيما يتعلق بما إذا كان لحم النمر الأمريكي يصلح للأكل، لكنهم متفقون في أن القطط
ممتازة.
•••
«١٧ سبتمبر»، تتبعنا مسار نهر تابالجوين عبر أرض خصبة للغاية حتى وصلنا إلى السرية
التاسعة. تتألَّف تابالجوين نفسها، أو بلدة تابالجوين، إن جاز تسميتها هكذا، من سهل
مستوٍ تمامًا تتناثر عليه على مرمى البصر أكواخ الهنود التي تشبه الأفران. كانت تسكن
هنا عائلات الهنود الموالين الذين كانوا يقاتلون مع الجنرال روساس. التقينا ومررنا
بالعديد من الشابات الهنديات اللاتي كانت كل اثنتين أو ثلاث منهن يمتطين نفس الجواد؛
كانت الفتيات، والكثير من الشباب كذلك، ذوات جمال مدهش، وكانت بشرتهن الجميلة المتوردة
تعكس صورة لما ينعمن به من عافية جسدية. كان ثمة ثلاث مزارع بجوار الأكواخ؛ إحداها
يسكنها القائد والاثنتان الأخريان يسكنهما إسبان يملكون حوانيت صغيرة.
استطعنا شراء بعض البسكويت. فقد مرت أيام عديدة الآن لم أتذوق خلالها شيئًا خلاف
اللحم. لم أكره هذا النظام الغذائي الجديد تمامًا، لكني شعرت بأنه سيكون ملائمًا لي فقط
في حالة المداومة على ممارسة تمرينات رياضية شاقة. سمعت أن المرضى في إنجلترا عندما
يُراد منهم الاقتصار على النظام الحيواني فقط في غذائهم، فإنهم يجدون صعوبة في تحمل هذا
حتى لو كان يضع أمل البقاء على قيد الحياة أمام أعينهم، ولكن الجاوتشو في السهول
العشبية لا يأكلون إلا لحم الأبقار لشهور متصلة، لكنهم يأكلون، كما ألاحظ، كمية كبيرة
جدًّا من الدهون من مصادر غير حيوانية ويكرهون اللحم الجاف بالذات مثل لحم الأجوتي.
كذلك أشار د. ريتشاردسون
٦ إلى «أنه عندما يقتصر الناس في غذائهم على الأطعمة الحيوانية الخالية من
الدهون لفترة طويلة، تصبح شهيتهم للدهون شرهة للغاية؛ حتى إنهم قد يستهلكون كمية كبيرة
من الدهون الخالصة بل الدهون الزيتية دون الشعور بأي غثيان.» يبدو هذا لي حقيقة
فسيولوجية غريبة. ربما بسبب هذا النظام الغذائي
القائم على اللحم، يمكن للجاوتشو الامتناع عن الطعام لفترات طويلة مثل الكائنات الأخرى
الآكلة للحوم؛ فقد علمت أنه في تانديل، طاردت بعض القوات — متطوعين — مجموعة من الهنود
لثلاثة أيام بلا طعام أو شراب.
رأينا في الحوانيت الكثير من الأشياء، مثل أغطية الخيول، والأحزمة، وأربطة الجوارب
كلها من صنع الهنديات. كانت النقوش غاية في الجمال والألوان زاهية؛ كما كانت جودة أربطة
الجوارب جيدة جدًّا؛ حتى إن تاجرًا إنجليزيًّا في بيونس أيرس أصر على أنها مصنوعة في
إنجلترا إلى أن اكتشف أن الجوارب مثبتة بأوتار مشقوقة.
•••
«١٨ سبتمبر»، سرنا في ذلك اليوم لمسافة طويلة جدًّا. عند السرية الثانية عشرة، والتي
كانت تقع على بعد سبعة فراسخ من نهر ريو سالادو، وصلنا إلى أول مزرعة تحوي ماشية ونسوة
بيضًا. بعد ذلك، اضطررنا إلى السير بالخيول لعدة أميال عبر أرض مغمورة بمياه وصلت حتى
ركب الخيول. نجحنا في الاحتفاظ بدرجة مقبولة من الجفاف، بجعل الركب متقاطعة وركوب
الخيول مثل العرب بسيقان مثنية. كان الظلام قد حل تقريبًا عندما وصلنا إلى سالادو وكان
مجراه عميقًا وعرضه حوالي أربعين ياردة؛ غير أن قاعه في الصيف يصبح جافًّا تقريبًا،
وتكون المياه القليلة المتبقية مالحة مثل مياه البحر تقريبًا. بتنا ليلتنا في واحدة من
مزارع الماشية الضخمة التابعة للجنرال روساس. كانت محصنة؛ حتى إننا عندما وصلنا في
الظلام ظننت أنها بلدة وحصن. في الصباح، رأينا قطعانًا هائلة من الماشية؛ إذ يملك
الجنرال أرضًا على مساحة أربعة وسبعين فرسخًا مربعًا من الأراضي. وكان هناك فيما سبق
٣٠٠ رجل يعملون في هذه المزرعة وقاوموا كل هجمات الهنود.
•••
«١٩ سبتمبر»، مررنا على جوارديا ديل مونتي، وهي بلدة صغيرة جميلة، وبها العديد من
الحدائق المليئة بأشجار الدُّرَّاق والسفرجل. كان السهل هنا يبدو كذلك المحيط ببيونس
أيرس؛ من حيث قصر العشب ولونه الأخضر الزاهي، وأحواض النفل والنباتات الشوكية، وجحور
البيزكاتشا. انتابتني دهشة كبيرة من التغيير الملحوظ في شكل الريف بعد عبورنا لنهر
سالادو؛ فقد انتقلنا من غطاء من الحشائش الخشنة إلى بساط من النباتات النضرة الخضراء
الناعمة. عزوت هذا في البداية إلى تغير في طبيعة التربة، لكن سكان هذه الأراضي أكدوا
لي
أن هنا — وكذلك في باندا الشرقية حيث يتسع الفارق بين الريف حول مونتفيديو وسهول السافانا
في كولونيا القليلة
السكان — يرجع الأمر برمته إلى رَوْث الماشية ورعيها في المكان. ولوحظ الأمر نفسه
بالضبط في براري أمريكا الشمالية؛
٧ حيث يتحول الحشيش الخشن، الذي يتراوح طوله بين خمس أقدام وست، بعد أن تتغذى
عليه الماشية إلى أرض عشبية عادية. ليس لديَّ دراية كافية بعلم النباتات لأقول إذا ما
كان التغيير هنا يعود إلى إدخال أنواع جديدة، أو إلى التغير في نمو الأنواع نفسها، أو
إلى فارق في أعدادها النسبية. لاحظ أزارا كذلك هذا التغير باندهاش، وأصابته حيرة شديدة
أيضًا بسبب الظهور الفوري لنباتات لا تنمو في الجوار على جانبي أي درب يؤدي إلى حظيرة
حديثة البنيان. ويقول في جزء آخر:
٨ «هذه الخيول البرية تفضل ترك فضلاتها في الطرق وعلى جوانبها حيث توجد أكوام
منها في هذه الأماكن.» ألا يفسر هذا الأمر جزئيًّا؟ نتيجة لهذا، لدينا صفوف من أراضٍ
مسمدة شديدة الخصوبة تعمل كقنوات اتصال عبر مناطق واسعة.
بالقرب من جوارديا، نجد الحد الجنوبي لنباتين أوروبيين أصبحا الآن شائعين على نحو
ملحوظ. الأول وهو الشمار الذي يغطي ضفاف الخنادق بغزارة في أراضي المناطق المجاورة
لبيونس أيرس ومونتفيديو وبلدات أخرى، لكن الخرشوف السكوليمي ينتشر على نطاق أوسع؛
٩ حيث يوجد في دوائر العرض هذه على كلا جانبي سلاسل الجبال بامتداد القارة.
وقد رأيته في مناطق غير مأهولة في تشيلي وإنتري ريوس وباندا الشرقية؛ وفي الأخيرة
وحدها، يوجد الكثير جدًّا من الأميال المربعة (ربما عدة مئات) مغطاة بكتلة واحدة من هذه
النباتات الشوكية ولا يقدر إنسان أو
حيوان على النفاذ منها. فوق تلك السهول المتموجة، حيث توجد هذه المسطحات النباتية
الضخمة، لا يمكن لأي شيء آخر أن يعيش الآن. مع ذلك، وقبل إدخال تلك النباتات للبلاد،
لا
بد أن السطح كان يدعم نمو الأعشاب الضارة كما في أماكن أخرى. أشك إن كان هناك أي حالة
واحدة مسجلة لاجتياح أحد النباتات للنباتات الأصلية على مثل هذا النطاق الضخم. وكما
ذكرت فيما سبق، لم أرَ الخرشوف السكوليمي في أي مكان جنوب نهر سالادو، لكن من المحتمل
أن يمد الخرشوف نطاق نموه على نحو متناسب مع تحول هذه الأراضي إلى أراضٍ مأهولة. يختلف
الأمر مع النبات الشائك الضخم (ذي الأوراق المرقشة) في البامبا؛ إذ وجدته في وادي
سوسيه. طبقًا للمبادئ التي أرساها السيد لايل على نحو جيد جدًّا، فإن القليل من البلاد
مرت بتغيرات أوضح منذ عام ١٥٣٥ عندما وطئها أول مستعمر من لابلاتا بقدميه وبرفقته اثنان
وسبعون حصانًا. لم تغير القطعان اللانهائية من الماشية والخراف والخيول من الشكل العام
للغطاء النباتي فحسب، بل أدت كذلك لاختفاء الجوناق والنعام والأيائل تقريبًا. لا بد أن
عددًا لا يحصى من التغييرات قد حدث أيضًا؛ ربما حل الخنزير البري في بعض الأجزاء محل
خنزير البيكاري، وربما سُمِع نباح قطعان الكلاب البرية على الضفاف المُشجَّرة للمجاري
المائية الأقل ارتيادًا، والقط الشائع تحول إلى حيوان ضخم شرس يقطن التلال الصخرية.
وكما لاحظ السيد دوربيني، فإن الزيادة في أعداد النسور الجيفية منذ إدخال الحيوانات
المستأنسة لا بد أنها كانت ضخمة على نحو لا نهائي، ولدينا أسبابٌ محددة للاعتقاد بأنها
وسعت نطاق حدودها الجنوبية. لا شك أن العديد من النباتات، بخلاف الشمار والخرشوف
السكوليمي، تتأقلم مع الطبيعة؛ لذا فإن الجزر الواقعة بالقرب من مصب نهر ريو بارانا
مغطاةٌ بكثافة بأشجار البرتقال والدُّرَّاق التي نبتت من حبوبٍ حملتها مياه الأنهار إلى
هناك.
أثناء تغيير الخيول في جوارديا، سَألَنَا العديد من الناس كثيرًا عن الجيش؛ لم أرَ
من
قبل أي شيء يشبه الحماس الذي يكنونه لروساس ولنجاح «أكثر الحروب عدالة كونها ضد
البرابرة الوحشيين». يجب الاعتراف بأن هذا الإحساس طبيعي تمامًا؛ لأنه حتى عهد قريب،
لم
يكن ثمة رجل أو امرأة أو حصان بمأمنٍ من هجمات الهنود. قضينا يومًا طويلًا في السفر عبر
نفس السهل الأخضر الخصب الذي يزخر بالعديد من القطعان المتنوعة، ويوجد هنا وهناك مزرعة
ماشية منعزلة وبها شجرة «الأومبو» الوحيدة التي تقطنها. في المساء أمطرت بشدة، وعند
وصولنا إلى أحد أنزال أخبرنا صاحبه بأننا إذا لم نكن نمتلك جواز سفر قانونيًّا، فعلينا
المضي في طريقنا لوجود الكثير من السارقين حتى إنه لا يثق في أي شخص، لكنه عندما قرأ
في
جواز سفري الذي يبدأ ﺑ «عالِم الطبيعة دون كارلوس»، أصبح احترامه وتحضُّره لا حد لهما
مثلما كانت شكوكه قبل أن يرى جواز سفري. أشك في أن لديه، أو لدى أي مواطن آخر من بني
جلدته، أي فكرة عن ماهية عالِم الطبيعة، لكن ربما لم يفقد لقبي شيئًا من قيمته لهذا
السبب.
•••
«٢٠ سبتمبر»، بحلول منتصف اليوم وصلنا إلى بيونس أيرس. كانت أطراف المدينة تبدو جميلة
إلى حد كبير، بأسيجة الأجاف، وأيكات الزيتون، وأشجار الدُّرَّاق والصفصاف التي كانت
أوراقها الخضراء جميعًا على وشك الظهور. ذهبت إلى منزل السيد لامب وهو تاجر إنجليزي،
والذي كنتُ ممتنًّا للغاية للطفه وحسن ضيافته خلال مدة مكوثي في البلاد.
تعتبر مدينة بيونس أيرس مدينة كبيرة،
١٠ وأظن أنها من أكثر المدن نظامًا في العالم؛ فكل شارع يتقاطع بزاوية قائمة
مع الآخر والشوارع المتوازية متساوية البعد، والمنازل تجتمع معًا في مربعاتٍ مصمتة
بأبعادٍ متساوية تسمى أحياءً. على الجانب الآخر، نجد المنازل نفسها عبارة عن مربعات
مجوفة، وكل الغرف تؤدي إلى فناء صغير منظم. وعادة ما تكون البيوت من طابق واحد بأسقف
مسطحة ومجهزة بمقاعد ويتردَّد عليها السكان بكثرة في الصيف. في مركز المدينة توجد
الساحة العامة التي تحوي المكاتب الحكومية وحصنًا وكاتدرائية … إلخ. كما يوجد هنا قصور
نواب الملك القدامى قبل الثورة. ويتميز التنظيم العام للأبنية بجمال معماري لافت للنظر
رغم أنه لا يوجد مبنى فردي يمكنه أن يتباهى بذلك.
تعد «الحظيرة» الكبرى التي تُحفَظ بها الحيوانات لذبحها من أجل توفير اللحوم للسكان
الآكلين للحم أحد أفضل المناظر التي تستحق المشاهدة. فقوة الحصان عند مقارنتها بالثور
تثير دهشة بالغة؛ فيمكن لرجل على صهوة حصانه رمي الوهق حول قرون الحيوان وجره إلى أي
مكان يشاء. يجرف الحيوان الأرض بسيقانه الممدودة في محاولات عابثة لمقاومة قوة الجذب،
وعادة ما ينطلق بأقصى سرعة إلى أحد الجوانب، لكن الحصان، الذي سرعان ما يلتفت مباشرة
لتلقي الصدمة، يقف بثبات شديد حتى إن الثور يكاد يقع أرضًا، والمدهش أن رقابها لا
تنكسر. غير أن هذا الصراع ليس قائمًا على تكافؤ عادل في القوى؛ بمضاهاة محيط جسم الحصان
برقبة الثور الممددة. بالمثل، يمكن لرجل الإمساك بأكثر الخيول جموحًا إذا أُمسِك به
بواسطة الوهق من خلف الأذنين مباشرة. عندما يُجَر الثور إلى حيث سيُذبَح، يقوم
«الماتادور» بقطع أوتار أرجله متوخيًا الحذر الشديد. بعد ذلك يصدر خوار الموت الذي يعبر
عن ألم شنيع لا أعرف شيئًا أقوى منه، وغالبًا ما أميزه من مسافات بعيدة، وكنت دائمًا
ما
أدرك أن الصراع قد اقترب من نهايته. يكون المنظر برمته مروِّعًا ومقززًا؛ إذ تكاد الأرض
تبدو كما لو كانت مكونة من العظام، بينما الخيول وراكبوها ملطخون بالدماء
تمامًا.