من بيونس أيرس إلى سانتا في
«٢٧ سبتمبر»، في المساء، انطلقت في رحلة قصيرة إلى سانتا في التي تقع
على بعد حوالي ٣٠٠ ميل من بيونس أيرس على ضفاف نهر ريو بارانا. كانت الطرق في المناطق
المجاورة للمدينة بعد الطقس الممطر غاية في السوء. كان يجب ألا أظن أنه يمكن لعربة
يجرها ثور أن تتقدم عبرها؛ إذ إنها حين فعلت كانت تسير بالكاد بسرعة ميل في الساعة،
وكان يجب أن يظل رجل أمامها لاستطلاع أفضل طريق للسير. كانت الثيران منهكة تمامًا. من
الخطأ الفادح افتراض أنه مع تحسن الطرق وتزايد سرعة الارتحال تزداد معاناة الحيوانات
بالمستوى نفسه. مررنا بمجموعة من العربات وقطيع من الحيوانات في طريقها إلى ميندوزا.
كانت المسافة حوالي ٥٨٠ ميلًا جغرافيًّا وكانت الرحلة عادة ما تتم في خمسين يومًا. كانت
تلك العربات طويلة جدًّا وضيقة ومسقوفة بالبوص،
وكان لكل عربة عجلتان فقط، وكان قطر العجلة يصل في بعض الأحيان إلى عشرة أقدام. كانت
كل
عربة يجرها ستة ثيران تُستحث على السير بواسطة مِنْخَس يصل طوله إلى ٢٠ قدمًا على
الأقل، وكان هذا المنخس مربوطًا في السقف؛ أما بالنسبة إلى ثيران العجلات فلها منخس
أصغر حجمًا؛ أما بالنسبة إلى زوج الثيران في المنتصف، فلها طرف يخرج بزاوية قائمة من
منتصف المنخس الطويل. كان الجهاز بالكامل يبدو كأحد معدات الحرب.
•••
«٢٨ سبتمبر»، مررنا ببلدة لوكسان الصغيرة حيث يوجد جسر خشبي فوق النهر، ويعتبر وسيلة
مريحة غير معتادة تمامًا في هذا البلد. مررنا كذلك بأريكو. بدت السهول مستوية، لكنها
في
الواقع لم تكن كذلك؛ لأن الأفق كان بعيدًا في أماكن عدة. كانت مزارع الماشية هنا بعيدة
عن بعضها كثيرًا؛ نظرًا لعدم وجود الكثير من المراعي الجيدة لأن الأرض مغطاة إما بأحواض
من النفل اللاذع أو النباتات الشائكة العملاقة. كانت الأخيرة، المعروفة من خلال الوصف
الحيوي الواضح ﻟ «إف هيد»، في ذلك الوقت من العام نامية بقدر الثلثين فقط، وفي بعض
الأماكن كان طولها يصل إلى ظهر الحصان، لكنها لم تكن قد أنبتت بعد في أخرى، وكانت الأرض
قاحلة ومتربة كما هو الحال على الطرق الرئيسة. كانت الأجمات ذات لون أخضر من أزهى ما
يمكن، وكانت تُشكِّل ما يشبه مجسمًا مصغرًا جميلًا لأرض غابات متكسرة. عندما تكون
النباتات الشائكة مكتملة النمو، تكون أحواضها الضخمة غير قابلة للاختراق، عدا القليل
من
الدروب والمسارات التي تكون معقدة كتلك التي في المتاهات. وهذه الدروب معروفة فقط
للسارقين الذي يسكنونها في هذا الموسم ويشنون هجماتهم ليلًا للسرقة والقتل بدون خوف من
أي عقاب. عندما سألت في أحد البيوت إذا ما كان السارقون كثيري العدد، قيل لي: «لم تنبت
النباتات الشائكة بعد.» وكان ردًّا ذا معنًى غاية في الغموض في البداية. لا يوجد اهتمام
كبير بالعبور من هذه المسارات؛ لأنها مأهولة بالقليل من الحيوانات أو الطيور فيما عدا
البيزكاتشا وصديقته البومة الصغيرة.
من المعروف أن البيزكاتشا
١ يعد من المعالم البارزة للحياة الحيوانية في البامبا. فوجوده يمتد جنوبًا
حتى نهر ريو نيجرو عند دائرة عرض ٤١ درجة لكنه لا يتخطاها. ومثل الأجوتي، لا يمكن
للبيزكاتشا العيش على سهول باتاجونيا الصحراوية والمغطاة بالحصى، بل يفضل تربة طينية
أو
رملية تنتج نباتات مختلفة وأكثر وفرة. وبالقرب من ميندوزا، عند سفح سلسلة الجبال، يظهر
في مناطق متجاورة بالقرب من النوع الألبي المقارب له. ثمة أمرٌ غريب جدًّا يتعلق
بتوزيعه الجغرافي؛ إذ إنه لم يُشاهَد قطُّ، وهذا لحسن حظ سكان باندا الشرقية، شرق نهر
أوروجواي، رغم أن المقاطعة تضم سهولًا تبدو ملائمة تمامًا لسلوكه. كان نهر أوروجواي
يشكل عقبة لا يمكن تجاوزها في سبيل هجرته رغم تجاوز الحاجز الأعرض الخاص بنهر بارانا،
كما يشيع وجود البيزكاتشا في إنتري ريوس، وهو الإقليم الواقع بين هذين النهرين
العظيمين. بالقرب من بيونس أيرس يشيع وجود هذه الحيوانات على نحو استثنائي. ويبدو أن
الملاذ الأكثر تفضيلًا لديها هو تلك الأجزاء من السهول التي تكون مغطاة بالنباتات
الشائكة العملاقة خلال نصف العام دون النباتات الأخرى. يؤكد الجاوتشو أنه يعيش على
اقتيات الجذور وهو ما يبدو أمرًا محتملًا بسبب قوة أسنانه القارضة ونوعية الأماكن التي
يتردد عليها. في المساء، يخرج البيزكاتشا في مجموعات وتجلس في هدوء عند فتحات الجحور
على أعجازها. في مثل هذه الأوقات تكون وديعة جدًّا ويبدو أي شخص مار أمامها على صهوة
حصانه بالنسبة إليها مجرد شيء يستحق التأمل الشديد. تركض هذه الحيوانات على نحو أخرق
للغاية، وعندما تهرب من خطر ما، تبدو أشبه بجِرْذان عملاقة، بسبب سيقانها الأمامية
القصيرة وأذيالها المرفوعة. عندما تُطهى يصبح لون لحمها شديد البياض وطيبًا صالحًا
للأكل، لكنه نادرًا ما يؤكَل.
يتسم البيزكاتشا بعادة غريبة للغاية، وهي جر كل ما هو صلب إلى فتحة جحره؛ حيث كان
يوجد حول كل مجموعة من فتحات الجحور الكثير من العظام والحجارة وسويقات النباتات
الشائكة وكتل صلبة من التراب والرَّوْث الجاف وغير ذلك مجمعة في كومة غير منتظمة، والتي
كثيرًا ما يصل حجمها إلى ما يمكن أن يملأ عربة يدوية صغيرة. وقد قيل لي من مصدر موثوق
فيه إن رجلًا سقطت منه ساعته بينما كان يسير بحصانه في ليلة مظلمة، وعاد صباحًا ليبحث
بالقرب من كل حفرة للبيزكاتشا على الطريق وكما توقع لم يمر وقت طويل حتى وجدها. لا شك
أن هذه العادة في التقاط أي شيء قد يقع في أي مكان بالقرب من مأواها تتسبب في الكثير
من
المشكلات. لا يمكنني تكوين حتى أبعد تخمين للغرض من وراء هذه العادة؛ فلا يمكن أن يكون
ذلك بغرض الدفاع؛ كون هذه النفايات توضع بالأساس فوق فتحة الجحر الذي يتغلغل في الأرض
بزاوية ميل صغيرة جدًّا. لا شك في أن ثمة سببًا وجيهًا لهذا، لكن سكان المنطقة يجهلونه
تمامًا. الأمر الوحيد الذي أعرفه ويشبه هذا هو سلوك الطائر الأسترالي المدهش المسمى
بطائر التعريشة المرقط الذي يصنع ممرًّا مقبَّبًا أنيقًا من الأغصان للعب داخلها، والذي
يجمع كذلك بالقرب من المكان الذي يسكنه قواقع برية وبحرية وعظامًا، وريش طيور وخاصة
الريش ذا الألوان الزاهية. وقد أخبرني السيد جولد، الذي ذكر لي هذه الحقائق، أن السكان
الأصليين عندما يفقدون أي شيء صلب، يبحثون في ممرات اللعب، وعلم أنهم استعادوا غليونًا
بهذا الشكل.
تسكن البومة الصغيرة (بومة الجحور) التي ورد ذكرها كثيرًا، في بيونس أيرس جحور
البيزكاتشا فقط، لكنها في باندا الشرقية تصنع أعشاشها بأنفسها. خلال النهار، ولكن في
المساء على الأخص، قد تُشاهَد هذه الطيور في كل اتجاه تقف في أحيانٍ كثيرة في أزواج على
التلال الصغيرة القريبة من جحورها. وإذا تعرضت للمضايقة، فإنها إما تدخل جحورها أو تصدر
صيحة صاخبة مزعجة وتطير على نحو متموج لافت للنظر إلى مسافة قصيرة، ثم تلتفت للوراء
محدقة في مطاردها بثبات. في المساء، قد يُسمَع نعيبها بين الفينة والأخرى. وجدت في معدة
بومتين بقايا فئران ورأيت ذات يوم ثعبانًا صغيرًا يُقتَل ويُحمَل بعيدًا. يُقال إن
الثعابين هي الفريسة الشائعة للبوم خلال النهار. ولأوضح أنواع الطعام المتنوعة التي
يعيش عليها البوم، يمكنني أن أذكر هنا أن نوعًا من البوم كان قد قُتِل في جُزَيِّرات
أرخبيل شونوس كانت معدته مليئة بسلطعونات ذات حجم كبير نسبيًّا. كما يوجد في الهند
٢ نوع من البوم صائد للسمك يصطاد السلطعون كذلك.
في المساء عبرنا نهر أريسيفي على طوف بسيط مصنوع من البراميل مربوطة معًا وبتنا
ليلتنا في نُزُل على الجانب الآخر. في ذلك اليوم استأجرت حصانًا لمسافة واحد وثلاثين
فرسخًا؛ ورغم أن الشمس كانت ساطعة بوهج حارق، لم يتسرب إليَّ الإرهاق إلا قليلًا. عندما
يتحدث الكابتن هيد عن السير لمسافة خمسين فرسخًا في اليوم بالخيول، لا أتخيل أن المسافة
تساوي ١٥٠ ميلًا إنجليزيًّا. في كل الأحوال، فإن واحدًا وثلاثين فرسخًا كانت تساوي ستة
وسبعين ميلًا فقط في خط مستقيم، وفي أراضٍ مفتوحة أظن أن إضافة أربعة أميال من أجل
المنعطفات ستكون كافية.
•••
«٢٩ و٣٠ سبتمبر»، واصلنا السير بالخيول عبر سهول بالسمات الجغرافية نفسها. في سان
نيكولاس، رأيت لأول مرة نهر بارانا العظيم. وعند سفح الجُرْف الصخري الذي ترتكز عليه
البلدة، كان ثمة سفن كبيرة راسية في الميناء. قبل الوصول إلى روزاريو، عبرنا سلاديلو
وهو مجرى مائي من مياه جارية صافية رائعة لكنها مالحة لدرجة يستحيل معها شربها.
وروزاريو بلدة كبيرة مبنية على سهلٍ مستوٍ تمامًا يشكل جُرْفًا يصل ارتفاعه إلى ٦٠
قدمًا تقريبًا فوق مستوى نهر بارانا. والنهر هنا عريض جدًّا وبه الكثير من الجزر
المنخفضة والمغطاة بالأشجار وكذلك الساحل المقابل. إن المشهد هنا يشبه مشهد بحيرة عظمى
لولا الجُزَيِّرات الخطيَّة الشكل التي تعطي وحدها صورة المياه الجارية. تشكل الجروف
الجزء الأروع من المشهد؛ فأحيانًا تكون عمودية تمامًا وذات لون أحمر؛ وفي أحيانٍ أخرى
تكون عبارة عن كتل ضخمة متكسرة مغطاة بنباتات الصبار وأشجار الميموزا. غير أن العظمة
الحقيقية لنهر كبير مثل هذا تأتي من التفكير في مدى أهميته كوسيلة للمواصلات والتجارة
بين الأمم وبعضها؛ وإلى أي مسافة يمتد، ومدى اتساع المنطقة التي يتدفق منها مسطح المياه
العذبة العظيم الذي يتدفق تحت قدميك.
على امتداد العديد من الفراسخ شمال وجنوب سان نيكولاس وروزاريو كانت الأرض مستوية
تمامًا. نادرًا ما يمكن اعتبار أي شيء كتبه المسافرون عن استوائها الشديد من قبيل
المبالغة. غير أنني لم أتمكن قط من العثور على أي مكان لا يمكن رؤية الأشياء منه،
بإجالة النظر ببطء، على مسافات أكبر في بعض الاتجاهات عن اتجاهات أخرى وهو ما يثبت
بوضوح انعدام الاستواء في السهل. أما في البحر، وبالنظر إلى أن عين الرائي تكون على
ارتفاع ست أقدام عن سطح البحر، فإن الأفق يمتد أمامه لمسافة ميلين وأربعة أخماس الميل.
وعلى نحو مماثل، فإنه كلما زاد استواء السهل، زاد اقتراب الأفق ضمن هذه الحدود الضيقة،
وهذا في رأيي من شأنه القضاء تمامًا على الجلال الذي يحوزه سهل شاسع مستوٍ في خيال
المرء.
•••
«١ أكتوبر»، انطلقنا بحلول الليل تحت ضوء القمر ووصلنا إلى نهر تيرسيرو مع شروق
الشمس. كان النهر كذلك يسمى سالاديللو (بمعنى المالح)، ويستحق هذا الاسم؛ لأن مياهه
كانت مالحة قليلًا. مكثتُ هنا للجزء الأكبر من اليوم أبحث عن عظام أحفورية. إلى جانب
سن
كاملة لحيوان التوكسودون والعديد من العظام المتناثرة، وجدت هيكلين عظميين ضخمين على
مقربة من بعضهما البعض يبرزان بكل وضوح من الجُرْف العمودي لنهر بارانا. غير أنهما كانا
متحللين تمامًا؛ حتى إنني لم أستطع الحصول إلا على شظايا صغيرة من أحد الضروس الكبيرة،
لكنها كانت كافية لإيضاح أن البقايا تنتمي إلى حيوان المستودون، وربما إلى النوع نفسه
الذي لا بد أنه كان يستوطن سلاسل الجبال في بيرو العليا بأعداد كبيرة في الماضي. قال
الرجال الذين صحبوني في الكانو إنهم كانوا يعلمون بأمر هذه الهياكل منذ زمن طويل،
وكانوا كثيرًا ما يتساءلون كيف وصلت إلى هناك؛ ولشعورهم بضرورة وضع نظرية لتفسير الأمر،
توصلوا إلى استنتاج مفاده أن المستودون، مثل البيزكاتشا، كان حيوانًا وِجاريًّا يحفر
مسكنه في الأرض! في المساء، ركبنا الخيول متجهين إلى محطة أخرى وعبرنا نهر المونج، وهو
مجرى آخر من المياه المالحة يحمل النفايات التي تجرفها البامبا.
•••
«٢ أكتوبر»، شققنا طريقنا عبر قرية كوروندا التي كانت واحدة من أجمل القرى التي
شاهدتها بسبب وفرة نماء حدائقها. من هذا المكان حتى سانتا في كان الطريق غير آمن
بالمرة. فلم يعد الجانب الغربي من نهر بارانا في اتجاه الشمال مأهولًا؛ ومِن ثَمَّ يأتي
الهنود أحيانًا إلى ذلك المكان ليهاجموا المسافرين. كما أن طبيعة الأرض تدعم هذا،
فبدلًا من سهل عشبي، توجد غابة مفتوحة تتكون من أشجار ميموزا منخفضة شائكة. مررنا ببعض
البيوت التي نُهِبَت وهُجِرَت منذ ذلك الحين؛ ورأينا كذلك مشهدًا نظر إليه أدلائي
بارتياح شديد؛ كان المشهد لهيكل عظمي لهندي معلق على فرع شجرة، وقد تدلى الجلد المجفف
على العظام.
في الصباح وصلنا إلى سانتا في، وفوجئت عندما لاحظت الاختلاف الشاسع في المناخ في مكان
بينه وبين بيونس أيرس ثلاث درجات عرض. كان هذا واضحًا من ملابس الرجال ولون بشرتهم، ومن
خلال الحجم المتزايد لأشجار الأومبو وعدد من أنواع الصبار الجديدة ونباتات أخرى،
والطيور بالأخص؛ فقد لاحظت على مدى ساعةٍ نصفَ دزينة من الطيور لم أرَها من قبل في
بيونس أيرس. كان الفارق أكبر بكثير مما توقعت، مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود حد فاصل
طبيعي بين المكانين، والتشابه الكبير بينهما في الطابع والسمات.
•••
«٣ و٤ أكتوبر»، لازمت الفراش في هذين اليومين بسبب الصداع. طَلَبَت مني سيدة عجوز
طيبة كانت تعتني بي أن أجرب العديد من العلاجات الغريبة. فكان هناك عادة شائعة وهي ربط
ورقة من أشجار البرتقال أو قطعة صغيرة بالقليل من اللصوق الأسود على كل صدغ، لكن
الإجراء الأكثر شيوعًا هو شق حبة فول إلى نصفين وترطيبهما بالمياه ووضع نصف على كل صدغ؛
حيث تلتصق به بسهولة. لا يُعتَقَد أنه من الصواب إزالة حبة الفول أو اللاصق، بل
يُترَكان حتى يسقطا من تلقاء نفسيهما، وفي بعض الأحيان حين يُسئل رجل يضع هذه القطع من
اللصوق على رأسه عما به يقول: «كنتُ أشعر بصداع أول من أمس.» العديد من العلاجات التي
يستخدمها البشر في هذه البلاد غريبة بدرجة مضحكة، لكنها مثيرة للغثيان لدرجة يتعذر معها
ذكرها. ولعل أحد أقل تلك العلاجات قذارة هي قتل جروين وبقْر بطنيهما وربطهما معًا على
كل جانب من عضو مكسور. وهناك إقبال كبير على الكلاب الصغيرة العديمة الفراء لتنام عند
أقدام العاجزين والمقعدين.
سانتا في بلدة صغيرة هادئة تتميز باحتفاظها الدائم بالنظافة والنظام. كان حاكمها،
لوبيز، جنديًّا نظاميًّا وقت الثورة لكنه يحكم البلدة الآن منذ سبعة عشر عامًا. ويرجع
هذا الاستقرار في الحكم إلى طرقه الغاشمة الاستبدادية في الحكم؛ إذ يبدو أن الاستبداد
يناسب هذه الدول أكثر من النظام الجمهوري. والمهمة المفضلة للحاكم هي اصطياد الهنود؛
فمنذ وقت ليس ببعيد أقدم على ذبح ثمانية وأربعين منهم وبِيع الأطفال مقابل ثلاثة أو
أربعة جنيهات للواحد.
•••
«٥ أكتوبر»، عبرنا نهر بارانا إلى سانتا في باهادا، وهي بلدة تقع على الساحل المقابل.
استغرق العبور بضع ساعات؛ إذ كان النهر هنا يتكون من متاهة من المجاري المائية الصغيرة
يفصل بينها جزر شجرية منخفضة الارتفاع. كان معي خطاب تعريف موجه إلى عجوز إسباني من
كتالونيا عاملني بكرم ضيافة غير عادي تمامًا. كانت الباهادا عاصمة إنتري ريوس. في عام
١٨٢٥، كانت البلدة تضم ستة آلاف شخص بينما يضم الإقليم ثلاثين ألفًا. مع ذلك، ورغم قلة
عدد السكان، ما من إقليم عانى قدر معاناته من الثورات الدموية واليائسة. فهم هنا يفخرون
بامتلاك نوَّاب ووزراء وجيش عامل وحكام أقاليم؛ لذا ليس من الغريب حدوث ثورات لديهم.
يومًا ما في المستقبل ستصبح أحد أغنى الأقطار الواقعة على نهر لابلاتا. فالتربة متنوعة
وغزيرة الإنتاج، كما أن تكوينها شبه الجزيري يمنحها خَطَّي اتصال كبيرين مع نهري بارانا
وأوروجواي.
تأخر رحيلي خمسة أيام وفي الأثناء شغلت نفسي بفحص جيولوجية المكان المحيط، والتي كانت
مثيرة للاهتمام إلى حد كبير. فنرى هنا عند سفح الجروف قيعانًا تحوي أسنانًا لأسماك
القرش وقواقع بحرية من أنواع منقرضة التي ترتفع لأعلى لتهبط داخل طين جيري مقسى ومن
هناك إلى الأرض الطينية الحمراء للسهول المعشوشبة بما تضمه من حجارة كلسية وعظام
رباعيات الأقدام الأرضية. يفصح لنا هذا القطاع العمودي بوضوح عن وجود خليج كبير من
المياه المالحة الخالصة تم التعدي عليه تدريجيًّا حتى تحول في النهاية لمصب نهر طيني
انجرفت فيه الجثث الطافية في بونتا جوردا، في باندا الشرقية، وجدت تغيُّرًا في راسب
المصب النهري البامبي مع وجود حجر كلسي يحوي بعضًا من نفس القواقع البحرية المنقرضة
وهذا يبين إما تغيرًا في التيارات السابقة أو، وهو الاحتمال الأرجح، تذبذبًا في مستوى
قاع المصب القديم حتى وقت قريب، كانت أسبابي لاعتبار التكوين البامبي راسبًا لمصب نهري
تتمثل في شكله العام، وموقعه عند مصب نهر لابلاتا العظيم الموجود حاليًّا، ووجود الكثير
من عظام رباعيات الأقدام الأرضية، لكن البروفيسور إيرينبرج تكرَّم بفحص القليل من
التربة الحمراء المأخوذ من أعماق الراسب بالقرب من هياكل المستودون ليجد به العديد من
النقاعيات بعض أشكالها ينتمي للمياه المالحة والبعض الآخر ينتمي للمياه العذبة، وكانت
الأخيرة هي السائدة على نحو أكبر؛ ولذا، كما يشير، فإن المياه لا بد أنها كانت قليلة
الملوحة. كذلك وجد السيد إيه دوربيني على ضفتي البارانا على ارتفاع مائة قدم قيعانًا
ضخمة من القواقع التي تعيش في مصب النهر تعيش الآن في موضع أقرب من البحر على انخفاض
يصل إلى مائة ميل، ووجدت قواقع مماثلة على ارتفاع أقل على ضفتي نهر الأوروجواي وهذا
يوضح أنه قبل أن ترتفع البامبا ببطء مباشرة لتصبح أراضي جافة، كانت المياه التي تغطيها
منخفضة الملوحة. تحت بيونس أيرس يوجد قيعان مرتفعة من القواقع البحرية من نوع موجود
حاليًّا، وهو ما يثبت كذلك أن فترة ارتفاع السهول كانت ضمن الحقبة الزمنية
الحديثة.
في الراسب البامبي في باهادا، وجدت درعًا عظمية لحيوان ضخم يشبه المدرع، والذي كان
من
الداخل، بعد إزالة التراب، يشبه مرجلًا كبيرًا؛ كما وجدت كذلك سنًّا لحيوان التوكسودون
والمستودون وسنًّا لحصان على الحالة نفسها من التصبغ والتحلل. وقد أثار الأخير اهتمامي
كثيرًا
٣ وتوخيت الحرص والتدقيق للتأكد من أنه قد طُمِر بالتزامن مع البقايا الأخرى؛
لأني لم أكن أدرك آنذاك أنه كان يوجد بين الأحفوريات في باهيا بلانكا سن حصان مخبأة في
الرواسب الأرضية التي وجدت بداخلها، كما أنه لم يكن معروفًا آنذاك على نحو مؤكد أن
بقايا الخيول منتشرة في أمريكا الشمالية. أحضر السيد لايل مؤخرًا من الولايات المتحدة
سن حصان، ومن الحقائق المثيرة أن البروفيسور أوين لم يستطع أن يجد في أي نوع، سواء
منقرض أو حديث، أي انحناء بسيط مميز حتى خطر له مقارنته بالعينة التي وجدتها هنا، وقد
أطلق على هذا الحصان الأمريكي اسم الحصان ذي الأسنان المقوسة. من المؤكد أنها حقيقة
مدهشة في تاريخ الثدييات أن حصانًا من سلالة محلية كان يعيش في أمريكا الجنوبية واختفى
ليخلفه في الحقب الزمنية التالية قطعان لا تحصى تنحدر من الخيول القليلة التي أدخلها
المستعمرون الإسبان إلى البلاد.
كان وجود أحفوريات للحصان والمستودون وربما الفيل
٤ وحيوان مجتر مجوف القرون في أمريكا الجنوبية واكتشافها بواسطة السيدين لوند
وكلاوسن في كهوف البرازيل يمثل حقائق مثيرة فيما يخص التوزيع الجغرافي للحيوانات. في
الوقت الراهن، إذا قسمنا أمريكا لا عن طريق مضيق بنما كبداية، بل عن طريق الجزء الجنوبي
من المكسيك
٥ عند دائرة عرض ٢٠ درجة، حيث يمثل النجد العظيم عقبة أمام هجرة الأنواع؛ من
خلال التأثير على المناخ وتكوين عائق عريض، باستثناء بعض الأودية وشريط من الأرض
المنخفضة على الساحل، فسيكون لدينا إذن إقليمين حيوانيين يتعارض بعضهما مع بعض بشدة،
وهما أمريكا الشمالية والجنوبية. قليل من الأنواع فقط هي التي نجحت في تخطي هذا العائق
وربما تعتبر أنواعًا جوالة من الجنوب، مثل الأسد الأمريكي والأبوسوم ودب العسل أو
الكنكاجو وخنزير البيكاري. تتميز أمريكا الجنوبية بامتلاك العديد من القوارض الفريدة،
وعائلة من القردة، واللاما والبيكاري والتابير والأبوسوم، وبشكل خاص سبعة أنواع من
عديمات الأسنان، وهي الرتبة التي تضم حيوانات الكسلان وآكل النمل والمدرع. على الجانب
الآخر، تتميز أمريكا الشمالية بالعديد من القوارض الفريدة المميزة (بعد تنحية بعض
الأنواع الحيوانية الجوالة) وأربعة أجناس من المجترات المجوفة القرون (الثيران والخراف
والماعز والظبيان) التي لا تضم أمريكا الجنوبية نوعًا واحدًا منها حسبما هو معروف. فيما
سبق، لكن ضمن الحقبة الزمنية التي كانت تعيش فيها معظم القواقع الموجودة حاليًّا، كانت
أمريكا الشمالية تمتلك، بجانب المجترات المجوفة القرون، الفيل والمستودون والحصان
وثلاثة أجناس من عديمات الأسنان، وهي البهضم والميجالونيكس والميلودون. في حدود نفس
الحقبة تقريبًا (كما تثبت القواقع في باهيا بلانكا) كانت أمريكا الجنوبية تضم، كما
رأينا للتو، مستودون، وحصانًا وأحد المجترات المجوفة القرون والأجناس الثلاثة نفسها
(بجانب أجناس أخرى) من عديمات الأسنان؛ لذا من الواضح أن الأمريكتين الشمالية
والجنوبية، بامتلاك كلتيهما للأجناس الحيوانية العديدة نفسها في حقبة جيولوجية متأخرة،
كانتا متشابهتين إلى حد كبير في سمات الحيوانات البرية التي تسكنهما أكثر من الآن. كلما
فكرت في هذه الحالة، بدت لي أكثر إثارة؛ فليس لي علم بأي حالة أخرى يمكننا فيها التوصل
إلى تحديد شبه دقيق للحقبة الزمنية والطريقة التي تنقسم بها منطقة واحدة شاسعة إلى
إقليمين حيوانيين لكلٍّ منهما سماته المميزة الخاصة. والجيولوجي المنبهر كليًّا
بالتقلبات الهائلة في استواء الأرض والتي أثرت على قشرتها في الحقب الجيولوجية
المتأخرة، لن يخشى أن يخمن أن الارتفاع الذي حدث مؤخرًا في المنصة المكسيكية أو، وهو
الأمر الأكثر ترجيحًا، ما حدث مؤخرًا للأرض من انغمار بالمياه في أرخبيل جزر الهند
الغربية، هو السبب وراء الانفصال الحيواني الحالي بين الأمريكتين الشمالية والجنوبية.
يبدو أن السمت الجنوب أمريكي لثدييات جزر الهند الغربية
٦ يشير إلى أن هذا الأرخبيل كان فيما مضى جزءًا من القارة الجنوبية، وأنه
أصبح فيما بعد منطقة هبوط أرضي.
عندما كانت الأمريكتان، وخاصة الشمالية، تضم الفيلة والمستودون والخيول والمجترات
المجوفة القرون، كانتا أقرب كثيرًا في سماتها الخاصة بالحياة الحيوانية إلى الأجزاء
المعتدلة المناخ في أوروبا وآسيا مما هما عليه الآن. ومع اكتشاف وجود بقايا هذه الأنواع
على جانبي مضيق بيرينج
٧ وفي سهول سيبيريا، يدفعنا هذا للنظر إلى الجانب الشمالي الغربي من أمريكا
الشمالية بوصفه نقطة الاتصال السابقة بين العالم القديم وما يسمى بالعالم الجديد. وبما
أن العديد والعديد من الحيوانات، الحية والمنقرضة على حد سواء، التي تنتمي لهذه الأجناس
نفسها تسكن، أو كانت تسكن، العالم القديم، يبدو واردًا للغاية أن الأفيال والمستودونات
والخيول والمجترات المجوفة القرون في أمريكا الشمالية قد نزحت من سيبيريا إلى أمريكا
الشمالية من أرض غُمِرَت بالمياه بالقرب من مضيق بيرينج؛ ومِن ثَمَّ من أرضٍ غُمرت
بالمياه في جزر الهند الغربية إلى أمريكا الجنوبية حيث اختلطت لفترة بالأنواع المميزة
للقارة الجنوبية وانقرضت منذ ذلك الحين.
•••
أثناء ترحالي عبر البلاد، حصلت على عدة أوصاف تفصيلية لآثار إحدى فترات الجفاف العظيم
المتأخرة، وربما يلقي سردها بعض الضوء على الحالات التي طُمِرَت فيها أعداد ضخمة من
الحيوانات من كل الأنواع معًا. كانت الفترة بين عامي ١٨٢٧ و١٨٣٠ تسمى فترة الجفاف
العظيم. خلال ذلك الوقت كانت الأمطار شحيحة للغاية؛ حتى إن النباتات، الشائكة منها،
شحت، وجفت جداول الماء، واكتسبت البلاد بالكامل شكل الطريق العام المُترب. كان هذا هو
الحال خاصة في الجزء الشمالي من إقليم بيونس أيرس والجزء الجنوبي من سانتا في. هلكت
أعداد ضخمة جدًّا من الطيور والحيوانات البرية والماشية والخيول بسبب الحاجة للطعام
والمياه. أخبرني رجل أن أيلًا
٨ اعتاد الدخول إلى ساحة منزله ليشرب من البئر التي اضطر لحفرها ليوفر المياه
لعائلته، وأن طيور الحَجَل كانت بالكاد تمتلك القوة للطيران للهرب من المطاردات. كان
أقل تقدير لحجم الخسائر في الماشية في مقاطعة بيونس أيرس بمفردها هو مليون رأس. كان
هناك صاحب أملاك في سان بيدرو يمتلك عشرين ألف رأس ماشية قبل تلك السنوات العجاف، لكن
في نهايتها كانت قد نفقت جميعًا. تقع سان بيدرو في وسط أفضل الأراضي، وحتى الآن أصبحت
زاخرة مرة أخرى بالحيوانات، غير أنه خلال الجزء الأخير من فترة الجفاف العظيم، كانت
الماشية الحية تُجلَب في سفن لاستهلاك السكان. تركت الحيوانات مزارع الماشية وهامت إلى
مسافات بعيدة جنوبًا مما جعلها تختلط معًا في تجمعات كبيرة؛ حتى إن لجنة حكومية أُرسلت
من بيونس أيرس لتسوية النزاعات بين ملاك الحيوانات. أخبرني السير وودباين باريش بسبب
آخر في غاية الغرابة للنزاع، وهو أن الأرض كانت جافة لفترة طويلة للغاية وأن كمياتٍ
ضخمةً من التراب تطايرت بفعل الرياح حتى إن معالم هذه المنطقة المفتوحة طُمِسَت ولم
يستطع الناس تحديد حدود أملاكهم. كما أخبرني شاهد عيان أن قطعانًا من الماشية تقدر
بالآلاف اندفعت إلى نهر البارانا وكانت منهكة من الجوع حتى إنها لم تستطع تسلق الضفاف
الطينية؛ ومِن ثَمَّ غرقت. كان لسان النهر الذي يجري بجانب سان بيدرو يمتلئ بالجثث
المتعفنة حتى إن قبطان إحدى السفن أخبرني أن الرائحة جعلت عبوره مستحيلًا؛ ومِن ثَمَّ
فليس ثمة شكٌّ في أن مئات الآلاف من الحيوانات نفقَت في النهر، وكانت جثثها المتعفنة
تُشاهد طافية عبر مجرى النهر وأغلب الظن أن العديد منها قد استقر في مصب نهر لابلاتا.
أصبحت الأنهار الصغيرة جميعها شديدة الملوحة وأدى هذا إلى نفوق أعدادٍ ضخمةٍ في أماكن
معينة؛ لأنه عندما يشرب الحيوان من مياه هذه الأنهار لا يتعافى مرة أخرى. يصف أزارا
٩ غضب الخيول البرية في مناسبة مماثلة؛ حين كانت تندفع داخل المستنقعات حيث
سُحِق من وصل منها أولًا بواسطة من تلاها. ويضيف أنه رأى أكثر من مرة جثث ما يزيد على
ألف حصان بري هلكت بهذه الطريقة. وقد لاحظت أن جداول المياه الصغيرة في البامبا ممهدة
ببريشيا أو صخرة متلاحمة من العظام، لكن ربما كان هذا من أثر الازدياد التدريجي وليس
الدمار الذي حدث في حقبةٍ زمنيةٍ بعينها. أعقب فترة جفاف عام ١٨٢٧ موسمٌ مطير للغاية
تسبب في حدوث فيضانات كبرى؛ ومِن ثَمَّ فإن من المؤكد لحدٍّ بعيد أن بضعة آلاف من
الهياكل العظمية دُفنت بفعل رواسب العام التالي مباشرة. ماذا سيكون رأي جيولوجي يرى هذه
المجموعة الضخمة من العظام من كل الحيوانات وجميع الأعمار مطمورة بهذا الشكل في كتلةٍ
ترابيةٍ واحدة ضخمة؟ ألن يُعزى هذا إلى فيضان جرف سطح الأرض وليس إلى النظام الطبيعي
للأشياء؟
١٠
•••
«١٢ أكتوبر»، كنت قد اعتزمت الاستمرار في رحلتي، لكن لشعوري بأني لست على ما يرام،
اضطررت للعودة باستخدام سفينة ذات صارٍ واحد تصل حمولتها إلى مائة طن كانت في طريقها
إلى بيونس أيرس. ولما لم يكن الطقس معتدلًا، فقد رسونا مبكرًا في الصباح وربطنا السفينة
إلى فرع شجرة على إحدى الجزر. يزخر نهر بارانا بالجزر التي تمر بدورة مستمرة من التحلل
والتجدد. ما زال قائد السفينة يتذكر اختفاء عدة جزر كبرى وتكوُّن أخرى مجددًا تحت حماية
الغطاء النباتي. تتكون هذه الجزر من رمال طينية خالية حتى من أصغر الحصى وكانت آنذاك
ترتفع عن مستوى سطح النهر نحو أربع أقدام، لكنها كانت تُغمر بالمياه في أوقات الفيضانات
الدورية. تشترك تلك الجزر جميعًا في سمة واحدة وهي امتلاكها الكثير من أشجار الصفصاف
وبضع أشجار أخرى مربوطة معًا بمجموعة متنوعة بشكل كبير من النباتات المعترشة لتشكل بذلك
غابة كثيفة. تتيح هذه الأيكات ملاذًا لحيوانات الكابيبارا والنمور الأمريكية. وقضى
الخوف من النمر الأمريكي على متعة التجول في الغابات تمامًا. في ذلك المساء لم أكن قد
تجاوزت في مسيري مائة ياردة حين وجدت علامات أكيدة على وجود نمر في المكان مؤخرًا مما
اضطرني إلى العودة. في كل جزيرة كان هناك آثار ومثلما كان أثر الهنود في الرحلة السابقة
هو موضوع النقاش، كان أثر النمر هو مثار الحديث في هذه الرحلة.
يبدو أن ضفاف الأنهار الكبرى المغطاة بالأشجار هي المكان المفضل للنمر الأمريكي؛ أما
في جنوب نهر لابلاتا، قيل لي إنها تتردد على البوص الذي يتاخم البحيرات؛ فحيثما يوجد،
يبدو أنها تحتاج إلى المياه. كان الكابيبارا فريستها الشائعة؛ حتى إنه عادة ما يقال إنه
حيثما يكثر الكابيبارا يكون خطر النمر الأمريكي محدودًا. يقول فالكونر إنه بالقرب من
الجانب الجنوبي من مصب لابلاتا يوجد العديد من النمور الأمريكية، وأنها تعيش بالأساس
على اقتيات السمك، وقد سمعت هذه الرواية مرارًا. على نهر بارانا، قتلت تلك النمور
العديد من قاطعي الأخشاب وكانت تدخل السفن ليلًا. هناك رجل يعيش الآن في باهادا، كان
قادمًا من أسفل السفينة في الظلام، وحاصرته النمور على السطح لكنه نجح في الفرار بعدما
فقد أحد ذراعيه. عندما تدفع الفيضانات هذه الحيوانات بعيدًا عن الجزر، يتعاظم خطرها إلى
أقصى حد. وقد قيل لي إنه منذ بضع سنوات وجد أحد النمور الضخمة طريقه إلى كنيسة سانتا
في
وقتل قسيسين كانا قد دخلا إلى الكنيسة واحدًا تلو الآخر، وهرب ثالث بصعوبة بعد أن جاء
ليستطلع الأمر. وقد قُتِل الوحش بإطلاق النار عليه من زاوية المبنى الذي كان بدون سقف.
في تلك الأوقات تتسبب النمور الأمريكية كذلك في خسائر كبيرة بين قطعان الماشية والخيول.
ويقال إنها تقتل فرائسها بكسر أعناقها. وإذا أُبعِدَت عن الجثث فنادرًا ما تعود إليها.
يقول الجاوتشو إن النمر الأمريكي عندما يتجول ليلًا ينزعج بشدة من الثعالب التي تعوي
أثناء تتبعها له. ولعل في ذلك توافقًا غريبًا مع الحقيقة المؤكدة عمومًا عن مرافقة
حيوانات ابن آوى للنمر البنغالي بأسلوب فضولي مشابه. ويتسم النمر الأمريكي بكونه
حيوانًا مزعجًا يزأر كثيرًا بالليل وخاصة قبل حلول طقس سيئ.
في أحد الأيام وأثناء الصيد على ضفتي نهر الأوروجواي، أُرشدت إلى بعض الأشجار التي
تتردد عليها هذه الحيوانات دائمًا من أجل شحذ مخالبها كما يقال. رأيت ثلاثة أشجار
معروفة، كان لحاؤها من الأمام قد اهترأ وأصبح ناعمًا كما لو كان ذلك قد حدث بواسطة صدر
الحيوان، وعلى كلا الجانبين كان ثمة خدوش عميقة، أو بالأحرى أخاديد، تمتد في خط مائل
يصل طوله إلى ياردة تقريبًا. كانت الندبات على الأشجار من فترات زمنية مختلفة. كانت
إحدى الطرق الشائعة للتأكد مما إذا كان هناك نمر أمريكي في الجوار هي فحص تلك الأشجار.
أعتقد أن هذه العادة الخاصة بالنمر الأمريكي تشبه بالضبط عادةً يمكن ملاحظتها في أي يوم
لدى القط الشائع؛ إذ يمد ساقيه ويبرز مخالبه ليخدش قائم كرسي ما، وقد سمعت عن أشجار
فاكهة حديثة السن في بستان بإنجلترا تضررت إلى حد كبير بنفس الطريقة. ولا بد أن هناك
عادةً مشابهة شائعة كذلك لدى الأسد الجبلي؛ فكثيرًا ما رأيت على تربة باتاجونيا الصلبة
الجرداء خدوشًا أعمق من أن يستطيع حيوان آخر إحداثها. أعتقد أن الهدف من هذه العادة هو
إزالة الأطراف المسننة لمخالبها وليس شحذها كما يظن الجاوتشو. يُقتَل النمر الأمريكي
بدون صعوبة كبيرة بمساعدة الكلاب التي تنبح وتدفعه لتسلق شجرة حيث يُقتَل
بالرصاص.
بقينا في مرسانا لمدة يومين بسبب الطقس السيئ. كانت تسليتنا الوحيدة هي اصطياد السمك
من أجل العشاء، وكان هناك أنواع عدَّة وكلها مستساغة وصالحة للأكل. توجد سمكة تدعى
أرمادو (وهي من فصيلة السلور) مشهورة بإصدارها صوت صرير مزعج عند صيدها بالصنارة ويمكن
سماعها بكل وضوح عندما تكون السمكة تحت الماء. نفس السمكة تملك القدرة على الإمساك بقوة
بأي جسم مثل نصل المجداف أو خيط الصيد بالشوكة القوية لكل من الزعنفة الصدرية والبطنية.
في المساء كان المناخ استوائيًّا إلى حد بعيد وكان مقياس الحرارة يشير إلى درجة حرارة
٧٩ درجة. كان ثمة أعدادٌ كبيرةٌ من اليراعات يحوم في الهواء وكان البعوض مزعجًا للغاية.
كشفت يدي لخمس دقائق ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت مغطاة بها تمامًا؛ لا أفترض أنه كان
هناك أقل من خمسين مشغولة جميعها بمص جلدي.
•••
«١٥ أكتوبر»، بدأنا التحرك ومررنا ببونتا جوردا؛ حيث توجد مستعمرة من الهنود
المستأمنين من إقليم ميسيونس. أبحرنا بسرعة في اتجاه التيار، لكن قبل غروب الشمس ولخوف
سخيف لا مبرر له من الطقس السيئ، توقفنا في لسان ضيق من النهر. أخذت القارب وجدفت
لمسافة عبر هذا النهير. كان شديد الضيق والعمق والالتفاف وكان محاطًا من كل جانب منه
بسياج من الأشجار التي تلتف عليها النباتات المعترشة يصل ارتفاعه إلى ٣٠ أو ٤٠ قدمًا
مما أكسب القناة منظرًا كئيبًا فريدًا من نوعه. هنا رأيت طائرًا عجيبًا جدًّا يسمى
الطائر المقصي المنقار (أو أبا مقص الأسود). كان له سيقان قصيرة وأقدام وتراء وأجنحة
طويلة ومدببة للغاية ويساوي حجمه تقريبًا حجم طائر الخرشنة.
كان منقاره مفلطحًا من الجوانب، أي في مستوى رأسي مسطح بزوايا قائمة مقارنة بمنقار
أبي ملعقة (أو ملعقي المنقار) أو البطة. كان مستويًا ومرنًا مثل قاطعة الورق العاجية،
وكان فكه السفلي يختلف عن أي طائر آخر ويزيد طوله عن العلوي مقدار بوصة ونصف. في بحيرة
قريبة من مالدونادو، كانت مياهها قد جفت تقريبًا؛ ومِن ثَمَّ كانت مليئة بالأسماك
الصغيرة، رأيت العديد من هذه الطيور التي عادة ما تكون في أسراب صغيرة تطير بسرعة
ذهابًا وعودة بالقرب من سطح البحيرة. كانت تُبقي مناقيرها مفتوحة على مصراعيها، وكان
الفك السفلي مدفونًا جزئيًّا في المياه. وبذلك كان يكشط السطح ويحرثه أثناء مسيره،
وكانت المياه انسيابية وهادئة للغاية، مما شكَّل واحدًا من أكثر المناظر غرابة؛ حيث كان
كل طائر يترك أثره النحيل على السطح الذي يشبه المرآة. كانت كثيرًا ما تنحرف أثناء
طيرانها بسرعة قصوى وتنجح ببراعة في توجيه فكها السفلي لاستخراج السمك الصغير الذي يتم
اصطياده بواسطة الفك العلوي الأقصر من منقاره الذي يشبه المقص. رأيت هذا مرارًا؛ إذ
استمرت في الطيران ذهابًا وعودة، مثل طيور السنونو، أمامي بالقرب من المياه. وعندما
كانت تبتعد عن سطح المياه، بين الحين والآخر، كان طيرانها جامحًا وغير منتظم وسريعًا؛
ومِن ثَمَّ تطلق صيحات خشنة مرتفعة. عندما تصيد هذه الطيور السمك، تتجلَّى إلى حد كبير
فائدة الريش الأساسي الطويل في أجنحتها في الحفاظ على أجسامها جافة. عندما تستخدم
أجنحتها على هذا النحو، تشبه أشكالها الرمز الذي يستخدمه الكثير من الفنانين في تجسيد
الطيور البحرية. وتستخدم أذيالها كثيرًا في توجيه مسارها غير المنتظم.
يشيع وجود هذه الطيور حتى مسافة كبيرة إلى الداخل بمحاذاة مجرى نهر بارانا، ويقال
إنها تبقى في هذا المكان على مدى العام بأكمله وتتكاثر في المستنقعات. خلال النهار
تستقر في أسراب على البامبا على مسافة قريبة من المياه. أثناء رسونا في أحد النهيرات
العميقة بين جزر نهر ريو بارانا، وبينما كان المساء وشيكًا، إذا بأحد تلك الطيور ذوات
المنقار المقصي تظهر على حين غرة. كانت المياه ساكنة تمامًا وكان العديد من الأسماك
الصغيرة تبرز منها. استمر الطائر لوقت طويل في كشط السطح وكان يطير بأسلوبه الجامح وغير
المنتظم أعلى وأسفل القناة الضيقة والتي أصبح الظلام يعمها الآن بفعل ظلمة الليل
المتنامية وظلال الأشجار المتدلية. في مونتفيديو، لاحظت أن بعض الأسراب الكبيرة تبقى
خلال النهار على الضفاف الطينية عند رأس الميناء مثلما تفعل في البامبا بالقرب من نهر
بارانا، وكانت كل مساء تطير نحو البحر. من خلال هذه الحقائق أعتقد أن مقصيات المنقار
عمومًا تصيد الأسماك ليلًا؛ وهو الوقت الذي يكثر فيه صعود الكثير من الحيوانات التي
تعيش على أعماق أكبر إلى السطح. يشير السيد ليسون إلى أنه رأى هذه الطيور وهي تفتح
قواقع محار الماكترا المدفونة في الضفاف الرملية على ساحل تشيلي، ومن غير المحتمل
تمامًا أن تكون هذه عادة شائعة لديها بسبب مناقيرها الضعيفة والبروز الشديد للفك السفلي
وسيقانها القصيرة وأجنحتها الطويلة.
لاحظت في مسيرنا عبر نهر بارانا ثلاثة طيور أخرى فقط هي التي تستحق سلوكياتها أن
تُذكر. الأول كان طائرًا صغيرًا من الرفرافيات (صائد السمك الأمريكي) وكان له ذيل أطول
من نظيره الأوروبي ومِن ثَمَّ لا يجلس في وضع عمودي وثابت إلى حد كبير. كما أنه لا يطير
في مسار مباشر وسريع مثل السهم، بل بأسلوب ضعيف ومتعرج كما تفعل الطيور الضعيفة
المنقار. يصدر هذا الطائر صوتًا موسيقيًّا خفيضًا مثل طقطقة حجرين صغيرين معًا. الطائر
الثاني كان ببغاء أخضر صغيرًا (الببغاء الجِرْذاني الرمادي) ذا صدر رمادي، ويبدو أنه
يفضل الأشجار الطويلة على الجزر على أي مكان آخر لبناء أعشاشه. توجد أعشاش عديدة بعضها
بجوار بعض على مسافة قريبة بحيث تشكِّل كتلة ضخمة من العصي. دائمًا ما تعيش هذه
الببغاوات في أسراب وتلحق أضرارًا شديدة بحقول الذرة. قيل لي إن ٢٥٠٠ ببغاء منها قتلوا
في عام واحد بالقرب من كولونيا. أما الثالث فهو طائر ذو ذيل متشعب كالشوكة ينتهي
بريشتين كبيرتين وهو عصفور الملك الشوكي الذيل وسماه الإسبان الطائر المقصي الذيل ويشيع
وجوده بكثرة بالقرب من بيونس أيرس؛ وعادة ما يجلس على فروع أشجار الأومبو بالقرب من
المنازل؛ ومِن ثَمَّ يطير لمسافات قصيرة متعقبًا الحشرات لصيدها ثم يعود إلى نفس
المكان. عندما يطير يصبح في شكله العام وطريقة طيرانه مشابهًا بطريقة كاريكاتورية مضحكة
للسنونو الشائع. لهذا الطائر القدرة على الانعطاف على نحو مفاجئ للغاية في الهواء وفي
الأثناء يفتح ويغلق ذيله في اتجاه أفقي أو جانبي تارة وتارة أخرى في اتجاه رأسي كزوج
من
المقصات.
•••
«١٦ أكتوبر»، على بعد عدة فراسخ أسفل روزاريو، يحاط الساحل الغربي لنهر بارانا بجروف
صخرية عمودية تمتد في خط طويل حتى أسفل سان نيكولاس؛ ومِن ثَمَّ فهو أشبه بساحل بحر
أكثر منه بساحل لنهر عذب. ويعد هذا انتكاسة كبرى للمشهد الطبيعي لنهر بارانا؛ لأن
المياه كانت طينية جدًّا بسبب الطبيعة الطرية لضفتيه. كانت مياه نهر الأوروجواي الذي
يتدفق عبر أراضٍ جرانيتية، أكثر صفاء وحيثما يتحد المجريان في مصب البارانا، يمكن تمييز
المياه من مسافة بعيدة بلونيها الأحمر والأسود. في المساء وكالعادة، رسونا مباشرة لأن
الرياح لم تكن هادئة للدرجة، وفي اليوم التالي وبينما كانت الرياح تهب بقوة نوعًا ما،
وإن كان التيار مواتيًا، كان القبطان متكاسلًا جدًّا ولا يفكر قط في التحرك. في باهادا،
وُصِف لي هذا الرجل بأنه «رجل يبعث التعامل معه دومًا على البؤس والأسف.» لكن المؤكد
أنه كان يتحمل كل هذه التأخيرات باستكانة مثيرة للإعجاب. كان عجوزًا إسبانيًّا وظل في
هذه البلاد لسنوات طوال. اعترف بحبه الشديد للإنجليز لكنه أصر بشدة على أن معركة الطرف
الأغر حُسِمَت بعدما تم رشوة كل القباطنة الإسبان، وأن التصرف النبيل الوحيد الذي حدث
من أيٍّ من الجانبين فعله الأميرال الإسباني. بدا لي أمرًا غريبًا إلى حدٍّ ما أن يفضل
هذا الرجل أن ينظر إلى مواطني بلاده باعتبارهم خونة بدلًا من اعتبارهم غير مهرة أو
جبناء.
•••
«١٨ و١٩ أكتوبر»، واصلنا الإبحار ببطء في المجرى المائي الهادئ وساعدنا التيار
قليلًا. أثناء نزولنا قابلنا القليل جدًّا من السفن. أحد أفضل هبات الطبيعة في قناة
اتصال كبيرة مثل هذا النهر، تبدو مهجورة هنا على نحو متعمد؛ فهذا نهر تبحر فيه سفن من
بلاد معتدلة المناخ عامرة على نحو مثير للدهشة بمنتجات وفقيرة في منتجات أخرى، إلى بلاد
أخرى تملك مناخًا استوائيًّا وتربة ربما الأخصب في أي مكان في العالم بلا منازع طبقًا
لأفضل من يحكم في هذا الأمر وهو السيد بونبلان. كم كان سيختلف الأمر في هذا الجانب من
النهر لو كان الحظ قد حالف المستعمرين الإنجليز بالإبحار أولًا عبر لابلاتا. أي مدن
جميلة كانت ستشغل شواطئه الآن! وإلى أن يحين أجل فرانسيا، ديكتاتور باراجواي، يجب أن
يظل هذان البلدان مستقلين كما لو كانا يقعان في جانبين متقابلين من الكوكب. وعندما يرحل
الطاغية الدموي العجوز، ستمزق الثورات باراجواي ويعمها العنف بنفس قدر الهدوء الزائف
المصطنع الذي سادها فيما سبق. سيكون على تلك الدولة، كأي دولة أخرى في أمريكا الجنوبية،
أن تدرك أن أي جمهورية لا يمكن أن تنجح حتى تضم هيئة من الرجال مشربين بمبادئ العدل
والشرف.
•••
«٢٠ أكتوبر»، بعد وصولنا لمصب نهر بارانا، ولما كنت في أشد اللهفة للوصول إلى بيونس
أيرس، ذهبت إلى الشاطئ في لاس كونشاس بنية الذهاب إلى هناك بالخيل. عندما رسونا،
ولدهشتي الشديدة وجدتني سجينًا بدرجة ما؛ فقد كانت ثورة عنيفة قد اندلعت وكانت كل
الموانئ تحت الحصار. لم أستطع العودة إلى سفينتي، وأما الذهاب إلى المدينة برًّا، فكان
أمرًا مستحيلًا. بعد نقاش طويل مع القائد، حصلت على إذن للذهاب في اليوم التالي إلى
الجنرال رولور الذي يرأس كتيبة من المتمردين في هذا الجانب من العاصمة. في الصباح، ذهبت
إلى المعسكر. كان الجنرال والضباط والجنود يبدون جميعًا، وأعتقد أنهم كانوا كذلك فعلًا،
أوغادًا من الدرجة الأولى. في الصباح الذي سبق مباشرة رحيله عن المدينة، ذهب الجنرال
طواعية إلى الحاكم ووضع يده على قلبه متعهدًا بكلمة شرف أنه على الأقل سيظل مخلصًا
للنهاية. أخبرني الجنرال أن المدينة كانت في حالة من الحصار المحكم، وكان كل ما يستطيع
فعله هو إعطائي جواز سفر إلى القائد الأعلى للمتمردين في كويلمس؛ لذا كان علينا القيام
بجولة دورة كبيرة حول المدينة وحصلنا على خيول بصعوبة شديدة. كان استقبالي في المعسكر
متحضرًا إلى حد بعيد، لكن قيل لي إنه من المستحيل السماح لي بدخول المدينة. كنت قلقًا
للغاية إزاء هذا؛ لأني توقعت رحيل البيجل من نهر لابلاتا في وقت أبكر بكثير من الوقت
الذي رحلت فيه بالفعل. مع ذلك، بعدما ذكرت ما أبداه الجنرال روساس معي من كرم شديد
عندما كنا في نهر كولورادو، سرعان ما تغيرت الأمور بعد هذه المحادثة بسرعة لم يكن
ليسبقها السحر؛ فقد قيل لي في الحال إنه على الرغم من أنهم لم يستطيعوا إعطائي جواز
مرور، فإنني إذا اخترت أن أترك الأدلَّاء والخيول، فربما يمكنني عبور حراسهم. كنت
سعيدًا للغاية بقبول هذا وأُرسِل معي ضابط وأعطى توجيهات ألَّا يتم توقيفي عند الجسر.
كان الطريق مهجورًا تمامًا لمسافة فرسخ. قابلتُ مجموعة واحدة من الجنود اكتفوا بالنظر
بشيء من الجدية في جواز مرور قديم، وفي النهاية لم أكن مسرورًا ولو بقدر قليل عندما
وجدت نفسي داخل المدينة.
لم يكن هناك ما يدعم الثورة من المظالم إلا النَّزْر اليسير، لكن في دولة تعرضت على
مدى تسعة أشهر (من فبراير وحتى أكتوبر ١٨٢٠) لتغيير الحكومة خمس عشرة مرة — وكان كل
حاكم يُنتَخَب طبقًا للدستور لمدة ثلاث سنوات — لم يكن من المنطقي تمامًا السؤال عن
ذرائع. وفي هذه الحالة، غادر المدينة مجموعة من الرجال — التابعين للجنرال روساس ومِن
ثَمَّ كانوا رافضين لحكم المحافظ بالكارس — ناهز عددهم السبعين رجلًا، ومع نداء الجنرال
روساس حمل كل مَن في البلاد السلاح. كانت المدينة آنذاك محاصرة ولم يُسمَح بدخول المؤن
أو الماشية أو الخيول، بجانب ذلك، كان ثمة مناوشات بسيطة وكان يُقتَل بعض الرجال
يوميًّا. كانت المجموعة الواقفة خارج المدينة يعلمون جيدًا أن سبيلهم إلى النصر الأكيد
هو إيقاف إمدادات اللحم. لم يكن من المحتمل أن يكون الجنرال روساس على علم بهذه
الانتفاضة، لكن يبدو أنها منسجمة تمامًا مع خطط جماعته. فمنذ عام، انتُخِب حاكمًا لكنه
رفض تولي المنصب إلا إذا منحه مجلس النواب سلطات استثنائية. قوبل مطلبه بالرفض ومنذ ذلك
الحين أعلنت مجموعته أنه لا يوجد شخص آخر يمكنه تولي منصبه. كانت الحرب على كلا
الجانبين ممتدة على نحو متفق عليه حتى يتسنى تلقي أي أخبار عن روساس. وصلت رسالة بعدما
تركت بيونس أيرس بأيام قليلة تشير إلى أن الجنرال لم يكن سعيدًا بانهيار السلام، لكنه
كان يعتقد أن الحق مع المجموعة المرابطة بالخارج. بمجرد وصول هذه الأخبار، هرب المحافظ
والوزراء وجزء من أفراد الجيش يقدر عددهم ببضع مئات. اقتحم المتمردون المدينة وانتخبوا
حاكمًا جديدًا وحصلوا على مقابل خدمات عدد منهم وصل إلى ٥٥٠٠ فرد. من خلال هذه الأحداث،
كان واضحًا أن روساس سيصبح الحاكم المطلق السلطات في النهاية؛ لأن الناس في هذه
الجمهورية، كما في غيرها من الجمهوريات، يضمرون كراهة خاصة لكلمة ملك. منذ الرحيل عن
أمريكا الجنوبية، سمعنا أن روساس قد انتخب بسلطات ولفترة خالفت تمامًا المبادئ
الدستورية للجمهورية.