البُشْرَى
آمنوا بِالبُشْرَى!
ذلك ما جَهَرَ به الغريبُ المجهولُ الأمرِ في البَهْوِ الكبير على حين كان يُحَدِّقُ إليه مَن غَصَّ بهم الكَنِيسُ من النَّواتي والتجار والصُّنَّاع والسيَّاح، فنحن في كَفْرِ نَاحُوم الواقعةِ في شمال بحر الجليل؛ حيث تمرُّ القوافل التي تسير من الطريق الكبرى الممتدة من البَحْر إلى دمشق، وفي القوافل العلماءُ وَالهُوَاةُ والأغنياءُ وَالكُهَّانُ والحكماء. وفي السُّبُوتِ يزور المسافرون الكَنِيسَ، ومنهم يعلم الأهالي أخبارَ العالم الخارجيِّ، وَيُقَدِّمُ ناحوميٌّ إلى الغريب الكتابَ المقدس ليتلوَ منه ما تَيَسَّرَ طالبًا إليه أن يُفسِّره على أحدث طريقةٍ في أورشليم.
قال يسوع: «قد كَمَلَ الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بِالبُشْرَى «الإنجيل»!»
هذا غيرُ ما يَعِظُ به مُعَمَّدُو الأُرْدُن، فيسوع لا يُهَدِّد ولا يُحَرِّض ولا يطالب باعترافٍ ولا عِمَاد، وهو يفسر قَدِيم النبوءات على ضوء الحياة الراهنة، وهو إذا لم يَلْبَسْ حُلَّة الكاهن ذات الأهداب، وهو إذا لم يَسْتَعِنْ في مواعظه بالكتاب مقتصرًا على توكيدها بلغة الإقناع المألوفة، وَمُبَلِّغًا أن الرجاء مع الإيمان، لم يلبث أن ملك قلوب الصيادين والفلاحين الذين مَلُّوا ما في مناظرات الفَرِّيسيين من الدقائق، وأولئك لم يسمعوا أحدًا يُحَدِّثُهُم عن «البُشَرى» مع بساطة هذه الكلمة، وقدرة الصبيان على فهمها، وهو يُشَبِّهُ ملكوت السماوات بالشرَك الذي يُلْقَى في البَحْر فيجمع جَيِّدَ السمك ورديئَه.
ولم يَرُق يسوع ثلاثةً أو أربعةً من الكتبة جالسين في الصف الأول؛ فقد ظهر لهم أنه لم يلازم مدرسةً للكهنة، وأنه وإن كان مُلِمًّا بالتوراة يجهلُ التفاسيرَ التي هي أمرٌ مهمٌّ، ويرون أنه لا خطر لأناسٍ كيسوع تخرَّجُوا على الطبيعة ما بَقُوا في قُرَاهم؛ حيث يعرفهم أهلها فلا يعبئون بهم، فإذا ما تَغَرَّبوا ظَنَّ الفلاحون أنهم أعلم من شيوخهم، فيخسرُ هؤلاء الشيوخ ما يتمتعون به من الثقة، وَيَرَوْنَ أن يسوع ابتكرَ طريقةً جديدة لحمل النَّاس على الإنصات له، فالمستمعون إذا ما أصْغَوْا إليه خُيِّلَ إليهم أنهم يسمعون حديثًا زمنيًّا من أحاديث الأسواق، فبذلك يَتَقَبَّلون يسوع بقبولٍ حسن، فَيَرْتَعُ أسابيعَ على حساب البُسَطاء.
وإن أولئك لجالسون هنالك في غَمٍّ منتظرين ختام كلام يسوع، وإن يسوع ليتكلَّم فَيَرْسُم بيديه ما يصفه بلسانه؛ إذ دَوَّى صوتٌ في الكَنيس، فَيُقْطع حديثه، وينْهَض ويلتفتُ القوم إلى الركن الذي صدر منه ذلك الصوت؛ فقد حدث أن رجع الحضور إلى الوراء أمام رجلٍ سقط مُتَشَنِّجًا وهو يقول: «آه، مَا لَنَا ولكَ يا يسوع الناصريُّ؟! أتيتَ لِتُهْلِكنا. أعرف أنكَ قُدُّوسُ اللهِ!»
بمثل تلك الكلمات يُعَبِّرُ شِباه المجانين عن جميع الانطباعات الملائمة والمخالفة الناشئة عن فعل كلام ذلك الغريب في الأفئدة، فكأنَّ أعصاب ذلك الأرعن قد سَجَّلت ارتباكَ بعض الفَرِّيسيين الصامت، واستحسانَ الأُمِّيِّين الكثيرين الصامت، فكان ما رأيتَ من اختلاط التدنيس بالتقديس في كلمته تلك.
وَجِلَ يسوع، ويسوع، الذي جهر للمرة الأولى أمام جمعٍ بأمور كان يتأملها طويل زمن، قد شعر بأن تلك القاعة الطويلة الشهباء تميد، وأن تلك الرءوس تتموَّج كالدخان فيعتريه غَمُّ مَن يُنْتظرُ قيامه بالأعمال، ويسوع الذي أعلن أمام الجمهور ما أخفاه في نفسه كبير وقت، قد أبعده من بلده إلى شواطئ تلك البحيرة، التي يعرف فيها كثيرًا من المُدُن والقرى، ما أصابه من الفتور عندما كلَّمته أمه في ذلك العُرْسِ بقانا، وما وطَّن نفسه عليه من تبليغ النَّاس رسالته في عالم أوسع من منطقة الناصرة، وما عزم عليه من التأثير البالغ في الرجال. ويسوع الذي انقبض صدره في أوائل تلك الخطبة حينما التقى نظره وأنظار أولئك الكتبة التي تنم على معنى السؤال والاعتراض، لم يلبث أن وقع بصره على أبصار الحضور من الفلاحين والصيادين والفتيان والنساء، فأدرك كيف يخاطب عقولهم، ويلمس قلوبهم، ولكن صراخ ذلك الممسوس، ومنظر تلك القاعة التي استولى عليها الذعر والهيجان أعادت يسوع إلى مثل حالة التوتر التي استحوذت عليه في ذلك العُرْس حينما نَفِدَت الخمر وكلَّمته أُمُّه.
تقدم يسوع إلى الممسوس بخطًى واسعةٍ، وفسح الحضور له في القاعة كما لو كان طبيبًا، فجثا بالقرب منه فأمسكه وجبذه قائلًا: «اخْرَسْ يا شيطان، واخْرُج منه!» ويسقط المريض مرةً أخرى على الأَرْض، ويتقلب ويتقلَّص ويُدير نظره، ثم يسلم أمره إلى ذلك الحليم ذي الناظرين الثاقبين، فَيُرْخي أعضاءَه، وَيُغْمِضُ عينيه، ويهدأُ تنفسُه، ثم ينظر إلى ذلك الذي راضه، فيشعر معه بأن الشيطان غادر المكان، وهو يشعُر بذلك؛ لأن ذلك الغريب قد حمله على اعتقاده ذلك، وهكذا هدأت الزوبعة، ونهض المريض مُفَرَّجَ الغَمِّ، تَعِبًا قليلًا، متعافيًا كما يظهر.
رأى مئاتُ الشهود هذه المعجزةَ فقالوا: إن ذلك الغريبَ من أولئك السَّحَرة الذين يقدِرون على طرد الشياطين كما كان يصنع قدماء الأنبياء، وغادر الغريبُ المكان محترمًا تَعِبًا، فزالت منه لذة الوعظ التي زادت فيه كلما تقدم في خطبته تلك، وزالت منه قوة العزم التي تَجَلَّى فيها نشاطه عندما بدا طبيبًا، فَفَرَّ من الجمهور، وترك الشارع، وهجر المدينة، وهو حين وصل إلى الرِّيف على شاطئ البحيرة، جلس على الرمل بين القَصَبِ مُسْتَجِمًّا جامعًا لحواسَّه وأفكاره.
•••
يبدو بحر الجليل من منحدرات الجبال أخضرَ رائقًا لامعًا بعد الظهر، وتمتدُّ كَفْرُ نَاحُوم على فُرْضَةٍ واقعةٍ بين الماء والجبل الواقي لها من الريح، وتُرى من مرتفعات الشمال عِدَّة مدن وقُرًى في تلك الفُرْضَة، وَتُسَمَّى القرية القائمة عن اليمين، فتبعد ميلين، فتبدو بيضاء ساطعة ذات برجٍ بطبرية التي بُنِيَتْ حديثًا؛ حيث يملك هِيرُودُس أنتيباس أمير الإيالة فيتملَّق القيصر الروماني ما ثبت ملكه تبعًا لهوى هذا القيصر، ويصبُّ نهر الأُرْدُن في شمال تلك البحيرة، ويستطيع يسوع أن يَتَمَثَّلَ، عند عدم الرؤية، المكانَ الذي يترك فيه هذا النهرُ تلك البحيرة ليجري إلى الجنوب حتى يصبَّ في البَحْر الميت.
ونظر يسوع إلى تلك الأمور غير نظر الآخرين إليها؛ فهو يحس ما تنطوي عليه من المعاني كما يحس الشاعر، وهو يجعل دائرة تأملات من الجبال والصخور والنهر والقصر وَالزَّلْزَلَة والبركان وَالسُّفوح الخصبة التي يستوي العنب والبطيخ فيها على السُّوق منذ شهر أبريل. ويبدو وراء يسوع جبل حرمون ذو الصخور وَالقُعُور والتخاريم والثلوج نذيرًا، وتمتد البحيرة على سَفْح ذلك الجبل المتوعِّد رائعةً رَوْعةَ الحياة، فيعرِف يسوع السِّرَّ في اختيار الربِّ لها من بين بحيرات إسرائيل السبع.
ثم يبدأ الليل بإرخاء سدوله، فيبصر يسوع السائح زوارقَ كثيرةً تخرج من المراسي لرفع الشِّباك، ما اقترب السمك من سطح الماء عند الشفق على الخصوص، وَيُعَدُّ بزوغ النجم الأول من الشرق علامة انتهاء السَّبْت وإباحة العودة إلى العمل، فيتنادى الصيادون من القوارب، ويجذبون الشِّباك وَيَشُولُونها وَيُقَلِّبونها، ويرمون الأسماك في المراكب وهي تنتفض، ثم يجدف الصيادون بالمجاديف مسرعين إلى الشاطئ ما كان الليل يَحِلُّ سريعًا في ذلك العَرْض.
أقبل صَيَّادان على يسوع الغريب فعرفا فيه الساحر الواعظ في ذلك المعبد صباحًا، وعرف يسوع أحدهما أَنْدَراوُس الذي وَجَده تلميذًا لِيوحَنَّا المَعْمَدَان عَبْرَ الأُرْدُن، فَعَرَّفه أَنْدَراوُس هذا بأخيه سِمْعَان، فتصافحوا جميعهم بحرارة، وما كان هؤلاء ليشعروا بما سيُسْفِر عنه هذا اللقاء، وما كان يسوع لِيعلَم أنه سيسمِّي سِمْعَان هذا ببطرسَ ذات يومٍ.
ثم أقبل صيادان آخران على صانع المعجزات يسوع راغبين في معرفته أكثر مما في الماضي، وكان اسم هذين الصيادين الأخوين يعقوب ويُوحَنَّا، ثم جاء آخرون وبدوا كلهم واثقين بيسوع الغريب مطمئنين إليه، ولم تنشأ ثقتهم به عن طرده الشيطان من رجل ممسوس فقط. ما كان بين الفَرِّيسيين مَن يفعلون مثل ذلك، بل نشأت أيضًا عن خروج ما وَعَظَ به في المعبد من قلبه، ونفوذه في قلوبهم، وساد الظَّلام فكان لا بدَّ من أن يأوي أولئك إلى بيوتهم، فدعا سِمْعَانُ يسوع إلى بيته، وطلب إليه أن يتعشَّى من مائدته، وما عتَّم نصف أهل المدينة الصغيرة أن تَجَمَّع أمام الباب، فالوقتُ وقتُ راحة، وودَّ الجميع رؤية ذلك الغريب الذي استطاع أن يَشْفِيَ ذلك المريض.
وفي البيت كانت حماةُ سِمْعَان مضطجعةً محمومةً، ويسوع إذ أقام دليلًا قويًّا على استعداده لشفاء المرضى جيء به إليها، فَحَدَّقت إليه العيون، فعلم ما يُنْتَظر منه، أفيأتي بالعجائب؟ هذا ما كان راغبًا عنه، وقد دخل النَّاس البيتَ فازدحموا خلفه منتظرين ما يصنع؛ أفلم يأتِ موسى وغيره من الأنبياء بالمعجزات لكي يؤمن النَّاس برسالاتهم؟ كانت تلك الحماة العجوز قد آمنت بيسوع، وكانت قد سمعت عن شفاء ذلك الممسوس في المعبد على يد يسوع، فصارت تنظر إلى هذا الغريب الذي هو مصدر الحلم والصلاح مطمئنةً ضارعةً إليه أن يشفيَها، فلم يُخَيِّبْ رجاءَها؛ فمن إيمانيهما المزدوج انبثقت القوة التي تشفي، فأمسكها بيده ونظر إليها، فحملها على تسليم أمرها إلى سلطانه، فقهر مرضها فنهضت.
نظر الحاضرون إلى يسوع نظر شكر واحترام، وأما يسوع فَذُعِر واغتَمَّ خشيةَ أن يرى النَّاس في تلك الأعمال معنى السِّحْر، وأخذ المرضى يتقاطرون إلى باب سِمعان منذ الغد، ومن المرضى مَن نُقِلوا إليه على فُرُشهم، ومنهم الكُمْه وَالبُرْص والمفاليج، فانتظر هؤلاء جميعهم أن يبرئهم، ولم يألُ يسوع جهدًا في ذلك، فشفَى بعضهم لطويل زمن، وشفَى بعضًا آخر لوقت قصير، ومسح بعضهم بالزيت، ومسح بعضًا آخر بالطين؛ ولكنه لم يُبْرِئْ أي واحدٍ من هؤلاء بغير الإيمان، وحمله على الإيمان. ويسوع مع مقته لهذا العمل كان يرحم المصاب فَيطِبُّه، فإذا ما شُفِيَ طلب منه أَلَّا يبوح لأحد بما تَمَّ؛ ولكن خبر الشفاء ما كان لِيُكْتَم، بل كان يذاع مع مبالغة، فهرب يسوع وقت الفجر إلى كَفْرِ ناحوم جمعًا لِقُواه.
وما أصغر ذلك العالم الواسع! فعلى مسافة كل ميل تقوم قرية، ويكفي سير ساعة للوصول إلى الشاطئ المقابل، ويحتاج يسوع مع ذلك إلى عدة أسابيع، وإلى قسمٍ من الصيف قبل أن يزور جميع مدن بحر الجليل وقُرَاه، وما كان يسوع لينتظر مجيء النَّاس إليه؛ خلافًا ليوحنَّا المَعْمَدَان، بل كان يأتي إليهم بعد أن يكون تلاميذه المرافقون له قد مَهَّدُوا له السبيل بين قرية وقرية، فَيَسْبِقه صيته إليها.
وليس بمستبعدٍ أن يجد سيدٌ سائحٌ كيسوع في زمن الانتظار ذلك، تلاميذَ بين شعب الرب يتبعونه ويساعدونه، وما هو الخسر الذي يصيب أبناء أولئك الصيادين إذا ما غادروا بلدهم؟ فأولئك إذ كانوا قومًا أميين فلا يكادون يفرقون بين ملكوت السماء واستقلال بني إسرائيل في الأَرْض، وهم إذ كانوا مُفْعَمين بالأخيلة والآمال كان من السهل عليهم أن يتبعوا رجلًا قادرًا على الإتيان بمثل تلك البشارات، وعلى إيقاظ مبادئ أروعَ من التي عَرَفوها فيما مضى. وهذا إلى أن يسوع أنيسٌ مولعٌ بالجلوس حول المائدة غير مُحَرِّمٍ للخمر ولا لمعاشرة النساء؛ فالفتوة وروح المخاطرة، وحسن البشائر، والشخصية المحبوبة، والتفاؤل، ورجاء ثواب الآخرة أمورٌ كلها كانت تحفز الشباب إلى اتباع يسوع النبيِّ الجديدِ في رحلاته.
هنالك يرى يسوع بعين بصيرته ما لكلامه من الأثر في قلوب البسطاء، ويسوع يجيب عن أسئلة هؤلاء، ويشفي مَن يأتون من المرضى ما استطاع، ويداوم على سيره، والنَّاس يجتمعون أمام بيت مضيفه ليسمعوا كلامه، فيقف على مفرق الطرق فيخطب فيهم مهما كان عددهم قليلًا، وإذا ما كان المجتمعون من النساء والصبيان رَقَّ لسانه، ووضح كلامه أكثر من قبل، وأفضلُ شيء عنده هو أن يجلس حول الموائد ومعه تلاميذه؛ فهو يميل إليهم إذ ذاك واثقًا، كما كان أمره في غابر الأيام تِجَاه أصدقائه القليلين الذين كانوا يقصِدونه أمام بيت النَّجَّار بالناصرة لِيُنْصِتوا له.
وفي الجنوب، حيث بلاد اليهودية تقوم المدينة الكبيرة التي يقيم بها الكهنة النافذون، ومفَسِّرُو الكتاب المقدس، وقارئو العَزَائِم، فما بدا ليسوع في كَنيس كَفْرِ ناحوم من عَداءِ الكَتَبَة الخفيِّ أثبت له أن أناسًا من هذا الطراز هم أعداؤه.
فظلَّ يسوع بعيدًا من أورشليم لذلك.
•••
يشعر جميع الذين يقتربون من يسوع بحُبِّه لهم، ويسوع لم يظهر ليُبغِض النَّاس، بل ليُحبَّهم، وما كان ليسعى إلى مقاتلة أحد، وما كان يُعَلِّم أهلَ بحر الجليل الفقراء الهادئين إياه، فمصدره قلبه، وما كان علماء البلد يقابلون ما يلقيه في الأفئدة بغير الشك الذي هو وليد التعليم.
وينفذ كلام يسوع نفوس البسطاء، ويتألَّف من هؤلاء الصيادين الذين تعودوا الصبر والانتظار جالسين على الشاطئ، أو في زوارقهم، بالقرب من شباكهم جمعٌ من المستمعين الحلماء الطيبين البعيدين من المطامع، وليس في خُطَب يسوع ما قد يزعجهم، فلا تجد فيها بحثًا عن سيادة العالم، ولا عن المجد، ولا عن الاستعباد الراهن، ولا عن ماضي الشَّعْب العظيم، ولا عن انتقام الله وعقابه وغضبه وقصاصه.
ويفيض فؤاد يسوع الذي هو مَعْدِن الحبِّ رأفةً وحنانًا، ويقابل يسوع بالمَحَبَّة أباه الربَّ الذي أنعم عليه بها، والجميعُ أبناء للربِّ، وأكثر النَّاس معرفةً بالأب الرب هم الخالصو النية، السليمو السريرة، الرُّحمَاء الأَمِّيُّون الذي يشابهون الأولاد في أفكارهم. وَمَن يعتمد على كرم الربِّ يَنَلْ حمايته، وَيَعِشْ تحت رعايته، والربُّ «يُشْرِق شمسَه على الأشرار والصالحين، وَيَمْطُرُ على الأبرار والظالمين»، فَمَن يعتقد هذا لا يَنْشَبْ أن يملك ملكوت السماوات على الأَرْض، فيجد كنزًا في حقل هذا العالم.
أليس من الصواب دعوة يسوع لنا بالإخوة ما دام الرب أبًا للجميع؟ وهل يجب أن يُعْمَل بما يقول به الصَّدُوقيون في أورشليم من أن يأخذ الأخ حقَّه من أخيه، وأن تكون العين بالعين، والسنُّ بالسنِّ؟ كلا، ولكن ما يأمر به يسوع ليس أخفَّ وطئًا من ذلك؛ فقد قال: «مَن لَطَمَكَ على خَدِّك الأيمن فَحَوِّلْ له الآخر أيضًا، وَمَن أراد أن يُخَاصِمَك ويأخذَ ثوبَك؛ فاترك له الرِّدَاءَ أيضًا.» فبينما يتساءل أولئك الفلاحون والصيادون عن سبب ذلك، وعن قدرتهم على العمل بذلك إذ سمعوا يسوع يقول: «اغْفِرُوا يُغْفَرْ لكم.» فَرَضُوا بذلك ما عَلِمُوا الآن أن كلَّ واحد منهم سَيُثَابُ على إنكار ذاته.
وأمرهم يسوع بأكثر من ذلك أيضًا، فيسوع إذا اقتصر على توصيتهم بأن يحبوا مَن يحبهم، فإنه لا يكون قد حَثَّهم على أكثرَ مما يقدر عليه المشركون، ولكن يسوع قال لهم: «أَحِبُّوا أعداءَكم، باركوا لاعِنِيكم، أحسنوا إلى مُبغِضيكم، وَصَلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.» بيد أن حب المرء لأعدائه هو أصعب شيء، فسأل بعضهم يسوع: «كم مَرَّةً يُخْطِئُ إِليَّ أخي وأنا أغفر له، هل إلى سبع مرات؟» فنظر إليه يسوع بحزمٍ وأجابه من فَوْرِه قائلًا: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرةً سبع مرات.»
ظل أولئك جالسين حيارى متسائلين عن مبالغة يسوع في ذلك كله، ولكنهم لم يلبثوا أن أدركوا مقصده حينما نصحهم بصوته الرخيم قائلًا: «لا تَدِينوا فلا تُدَانوا، لا تَقْضُوا على أحدٍ فلا يُقْضَى عليكم … وكما تريدون أن يفعل النَّاس بكم، افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا؛ لأن هذا هو الناموس والأنبياء.»
ويجهل أولئك أن الكاهن الأكبر هِلِّلَ قال مثل ذلك منذ خمسين سنة، وما يجهلون أن هِلِّلَ كان من العمال كما هم الآن، ويرى أولئك بأعينهم أن يسوع ليس من رجال المجمع اليهودي الكبير بأورشليم، فلا يعيش في بيوت الأقوياء، ولا على موائد الأغنياء، وما يرونه إلا زائرًا لهم في أكواخهم على شاطئ البحيرة بعيدًا من المعبد والقصور، ويسوع إذا أحب الجلوس حول موائد هؤلاء فلِمَا يقتضيه ذلك من انحنائه ليمرَّ من أبوابهم الواطئة، ودنوِّه من الأطفال في مُهُودهم، وسؤالِه عن مواشيهم، ولَعِبِه مع أولادهم، وإسعافه نساءَهم، وهنالك يؤمنون به حينما يقول لهم في أثناء طعامه من مائدتهم المعتدلة: «طوبى لكم أيها المساكين؛ لأن لكم ملكوت الله … لا تَكْنِزُوا لكم كنوزًا على الأَرْض؛ حيث يُفْسِد السُّوسُ وَالصَّدأُ، وحيث يَنْقُبُ السارقون ويَسْرِقون، بل اكْنِزُوا لكم كنوزًا في السماء؛ حيث لا يُفْسِد سُوسٌ ولا صَدَأٌ، وحيث لا يَنْقُبُ سارقون ولا يَسْرِقون؛ لأنه حيث يكون كنزُك هناك يكون قلبُك أيضًا.» وهنالك ينظرون إليه خافضين رءوسهم استحسانًا لِمَا في الجليل من كثرة اللصوص، ويسوع يعرف ما يقول، ويعتقد أولئك صحةَ ما يَعِدُهم به من ملكوت السماوات.
أَلَا يَعْمَلُ يسوع نفسه بما يأمر به؟ قال يسوع: «إذا صنعت غَدَاءً أو عَشَاءً؛ فلا تَدْعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء؛ لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأةٌ، بل إذا صنعت ضيافةً؛ فادْعُ المساكين الجُدْعَ العُمْيَ، فيكون لك الطُّوبَى؛ إذ ليس لهم حتى يُكَافُوك؛ لأنك تُكَافَى في قيامة الأبرار.»
لم يَرْتَح الأغنياء لسماعهم ذلك القول. أليس ذلك الذي يدعو القومَ إلى تلك المبادئ الخَطِرَة ثائرًا مُحَرِّضًا؟ بيد أن بين أولئك المستمعين مَن هم شبابٌ وارثون، فَنَفَذَتْ تلك الكلمات في قلوبهم. ومن هؤلاء الشباب الأغنياء مَن سأله: «أيَّ صلاحٍ أَعْمَلُ لتكون لي الحياة الأبدية؟» فأجابه: «إن أردتَ أن تدخل الحياة؛ فاحفظ الوصايا.» فقال له الشاب: «هذه كلُّها حَفِظْتُها منذ حداثتي، فماذا يعوزني بعدُ؟» فراقت آمالُه واتِّضَاعُه يسوع، فودَّ يسوع أن يظفر به فقال له: «إن أردت أن تكون كاملًا؛ فاذهبْ وَبِعْ أملاكَك وأعْطِ الفقراء، فيكون لك كنزٌ في السماء.» فكان لهذا القول وقعٌ شديدٌ على ذلك الفَتَى الغَنِيِّ، فنظر إلى يسوع نظرَه إلى مفتونٍ، فمضَى مُغْتَمًّا حزينًا، فَتَبِعَه يسوع بعينيه، ثم قال لتلاميذه: «ما أعسرَ دخولَ ذوي الأموال إلى ملكوت الله؛ لأن دخول جمل من ثَقْبِ إبرة أيسرُ من أن يدخل غَنِيٌّ إلى ملكوت الله.»
لاحظ المستمعون معاملة يسوع لذلك الفَتَى الغنيِّ بِرفْقٍ مع عدِّه الغِنَى إثمًا، ولاحظوا تفضيله الآثمين على الصالحين، فيا له من تناقض! قرأ يسوع على وجوه أولئك هذا المعنى؛ فلاح له مَثَلٌ أوحت به روح تلك الساعة فقال: «أيُّ إنسان منكم له مائة خَرُوفٍ وأضاع واحدًا منها، أَلَا يترك التسعة والتسعين في البَرِّيَّة ويذهب لأَجْلِ الضالِّ حتى يجده؟ وإذا وجده يضعه على مَنكِبيْه فرحًا، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلًا لهم: افرحوا معي؛ لأني وجدت خَرُوفيَ الضالَّ، أقول لكم: هكذا يكون فرحٌ في السماء بخاطئٍ واحدٍ يتوب أكثر من تسعةٍ وتسعين بارًّا لا يحتاجون إلى توبة.»
ثم يَقُصُّ يسوع نبأ ابنٍ أنفق ما يملِكه سَفَهًا فعاد إلى أبيه تائبًا، فَيُقَبِّلُه أبوه وَيُلْبِسُه ثيابًا حسنة، ويذبح من أجله العجل المُسَمَّن، فيغضبُ الابن الثاني الذي لم ينفكَّ يعملُ ما يُرْضِي أباه من غير أن ينال جَدْيًا، فيصنع منه طعامًا لأصدقائه، فيقول له أبوه: «يا بُنَيَّ، أنت معي في كلِّ حين، وكلُّ مالي فهو لك، ولكن كان ينبغي أن نَفْرَح وَنُسَرَّ؛ لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالًّا فَوُجِد.»
ماذا؟ أَلَا يحقُّ للولد المُجِدِّ الطائع أن يألَم من أبيه الذي ضَنَّ عليه بِجَدْي مقابل خِدَمه الكثيرة؟ أيجب أن يؤدي حب النَّاس إلى مثل ذلك الإجحاف؛ حينما تخرب الأسداد فيفيض سيل الرحمة فيض رحمة الأب الرب؟ ألا يعني ذلك أن العبرة فيما يشعر به الإنسان وما يفكر فيه، لا فيما يصنعه وما لا يصنعه؟ هنالك عينٌ تنفذ ما وراء الظواهر فترى دقات قلب الإنسان وضعفه، وما أبصره يسوع الصبيُّ في صُلَّاح بلده يُبْصِرُ مثله الآن، فيبدو أشدَّ من الشريعة نفسِها تِجَاه الذنوب الخفية.
ولا تظنوا أن قرابينكم تُكَفِّر عن كلِّ شيء، «فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك؛ فاترك قربانك أمام المذبح واذهب أوَّلًا اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعالَ وَقَدِّمْ قُرْبانَك.» ويسوع الذي لم يَقْرَبِ النساءَ قد عَرَفَ خائنة الأعين؛ فقد قرأ ذات يوم في عَيْنَيْ رجلٍ ينظر إلى امرأةٍ جالسةٍ مع نسوة في المعبد معنى الشهوة، فتتظاهر بأنها تجهله فلا يبدو من الحضور ما يدل على علمهم أمرَ خيانتهما، فأبصر يسوع ما يدور في خَلَدِهما، فقال مخاطبًا سامعيه: «إن كل مَن ينظر إلى امرأةٍ لِيَشْتَهِيَها فقد زنى بها في قلبه.»
هنالك ارتبك مَن رأوا من السامعين انطباق ذلك القول عليهم فَغَضُّوا أبصارَهم.
•••
ولا تَجِدُ في يسوع واعظَ توبةٍ مع ذلك، فيسوع الذي يأتي عوام القوم بِالبُشْرَى لم يَعُدَّ الفقر أو المرضَ فضيلةً، بل كان يُوَاسِي وَيَشْفِي، ويسوع لم يُشَجِّع الخَطَأةَ ولم يَعِدْهم بتَحَمُّلِ خطاياهم، فكان يقول لِمَن يُنْقِذُ: «اذهبْ ولا تُخْطِئْ أيضًا.» وبهجة الحياة التي كانت تُدْنِي ذلك الولد الشاكرَ من الأب الربِّ أضحت ضعفي ما كانت عليه، بعدما أصبح الفَتَى البالغ الذي يستطيع أن يصبَّ الآن كنوزَ محبته في قلوب كثيرة، وقد قال لِمَن يُظْهِرُون غُلُوًّا في التقوى: «لا تكونوا عابسين كالمرائين …» والمرضُ خطيئةٌ، أو دليلٌ عليها؛ فقد قال لرجلٍ شفاهٍ: «ها إنك قد عوفيت فلا تُخْطِئْ بَعْدُ لئلا يُصِيبَك أعظمُ.» ويسوع إذْ هو في عافيةٍ يستطيع أن ينام في زَوْرَق فوق بحر هائج، ويسوع إذْ هو مغتبط بِحِسِّه أنه ابنُ الربِّ لا يبالي بالغد الذي تكلَّم بعضُهم عنه في حضرته لا ريب، ويسوع إذْ يفكر في الحيوانات والنَّبَاتات التي رافقها منذ صباه يقول: «لا تَهْتَمُّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تَلْبَسون، أليست الحياة أفضلَ من الطعام، والجسدُ أفضلَ من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تَزْرَعُ ولا تَحْصُدْ، ولا تَجْمَعُ إلى مخازن، وأبوكم السماويُّ يَقُوتُها، ألستم أنتم بِالحرِيِّ أفضل منها؟ وَمَن منكم إذا اهْتَمَّ يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدةً؟ ولماذا تَهْتَمُّون باللباس؟ تأَمَّلُوا زنابقَ الحقلِ كيف تنمو، لا تَتْعَبُ ولا تَغْزِلُ، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمانُ في كل مجده كان يلبس كواحدةٍ منها، فإن كان عشب الحقل الذي يُوجَدُ اليوم وَيُطْرَحْ غدًا في التَّنُّور يُلْبِسُه الله هكذا، أفليس بالحريِّ جِدًّا يُلْبِسُكم أنتم يا قليلي الإيمان؟ … فلا تَهْتَمُّوا للغد، فإن الغد يَهْتَمُّ بما لنفسه.»
ويسوع يرضى شاكرًا بما يأتيه به النهار اتفاقًا؛ سواءٌ عليه اجتمع بالنَّاس في مكان عام، أم اجتمع بتلاميذه، أم قضى ساعةً على شاطئ البحيرة وحيدًا هادئًا مفكرًا، أم تناول طعامًا حول مائدة عيدٍ مشتملةٍ على خبز أبيض، وحَمَلٍ وخمرٍ حمراء مستخرجة من كروم البلاد. ويسوع قد سُئل ذات يوم: «لماذا يصوم تلاميذُ يُوحَنَّا، وأما تلاميذك فلا يصومون؟» فأجاب مسرورًا: «هل يستطيع بَنُو العُرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيامٌ حين يُرْفَع العريس عنهم فحينئذٍ يصومون؟»
وما كان يسوع ليرضى بأن تشُوب صيغةٌ دينيةٌ نفوسَ تلاميذه حينما يجلسون معه ليتناولوا طعامًا حول مائدة، وما كان يسوع ليطالب بأن تُغْسَل الأيدي والأطباق على حسب الطقوس، ولا بأن يُنْطَقَ بسلسلة من الأدعية، أفلا تكفي جملةٌ قصيرة لذلك؟ فالحقُّ أن يسوع لم يحظر شيئًا، ولم يفرض على أحدٍ أن يقتدي به في صلواته ودعواته، وهو الذي لم يقرب قربانًا، ولم يُعمِّد إنسانًا، ولم يحدث أن انقلب الدعاء الذي يقوله يسوع إجابةً لرغبة تلميذٍ له إلى صيغة مقررة، فكان لا يعاد إليها ثانيةً، وبلغ يسوع من الجرأة واستقلال النفس ما كان يُصَرِّح به أن البشرى تناجي القلوب بغير صيغة معينة؛ فيسوع كان يرى الإثم أو العفو أمرًا باطنيًّا، وإن شِئْتَ فَقُلْ: ثمرة لِمَا لا يُعَبَّر عنه بالكلام من الأعمال الذهنية.
من أجل ذلك كان يسوع يحب الصغار والفتيان والجهال والفقراء وَمَن إليهم من الذين ليس عندهم من الأموال ما يحيدون به عن الصراط المستقيم، وقد انتهز تلاميذه نسوةً أَتَيْنَ بأولادهن لكي يَلْمِسَهم فقال: «دعوا الأولاد يأتوا إليَّ ولا تمنعوهم؛ لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله، الحقَّ أقولُ لكم: مَن لا يُقَبِّلُ ملكوتَ الله مثلَ ولدٍ؛ فلن يَدْخُلَه.» فهنالك احتضن الأولاد ووضع يديه عليهم وباركهم، ولم يلبث يسوع أن رأى نفسه مضطرًّا إلى معاملة تلاميذه بأشد من قِبلُ. ويسوع كجميع الأنبياء الذين ظهروا قبله وَكَيُوحَنَّا المَعْمَدَان نفسه قد احتاج إلى تلاميذ قليلين يتبعونه، فبهؤلاء يستطيع أن ينال بسرعة ما لا بدَّ له من الصيت الضروري ليكون نافذًا مؤثرًا، ويسوع قد اعتمد على انطباعاته الأولى في اختيارهم، وهو الذي طلب منهم أن يتبعوه، فإذا حدث أن عرض أحدهم نفسه عليه أساء الظن به فردَّه، مع أن الجميع خذَلوه في نهاية الأمر.
وكان بعض أولئك تلاميذَ لِلْمَعْمَدَان، وكثيرون منهم من أهل الثراء، فأمرهم بأن تكون أموالهم مشَاعةً كما بين الآزيين؛ ليعيش هو وتلاميذه منها، وكان أحبهم إليه سِمْعَانُ بطرس ذو النفس العملية، ويعقوبُ الحَمس، وَيُوحَنَّا الحليم، وعلى ما عليه هؤلاء الثلاثة من التقوى وحرارة الإيمان والحب ليسوع كانوا من ذوي الأَثَرَة والتردد، ومما وقع أن مرَّ يسوع ذات مرة من شاطئ البحيرة، فرأى عَشَّارًا جالسًا عند مكان الجباية، فأراد أن يجعل منه مثلًا فقال له: «اتبعني!» فَلَبَّى هذا العَشَّار المُسَمَّى لَاوِي دعوته هاجِرًا كل شيء، فَلَاوِي هذا الذي يُدْعَى مَتَّى أيضًا عمِل فيما بعدُ أكثر من أي واحدٍ إعلاءً لشأن معلمه، ومن الذين اختارهم يسوع إليه: سِمْعَان الغيور الذي كان فيما مضى تلميذًا ليهوذا الجليلي الثائر. ويهوذا الجليليُّ هذا مَن كان لأعمال بطولته وخاتمته الفاجعة أبلغ الأثر في يسوع أيام صباه.
وجميعُ أولئك من أبناء الجليل، عدا يهوذا الإِسْخَرْيُوطي الذي هو من أبناء الجنوب؛ أي من اليهودية، ولم يسمع يسوع نداءً يُحَذِّرُه من اصطفاء هذا الرجل الذي هو وليد بيئة أورشليم.
وكان أكثر أولئك أصغر سنًّا منه، فيسهل عليه قيادتهم، فيدعوهم بأبنائه وعماله، فيأمرهم بتجهيز السفينة والتجذيف وتهيئة الطعام، وكان يقول لهم بصوتٍ عالٍ عند عدم إدراكهم لكلامه: «إذا كنتم لا تعرِفون هذا المثل، فكيف تعرِفون كلَّ مثل؟»
ولم يُؤلِّفْ يسوع جمعيةً، بل كان يحمِل تلاميذَه على تسميته بالمعلم والسيد عندما يقول مفاخرًا: إنهم مِلْحُ الأَرْض ونور العالم.
وما كان يسوع ليبدو فارغ الصبر تِجَاه النساء اللاتي تَبِعْنَه في تَرْحاله، فظلت ثلاث أو أربع منهن بالقرب منه في أثناء ذلك، وجميع هؤلاء غريباتٌ، فلم تكن واحدةٌ منهن من بيته، ولا من بلده، وَكُنَّ أغنى من الرجال، وكانت إحداهن حنة زوجة وكيل خرج هِيرُودُس، فآمنت به كما آمنت سُوسَنَّة؛ لأنه شفاهما، وتبعت اثنتان من أولئك أبناءهما الذين هم من تلاميذه.
ويسوع إذ قامت تعاليمه على المَحَبَّة كان النساء أكثر إدراكًا له من الرجال، فَيُضْفُون على اغترابه من الإعزاز ما يلائمه وما لا يلائمه، وَيُمَجِّدْنَه بما لم يَسْعَ إليه، وما لا غُنْيَةَ له عنه، وهنَّ حين يمسحنه بالعطور والأطياب فيستمعن إليه سابحاتٍ في عالم من الأخيلة، تنقلب المَحَبَّة التي يحملها في فؤاده إلى حقيقة، فيوزع بين عِدَّة نسوة من المَحَبَّة ما يُوجِّهه الرجل العاديُّ إلى امرأة واحدة.
ويسوع إذ كان صَفِيَّ اللهِ شاعرًا بِقَدْرِ نفسه وكفايتها؛ فإنه يُنَدِّدُ بالزواج الذي يعمل فيه كلٌّ من الزوجين على ما فيه رِضَا الآخر من دون الله، ولا يطالب يسوع النَّاس، ومنهم أقرب تلاميذه، بالطُّهْرِ والعزوبة في الحياة العملية ما وُجِد بين تلاميذه المختارين فَتَيَان متزوجان، وما رافقت بطرسَ زوجتُه، وما دافع عن الزواج بأن الله جامعُ الزوجين، وما حَظَرَ الطلاق بأشد مما في شريعة موسى نفسها، ولا يرفض يسوع شيئًا تُقَدِّمُه النساء إليه، فَيُسَرُّ ممَّن تبدو أحمسَ من غيرها في ذلك. ومن هذا القبيل أن كان يسوع في بيت أختين بإحدى القرى، فأخذت إحداهما مَرْثَا تعمل في أمور المنزل على حين جلست الأخرى مريم عند قدميه، فسألته مَرْثا أن يأمر أختها مريمَ بأن تصنع مثلها، فتبسم قائلًا: «مَرْثَا! مَرْثَا! أنت تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد، فاختارت مريمُ النصيبَ الصالح الذي لن يُنْزَعَ منها.»
وَيَعُدَّ الجميعُ المعلمَ الجديدَ نبيًّا، ويبدو المعلم الجديد نبيًّا، ولم يفكر يسوع في أنه أكثر من نبيٍّ، وليس بقليلٍ أن يرى نفسه في بعض الأحيان دون النبي، ولم يحدث أن بدا من يسوع ما يُخَيَّل به إلى السامع أن له خواطر وآمالًا فوق خواطر البشر وآمالهم، وما كان يسوع ليذهب إلى أبعد من ذلك فَيَدَّعي أنه المنقذ المنتظر، فإذا ما قال النَّاس: إنه أحدُ قدماء الأنبياء رَاقَهُ ذلك مُوَجِّهًا أفكارَهم إلى ملكوت السماوات، إلى أبينا جميعًا، وإذا ما قال: إنه ابن الرب كان ذلك محمولًا على أنه ابنُ الرب كجميع الذين يشعرون بانطواء أنفسهم على القوى المُبْدِعة التي يُشْتَقُّ منها وجودنا. والآن يَجِدُ يسوع كلمةً جديدة صالحة للتعبير عن تواضعه بقوله عن نفسه: إنه ابن الإنسان، وقَدِيمًا أراد الأنبياء أن يَلْفِتوا الأنظار إلى الهُوَّةِ الواسعة التي تفصلهم عن الله، فكانوا يُسَمُّون أنفسهم بأبناء الإنسان، ومن هؤلاء دانيالُ وَحِزَقْيال اللذان أظهرا الرَّبَّ مخاطبًا كلَّ واحدٍ منهما بابن الإنسان؛ أي بآدميٍّ ضعيفٍ هالك وُلِدَ لِيَفْنَى بعد ألمٍ، ولكن مع استعدادٍ لنَيْل عفو الربِّ.
اختار يسوع هذه التسمية من الكتاب المقدس؛ وذلك حينما بحث عن أوضع اسم تصوره الأنبياء، فابن الإنسان وُلِدَ لِيَخْدُم لا لِيُخْدَم كما قال. وسار يسوع على غرار يُوحَنَّا في الكلام عن مأتى الإنسان ومردِّه، فلما دعاه الفَتَى الغنيُّ ﺑ «المعلم الصالح» رفض هذا ولامه بقوله: «لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحدٌ صالحًا إلا واحد؛ وهو الله.»
•••
تلك هي حياة يسوع التي ظهر بها في معزلٍ عن يومه وقومه، ويجتنب يسوع، كجميع اليهود، أية صلةٍ بالمشركين، محذرًا تلاميذه منهم، ولم يخطر ببال يسوع أن يرشد المشركين أو يشفي مرضاهم، وهو إذا حَدَّث عنهم فباشمئزاز، وهو إذا وصف خطيئةً قال: «أليس الوثنيون أيضًا يفعلون هكذا؟» فالمشركون يَجِدُّون في طلب الفلوس والأموال، فلا ينبغي لتلاميذه أن يحملوا إليهم البشرى، كما أنه لا يجوز إعطاء ما هو مقدس للكلاب، وطرح اللآلئ أمام الخنازير، ويجب على تلاميذه أن يبتعدوا عن السَّامِرَة الآهلة بأخلاط السكان، والحاجزة بين الجليل واليهودية، ويسوع على ما يبدو من تحاشيه عن أورشليم لا يرى أن يحمِل إلى السامريين رسالةَ الربِّ الذي يعبده اليهود في الهيكل المقدس.
وما كان يسوع لِيَمَسَّ شعور أحدٍ في أمور الدنيا؛ فهو لم يرفع عَقِيرَته ضد هِيرُودُس مع سَجنه لِيوحَنَّا المَعْمَدَان، وهو لم يَفُه بكلمةٍ ضِدَّ رومة ولا ضِدَّ دولتها العالمية، ولا ضِدَّ أيِّ قويٍّ، وما كان يسوع ليبالي بالخصومات الراهنة مهما صغرت أو عظمت، فلما قال له أحد تلاميذه: «قُلْ لأخي أن يقاسمني الميراث.» أجابه بعنفٍ: «مَن أقامني عليكما قاضيًا أو مُقَسِّمًا؟» ويسوع لم يألُ جهدًا في ربط مذهبه الجديد بالمذهب القَدِيم بلباقة فقال: «لا تظنوا أني جئتُ لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقضَ بل لأكَمِّلَ، فإني والحقَّ أقولُ لكم: إلى أن تزول السماء والأَرْض، لا يزول حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ من الناموس حتى يكون الكلُّ.» حتى إن يسوع يأمر الجمهور باتباع الفَرِّيسيين في أمور الشريعة، فقال: «إنكم إن لم يَزدْ بِرُّكم على الكَتَبة وَالفَرِّيسيين لن تدخلوا ملكوتَ السماوات.»
ويسوع عدوُّ أولئك الكهنة وهم أعداؤه مع ذلك، فكانوا يتبعون خَطواته بِحَذَرٍ في البَدَاءة، وكانوا يدعونه إلى الطعام معهم، وفي كَفْرِ نَاحوم باحثه مديرو المعبد وَدَعَوْه ﺑ «السيد»، وأنصتوا لتفاسيره اللَّبِقَة، بيد أن الغَمَّ ساورهم بعد قليل زمن عندما ذاع صيته، فأخذوا يتحينون الفرص لفضِّ الجمهور من حوله، فمما حدث أن رَأَوْه ذات يوم يأكل من مائدة العَشَّارين وَالخَطأَةِ فَرِحًا مسرورًا، فسأل فَرِّيسِيٌّ أحد تلاميذه: «لماذا يأكل معلمكم مع العَشَّارين والخطأَةِ؟» فسمع السؤال يسوع الجالس أمام ناحيةٍ أخرى من المائدة، فعرف مغزاه، فاستشاط غيظًا فقال له بِحِدَّةٍ: «لا يحتاج الأَصحَّاء إلى طبيب، بل المرضى؛ فاذهبوا وتعلموا … لم آتِ لأدعو أبرارًا، بل خَطَأَةً إلى التوبة.»
هذه هي الضربة الأولى التي وَجَّهَها يسوع إلى أعدائه، فنالت من نفوسهم كثيرًا، فغادروا المكان من غير أن يَنْبِسُوا بكلمة، فكان هذا أول الخصام.
ولكن كيف يُؤْخذ يسوع؟ إذا راقه الجلوس اليوم حول مائدة الخَطَأَة وَحَلَّ المعبد في الغد، سأله الجمهور أن يعظه، فلا يقدر أولئك على منع ذلك، أليس يسوع من المبدعين الخطرين الذين يبدءون مواعظهم في أقاصي البلاد بين فقراء القرى؛ حيث لا تحاسبهم جمعية على ما يقولون؟ ألم يهاجم الأغنياءَ كأن الغِنَى إِثْمٌ؟ لم يكن ما بدأ به يُوَحَنَّا المَعْمَدانُ غير ذلك، وكاد خَطْبُه يتفاقم لو لم يَزُجَّه هِيرُودُس بالسجن. أَجَلْ، أَجَلْ، يجب أن يُراقَبَ يسوع بِحَذَرٍ على أن يُتْرَكَ حبلُه على غاربه لوقتٍ معين؛ فهو كلما سار طليقًا فيما يقول، دنا من الساعة التي يخالف فيها الشريعة، فَيُقْبَض عليه.
ذهب يسوع وتلاميذه في يوم سبتٍ من أيام مايو للنزهة؛ أي حين حلَّ وقت حصاد القمح، فجاعوا، فقلع شبانهم وهم سائرون سنابلَ ليأكلوا حبوبها، فلقيهم فَرِّيسيَّان من الرقباء مصادفةً فسألاهم عن سبب خرقهم لحرمة السَّبْت — والسَّبْت عند أولئك القوم هو الناموس المقدس الأعظم القادر على تقييد الطبيعة، فيصفون الينابيع التي لا تجري منتظمةً بالسَّبْتية — فقال لهم يسوع الذي يخاطب العوام بلغتهم، ويخاطب الكهنة بلسان الشريعة: «أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؛ كيف دخل بيت الله وأكل خبز التَّقْدِمَةِ الذي لم يَحِلَّ أكله له ولا للذين معه، بل للكهنة … السَّبْت إنما جُعِلَ لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السَّبْت، إذن ابن الإنسان هو رب الشَّعْب أيضًا.»
فتبادل الفَرِّيسيان النظراتِ مُغَاضِبَيْن عند سماعهم كلام هذا الذي انتهك حرمة السَّبْت.
وبعد قليل زمنٍ أُتِيَ إلى يسوع بمفلوجٍ يحمله أربعة رجالٍ على سرير، فلم يستطيعوا الوصول إليه لشدة الزحام؛ فنقلوه إلى بيته، ويسوع إذ كان يرى الخطيئة في المرض قال للمريض: «يا بُنَيَّ، مغفورةٌ لك خطاياك.» وكان هذا على مسمعٍ من بعض الكتبة فسألوا في قلوبهم: «لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ مَن يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده؟» فَتَنَبَّأ يسوع بما لم ينطقوا به، ويسوع قد فُطِرَ على تَبَيُّنِ أعدائه حتى بين الجمهور، فأجاب عن ذلك بقوله الحازم: «لماذا تُفَكِّرُون بهذا في قلوبكم؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ أن يقال للمفلوج: مغفورةٌ لك خطاياك، أم يقال: قُمْ واحْمِلْ سريركَ وامْشِ؟»
هنالك أَثَّرَتْ جاذبية عَيْنَيْ يسوع في المريض، فنهض المريض وحمل السرير وانصرف.
لم يَجْرُؤ الفَرِّيسيون على الجهر بذلك؛ فالجمهور مُحِبٌّ له، وهو في بلاد الجليل المضطربة بعيدٌ من العاصمة، فلا يسهل القبض على مثله فيها، ثم تمخضت أذهانهم عن زعمهم لزمنٍ محدود أن يسوع يُغْرِي النساء بالتحول عن واجباتهم المَنزِلِيَّة، فرأى يسوع أن يسير على خلاف ما توحيه إليه طبيعته بأن يدافع عن نفسه مهاجمًا، فضرب مثلًا رجلين: أحدهما عَشَّار، والآخر فَرِّيسِيٌّ صَعِدَا إلى الهيكل لِيُصَلِّيا. أما الفَرِّيسِيُّ فوقف يصلي في نفسه هكذا: «اللهم أنا أشكركَ، إني لستُ مثلَ باقي النَّاس الخاطفين الظالمين الزُّنَاة، ولا مِثلَ هذا العَشَّار. أصوم مرتين في الأسبوع، وَأُعَشِّرُ كلَّ ما أقتنيه.» وأما العَشَّار فَوَقَفَ من بعيدٍ لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قَرَعَ على صدره قائلًا: «اللهم ارحمني أنا الخاطئ.» فعند ذلك فرغ صبر السامعين لِيَرَوْا خاتمة المثل، وهل يكون دفاعًا عن المذنب؛ فاسمع قول يسوع: «أقول لكم: إن هذا نَزَلَ إلى بيته مُبَرَّرًا دون ذلك؛ لأن كلَّ مَن يرفع نفسه يَتَّضِع، وَمَن يَضَعَ نَفْسَه يرتفع.»
ولم يُعَتِّم يسوع الناصريُّ أن عُرِفَ أنه عدوٌّ لِلْكَتَبَة، ولم يُعَتِّم يسوع الناصريُّ أن عُرِفَ أمرُه في أورشليم لدى المجمع الكبير المعروف بالسنهدريم، كما أخبره به وكلاؤُه المُنْبَثُّون في بلاد الرب ليراقبوا أقوال المبدعين وأعمالهم، فقال هذا المجمع: «تَعَقَّبُوه! تَصَيَّدُوه!» فدعاه أحد الفَرِّيسِيِّين إلى تناول الغداء في بيته، فَلَبَّى يسوع دعوته، وإن الآكلين لجالسون حول المائدة؛ إذ فُتِح الباب فدخلت البيتَ فتاةٌ حسناء بَغِيٌّ كانت قد سمعت عن محبة يسوع الرحيم للآثمين، وكيف تدنو منه؟ فهي إذا ما اقتربت منه عند وجوده بين الجمهور سَخِرَ النَّاس منها فلم يَدَعُوها تَمُرُّ، فهي ترصدت لذلك وجوده في بيت رِيفِيٍّ يَقِلُّ فيه النَّاس لتدخل عليه، وقد فكرت في أيِّ الأمور تفعل لتروقه، فلم يخطر ببالها سوى العطور التي تدهن بها بدنها لإغواء الفاسقين.
والآن ترى يسوع حول المائدة، فقرأت في ناظريه من الرأفة ما لم تجده في عيون الآخرين القاسية، فاضطربت ورمت نفسها على قدميه الحافيتين باكيةً، فَبَللَتْهُما بدموعها، فنظر إليها الجميع بصمتٍ، فبدت باحثةً عن نسيجٍ، فلم ينهضْ أحدٌ لمساعدتها على ذلك، فوجدت شعرها الذي كانت تُغْوِي النَّاس به، فَطَفِقَتْ تمسح به قدميه منتحبةً مُقَبِّلةً لهما بِلَهَف، ثم بدأت تدهن رجليه بيديها المرتجفتين مما في زجاجتها، خافضة البصر غير مجترئةٍ على النظر إلى وجهه.
قال صاحب البيت في نفسه ساخطًا: «لو كان هذا نبيًّا لَعَلِم مَن هذه المرأة التي تَلْمِسُه وما هي. إنها خاطئة.»
فعلم يسوع ما دار في خَلَده فقال بصوتٍ عالٍ: «يا سِمْعَانُ، عندي شيءٌ أقوله لك!»
ثم التفت يسوع إلى تلك التي هي عند رجليه، وقال لِسِمْعَان: «أتنظر هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك وماءً لأجل رجلي لم تُعْط، وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع، ومسحتهما بشعر رأسها، قُبْلَةً لم تُقَبِّلْني، وأما هي فمنذ دخلت لم تكُفَّ عن تقبيل رِجْليَّ، بزيتٍ لم تَدْهُنْ رأسي، وأما هي فقد دَهَنَتْ بالطيب رِجْليَّ؛ من أجل ذلك أقول لَكَ: قد غُفِرَتْ خطاياها الكثيرةُ؛ لأنها أَحَبَّتْ كثيرًا، والذي يُغْفَرُ له قليلٌ يُحِبُّ قليلًا.»
دُهِشَ الجالسون حول المائدة حين سَمِعوا ذلك الكلام الإلحاديَّ، فلم يستطيعوا قولًا؛ لِمَا استحوذ عليهم من شديد نفورٍ. وكان من الصمت الذي استولى على القاعة ما يُخَيَّلُ به أنه لم يكن فيها سوى يسوع وَالبَغِيِّ، فاتحدا حينًا من الزمن باللمس واللثم والشَّعر والدمع وكلام الحب، وهي المرأة التي كانت تبيع نفسها من كل طارقٍ، وهو الرجل الذي لم يعرف امرأةً، وكان من القول أن دَوَّى في بيت تاجرٍ واقعٍ على شاطئ بحيرةٍ مجهولةٍ بعيدةٍ من ضوضاء العالم، كلامٌ جديدٌ لا تزال القرون تُرَدِّده …
أعان يسوع تلك المرأة على النهوض، فقال لها بِرِفْقٍ: «مغفورةٌ لكِ خطاياكِ، إيمانُك قد خَلَّصَكِ، اذهبي بسلام.»
ذهبت لتعود فتتبعه، فجاءت من المجدل مفعمةً بجديد الآمال، أفلم تَبْكِ أمام هذا الغريب؟ وَمَن ذا الذي كلمها مثله بلطفٍ من غير أن يرغب في التمتع بجمالها؟ هي قد زَلَّتْ فأقال عثرتها، وهي قد كانت مضطربةً فألقى السكينةَ إلى قلبها، فكان لها الطبيبَ المداويَ، وهي إذ اتبعته فرافقته سنةً قد اكتشفت من خلال لُحْمةِ نفسه زهدَه الذي لم يقدِر على اكتناهه أحد، وهي قد أدركت حقيقة أمره أكثر مما أدركه تلاميذه؛ لِمَا كان من ظهورها فريسة الشهوات قبل أن تعرفه.
من أجل ذلك ظَلَّت المجدليةُ واقفةً تحت الصليب حينما فرَّ جميع تلاميذه، فكانت وحدَها سببَ خلوده بتخيلها أمر بعثه.
•••
كان يُوحَنَّا في السجن، وكلُّ ما يستطيع أن يراه من نافذة السجن ذات القضبان، فيأتيه من خلالها الهواء والطعام، هو قسمٌ من جدار القلعة الخارجيِّ المصنوع من ضخم الحجارة البركانية السُّود، وزاويةٌ من الصخر الكلسيِّ الذي تستند إليه تلك القلعة، ويمرُّ بين حينٍ وآخر من المضيق إلى السجن بخار ودخانٌ فيزيد رطوبةً، وليس الجنود الموآبيون والأدوميون — الذين يسيرون ذهابًا وإيابًا أمام حجرته فينظرون إليه فيتوجَّعون له تارةً، ويضحكون منه تارةً أخرى — إلا غرباء عنه، فلا يفهم ما يقولون.
أنبأه أولئك في آخر مرةٍ ظهورَ رجلٍ ناصريٍّ يأتي بالآيات والمعجزات، فيملأ اسمه الأفواه والآذان، ويظهر أنه عَمَّده أيضًا، وحاول عبثًا أن يَتَنَوَّرَه من بين المئات التي عَمَّدَها، ومما قالوه له: إن صيته دَوَّى في بلاد الجليل، ثم لا يستطيع يوحنَّا أن يتذكره. ومما قالوه له أيضًا: إن ذلك الرجل الذي يجيء بالعجائب يلازم موائدَ العَشَّارين وبناتِ الهَوَى، وإنه لا يصوم هو وتلاميذه، وإنه مَرِحٌ ذو وجه طليق. أتلك هي البُشْرَى؟ وما فيها من البُشْرَى؟ فَلِمَ لا يُعَمِّد؟ وَلِمَ لا يقول بالاعتراف؟ ومع هذا ترى ذهن يوحنَّا مشغولًا بذلك الذي يُبَشِّرُ بملكوت السماوات، وَيُنْذِر الأغنياء وذوي البأس، ويتقاطر الجمهور إليه بما لا يسعهم به معبد، أليس من الغريب أن يظهر يسوع هذا في زمنٍ يُزَجُّ فيه يُوحَنَّا نفسُه في السجن؟ أما كان الأجدر بالشَّعْب أن ينظر إلى يسوع خليفةً له؟ ألم يُمَهِّد له السبيل بقوله: «الذي يأتي بعدي هو أقوى مني»؟ وما الأمر إذا كان ذلك الناصريُّ نبيًّا كاذبًا مشعبذًا يستغلُّ ما صنعه يوحنَّا؟
كان هِيرُدُوس أنتيباس ضعيفًا جبانًا فاسقًا، غير حقود ولا نشيط كأبيه هِيرُودُس، وهو حين كان نزيلَ أخيه برومة فيما مضى، وجدت زوجةُ أخيه هيروديَّا فيه الوسيلةَ التي تَصِلُ بها إلى السُّلْطَان، بعد أن جُرِّد زوجها من الإرث، فأضحى رَمَّاحًا عند القيصر، وهيروديَّا هذه هي سليلةُ هِيرُودُس الكبير أيضًا، فكانت تُشابه جدَّها هذا، فحققت ما كانت تَأْمُل، فهي لم تَنْشَبْ أن أَغْوَتْ أخا زوجها، فحرَّضته على تطليق زوجته، ومصاحبته لها زوجةً في إيالته، فاضطُرَّتْ زوجته الأولى التي هي ابنةُ مَلِكٍ عربيٍّ — اسمه والي الحارث — إلى الاعتصام بأبيها في قلعة مخيروس، فاشتعلت الحرب، فاستولى هِيرُودُس على تلك القلعة، ثم أخذ يقيم في الغالب بحدود بلاد العرب؛ إطفاءً لنار الفساد بأسرعَ ممَّا يَقْدِرُ عليه لو كان في طبرية من بلاد الجليل.
كان يوحنَّا العابسُ في مكانه المناسب حيث الضَّفَّة الشَّرْقِيَّة من البَحْر الميت، وما فيها من الأودية ذات الهُوِيِّ، والينابيع الكبريتية، والصخور البركانية، وإلى هنالك أتى به جنود الأمير في يوم ربيعٍ؛ لِمَا رُئِيَ من التفاف جمع كبير حوله عَبْرَ الأُرْدُن، وَلِمَا بدا من خوف ذوي السُّلْطَان بِأُورشليم اتقادَ فتنةٍ جديدةٍ. ومما لا ريب فيه أن بيلاطُس كلَّم المجمع الكبير «السنهدريم» فيما يجب اتخاذه لمنع ذلك.
وكان المكانُ الذي يجتمع فيه فريقُ الساخطين خارجَ المنطقة التابعة للحكم الروماني رأسًا، فأشار بيلاطُس على الأمير التابع هِيرُودُس بأن يحفظ النظام في إيالته، وما كان الاضطراب الأزليُّ ليهدأ في تلك البُقْعَة من الدنيا، ففي الوقت الذي وقف فيه المَعْمَدَان أرسل بيلاطُس فُرسانَه إلى جبال السَّامرة التابعة له؛ ليشتتوا فيها شملَ أنصار مذهبٍ جديدٍ، ويأسِرُوا منهم، ويقتلوا مَن يَرَوْن خشيةَ الفتنة.
سِيقَ يوحنَّا من أروقةٍ طويلةٍ وَحَمَّامَاتٍ مفروشة بحجارة ملونة، فإذا ما نظر من النافذة العالية أبصر في أسفل القصر أعتدةً للحرب، ودارًا للصناعة، ومن ذلك المحل سِيرَ بيوحنَّا مرتين فيما مضى.
رفع ذلك الأميرُ عينيه من بين تلك الوسائد الحريرية ذات الألوان الكثيرة إلى ذلك النبيِّ الهزيل الرَّثِّ الثياب الواقفِ أمامه، فيحاول الأمير أن يُخْفِيَ خلف نظرِه التَّعِبِ وَجَله وإعجابه وحبه للاطِّلاع، فيكتشف النبيُّ ذلك فيزول خوفه، ولا يُعْرَف ماذا يرغب هِيرُودُس أن يسأل يُوحَنَّا عنه، وإن عُلِمَ أن يُوحَنَّا يؤاخذه على زواجه الإجراميِّ، فيطالبه بتطليق زوجته؛ لِمَا في تَزَوُّجِ امرأة الأخ الحَي من مخالفةٍ للشريعة، وَلِمَا ينطوي عليه هذا الزواج من الزنا، فضلًا عن خيانة الأخ لأخيه المُضيف له، وليست هذه هي المرة الأولى التي تُلَام فيها تلك الأسرة على مثل ذلك؛ فقد سبق أن عاب كهنة أُورشلِيم هِيرُودُس الكبيرَ على كثرة ما عقد من نكاحٍ وحلَّ من زواجٍ؛ ولكن الذي يتكلم ذلك هو الآن مسكينٌ سجينٌ في قلعة منعزلة، فيُمكن ضَرْبُ رقبته فيها على حسب هوى الأمير.
وَيَجْرُؤُ يوحَنَّا على القول، وَيَتَرَدَّدُ هِيرُودُس في القتل مع ذلك، ويتفرق أتباع يُوحَنَّا أيدي سَبَأ، ويظهر نبيُّ جديدٌ، ويبدو حَمَلَةُ الشريعة مناهضين للاثنين، فما الذي يمنع الأمير الجبان من الفتك إذن؟ وَلِمَ لا يأمر بإعدام ذلك الذي استفزَّه وأهانَ زوجته؟ ها هو ذا واقفٌ أمامه طويلًا شبه عارٍ مُجَلْجِلَ الصوت، شديدَ الوعيد، خَشِن اللحية، أشعرَ البدن، مُحَذِّرًا إياه سوءَ العَذَاب الأبديِّ، وإنه ليبتعد إذ جاءت هِيرُودِيَّا، وهي تنعت الأمير بالنذالةِ، وتنظر إليه شَزْرًا، وَيُعَادُ النبيُّ يُوحَنَّا القويُّ إلى السجن بهدوءٍ، ويستقبل فيه تلاميذه، وَيُبَلِّغُ الرِّسَالَات في البلاد لا ريب.
لم يلبث التلاميذ أن رجعوا إلى السجن حاملين لِلْمَعْمَدَانِ أنباء انتصارات الناصريِّ، ويجهر يسوع بعداوته للْفَرِّيسيِّين، ويجهر الفَرِّيسيون بعداوتهم ليسوع، ويسوع لم يفتأ يُبْرِئُ المرضى، والنزاعُ بين الفريقين يتفاقم، فلم يُعَتِّم يُوحَنَّا أن اعترف بأن يسوع يسير على سُنَّتِه، فيجاهد كما كان يجاهد، فصار يُوحَنَّا يدحض وساوسه حول يسوع النبيِّ المَرِحِ المُحِبِّ للرحلات وللولائم، فَطَفِقَ يسأل تلاميذَه عن بعض الجزئيات في مواعظِ يسوع وسلوكِه، وَتقَابُلُ الاثنين؛ إذ كان متعذرًا، وكان يوحَنَّا يسأل في نفسه كلَّ يومٍ عن مدى رسالته، وعاقبة عمله، رأى أن يستوضح يسوع أَمْرَه.
ومع ذلك تَرَجَّحَ يُوحَنَّا بين الخوف والرجاء، فإذا قال يسوع: إنه المسيح المنتظر لم تذهب آلام يُوحَنَّا سُدًى، وكان لعمله قيمةٌ، ولحياته معنًى، ومع ذلك لم يَرَ يُوحَنَّا الصواب في مناقضة يسوع لقدماء الأنبياء في أساليبه مناقضةً جالبةً للنظر، وإن كان أعظمَ منه.
أَمَرَ يُوحَنَّا التَّعِبُ المضطربُ من خلال قضبان السجن تلاميذَه بأن يسألوا يسوع: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟»
•••
لم يتكلم يسوع عن المَعْمَدَان قطُّ، فكأنه يريد أن يَتَجَنَّب ذكراه، ففي المَعْمَدَان يرتبط أشدُّ أدوار حياته عندما خرج مُعَمَّدًا بماء الأُرْدُن فرأى الحمامة بعين بصيرته، فسمِع بَعْدَ مسافةٍ صوت أبيه الربِّ، أكان ذلك في الربيع الماضي؟ أَلَمْ تَمْضِ بضعة أشهر فقط منذ كان مرتبكًا فأخبره أوائل الحُجَّاج بالقبض على يُوحَنَّا واقتيادِه إلى السجن؟
وكان يسوع يكثر من الحديث عن الأنبياء السابقين، مع تحاشيه عن ذكر يُوحَنَّا الذي هو نبيٌّ في زمانه، وما كان يسوع راغبًا في غير المحافظة على القَدِيم مع تجديدٍ، ولا شيء أبعد عنه من جهاد يهوذا الهَدَّامِ الذي نَغَّص صباه، وهو يذكر حَسَرات إِشَعْيَاء ضد الظالمين، وهو يكرر قول هوشع: «إني أريد رحمةً لا ذبيحةً.» وهو يقتدي بالأنبياء وخطباء الشَّعْب الذين وضعوا الأغنياء والزَّنَادِقة منذ قرون على مستوى واحد تعظيمًا للفقراء، وهو يجد في كتاب النبيِّ أَخْنُوخَ «إدريس» ابنَ الإنسان الذي ظهر لقذف الملوك من عروشهم إلى جهنم، فقال: «ويلٌ لكم أنتم الذين تشيدون قصوركم بِعَرَق الآخرين، فكل حجر فيها خطيئة.»
انقضى دور الانقلاب الصيفيِّ، وبدأت أوراق الكَرْمة تهتزُّ، وَجُمِعَت الغِلَالُ وَحَبُّ الزيتون، وأخذت حرارة الشمس تخفُّ، وصار يَفْتُر ما كان من الحماسة حينما لاقى يسوع المَعْمَدَان. أجل، إن عدد مَن يلتفُّون حوله يزيد، وإنه جاب جميعَ المُدُن والقرى القائمة على الشاطئ الغربيِّ من بحر الجليل، وإنه قطع هذا البَحْر وأوغل في بعض أودية شاطئه الشرقي وَضِفَّة الأُرْدُن اليسرى، بيد أن مجال رسالته ظلَّ ضيقًا بعيدًا من ولاية اليهودية التابعة لسلطان رومة، مقتصرًا على إيالة هِيرُودُس التي وجد فيها تسامحًا من موظفين لم يَرَوْا في جمعه القليل الحَمِس، المُؤَلَّف من الفلاحين والصيادين والصُّنَّاع، ما يزعج.
ويصبح شفاء المرضى أمرًا مزعجًا ليسوع، ويظهر أنه كان يخجل من قدرته على شفائهم بالتلقين، فيخشى أن يطفو ذلك على رسالته. ومن النَّاس مَن زعموا أنه ممسوسٌ. وهو القائل بوجود صراع بين شيطانين عندما يُطْرَد أحدهما من جسم الممسوس، فمما حدث أن أمسكت مريضةٌ رداءَه من الخلف ليشفيَها، فلاح له أن قوةً خرجت منه، وما أكثر ما يعود المرضُ إلى المرضى بعد أن يبتعد عنهم! وما أكثر ما سمع الممسوسين وَالعُمْيَ والمفلوجين يذكرون اسمه متحسرين في أثناء نُزَهِه بين سنابل القمح وعلى شاطئ البحيرة! ويعترض هؤلاء في طريقه، ويكدِّرون مواعظه، وَيُنَغِّصُون سروره، وإذا لم يَسْطِع أن يُبْرِئَهم لعدم إيمانهم نظروا إليه بغيظٍ؛ لظنهم أنه يقودهم إلى جهنم. ومن الغريب أَلَّا يغادر مَن يشفيهم بسلام، بل يأمرهم متوعدًا بالصمت.
وبينما كان يسوع في سوق ازدحم القوم فيها فَيُبْرِئُ وَيَعِظُ؛ إذ جاءه رسولَا يُوحَنَّا، فَدُهِشَا حين رأيَا يسوع جالسًا هادئًا، والنَّاس حولَه، فيغتاظان على ما يحتمل من أكثر النبيين هناءً، ويفكران في أمر معلمهما المسجون في قبوٍ رطيبٍ مُحْرِقٍ. ومن الجائز أن يكون يسوع قد قرأ ما في قلبيهما؛ لِمَا رآه من تناقضٍ بين مقتضى الحال ووضعهما، فَحَدَّقَ إليهما قائلًا: «ماذا تَوَدَّان أن تَعْلَما؟» فسألاه باسم يُوحَنَّا: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟»
تضطرب تلك الأفكار في يسوع، ولا يعرف يسوع أيبقى صامتًا على تلك الحال طويلَ وقتٍ قبل أن يعود إليه صحوه؟ يظهر أن شيئًا من روح المَعْمَدَان تَسَرَّبَ فيه فَيَهُزُّه، وإنه لكذلك إذ أخذته العِزَّة كالتي أخذته نحو أمه في قانا، فانتحل بها أوضاع الملوك، فأشار إلى الجمع بذراعه، وقال لرسولَيْ يُوحَنَّا: «اذهبا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تسمعان وتنظران، العُمْيُ يبصرون، وَالعُرْج يَمشون، وَالبُرْصُ يُطَهَّرُون، وَالصُّمُّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبَشَّرُون، وطوبى لِمَن لا يَعْثُرُ فِيَّ.»
وهل وُجِدَ بين الجمِّ الغفير مَن أدرك ماذا حدث؟ إن المعلِّمَ الذي ما فَتِئَ يترك أمكنة معجزاته وشفاءاتِه غير متخذٍ لها دليلًا على عِظَم قدره، يفتخر بها اليوم أكثر من افتخاره بغيرها، فيرسل خبرها إلى يُوحَنَّا الذي لم يَشْفِ مريضًا قط، فيقوم نفوذه على الكلام، ويظهر أن يسوع قال ذلك مُهَدِّدًا يُوحَنَّا؛ لِمَا أبصره من معنى السخرية وَالغَيْرَة في سؤاله، فترى من ذلك أنه أرسل إليه في سجنه وعيدًا بدلًا من السُّلْوَان والسلام!
ابتعد رسولَا المَعْمَدَان، وظلَّ يسوع مُبَلْبَلًا بفعل ذلك السؤال وذلك الجواب وكلِّ ما ساورَه، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُحَدِّث فيها عن يُوحَنَّا وعن جميع الذين يُنَبِّئُون بدنوِّ اليوم المنتظر، فَيُنْذِر الجاحدين الذين عاملهم بِرِفْقٍ حتى الآن، وَذُعِرَ الجَمْعُ فَوْرَ سماعه يسوع، الذي لم يبد منه غيرُ الرِّفق فيما مضى، ينطق بالكلمات القاسية الآتية: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أَقَصَبَةً تحركها الريح؟ ولكن ماذا خرجتم لتنظروا، إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة، هُوَ ذا، الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك؛ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم، أقول لكم، وأفضلَ من نبيٍّ، فإن هذا هو الذي كُتِبَ عنه. ها أنا أرسل أمام وجهك مَلَاكِي الذي يُهَيِّئُ طريقك أمامك. الحقَّ أقول لكم: لم يَقُم بين المولودين من النساء أعظمُ من يُوحَنَّا المَعْمَدَان؛ ولكن الأصغرَ في ملكوت السماوات أعظمُ منه … فهذا هو إيلِيَّا المُزْمَع أن يأتي، مَن له أذنان للسمع فليسمع.»
عَجِبَ الجميع من نَبَرَات يسوع، بَيْدَ أن قليلًا من المستمعين أدركوا ما يدور في خَلَدِه، فلم تتحول أنظارُهم عنه مذعورين، فإذا كان يسوع يذكر إيليَّا وَيَصِفُ يُوحَنَّا بالذي يُمَهِّدُ السبيلَ، فإنه يكون قد عَنَى بالمسيح نفسَه وإن لم يَقُلْ ذلك، فاسمع قوله: «وَبِمَن أُشَبِّه هذا الجيل؟ يُشْبِه أولادًا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون: زَمَّرْنا لكم فلم تَرْقُصُوا، نُحْنَا لكم فلم تَلْطِموا؛ لأنه جاء يُوحَنَّا لا يأكلُ ولا يشرَب، فيقولون فيه شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرَب، فيقولون: هو ذا إنسانٌ أكولٌ وشرِّيب خمرٍ، محبٌّ للعشَّارين وَالخَطَأَة.»
•••
يا لتلك الطريق ذات المخاطر التي فُتِحَت أمام يسوع بغتةً! يا لذلك الابتلاء في سؤال يُوحَنَّا الذي قد يكون إنذارًا من الربِّ! ظل شعور يسوع بِقَدْرِه راقدًا فيه منذ صِبَاه لسيره مع الله لا مع النَّاس، فلم يتحرك فيه إلا لوقتٍ قصيرٍ بعد العِمَاد والقبض على المَعْمَدَان، ثم تَنَبَّه فيه فجأة عند طرح ذلك السؤال عليه. ويسوع إذ رأى المَعْمَدَان يَرْبكُه للمرة الثالثة أملى احترامُه للأنبياء عليه شعورًا بأن المَعْمَدَان أُرْسِلَ لِيُمَهِّد له السبيل. ويسوع حين أبصر خصومه وفكر في المؤامرات التي تُحَاك حوله، وشاهد زيادةَ عدد مَن يؤمنون به، وَمَن شفاهم، وَمَن يعبدونه سمع النداء أعلى مما كان عليه؛ لِقُرْبه منه.
بدت حماسةٌ قويةٌ في يسوع النبيِّ بعد ذلك القول، فَلَامَ المُدُن التي تَمَّ على يديه كبيرُ شفاءٍ فيها؛ لعدم إيمانها، وَحَذَّرَها من يوم الحساب، وأنذرها بعذابٍ أشدَّ مما أصاب سدوم، وأصبح جديدًا غضبُه ولهجتُه وكلامُه، فَيُقَابَل بِهَزِّ الرءوس، وتَبِع يسوع بعضُ تلاميذه، وتوجهوا معه إلى شاطئ البحيرة الآخر، وأوغلوا بين الأودية والجبال.
وإن تلك العوامل لتُؤثِّر في يسوع؛ إذ أخبره تلاميذه بأن أمه وإخوته خرجوا ليمسكوه قائلين: «إنه مختل.» وليس قريبًا الوقت الذي أضحى به هؤلاء غرباء عنه، ومما حدث في تلك الأثناء أن كانت امرأةٌ من الشَّعْب في حالةِ وَلَهٍ وَوَجْدٍ فقالت: «طوبى للبطن الذي حَمَلَكَ!» فلم يقابلها بالشكر، بل قال: «طوبى للذين يسمعون كلامَ الله ويحفظونه!»
وإذا أضفت ما كان عليه يسوع من المحنة الروحية إلى عَدِّه ممسوسًا من أولئك؛ وجدت نفسه مكلومةً مرتين. أليس هذا الجحود مما يَحْفِزُ قلبًا جريحًا إلى السير قُدُمًا في سبيل المجد؟ يجعل مثل هذا الجحود من أهله سبب ابتلاءٍ له ما عَدُّوه مفتونًا؛ على حين تحترمه بلادُ الجليل وَتُقَدِّس له، وليست الناصرة بعيدةً من تلك الأودية، فإذا غادر هذه صباحًا انتهى إلى تلك مساءً، فأمر تلاميذه بأن يَظَلُّوا حيث هم راغبًا في الذهاب وحدَه، فسار وشاطئَ البحيرة الجنوبيَّ، ومرَّ بالقرب من المجدل، ومن المنطقة الغربية ذات العوارض تاركًا جبل تابور عن شماله، ماشيًا على طريقٍ يعرفها جيدًا.
يا لمضيِّ الزمن! يا لسرعة دقات قلبه! أَحَقًّا أنه وجد أهلَه منذ بضعة أشهر في عرسٍ بقانا الواقعة في تلك الأودية، فأحدَث للضيوف خمرًا، فَعَرَفَ أمره؟ أجل، إنه جاب عالمًا في بضعة أشهر! والآن تبدو له أنوار تلك المدينة الصغيرة البيضاء الجاثمة فوق الوادي الأعلى، فيراها كما كانت عليه حينما تركها، ويسمع خرير الماء، ويدخل الكوخ، ويكون بين أهله، يا لشدة ذعرهم حينما أبصروه! أخوه يعقوب تقيٌّ ويراعي أحكام الشريعة، ويتبع رضوانَ الفَرِّيسيين، وتظهر على أمه وأخواته، على الخصوص، علائم الخوف؛ إذ ينظرن إليه بعد أن ترك حرفة النَّجَّارة من غير سابق إنذار، فيعود الآن بهدوءٍ مثله يوم ذهابه، كما لو لم يحدث شيءٌ، وغدًا سيكون السَّبْت، فماذا يقع؟
ثم يَطْوِي يسوع الرَّقَّ، ويعيده إلى الخادم، ويصعد في المنبر، وَيَتَفَرَّسُ في أبصار الجمهور الذي عرفه منذ سنين، فيقول بعد قليلِ صمتٍ: «اليومَ قد تَمَّ هذا المكتوب في مسامعكم.»
فدهش الحاضرون، فماذا يعني؟ ويداوم يسوع على القول مع أنه لم يَنْتَه إلينا جميعُ ما قال، وَيَهُزُّ السامعون رءوسهم استحسانًا وإن وُجِدَ بينهم مَن ارتابوا فسألوا: «من أين لهذا هذه؟ أليس هذا هو النَّجَّار ابنُ مريمَ، وأخو يعقوبَ وَيُوسِي ويهوذا وَسِمْعَان؟ أوليست أَخَوَاته ها هنا عندنا؟» فصاروا ينظرون إليه حَذِرِين.
ويبصر يسوع، وهو الذي تعوَّد مخاطبة الجمهور، علائم المقاومة الأولى، فيمتعضُ فينقلب إلى مُحَرِّضٍ فيقول: «على كل حال تقولون لي: أيها الطبيب، اشْفِ نفسك، كَمْ سَمِعْنَا أنه جَرَى في كَفْرِ نَاحُوم، فافعل ذلك هنا أيضًا في وطنك.»
كلمهم يسوع بهذا الأسلوب؛ لأنه ظَنَّ أن آياتِه قد ذاع أمرُها، فرأى أن صِيتَها مما يساعده على التأثير فيهم، فداوم على تحريك ساكنهم بقوله: «الحقَّ أقولُ لكم: إنه ليس نبيٌّ مقبولًا في وطنه، وبالحقِّ أقول لكم: إن أرامل كثيرةً كُنَّ في إسرائيل في أيام إيلِيَّا حين أُغْلِقَت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر لَمَّا كان جوعٌ عظيمٌ في الأَرْض كلها، ولم يرسل إيلِيَّا إلى واحدةٍ منها إلا إلى امرأةٍ أرملة، إلى صَرْفَة صَيْدَاء، وَبُرْصٌ كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان أَلِيَشَع النبيِّ، ولم يُطَهِّر واحدٌ منهم إلا نُعْمَانَ السرْيانيَّ.»
ويشاهدُ يسوع ارتفاعَ الأيدي مُهَدِّدَةً، ويلتفتُ فيرى عدوَّه الشائبَ الغنيَّ الذي كان محلَّ مقته يرفع صوته متوعِّدًا أكثر من غيره، وَيَحْدُث كما كان يسوع قد أحسَّ، ولا بدَّ من وقوع ما كُتِبَ، ويشعر يسوع الأعزل بأنه يُحْمَل على الكفاح، وَيُبْصِرُ أن طريقه حافلةٌ بالمكاره والآلام، وإنه لِيُقَلِّبُ هذه الأمور في ذهنه فلا يبدي حَرَاكًا؛ إذ يطرده الجمهور الصاخب الغاضب إلى خارج المعبد، ويدفعه إلى اتجاه ذلك الجبل الذي تَنَوَّرَ فيه أباه الربَّ، فينقذ المعْز من مهالكه.
وَيَعْرِف يسوع في بلده مخابئَ الجبل، ولا غرو فقد كان في صغره يستلقي فيه مفكرًا ناظرًا إلى القطاع. وهنا حيث المرج المقدس الذي عَرَفَ فيه أباه الربَّ قبل كلِّ شيء، يستحيل قتله، فبينما يبحث الجمع الهائج عن أصلح الأمكنة ليقضي عليه، فيسأل مجادلًا عن إمكان إعدامه بغير حكمٍ قضائيٍّ؛ إذ يتفلت من القابضين عليه، ويتوارى بين ذلك الجمع، ثم يختفي في مأوى يَعْلَمُه منذ صباه.
وينجو يسوع من الخطر فيتنفس الصُّعَدَاء، ثم ينظر إلى ما حوله فيشعُر بأن هذه المحنة جاءت مُؤَكِّدةً لثقته بنفسه، فيدور في خَلَدِه أنه كسب المعركة الأولى، أفلم يصرخوا في وجهه هازئين؟ أفلم يريدوا قتله؟ والله يُنجِّيه من الهلاك مع ذلك، ويحسُّ قطع الصلات، ويزول بقية ما في قلبه من الحب لأهله، وينكر يسوع هؤلاء الذي يستهزئون به، وَيَوَدُّون القضاء عليه مع أن من الواجب أن يكونوا أول المؤمنين به، فيرى نفسه في حِلٍّ من آله وبلده، فيذوي بذلك حبه الوطني. ويسوع إذ أُخرج من دياره طريدًا فلم يفرَّ من الموت إلا بأعجوبةٍ أضحى ذا حبٍّ بشريٍّ شامل.
ويرجِع يسوع إلى تلاميذه، ويلوذُ الجميع بالفِرَار ما صارت مغادرةُ الجليلِ أُمْنِيَّتَه، وليس عليهم إلا سيرُ يوم ليبلغوا بلادَ الشرك؛ حيث صور وصيدا اللتان لا يطالب النَّاس فيهما بحياة يسوع، فيحسُّ أنه صار بمأمنٍ من الخطر، وفي بلاد الشرك تلك لم يُجْهَل وجه يسوع، فما كاد يَصِلُ إليها حتى عرفته امرأةٌ فنيقيةٌ فَوَدَّت أن يساعدها، فتملقته بأن خاطبته بلقبٍ يهوديٍّ قائلةً له: «ارحمني يا سَيِّدُ، يا ابنَ داودَ! ابنتي مجنونةٌ جدًّا.»
بيد أن من عادة يسوع أن يُعِينَ اليهودَ لا المشركين، فيبتعدُ من غير أن يجيبها بكلمة، فيقول له تلاميذه: «اصرفها؛ لأنها تَصِيحُ وراءَنا.» ويظلُّ يسوع مخلصًا لأحكام الشريعة فَيَهُزُّ رأسَه رافضًا قائلًا: «لم أُرْسَلْ إلا إلى خِرَاف بيت إسرائيل الضالَّة.»
وَتُصرُّ المرأة، وتمنعُه من السير، وتخِرُّ عند قدميه وهي تقول: «يا سَيِّدُ أعنِّي!» فلا يغير ذلك من موقفه شيئًا فيُجيبها بعنف: «ليس حسنًا أن يُؤخذ خبزُ البنينَ وَيُطْرَحَ للكلاب.»
ولكنه يجري على لسان المرأة الجوابُ المُلْهَمُ الآتي: «نعم، يا سَيِّدُ، والكلابُ أيضًا تأكل من الفُتَاتِ الذي يسقط من مائدة أربابها.»
قُطِعَ بهذه الكلمات آخر خيط يَرْبطُه بما تَعَلَّمَه من الوصايا في صِبَاه؛ فهو يشعرُ بأن تلك المرأة الكنعانية السائلةَ الراكعةَ بين الغبار ليست أقلَّ جدارةً بعنايته من أية امرأةٍ يهودية، مهما كان عدد الأصنام التي تعبدها، فيقف متأثرًا بكلامها، فلم يلبث أن رأى فيها ببصيرته النبوية صورةَ عالَمٍ جديد يَنْشُدُ الخلاصَ، فيزيل من ذهنه الوهمَ القائل بأن اليهود هم الشَّعْب المختار، فيفتح قلبه لجميع البشر مجاوزًا حدود العادات والتقاليد، فيقول لتلك المرأة: «يا امرأة، عظيمٌ إيمانك، ليكن لكِ كما تريدينَ!»
فكانت هذه هي المرة الأولى التي يَشْفِي يسوع فيها امرأةً وثنيةً.