الآلام
عاد يسوع وصحبُه إلى جبل الزيتون في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، وكانت السماء صافيةً، والهواء رطيبًا، ويصل إليهم ضجيج المدينة المُعَيِّدَة فلا يسمعونها ما تذكَّرُوا صامتين كلام المعلِّم.
ويبدو أنه تَحَوَّل، أفنشأ هذا عن طراوة الهواء؟ أم عما رآه من تواري يهوذا؟ أم عن شعوره باقتراب الخطر؟ لا مراء في أن النشاط دَبَّ فيه منذ خروجه من المدينة، فأخذت تساوره عوامل الكفاح والنضال، ومن المحتمل أن فَكَّرَ في الفرار ما خاطب تلاميذه بقوله: «حين أرسلتكم بلا كيسٍ ولا مِزْوَدٍ ولا أحذيةٍ، هل أعوزكم شيءٌ؟»
فقالوا: «لا.»
فقال لهم: «مَن له كيسٌ فليأخذه وَمِزْوَدٌ كذلك، وَمَن ليس له فَلْيَبِعْ ثوبَه وَيَشْتَرِ سيفًا.»
وَيَجْفُلُ التلاميذ عند سماع ذلك كما لو أُخِذوا متلبسين بجرمٍ، ولا سيما أن بعضهم كان قد فكَّر في القتال وما يتطلبه القتال من السلاح، فتشجع اثنان منهم فجازفا بإظهار سلاحيهما فقالا: «ها هو ذا هنا سَيْفَان!» ويتكمَّش عند رؤيته هذه الأسلحة الضعيفة؛ وذلك على حسب عادته عند مواجهة الحقائق، مُقَدِّرًا بطلان المقاومة؛ لتمثُّلِه مناقضة الروح للقوة، ولمقابلته بين الله والعالم، فيعدل عن رأيه في بضع ثوانٍ، فيكتفي هادئًا بقوله المبهم: «يَكْفِي!»
ويواثبه تفكيره بدنوِّ أجله، ويحاول بين حين وحين أن يُلَطِّفَ وقْعه في نفسه على ضوء التوراة، ويقول لتلاميذه كَمَن يريد امتحانهم: «كلكم تَشُكُّون فيَّ هذه الليلة؛ لأنه مكتوبٌ أني أضرِب الراعي فَتَتَبَدَّدُ خِرَاف الرعية.»
ويقاطعه بطرس بحماسةٍ كما في قيصرية فيلبُّس فيقول: «إن شَكَّ فيكَ الجميع فأنا لا أشكُّ أبدًا.» فينظر يسوع إلى بطرس مُغْتَمًّا ما عرف تقلُّبه وتقلُّب أصحابه فيقول: «إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديكٌ تنكرني ثلاث مرات.»
فيقول له بطرس: «لو اضطررتُ أن أموت معك لا أنكرك.» فيردد التلاميذ الآخرون قوله.
ويدهش يسوع حين يسمع عهود الإخلاص والوفاء هذه، وتتجاذبه المتناقضات، أَفَيُسَلِّمُ نفسه إلى العدو بغير مقاومة؟ أليس تلاميذه مسلَّحين؟ كلَّا، لا يذهب في هذه الليلة إلى بيت عَنْيَا؛ حيث يُبْحَث عنه لا ريب، فإذا كان يهوذا الغائب شريكًا في المؤامرة؛ فإن مجيء هذا الخائن مع العدو إلى هنالك يكون غير مُجْدٍ، ثم تشتعل فيه روح النضال مرةً أخرى، فيترك الطريق بغتة، ويأمر تلاميذه باتباعه، ويبحث عن مختبَأ، وهكذا يودُّ يسوع في آخر أيام حياته أن يختفي على غير هدًى، كما كان يفعل عندما يسير ضدَّ العالم في كل مرةٍ، ويدخل يسوع في الليل البهيم في بستان زيتونٍ يُرْوِية وادي قدرون، ويقع على المنحدر الغربيِّ من الجبل، ويحيط به سياج صُبَّار، فيحميه من اللصوص كما تُحْمَى بساتين الأهالي الأخرى.
وإليك يسوع وصحبه في ذلك البستان، ودخولُ بستانٍ للاختفاء تجربةٌ حديثةٌ مزعجةٌ ليسوع الحليم الذي بلغ السنة الحادية والثلاثين من عمره، فلم يدخل قبل ذلك في غير أفئدة النَّاس، وفي تلك الأيام يسمع يسوع طقطقةً وهمسًا، وَتُحَاكُ حوله المؤامرات، وَيُكَشِّرُ الموت الذي أكثرَ من ذكره عن أنيابه له فَجْأَةً، ويزحف إليه بما لا عهد له بمثله، فتصول فيه من جديدٍ أرواح الحياة الحِسِّيَّة بذلك البستان، بعد أن ديست فيه شتاءً بأجْمَعِه، وبعد أن خُنِقَتْ فيه خلال الأسبوع الأخير بأورشليم، ويستهويه من جديدٍ ما حوله من الهدوء، وتفتنه رائحة شجر الزيتون، وَطَلُّ الليل والكلأ الناعم تحت قدميه، والنجوم التي تُلْقِي أشعتها من بين الأغصان، وتبدو التوراة ووحي التوراة أمرًا منسيًّا، أو معنًى مبهمًا، وتثور في نفس يسوع رغبةٌ حارَّةٌ في الابتهال إلى أبيه أن يدع له حياته.
وهل يُبِيحُ يسوع لنفسه أن يبوح لتلاميذه بما فيه من ارتباك أفكار واختلاط مشاعر؟ انتحى يسوع بتلاميذه الثلاثة المُفَضَّلِين: «بطرس ويعقوب ويُوحَنَّا» جانبًا، تاركًا الآخرين تحت الشجر، وأخذ يسير هو وإياهم قليلًا في الظَّلام، وصار يرتعش ويتردَّد ويخاف أن يُتْرَكَ وحيدًا، فقال لهم: «نفسي حزينةٌ جدًّا حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا معي!»
ثم تقدَّم بضع خطواتٍ وسجد ومسَّ جبينه وشعره الأَرْض النَّدِيَّةَ ودعا قائلًا: «يا أبتاه، إن أمكن فَلْتَعْبُر عني هذه الكأسُ؛ ولكن ليس كما أريد، بل كما تريدُ أنت.»
ويداوم يسوع على الدعاء من أجل حياته، وَيُفَوِّضُ أمره إلى أبيه، ويعاوده الغمُّ فينهض مرةً أخرى، وَيُخَيَّل إليه أنه أُحيط به، فيشعر شعور الفريسة عند اقتراب كلب الصيد منها، ويعود ضعيفًا بائسًا حزينًا إلى رفقائه، باحثًا عن المُعِين فيهم، أفلا يبسطون ذرعانهم لمعاضدته؟ أفلا يُحِلُّونه محلَّ القلب في نفوسهم؟
وجدهم نائمين، ووجد يعقوب ويُوحَنَّا وبطرس نائمين.
فقال لبطرس: «أهكذا ما قدرتُم أن تسهروا معي ساعةً واحدةً؟»
ألا يتجلى قنوط الحياة في تلك الكلمة؟ أليس أولئك هم أخلص أتباعه الذين وهب لهم قلبه منذ سنةٍ وبعض سنةٍ؟ هذه هي المرة الأولى التي يطلب فيها صاحبهم ومعلِّمهم العونَ منهم لا من الربِّ الذي يدبر الأمر في عالم السِّرِّ، وهذه هي المرة الأولى التي ثَلَمَت الخمرة والظُّلمة حدَّهم فيها فتراهم نيامًا!
وتُساور النبيَّ شكوكٌ، أفلم يخترْ طريقًا ضالَّةً؟ أفلم يَرَ بطرسَ هذا التَّعِبَ روحًا وجسمًا يَنشدُ الراحة غير مرةٍ لدى زوجته كالولد الصغير على صدر أمه، فتحتضنه احتضانَ الوالدة لولدها؟ ألم يكن انفراده خطأً؟ كان يمكنه أن يجد على الدوام ملجأً في قلبٍ نسويٍّ، وأيديًا ناعمةً تداري شعره، وشفاهًا تُقَبِّل قدميه، وعطفًا عليه في أعماله اليومية، وكان يمكنه أن يشاهد ازدهارَ مَن يحبهم من الأولاد ونموَّهم، وكان يمكنه أن يقضي حياته بين أهل مدينة صغيرة هادئة من الجليل، وأن يمتاز منهم بمخاطبته الأب فوق الجبل، وأن يحفظ سِرَّه في نفسه!
وَلِمَ جاء النَّاسَ بالبشرى مُعَرِّضًا حياته المطمئنة للخطر؟ فأين، إذَن، القلوب التي أيقظها وملأها سعادةً بتعاليمه؟ فانظر إلى سِمْعَان الذي عَدَّه صخرةً يُشَاد عليها الإيمان فَسَمَّاه بطرسَ؛ تجده نائمًا في تلك الساعة الخطرة، وانظر إلى يُوحَنَّا الذي كان يضمه إلى قلبه كالولد الصغير؛ تجده نائمًا أيضًا، وانظر إلى يعقوب تجده نائمًا أيضًا، فإذا كان هؤلاء لم يسمعوا رجاء معلِّمهم للمرة الأولى، وإذا كانوا يَكِلُونه وحده إلى كَرْبِه وتردُّده، فيا خيبة الأمل! لقد نسي الغرباء — الذين سمعوه فشفاهم — رسالتَه منذ طويل زمنٍ، فهم لا يزالون في مراكبهم وسفن صيدهم فاتِرِي الأفئدة، مع ظنه أنه ألهبها، فهل البُشرى التي أتى بها هي من هذه البشارات التي تستحق أن يُضَحِّي بحياته في سبيلها؟ «يا أبتاه! إن لم يمكن أن تَعْبُرَ عني هذه الكأسُ إلا أن أشربها؛ فلتكن مشيئتك!»
هنالك ضوضاء وصليل سلاح؛ فقد كُشِفَ المَخْبَأُ، فدخل البستانَ جماعةٌ تحمل مصابيح ومشاعل، وكان قائدها رئيس حرس الهيكل، فهذا القائد تعذَّر عليه أن يُقلِّل في هذا العيد عدد خفراء الهيكل، فاستعان بخَدَمَةِ رئيس الكهنة فَسَلَّحهم بسيوفٍ وَعِصيٍّ، فذهب هؤلاء إلى بيت عَنْيَا للبحث عن يسوع، فلم يجدوه، فقادهم يهوذا إلى حيث المدينة، فأخذ يدقق في الطريق إلى أن عُثِرَ له على أثر، وما كان ليُثنيَه شيءٌ عمَّا عزم عليه، وما كان ليبالي بغير إنقاذ إخوانه الذين يرى أنهم خُدِعُوا مثله.
وإن أولئك لجالسون على الأَرْض في الظُّلمة فلا يستطيع القائد وَمَن معه أن يعرفوا يسوع، فيصعب إطلاق مَن يُقْبَض عليه منهم؛ إذ عَنَّ ليهوذا رأيٌ فقال للقائد: «الذي أُقَبِّلُه هُوَ هُوَ، أَمْسِكُوه!»
وَيُقْبِلُ يهوذا على يسوع وَيُقَبِّلُه وهو يقول: «السلام يا سيدي!» فيرفع أولئك الخدم مصابيحهم ليتحققوا فريستَهم، وينظر يسوع إلى تلميذه الخائن قائلًا: «يا صاحبُ! لماذا جئت؟»
وَيُبْهَتُ الخدم الحاملون عِصِيًّا، ويترددون بعد أن سمعوا كلمة «صاحب»؛ وذلك خَشْيَة أن تكون قد نُسِجَت خيانةٌ هنا.
أفلا ترى يا يهوذا، تحطُّم حِذقك كقدحٍ كَنَسَتْه نَفْثَةُ النبي؟ هكذا يتكسَّر العقل والحساب؛ حينما تنظر عينان بشريَّتان بريئتان إلى ذلك الذي يخادع نفسه راغبًا في مخادعة الآخرين.
ويقطع بطرس ما ساد من الصمت، ويستلُّ سيفه من غير تفكير وَرَوِيَّة كما هي عادته، فيقطع أُذن أقرب رجلٍ منه، فكان هذا سببًا في انتقال الخدم من السكون إلى الحركة، فيقبضون على الذي حاول أن يمنع بطرسَ من فعلته، لا على بطرسَ الذي لاذ بالفِرَار.
يقبضون على المعلِّم، يقبضون على الرجل الطريد الحَصُور؛ حينما كانت المَشَاعِل تنير الوجوه الغليظة، وكان ضياؤها ينعكس على الخُوَذِ والسيوف، وحينما كان العدوُّ مسلَّحًا، وكانت الحكومة ضده، وينتحل الوضع الذي يلائمه تِجَاه القوة، ويجري في عروقه شعوره بأنه المختار، ويستردُّ ما خسره في اليومين الأخيرين من العِزَّةِ، وفي الظَّلام ببستان جَثْسَيْمَاني هذا، وينتهي فيه عذاب الانتظار، فأما وقد حَلَّت المحنة وأيقظته، نطق بهذا القول الجامع الملائم لرسالته: «رُدَّ سيفك إلى مكانه؛ لأن كلَّ الذين يأخذون السيفَ بالسيفِ يهلكون.»
ثم ينظر إلى مَن حوله ويخاطب جنودًا أكثر من أن يخاطب أصحابًا، معربًا بصوتٍ عالٍ عن فكره السامي: «أتظنون أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فَيُقَدِّمَ إليَّ أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة؟ فكيف تُكَمَّلُ الكتبُ أنه هكذا ينبغي أن يكون؟ كأنه على لصٍّ خرجتم بسيوفٍ وَعصِيٍّ لتأخذوني. كلَّ يوم كنتُ أجلس معكم أُعَلِّمُ في الهيكل ولم تُمْسِكُوني.»
لم يكن لكلامه هذا صدًى، ولم يفهمه أحد، ويأمر القائد فيُقبَض عليه، ويستولي الذعر على تلاميذه فلا يدافع أحدٌ منهم عنه فيخذلونه.
وَيُسْمَعُ في بستان الزيتون حفيف شجر وتواري ظِلَالٍ في الظَّلام؛ فقد فَرَّ جميع الحواريين.
•••
سِيق يسوع إلى قصر رئيس الكهنة في ساعةٍ متأخرةٍ، فسير به من مسالكَ ومراقٍ عريضة إلى غرفةٍ واسعةٍ خاليةٍ من الهواء ذات ستائر صفيقةٍ، فرأى فيها على نور الشمع نحو عشرين رجلًا جالسين على وسائد في نصف دائرةٍ صامتين منتظرين، ثم وقع نظره في وسط هؤلاء على شيخ كُنْتِيٍّ هزيلٍ، مُتَكَرِّش الوجه، شاحبِ اللون، مُتَلَفِّفٍ في أغطيةٍ، مستندٍ إلى مَخَادَّ مشابهٍ لِرَقِّ الناموس الذي رآه في الهيكل. ومن وجه هذا الشيخ كان يخرج ألفاظ وشَخِير.
هذا هو حَنَّان الذي كان رئيس الكهنة في عصر أغسطس الزاهر، ثم خَلَفَه خمسةٌ من أبنائه في وظيفته مع بقائه قابضًا على زمام الأمر مرهوبًا ممقوتًا، وقيافا الذي هو رئيس الكهنة اليوم هو أصغر أولاده سنًّا، والرومان أصحاب السُّلْطَان هم الذين نصبوا قيافا هذا، فظلَّ مع شَيْبَتِه مطيعًا لأبيه حَنَّانَ البالغ من العمر مائة سنة.
ويتعذر جمع المجمع الكبير كلِّه في تلك الليلة القريبة من العيد، فاجتمع ثلث الأعضاء، وهذا ما يكفي. ومن أحكام الشريعة أنه لا بد من انقضاء يومين للحكم بالإعدام وتنفيذه، فيمكن للضرورة المُلِحَّة عَدُّ تلك الليلة اليومَ الأولَ، وعدُّ الصباح التالي اليومَ الثاني.
إعدامُه أمرٌ بُتَّ فيه؛ فالصَّدُوقيون النافذون في المجمع الكبير لا يُحِبُّون الجدال كَالفَرِّيسِيِّين، بل يَرَوْن قرن الأقوال بالأفعال، وَضَلَّ مَن يقول غير هذا، والسُّلْطَان والمال ينتقلان إلى الصَّدُوقيِّين جيلًا بعد جيلٍ. ومن امتيازاتهم: بيعُ أنعام القرابين، وإيجارُ الأماكن في الهيكل للباعة، وتوزيعُ الوظائف، وتحديدُ الأثمان، والصَّدُوقيُّون إذا ظلوا هادئين صابرين؛ على حين يثور الفَريسِيُّون وَيَهيجون، فليعملوا في الوقت المناسب، وَلِيَقْضُوا على عوامل الخطر في ساعةٍ واحدةٍ؛ فقد دقَّت هذه الساعة، فالشهود ينتظرون في خارج القاعة، والمتهم حاضرٌ.
جيء بيسوع الجليليِّ أمام هؤلاء الذين نَضِجَتْ أعمارهم، وَحَنَّكَتْهُم التجارب، فأنعموا النظر فيه منذ دخوله أكثر من أن يُنْعِمه فيهم، فرأوا في منظره وسلوكه مثلَ أوضاع ناقضي الناموس، ولم يكترث يسوع في محاكمته الجائرة لغير الشكل، ويعرف كلا الفريقين ما تسفر عنه هذه المحاكمة، ويغتمُّ المُتَّهِمون، مع ذلك، أكثرَ من المُتَّهَم الذي يعلم هلاكه، أفلا يمكنه أن يصنع كما صنع زكريا في بدء حرب اليهود، فيمزق شبكة دسائسهم بصوتٍ راعدٍ يوجهه إلى الشَّعْب؟ فما الذي يؤاخذه عليه الشيخ حَنَّان؟ أيؤاخذه على الطراز الذي دخل به أورشليم؟ أم يؤاخذه على طرده الصَّيَارِفة من الهيكل؟ أم يؤاخذه على ما قَذَف به الفَرِّيسِيِّين؟
لم يحدث شيءٌ من هذا، وَيَقُصُّ الشهود ما عندهم، ويحاول الشيخ حَنَّان أن يُلْبِس المحاكمة مظهرًا نزيهًا مع أنه خصمٌ وحكمٌ في آنٍ واحدٍ، ولم يسمع صوتَ المتهم بعدُ، فغاظه صمتُه تجاه ما وُجِّه إليه من تُهَمٍ وأسئلة، فطلب منه أن يُوَضِّح مذهبه.
النبيُّ واقفٌ هنالك بين أعدائه، فهل يكشف عن روحه الخفية أمام تلك الوجوه؟ لقد أجاب بفتورٍ: «أنا كَلَّمْتُ العالَم علانيةً، أنا عَلَّمْتُ كلَّ حينٍ في المجمع وفي الهيكل؛ حيث يجتمع اليهود دائمًا، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء، لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ما كَلَّمْتُهُم، هُوَ ذَا هؤلاء يعرفون ماذا قلتُ أنا.»
ما كان أحدٌ ليجرؤ قبل الآن على النطق بمثل ذلك أمام السائل الهَرِم، فَلَطَمَ أحدُ الخدم المتهمَ بيده قائلًا: «أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟» وذلك قبل أن يكون لدى الشيخ حَنَّان من الوقت ما يُعَنِّفُ به يسوع.
بَيْدَ أن يسوع أجاب بهدوءٍ على طريقة الفَرِّيسِيِّين: «إن كنتُ قد تكلمت رَدِيًّا فاشهدْ على الرديِّ، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟»
ولم يَرْتَح الكهنة لهذه الغلظة، فَوَدُّوا احترام المظاهر والنظام. ويدرك الشيخ حَنَّان أن ما حدث حتى الآن لا يؤدِّي إلى نتيجةٍ فاستدعى الشهودَ لإثبات أفظع التُّهم، فأجمعوا على أنهم سمعوا يسوع يقول حديثًا: «إني أنقضُ هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخرَ غيرَ مصنوعٍ بأيادٍ.»
ويظلُّ المتهم صامتًا أيضًا في هذه المرة، فمما لا ريب فيه أن يكون قد نَطَقَ بمثل ذلك، فلا تحتاج إقامة بيوت ملكوت الله التي هي مقرُّ التقوى الخالصة إلى سنواتٍ، وإلا لاقتضت الأبدية. ويتقدم الشيخ حَنَّان قليلًا نحوه زاحفًا بِوِسَادَتِه، ويرمي أحد أغطيته ويقول: «أما تجيب بشيءٍ؟»
لا صوتَ يَرِن في الغرفة ذات الستائر الصفيقة، وينظر بعض الحضور إلى بعض حائرين، فَلِمَ لا يبدأ الشيخ حَنَّان بجمع الأصوات منذ الآن؟ لقد جَدَّفَ المتهم على الله ولم ينكر كلامه، ولكن القاضيَ المُحَنَّكَ يرغب في برهانٍ أمتنَ مما حدث؛ فهو يعرف روح الجدل في الفَرِّيسِيِّين، وأنهم سيعترضون في آخر الأمر، وهو يعرف تشدُّدَ الوالي الروماني الذي يطلب دليلًا ساطعًا؛ فمن أجل ذلك يسعى في حمل النبي الزائف على الاعتراف، فيطرحُ أخطر المَسَائِل لِيُغْرِيَ يسوع على الخروج من موقفه السلبي، فيزحف قليلًا أيضًا نحو المتهم، فيكادُ يَمَسُّ رداءَه العاديَّ بذراعيه المدثرتين بنسيجٍ من حرير، فيقول: «إن كنتَ أنت المسيحَ فَقُلْ لنا!»
ويتجاذب يسوعَ إيمانُه برسالته واحتقارُه لأولئك الذين يسألونه، وتتصادم فيه عِزَّتُه واشمئزازُه، ويتعارك فيه اعتزازٌ واعتزاز، فيكتفي بالجواب الجافِّ الآتي: «إن قلتُ لكم لا تُصَدِّقُون، وإن سألتُ لا تجيبونني ولا تُطْلِقُونني.»
وَيَتَذَمَّرُ القُضَاةُ من عناد يسوع ومن سَعَةِ صدرِ رئيسهم، ولا يرى هذا الرئيس أن خطَّته أُحْبِطَتْ مع ذلك؛ فهو لا يزال يُصِرُّ على اقتطاع اعترافٍ من يسوع، فيقوم بآخر حملةٍ، فيحاول النهوض مستندًا بيديه المرتعشتين إلى وِسَادَتِه، فيسرع إليه أولاده ليساعدوه على ذلك؛ لِمَا يعرفون من نهوضه لِيَدْعُوَ الربَّ، فيبرز هذا الفاني من بين الأغطية والوسائد، فيرفع ذراعه العَظْمِيَّةَ فيسأل ناعقًا كالغراب: «أستحلفُك بالله الحيِّ أن تقول لنا هل أنت المسيحُ ابن الله؟»
الآن يشعر يسوع بحلول الوقت الذي يُعْلِنُ فيه بين الأعداء ما يأمر به الربُّ الذي نَفَذَ اسمه جوَّ هذا المكان الخانق، ولا يرى يسوع، مع ذلك، أن يعتزَّ؛ فهو يجيب بصوتٍ خاشعٍ كصوته في بدء رسالته فيقول بِرِفْقٍ: «أنت قُلْتَ.»
ولم يَنْشَبْ يسوع أن رفع يدَه، فنظر إلى ما حوله، فقال بصوت مَلِكٍ: «أقول لكم من الآن تُبصرون ابنَ الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا على سحاب السماء.»
وَيَثِبُ الجميع على أرجلهم، مذعورين بعد تَوَتُّر ما توقعوا جوابًا غير هذا؛ فقد تَمَّ لهم ما أرادوه منذ ساعة بجواب يسوع الجريء، فأصابهم به في الصميم، فها هو ذا يُسِيءُ استعمال قول دانيالَ بأن المسيح سيجلس عن يمين الربِّ، فَلْيَجُرَّ الشيخُ حَنَّان حُلَّتَهُ بيديه المرتجفتين وَلْيُمَزِّقْها، وليقُلْ بصوته الجافِّ: «قد جَدَّفَ. ما حاجتنا بعدُ إلى شهود؟! ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون؟»
فيقولون: «إنه مستوجبٌ الموتَ.»
شُفِيَت الصدور فإذا كانت القضية قد أُقيمت على يسوع، وكان القبض عليه قد تَمَّ عن غرضٍ وفي الظَّلام، فإن جميع أولئك يشعرون بأن النبيَّ دان نفسه بنفسه وَفْقًا لأحكام الشرع؛ فهو قد اقترف جرم الخيانة العظمى تِجَاه شعبِ الربِّ، فَلْيُكَفِّرْ عن حبوط عمله إذن! حقًّا لقد حُكِم على كثيرٍ من العظماء الخائنين وعلى كثيرٍ من الأنبياء بالإعدام، فَقُتِلُوا قبل يسوع الناصريِّ وبعدَه كما تأمر الشريعة، فأُقيمت التماثيل، وَوُضِعَت الأناشيد بعد زمنٍ تعظيمًا لهم، وتخليدًا لذكراهم.
ذهب ما يجب أن يكون للمحكمة من كريم المقام والشرف أدراج الرياح؛ فقد نُسِيَ أن الشريعة تأمر بالصوم وَالنَّدْبِ قبل التنفيذ، وأما يسوع فقد تهافت النَّاس حولَه مستهزئين ضاربين كَمَن يَوَدُّ أن يَمْتَحِن ضعفَه، ثم دُفِعَ بعنفٍ واحتقارٍ إلى خارج القاعة؛ لكي ينتظر هنالك أخذه في الصباح إلى محكمة بيلاطُس.
ومن بين التلاميذ نَدِمَ بطرس على عار الفِرَار؛ ففي وقت الفجر يرى اتِّباعَ معلِّمه فينساب من بين الأرصفة، فيجد الخدم جالسين حول النار في ساحة دار رئيس الكهنة ذاكرين حوادث الليلة، فيدنو منهم لِيَتَسَقَّطَ بعض الأخبار، فَتَرِدُ بغتةً خادمةٌ كانت تمازح الخدم. وهذه الخادمة كانت قد نظرت النبيَّ في الهيكل فتعرف الآن تلميذه، فتقول له: «وأنت كنت مع يسوع الجليليِّ!»
فيقول بطرس: «لستُ أعرِفه، ولستُ أدري ما تقولين!»
وينتبه الخدم لذلك، فيجرُّ أحدهم الغريب قريبًا من النار لِيَتَبَيَّنَ وجهه فيقول: «ألم أركَ في هذه الليلة معه في البستان؟»
فيقول بطرس: «يا إنسان، لست أنا.»
ويعرف شخصٌ ثالثٌ لغة أهل الجليل فيقول اتفاقًا: «حقًّا أنت منهم؛ لأنك جليليٌّ، ولغتُكَ تُشْبِه لغتَهم.»
ويصرُّ بطرسُ على الإنكار، ويلعنُ ويحلِفُ وَيُكَرِّرُ قولَه: «إني لا أعرِف هذا الرجل.»
ويتفلَّتُ بطرسُ منهم خائفًا يَتَرَقَّبَ، فيسير إلى الباب فيسمع من خُمٍّ صياح ديك، فيتذكر قول المعلِّم فينصرف باكيًا.
ويُساق يسوع المحكوم عليه في الصباح إلى مجمع اليهود الكبير «السنهدريم»، ويستمع هذا المجمع إلى خلاصة أقوال الشهود وأقواله، فيوافق على حكم المجمع الصغير في الليل، فتُرفع الجلسة وَيُسْتَعَدُّ للذهاب إلى الوالي الروماني الذي لا بد من إجازته لأحكام الإعدام كي ينفذها، ويتوجه موكب السبعين إلى برج أنطونيا ويتوسطه يسوع مُوثقًا.
•••
لا يقيم بيلاطُس ببرج أنطونيا الذي أصبح مقرًّا للشرطة إلا في الأعياد، ويحرس أبوابه وجسوره كتائب من الرومان، وينظر بعض ألوف الغرباء إلى هذا البرج القيصريِّ المسيطر على المدينة بعين الخوف، وبعضهم بعين الاحترام، ويتجمهر جمعٌ كبيرٌ خلف الكهنة المتوجهين إليه لابسين حُلَلَ العيد. وليس دخوله مباحًا لهم، فمما يدنِّسهم أن يدخلوا قلعة المشركين في يوم عيد، فرُئي للخروج من هذا المأزق أن يُصنع أمام حائط القلعة محكمةٌ من خشب؛ ليجلس فيها الوالي الروماني أيام إقامته هنالك.
وبيلاطُس يرى اقتراب الموكب فيمرُّ من الباب محاطًا بضباطه وحمَلة فئوسه، فيستقبل واقفًا رئيس الكهنة ورئيس المجمع الكبير قيافا، وينظر إلى المُقَيَّدِ بين الكهنة فيسأل بغلظةٍ: «أية شكايةٍ تقدِّمون على هذا الإنسان؟» والوالي الروماني إذا ما خلا إلى رئيس الكهنة؛ ليفاوضه في غرفته، حاول الاثنان أن يتفاهما بأدبٍ ما رَغِبَتْ رومة في إرْضاء رعاياها، وما رغب قيافا في والٍ أنيس. واليوم يتكلم الوالي أمام الشَّعْب بصوتٍ جافٍ قاسٍ ما بدا ممثلًا لرومة العظمى!
ومن أقصى أهداف الوالي ألا يبدو مُحَابِيًا لحزبٍ من أحزاب اليهود، فأمر حمَلة الفئوس بفصل يسوع عن قُضَاتِه، وجلبه إلى قاعة الحكم بداخل القلعة. ومن المحتمل أن يكون قد فعل هذا اتِّبَاعًا لأحد التقاليد، ومن المحتمل أن يكون قد فعله لِمَا ألقاه في رُوعِه منظر مَدِينٍ عرَف أوضاعه وأحواله منذ زمن طويل، ثم يعود إلى الكهنة فيسمعهم يقولون بلسانٍ واحدٍ: «إننا وجدنا هذا يُفسد الأمَّة ويمنع أن تُعْطَى جزيةٌ لقيصر.» ويكررون ذلك إلى أن يشير عليهم قيافا بالسكوت فيقول لبيلاطُس: «يقول إنه المسيحُ، ملكُ اليهود!»
والذي رَسَمَ لرئيس الكهنة قيافا خطتَه هذه هو الداهية حَنَّان؛ فقد نصحه بأن يجعل من القضية الدينية قضيةً سياسيةً ضدَّ شخص خائن لرومة؛ لِمَا للقضية الدينية وحدَها من قليل أثرٍ في والٍ مُشْرِكٍ كبيلاطُس، وَيَحَارُ بيلاطُس، ويدخل من الباب ليسأل يسوع المُتَّهَم.
ويظلُّ يسوع، في تلك الأثناء، هادئًا ناظرًا وهو واقف إلى ما يحيط به، فيرى داخل القاعة مصنوعًا من الحجارة الثمينة المزينة، ويرى خلف تلك القاعة حديقةً جميلةً يُوصَلُ إليها بمسالَك رائعةٍ، ويرى الحمائم تطير حول حوض الماء، فيقول في نفسه صامتًا غير حاقد: بمثل هذه المنازل يُقِيمُ الأقوياء في هذا العالَم! وهو الذي لم يدخل قصرًا أو برجًا قبل ذلك قط.
دخل بيلاطُس فدنا منه فأخذ يسأله باليونانية موجزًا، فلا يكاد يفهم سؤالَه، قال بيلاطُس: «أأنت ملكُ اليهود؟»
يشعرُ النبيُّ بموجة عطفٍ في عروقه كالتي كان يشعر بها في الغالب عند مصاقبته للمشركين، فلا يجد فيهم ما يجده في اليهود من الغرور. وليس بمستبعَدٍ أن اعتقد وجودَ حُنُوٍّ في هذا الجنديِّ مع عَطَلِ أولئك الكهنة منه، كما يدلُّ عليه جوابه عن أسئلة بيلاطُس بأسئلةٍ أخرى؛ كقوله: «أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟»
تبسَّم بيلاطُس فقال على الطريقة اليهودية: «أَلَعَلِّي أنا يهودي؟» ثم سأله بأسلوب القضاء: «أُمَّتُك ورؤساء الكهنة أَسْلَمُوكَ إليَّ، ماذا فعلت؟»
رأى يسوع أن يُوَضِّح لهذا المشرك ما عَجِزَ عن فهمه أعداؤُه من بني قومه، فلعله يجد في هذا الجندي رجلًا يستطيع أن يدرك حقيقة أمره، فقال له بصوته الناصريِّ الرخيم: «مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خُدَّامي يجاهدون لكيلا أُسَلَّمَ إلى اليهود.»
ويستمع بيلاطُس له متعجبًا فيجد فيه متهوسًا متحمسًا يمكن الانتفاع به ضدَّ أولئك اليهود المغرورين، فيسأله باهتمامٍ: «أفأنت إذَن مَلِكٌ؟»
فَيُومِئُ يسوع بالإيجاب مضيفًا إلى هذا قولَه: «أنت تقول إني مَلِكٌ؛ لهذا قد وُلِدْتُ أنا، ولهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهد للحقِّ، كلُّ مَن هو من الحقِّ يسمع صوتي.»
لم يحدث أن فَسَّرَ يسوع رسالته تفسيرًا زمنيًّا بمثل هذا، ويقول بيلاطُس في نفسه: «يبدو فيلسوفًا بعد كل شيء لا أجد فيه علةً.» ثم يقول بيلاطُس بِأَنَفَةٍ: «ما هو الحقُّ؟»
ويخرج بيلاطُس من القاعة فيقول للكهنة: «أنا لست أجدُ فيه عِلَّةً واحدةً.»
فيعترض الكهنة على ذلك بصوتٍ عالٍ قائلين: «إنه يُهَيِّجُ الشَّعْب، وهو يُعَلِّم في كلِّ اليهودية مبتدئًا من الجليل إلى هنا.»
آلجليل؟ وجد بيلاطُس الرومانيُّ في هذه الكلمة ما يتمسك به في وسط ذلك اللَّغَط، فطوى صحيفة التفكير والمداراة، فرأى تسكينَ ما يضطرب له شعبُ الله الغريبُ الأطوار، فما كاد يسمع أن يسوع جليليٌّ حتى وجد في هذا ما يخرجه من المأزق؛ وبيان الأمر: أن بلاد الجليل تابعةٌ لهِيرُودُس لا لرومة، وأن هِيرُودُس هو الآن في أورشليم، فزار بيلاطُسَ أمس. فيعود بيلاطُس إلى القاعة من غير أن يُخْبِرَ أحدًا أو يقولَ جوابًا، فَيُسَلِّمُ يسوع إلى قائد مائة وإلى بضعة جنودٍ، فَيُخْرِجُه من بابٍ خلفيٍّ ويرسلُه إلى هِيرُودُس مع سؤاله: هل يرغب في النظر إلى قضيته ما دامت بلادُ الجليل منطقةَ حكمِه؟
اضطرب هِيرُودُس في هذه الأيام؛ لِمَا علمه من وجود يُوحَنَّا في أورشليم مبعوثًا، واطلع لا ريب على ما أسفرت عنه الخصومات، وانتهى إليه في هذا الصباح خبر القضية وَالحُكْم، فعندما أُنْبِئَ بوصول النبيِّ نظر إلى الباب برغبةٍ ورهبةٍ، فوجده ليس شبيهًا بيوحَنَّا، ولكنه طَمِعَ أن ينطق بحكمةٍ فيسكِّنَ بكلمةٍ ما كان لقتله المَعْمَدان من الذِّكْرَيَات الفظيعة التي تساوره، فأخذ يسأل يسوع عن عِدَّةِ أمورٍ لم تُرْوَ إلينا.
لم يجبه يسوع عن أسئلته؛ لِمَا أَوْحَى إليه منظرُه من السوانح الآتية: «هذا الذي غَيَّرَتْ أحكامُه مَجْرَى حياتي، هذا الذي لولاه ما أضحت حياتي عَامَّةً على ما يحتمل، هذا الذي لولاه ما وَقَفْتُ هذا الموقف فصارت أوقاتُ حياتي معدودةً.»
فهل عليه أن يجيب عن أسئلته فيفسر له أمرَ النجوم والنبوءات والمُسْتَقْبَل؟ يَسْكُتُ؛ لأنه لا ينتظر الخلاص على أيدي النَّاس، يَسْكُتُ؛ لأن هذا اليهودي وذلك المشرك ليسا في نظره الذي يستطيع أن يَخْرِقَ به حُجُبَ السماوات سوى مظهرين.
من أجل ذلك عَدَّه هِيرُودُس مجنونًا غاصبًا لصيت يُوحَنَّا من غير أن يكون وارثًا لحكمته اللاذعة، فلا يصلحُ إلا ليكون مهزأةً، فَيُلْبِسه هِيرُودُس لباسَ المجانين اللامع وَيُعِيدُه إلى بيلاطُس.
وفي ذلك الحين تلاحظ زوجةُ الوالي من النافذة ذلك الرجلَ الذي عَلِمَتْ عنه أمورًا مُحَيِّرَةً للعقول في تلك الأيام، وهي قد تأملت في السنوات التي قضتها بين اليهود أشياءَ كثيرةً فَسَّرَها لها فلاسفَة رومة والإسكندرية وأساتذة أُورَشليم، وَيَشُوب معارفَها خرافاتٌ غير قليلة يُضاف إليها ما تشعُر به، لا ريب، من العطف على ذلك الناصريِّ الذي يملأ منظرُه أفئدةَ النساء، وترسل رسولًا إلى زوجها؛ ليبلِّغ إليه قولَها: «إياك وذلك البَارَّ؛ لأني تَأَلَّمْتُ اليوم كثيرًا في حُلْمٍ من أجله.»
جاء إنذارُها ذلك مؤيدًا لرأي بيلاطُس في هَوَس يسوع وحماسته، ويغضب بيلاطُس من عناد الكهنة ذوي الأَثَرَة الذين يَوَدُّون أن يُضَحُّوا من أجل مذاهبهم بمُنافسٍ قادرٍ على اختطاف ما لهم من الحُظْوَةِ لدى الشَّعْب، ويخرج إليهم للمرة الثالثة ويقول لهم: «لم أَجِدْ في هذا الإنسان عِلَّةً مما تشتكون به عليه، ولا هِيرُودُس أيضًا، فأنا أُؤدِّبُهُ وَأُطْلِقُه.»
وإن الأمر لكذلك؛ إذ يُقْبِلُ جَمٌّ غفيرٌ من المدينة ليتجمع في يوم عيد الفصح هذا تبعًا لعادةٍ قَدِيمةٍ؛ فمن عادة الرومان أن يعفوا في عيد الفصح من كل سنةٍ عن محكوم عليه؛ وذلك ابتهاجًا بالخروج من مصر، وتخفيفًا لوطأةِ سلطانهم، وجعلِها أقلَّ إيلامًا في نفوس المغلوبين، ويصل الجَمْعُ إلى باب القلعة، ويبدأ بِالصُّرَاخ كالأولاد مطالبًا باتباع العادة القَدِيمة، وطامعًا في إنقاذ حياة رجل، فيقول: «جاء الفِصْحُ، فَأَطْلِقْ سجينًا!»
قال بيلاطُس في نفسه: أليست هذه آية؟ وخاطب بيلاطُس الجَمْعَ بقوله: «أتريدون أن أُطْلِقَ لكم مَلِكَ اليهود؟»
وَيَخْفَى ما في قول بيلاطُس هذا من التهكم الخفيِّ على الجمهور وعلى الكهنة، الذين كان يدور في رءوسهم من القلق ما يَشْغَلُهم، والكهنة يعرِفون تقلُّب الشَّعْب؛ فيكفي تكريرُ كلمةٍ أو هُتَافٍ لإطلاق ذلك النبيِّ الخَطِر، الذي يلوح أن رومة تودُّ حمايته، فهنالك يذكر أحدهم سجينًا آخر من أبطال الحرية الذين يمقتهم الكهنة مع حبِّ الشَّعْب لهم، فهذا السجين الحَمِس هو الذي وصل مع عصابة من الجليليين إلى هنا في الخريف الماضي، فسبَّ الحرسَ الرومانيَّ فوُقِفَ، هو من أتباع يهوذا، هو باراباس!
«باراباس!» هذا ما صرخ به أعضاء المجمع الكبير عالمين ما فيه من معنى، «باراباس!» هذا الذي هُتِفَ باسمه في الصفوف الأمامية.
دوى المكان كله باسم باراباس، وقال الجميع، حتى الذين لا يعرفون باراباس، بصوتٍ عالٍ: «أطلق لنا باراباس!»
ويعمل بيلاطُس مرةً أخرى على إنقاذ يسوع المتهوسِ من الكهنة، ويعمل أيضًا على إلقاء المسئولية عن عاتقه في حكمٍ صعبٍ كذلك، وأن يَغْسِل يديه منه أمام الشَّعْب، فيجد في بهجة العيد ما يُجيز له أن يُصْدِرَ عفوًا آخر، فيجعل الكلمة الأخيرة للشعب فيسأله: «ماذا تريدون أن أفعل بالذي تدعونه مَلكَ اليهود؟»
فيصرخ الشَّعْب قائلًا: «اصْلِبْه!» هذا ما نَعَقَ به الكهنة بصوتٍ واحدٍ: «اصْلبْه!» هذا ما رَدَّدَه المكان والطرق «اصْلِبْه!» هذا نعيق ألوف النَّاس بِمَا لا يعرِفون، ومثلُ هذا نعيق الجمهور في كلِّ زمنٍ، وفي ألفي السنة القادمَين!
وَيُجَرِّب بيلاطُس الجمهورَ للمرة الثالثة فيسأل: «وأيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟»
فيجيبه أحدُ الأذكياء من الحضور بقوله: «إن أطلقتَ هذا فلستَ مُحِبًّا لقيصرَ، كلُّ مَن يجعل نفسه مَلِكًا يقاوم قيصرَ.»
وَيَتَبَسَّم بيلاطُس في باطنه، فيودُّ أن يؤكد حبَّ هذا الشَّعْب العجيب لقيصرَ، فَيُبَلِّغ خبره إلى رومة، فيسأل الجمهورَ: «أَأَصْلِبُ مَلِككم؟»
فيجيبه الجمهور بقوله: «ليس لنا مَلِكٌ إلا قيصر.»
وَيَعْدِلُ بيلاطُس عن الكفاح في سبيل مُتَهَوِّسٍ لا يُهِمُّه أمرُه بالحقيقة، فيأمر بإخراجه فَيُنْقَل.
وبيلاطُس فيما هو يفاوض في الخارج كان الجنود يَتَلَهَّوْن بالسجين في البرج، فهم بعد أن سمِعوا قول قائدهم: إنه سَيُؤَدَّب على كل حالٍ نزعوا منه ثوبَ هِيرُودُس اللامعَ وضربوه بِالعِصِيِّ، وهو لإصراره على التسربل عَنَّ لهم أن يُنَكِّرُوه مَلِكًا؛ لِمَا قيل عن تمثيله هذا الدور، ويخلَع أحدُ الجنود على كتفيه دِثارًا حربيًّا مشدودًا بشوكةٍ، ويناوله جنديٌّ آخر قصبةً كَصَوْلَجَان، ويقطع جنديٌّ ثالث شَوْكًا من سياج الحديقة فيصنع منه تاجًا ويضعُه فوق شعره الطويل.
وَيَمُرُّ يسوع من الباب صامتًا فَيُغْرِقُ الجمهورُ في الضحك، ويشعر رجل الدنيا بيلاطُس باحترام رجل الروح يسوع للمرة الأخيرة، حينما يقع نظره عليه خارجًا، فيدلُّ عليه بإصبعه لضباطه المحيطين به، قائلًا باللاتينية التي لا يفهمها غيرهم: «هو ذا الإنسان!»
•••
يا لَثِقَل هذا الصليب! يا لبعد الطريق! سيكون الموت سهلًا، لن يكون موت، فَسَيَمُدُّ أبوه ذراعيه له، وسيفتح له باب المجد والجلال!
الجوُّ حارٌّ، وخشب السِّدر ثقيلٌ، وفي وسط هذا الخشب فُرْضَةٌ عميقةٌ لتندمج به إحدى القطعتين في الأخرى، وهو من القوة ما يكفي لِحَمْلِ رجل.
الصليبُ غيرُ ضروريٍّ لنقله إلى ملكوت السماوات من خلال السحاب، فيكفي لذلك عونُ أبيه، فمتى يأتي؟ أَيُغَطِّي الغيمُ وجهَه أم يبقى ظاهرًا؟ أيلفُّ الصليبَ بالضَّبَاب ويرفعُ يسوع حَيًّا؟ ألا يُرْسِلُ حمامته كما صنع عَبْرَ الأُرْدُن ما دام لا يبدو بذاته كما أخبر الأنبياء؟ ألا يدوي صوته كصاعقةٍ؟ ومن الزعم أن يقال: إنه لم يسمع ذلك الصوت بعدئذٍ واضحًا رخيمًا كما في الماضي! ومن الزعم أن يقال: إن كلمة «ابني الحبيب» لم تُكَرَّر له! لقد سَمِعَ بطرس ذلك فوق الجبل بالقرب من قيصرية فيلبُّس، واليوم سيسمع من جديد!
وَلِمَ يدفعه هؤلاء الجنود إلى الأمام بقسوةٍ؟ أهؤلاء الجنود من الأشرار إذن؟ هم يُنَفِّذون ما أُمِرُوا به، وآمِرُهم قائدُ المائة لا يعمل بغير ما يريده الكهنة، وإذا كان الكهنة لا يعرفون الله؛ فما هو ذنبهم؟ هم يجهلون بالحقيقة مَن يقتلون، ويجهلون ماذا يصنعون، مع أن الله قد يكون قريبًا منهم بأكثر مما يشعرون. أجل، تدلُّ ملامحهم على ما فيهم من غِلْظَة؛ ولكن الجمهور هو الذي يَحُثُّهم، وبيلاطُس نفسه هو أيضًا عبدُ الجمهور في نهاية الأمر. أَلَا إن «حديث ساعةٍ مع الرومانيِّ تكفي لحمله على اتباعي، فإلى أين؟ لنرجع إلى شاطئ بحر الجليل، فالفاكهة لا تَنْضَج هنا، وَأُورَشليم ليست إلا محلَّ حجارة.»
الصليبُ ثقيلٌ عليه؛ فلم تجفَّ عُصَارَةُ خشبه، وذلك الذي يمشي من هنالك شابٌّ قويٌّ، فليحملْه بدلًا من المَدِين، فالمسافة التي بقيت قصيرة … يدلُّ وجهه على الخير، وهو يحمل صليب غيره، وينال البشارة من حيث لا يدري، وبه ينضمُّ إلى يسوع تلميذٌ، فأين الآخرون إذن؟
ويتقدم الصليبُ الموكبَ على كتفَي ذلك الفَتَى المفتول الساعدين مترجحًا، وَيُمْتَقَعُ يسوع ويبدو طاعنًا في السن بغتةً، ويدفعه الجنودُ بِشِدَّةٍ.
ويسير قائدُ المائة راكبًا حِصانًا صامتًا عابسًا على طرف الطريق، ويبدو هو وجنوده مُتَأَفِّفِين؛ فهؤلاء يرون أن القيام بأعمال الجَلَّادين لا يلائم كرامة الجنديِّ، وقد اضطروا في المرة الأخيرة إلى البقاء يومين تحت الصليب ريثما مات المصلوب.
وتسبق أولئك كتيبةٌ أخرى إلى التلِّ فتَدُقُّ وَتُسَمِّرُ، فهنالك يوجد أيضًا يهوديان آخران من القتلة واللصوص يجب صَلْبهما، وبعض الجنود يوسِّعون الحُفَرَ في الأَرْض، وبعضهم يُسَمِّرُون ذينك الرجلين على الصليبين الممدودين على الأَرْض، ويقاوم أحدهما فَيُزْجرُ بأيدٍ قويةٍ، ويتجاهلون صُرَاخَه، وَتُسَمَّرُ كلُّ واحدة من يديه بمسمارين عظيمين، وَتُوضع إحدى رجليه فوق الأخرى، فَتُسَمَّرَان بمسمارٍ كبيرٍ واحدٍ، ويكون التسمير متينًا توفيرًا للحبل، وَيُسْنَدُ الجسم إلى مقعدٍ مائلٍ، وَتُسْنَدُ الرِّجْلان إلى لوحٍ؛ لكيلا تَزْلُقَا فَتَجُرَّا الجسم، وَيَجُرُّ الجنود ذينك الصليبين فيُدْنُونَهما من الحفرتين، فينادون رفقاءَهم ليساعدوهم على نصْبهما وتركيزهما، وإملاء تَيْنك الحُفْرَتَيْن بسرعةٍ، وَيُنْصَبُ الصليبان مع الرجلين الصارخين ألمًا في جَوٍّ حَارٍّ خانق …
ويرى يسوع ذلك كما لو كان في منامٍ، فيجد أن ذينك الرجلين من القتلة واللصوص قد ضَلَّا فحوكما، فَنُفِّذَ حكم الإعدام فيهما، كما يدل على ذلك اللوحان الصغيران المُسَمَّرَان في أعلى الصليبين، والمكتوبُ عليهما في لغاتٍ ثلاث: الحكمُ ونوع الجرم، ولا بدَّ من أن يُوضع على صليبه مثلُ ذينك اللوحين، فينظر فيجد الجنديَّ الغليظ الذي كان يَرْفُسُه منذ هنيهة يُسَمِّرُ في أعلى صليبه الخاصِّ الممدود على الأَرْض لوحةً مكتوبًا عليها: «مَلِك اليهود»، فهل حدث أن انتحل هذا؟ أليس ما يقع هنا غيرَ وهمٍ، أو أَثَرَ جنون أناسٍ أصابهم الله بِالعَمَى؟ سيكشف الأب الغطاء عن الحقِّ وَيَتَجَلَّى مجدُه حالًا!
وإنه ليفكر ويأمل إذ يشعر بأيدٍ هائلة ذات أظفار تُمسِك ذراعيه بغلظة، وتطرحه على الصليب، فيبدو له مِسْمَارٌ عظيم، فيستولي عليه ذُعْرٌ، فَيُغْمَى عليه من شِدَّةِ الألم.
ويتمُّ صحوه فيرفض ذلك بهزِّ رأسه المحموم، فَيَهُزُّ رافعُ الإسْفَنجة إليه كَتِفَيْه مستردًّا لها، فيسوع راغبٌ عن الغَشَيَان، فهل يَدَع تلك الساعة التي انتظرها كثيرًا تفوته مكتفيًا بتسكين أَلَمِ يديه؟ ليت تلاميذَه هنا فَيَرَوْا تَجَلِّيَ نعمة الله عمَّا قليل!
بيدَ أن التلاميذ بعيدون والنظار قليلون؛ لأن النَّاس يحتفلون بعيد الفصح في تلك المدينة القاسية الواقعة بين تلالها الصخرية، فيا أُورَشليم! وهنالك قِبَابٌ لامعةٌ تبدو من بعيد عن الشمال، فذلك هو الهيكل؛ حيث أراد النصر، فماذا صُنِعَ فيه؟ أَفَلَمْ يُصِب الكهنوتَ بضرباتٍ قاتلةٍ؟ لقد أحسَّ الكهنة أنه يُبَشِّرُ بنظامٍ جديدٍ يُقَوِّضُ دعائمَ الهيكل القَدِيم، فيا له من كفاحٍ! فمتى ينتهي؟
ويمرُّ من هنالك رجلان فينظران إليه من الطريق، فيسمع قول أحدِهما مُسْتَخِفًّا: «يا ناقِضَ الهيكلِ وبانيه في ثلاثة أيام؛ خَلِّصْ نفسك!» ويسمع قولَ الآخر: «لينزِل الآن المسيحُ ملكُ إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن.»
فيرتعش؛ أفليسا على حقٍّ؟ فمتى تقع المعجزة؟ ويقول له القاتل المصلوبُ عن يمينه متهكمًا مُرَدِّدًا لذلك: «إن كنتَ أنت المسيحَ فَخَلِّصْ نفسَك وإيَّانا!»
فيجيبه اليائسُ المصلوبُ عن شماله: «أَوَلَا أنت تخافُ اللهَ؛ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أمَّا نحن فبعدلٍ؛ لأننا ننال استحقاقَ ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله. اذكرني يا ربُّ متى جِئْتَ في ملكوتك!»
يجد يسوع في هذه الكلمات إلهامًا. أجل، يضحك الرومان الذين هم في أسفل الصُّلْبَان حين يسمعون محاورة اليهود الثلاثة المصلوبين، غير أن يسوع لا يسمع سوى صوت الإيمان؛ فهو يشعر بأن لِصًّا قاتلًا شَعَرَ بقدرة ابن الإنسان فيوقظ أمله، فيجد أن الله أجرى على لسانِ رجلٍ من أحطِّ إخوانه ما يحثُّه على الثبات على الإيمان، وتأتي كلمة الملكوت من فوق، من السماء، فتدوِّي في أذنيه، ولا يهمُّ في ذلك أن تصدر عن رأس صليب! ويفتح شَفَتَيْه الداميَتين المرتجفتَين فيقول بِمَا لا يكاد المصلوب الآخر يسمعه: «إنك اليوم تكون معي في الفردوس.»
هذا اليوم! إذن هو يرجو أن ينقذه أبوه من فوره! لا يمكن أن يكون أبوه قد أراد إصابة جسمه وأعضائه بهذه الآلام الشديدة! هو جَاهَدَ في سبيل الإيمان منذ أشارت عليه الحمامة، وأشار عليه صوت الرب بأن يهجر مهنته ليبشر بملكوت أبيه، فإذا كانت عقيدتُه غرورًا، وإذا كانت رُؤْيته وهمًا، فلماذا يرهقه النَّاس وَيُسَمِّرُون يديه اللتين لم يرفعهما للطْم إنسان أو صفعه؟ وإذا كانت هذه الآلام عرضًا، فما هي عِلَّة تبريحها وامتدادها؟
وهكذا تتجاذبه الآلام والذِّكْرَيَات وتختلط فيه، فَتَرْبُكه وتنيره في آنٍ واحدٍ، وتنقلب أفكارُه إلى سهامٍ جارحةٍ، وَشُهُبٍ زافرةٍ كالأشعة التي تُلْقِيها شمس الظهيرة على أعضائه المنهوكة، وكالنبال الصارمة التي يرمي الفلك الظالم جبينه بها.
ويدير ناظِرَيْه بحثًا عن تلاميذه وعن أصدقائه، فأين هم؟
لقد فَرُّوا!
لا أحد هنالك يُلْقِي آخرَ سُلْوَانٍ في قلب المعلِّم، لا أحد هنالك يُخَفِّفُ ألم المُعَلِّم بمذهبه، لا أحد هنالك يُدَوِّنُ أقوالَ المُعَلِّم الأخيرة فَتُحْفَظَ للذراري.
اليوم هم نِيَامٌ كما في الأمس، واليوم حَميَّتُهُم راقدةٌ أيضًا على ما يظهر. قُطِعَ تأثير المُعَلِّم فيهم، وانهار إيمانهم، وضاعت الرسالة ضَياعَ مياه الساقية في الرمال، وَنضَبَ معين الحبِّ الأَخَوِيِّ، فكأنَّ ما حدث عَبَثٌ يتوارى خلفه بضعُ نسوةٍ مبرقعاتٍ باكياتٍ على ما رُوِيَ، فهل يَخَفْنَ أن يُحيِّينه؟ تبعد عنه أمه وإخوته وَأَخَوَاته! فاللائي ينتظرن هنالك ناحباتٌ غريباتٌ، وتلك التي تحترق ألمًا من أجله هي مُذْنِبَةٌ، هي التي مسحت بشعرها رِجْلَ يسوع ذات يومٍ في مدينةٍ صغيرةٍ على شاطئ بحر الجليل، وآخر مَن ينظر ثلاثُ نساءٍ صيادين عَرَفْنَ رسالةَ المَحَبَّة التي بَشَّرَ بها، فأين الألوف؟ أفيبقى أثرٌ لِمَا عَلَّمَه في الصيف الأخير؟ وهل يدوم إنجيله إذا ما تَفَرَّقَ تلاميذه أيدي سبأ؟ وإذا ما ذَرَت الرياح رسالتَه فماذا يبقى منه؟ لا يُعَدُّ إذ ذاك أسمى من إخوته الذين رَأَوْه ممسوسًا!
وتزيد آلام بدنه المنهوك بين دقيقةٍ ودقيقةٍ كما لو كانت نيرانٌ تشتعل فيه أو ضَوَارٍ تُمَزِّقه.
وينقضي بضع ساعات فقط فيشعرُ بانكسار قلبه الرقيق فيه، ويغشى عقلَه وخيالَه غيوم، ويستغلق إيمانُه وَأَلَمُه، ويبدو نسيجَ آلام فيفتح شفتيه بعد طويل صمت، فزاد فيه ما ساوره من قنوطٍ في بستان جَثْسَيْمَاني، وتتحول الرغبة في الفِرَار من التضحية إلى اتهام، وتَذوِي أحلام الحياة المثالية، ويتفرق جميع مَن شفاهم وَمَن عَلَّمَهم كَغُبَارٍ في ريح، وَيُحَوِّلُ أبوه الذي فَوَّضَ أمره إليه وجهَه عن أحبِّ أبنائه إليه، فلا يَعْطِف عليه مُبَرِّحًا به الألم، وتبدو روحه بعيدة من هنا، ويطوي كشحًا عن الأَرْض، ويظل الابنُ وحيدًا، ويعود الأبُ غيرَ أب، ويسوع إذ يرى أنه هُجِرَ وتُرِكَ وحده، ويرى ذبول جسمه وانكسارَ فؤادِه يصرُخُ قائلًا: «إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟»
ويسمعه الجند فَيَكُفُّون عن لَعب النَّرْدِ، ويرفع قائد المائة عينيه فيأمر أحدهم أن يَصُبَّ على الإِسْفَنْجَة قليلًا من الخلِّ الموضوع في إناء، فتقدم إلى فمه، فينظر إليها بعينيه المنطفئتين، فَيُرْخِي شَفَتَيْه فيرتشفها ما انقطع كلُّ أملٍ فيه، ثم تعود آلام أعضائه إلى أشدَّ مما كانت عليه؛ فيصرخ بصوتٍ عظيمٍ.
وَتُخْتَمُ بهذا الصوت حياةٌ ما فَتِئَتْ تُعَبِّرُ عن نفسها في ثلاثين سنة بصوت المَحَبَّة العَذْب الذي يُلْقِي السُّلْوَان إلى الآخرين، وبموسيقَى القلب الصامتة.
•••
«هل مات؟» هذا ما سأله بيلاطُس عندما جاءَه مشيرٌ من المجمع الكبير ليطلب تسليم الجُثْمَان إليه ما أعلن إيمانه به. ومن عادات الرومان أن جُثَّةَ الجاني الذي يُنَفَّذُ فيه حكم الإعدام تُسَلَّمُ إلى أقربائه أو أصدقائه، وما كان هذا لِيَتِمَّ إلا بعد أن استدعى بيلاطُس قائد المائة، فَبَيَّن أن يسوع مات على الصليب بعد انقضاء بضع ساعاتٍ، فوافق الوالي بيلاطُس على وضعه عن الصليب من غير أن تُكْسَرَ ساقاه، كما كُسِرَت سِيقان المصلوبيْنِ الآخرَيْنِ تعجيلًا لهلاكهما، ما كان الغد يومَ سبت، وما وَجَبَ تمامُ كلِّ شيءٍ قبل حلوله.
وَيُنْزِلُ هذا الغريبُ وَالنِّسْوَةُ يسوع عن الصليب بسرعةٍ؛ خوفًا من تدخُّل أيِّ رجلٍ آخر، وَيُلَفُّ جُثْمَانُه بكفنٍ أبيض، وَيُنْقَلُ إلى قبرٍ جديدٍ نُحِتَ في صخر بستانٍ يملكه المشير قريبًا من أبواب المدينة لِيُوضعَ فيه مؤقتًا؛ درءًا لاحتمال تَدَخُّلِ الكهنة في الأمر، وذلك من غير أن يُمْسَحَ بِحَنُوطٍ وأطيابٍ، فإذا ما انقضى السَّبْت دفنوه على حسب الطقوس، وَيُكْتَفَى بدحرجة حجر كبير على باب القبر ما سطع نجم المساء ووجب إنجاز الأمر بعد السَّبْت.
وتجيء النساء في مساء اليوم التالي حاملاتٍ حَنُوطًا وأطيابًا، وترغب مريم المجدلية في دهنه ميتًا كما دهنته حَيًّا، وَمَن يُزحزح الحجر الكبير لهنَّ؟ لَسْنَ قوياتٍ ولم ينظُرنْ هنالك أحدًا، وَيَصِلْنَ إلى حيث دُفِنَ بالأمس فَيَجِدْنَ الحجر في غير محله، والقبرَ خاليًا من الجُثْمَان!
تَعْلَمُ أُورَشليمُ الخبرَ، وَتَذِيعُ فيها مئات الشائعات المتناقضة، فقال بعض النَّاس: إن بيلاطُس نَدِمَ على إذنه في صلب يسوع فأخرج الجُثْمَان من هنالك ودفنه في مكانٍ آخر، وقال بعضٌ آخر: إن الكهنة سَرَقوا الجُثَّةَ لكيلا يعبُدَها الجمهور، وقال آخرون: إن البستانيَّ هو الذي صنع ذلك منعًا لِمَا يَنْجُمُ عن زيادة الآتين والذاهبين من إتلاف بستانه، وقال أناسٌ: إن ذلك من عمل أوغادٍ يَعْتَدُون على القبور في الغالب لانتهابها، وقال فريقٌ خامسٌ: إن إنسانًا لا يموت على الصليب في ثلاث ساعات؛ فقد أخرجه تلاميذُه من موته الظاهر وَأَخْفَوْهُ في مكانٍ أمين. ويذهب الكهنة إلى بيلاطُس ويلومونه على تساهله، وَيُعْرِبون له عن الارتباك الكبير الذي يسفر عن سماحه لتلاميذه بأن يختطفوا جُثَّتَه؛ لأنهم سيزعمون أنه بُعِثَ بعد موته.
غير أن النسوةَ المُحِبَّات له اعْتَقَدْنَ عن شِدَّةِ وَجْدٍ أنهن رأينه بأعينهن قد بُعِثَ حَقًّا.