١
انتقلت — باختياري — إلى القاهرة، التقارير، المذكرات، البلاغات — لا أعرف التسمية الصحيحة — طاردتني، جعلت ترقيتي مستحيلة، الوقوف محلك سر هو أقصى ما أحصل عليه، سافرت وراء التصور أن الالتحاق بعمل آخر ربما يوقف ذلك كله، أشعر بحاجةٍ إلى الاختفاء من المطاردة، والتقاط أنفاسي، ومراجعة ما حدث.
متى؟ وكيف ينتهي؟
طالت وقفتي حتی رفع المهندس سمير العربي، رئيس النداء الآلي، رأسه من الأوراق على مكتبه: هل أنا بليد؟
هز رأسه دلالة عدم الفهم.
قلت في لهجةٍ معتذرة: هل أقصِّر في أداء عملي.
– أعتبرك ذراعي اليمنى!
– لماذا إذن لا أحصل على فرصتي في الترقية؟!
وهو يعود إلى الأوراق بين يدَيه: اسأل المهندس طنطاوي!
لماذا أدفع ثمن أخطاء غيري؟
الحجرة تشغي بالموظفين، بعدها عن الصالة الواسعة يغري بالجلوس، تناول الساندوتشات، احتساء الشاي، قراءة الصحف، تمتد المناقشات إلى أحوال السياسة، أعرف ما يتكلمون فيه، عندي آراء، لكنني أطبِّق درس الصمت بصرامة، أنصت إلى اختلاط عبارات المديح والإعجاب والسخط والإدانة، عرفت أن التقارير تسود بأيدي مجهولين، تنعكس سطورها على حياتي.
تطل من الأعين نظرات اتهام، لا أعرف متى تواجهني كلمات الإدانة، أحيا التوقُّع والتلفُّت ومراقبة التصرفات، أشعر بالمطاردة، ما يبدو مخفيًّا أراه أمامي وخلفي، أحاول ترويض نفسي على فَهْم ما قد يبدو غريبًا.
أحاول أن أسلم تفكيري إلى لا شيء، حتى تبتعد النظرات القاسية، لا أعرف كيف أقلب الأمر ولا كيف أتصرف، تظاهرت بالتجاهل واللامبالاة، كمن لا شأن لي بنظراتهم التي تخترقني.
لجأت إلى قهوة رأس التين، أبحث عن الطمأنينة في الصخب المتلاغط من حولي، أرد التحية على زبائن قُدامى، كانوا زملاء لأبي في مصلحة المواني والمنائر، جالسوه في القهوة حتى رحل، أطلب — في جلستي المنفردة — مجرد المؤانسة، أنفاس الناس في الحركة من حولي، وإن حل في داخلي إحساسٌ موحش بالفراغ، أشعر — وسط الزحام — أني وحيد في العالم، أخذت على نفسي عهدًا ألَّا أدخل في مناقشةٍ تلامس السياسة، لا شأن لي بما عدا الوظيفة، ذكرني زميل الوردية عبد الحافظ بجاتو بالمثل: «ابعد عن الشر، وغَنِّ له»، السياسة مؤذية، أظل صامتًا، ساكنًا، والمناقشات تعلو عن التضخم، وانهيار الجنيه أمام العملات الأجنبية، وانقطاع الكهرباء المتكرر، وغلاء فواتير الماء، وتذبذب مستوى الاتحاد السكندري، والعشوائيات، والزحام. أرفض الدخول في مناقشات، أو إبداء ملاحظة في قضية ما، أرفض القوانين التي لا أقتنع بها، لكنني لا أفكر في أن أخرج عليها، أخشى الاحتمالات والنتائج، ما أراه لا يعنيني، أُوثِر الحديث إلى نفسي، يتصاعد من داخلي ما يشرد بي في آفاقٍ لا نهاية لها.
أوقع على ساعة الميقات في موعد بداية الوردية، أو قبله، تضايقني عبارات اللوم، ومذكرات لفت النظر والخصم من المرتب، ربما تجر ما لا يخطر ببالي من جزاءات.
أحرص، فلا أتصرف بطريقة خاطئة. لمداراة الخطأ، أسخف نفسي، أو أني قصدت الدعابة. أراجع النظرات: هل تضعني في موقف الإعجاب، أو الكراهية، أو الإهمال فلا تلتفت ناحيتي؟
أكتم ميلي إلى الكلام وقول ما أعرفه، يداخلني خوفٌ من أن الحياة ستكون أصعب، يطول تحسبي قبل أن أنطق، أتدبَّر الكلمات، وقعها، تأثيرها في نفس مَن أكلمه، إن تكلمت، تجنبت كلمات قد تفسر بمعانٍ تضمر الفضح، كأنها الطعم في السنارة المتدلية داخل الموج.
أعود إلى نفسي، أراجع ما قلته، أعيد الحوار، فأتذكر ما نسيته، أرد على الأسئلة التي واجهتها بالصمت، أستبدل التعبيرات الواضحة بالكلمات التي أنطقها الارتباك. ثمة ما لا أتبينه إلا بعد أن يظهر، ويملي إرادته، هو مُخفًى في داخلي، يبين عن ملامحه، ويهمس، في لحظةٍ لا أتوقعها، عندما يقتحمني الارتباك، أو الخوف، أشعر بمغص، أو برغبةٍ في التبول.
قال لي حميدة جرسون القهوة: أرفض أن أكون جاسوسًا.
حدجته بنظرة تتحسس ما قاله: ماذا تعني؟
– يحرضونني أن أراقب تصرفاتك، وأنقل ما تقوله في جلساتك الخاصة.
لمحت التردد في عينَيه: من هم؟
– المهندس طنطاوي.
قلت مستغربًا: أجلس في البيت بمفردي.
رسم على وجهه ملامح التأثر: البلد يعاني ظروفًا صعبة … الريس يهمه التوريث، والمعارضة قوية.
أزمعت ألَّا أبالي، أو حتى أدافع عن نفسي: لا شأن لي بالمعارضة ولا بالسياسة.
– أظن أنهم قلقون من ترددك على جامع طاهر بك.
أكرهت نفسي على الابتسام، حتى لا يفطن إلى ما أعانيه: هل منعوا الصلاة؟
– لا تفلت حتى صلاة الفجر.
لاحظت أنه يسرف في التلويح بيدَيه، والتعبير بأصابعه، قال: الإسلاميون أول المعارضين للتوريث.
ازدردت ريقي في خوف: حتى هؤلاء لا أعرفهم … لا أعرف أحدًا.
ثم وأنا أحاول أن أتماسك، فلا ينعكس الخوف على ملامحي: هل رأوني أجالس أحدًا من المصلين؟
كأن كل ما حولي تألب على حياتي، تثيرني النظرات والأسئلة والعبارات الملمزة.
لا أعرف ماذا يدبرون؟ ما المؤامرة التي يدبرونها؟
حرصت أن تكون تصرفاتي معلنة، في ضوء النهار، لا أحتمي بظلمة، ولا حتى ظلال. اخترت القهوة للفرار من شبهات التردد على الجامع.
أطمئن إلى مشاعري وتصرفاتي، أعرف ما أفعل، ما يؤلمني تصرفات الآخرين، ونظراتهم أيضًا، تشغلني الهمسات بالوشاية والشائعة والوقيعة، أعاني المراقبة والمتابعة والمطاردة.
حاولت أن أتغلب على ذلك كله بالسير، أسير — بخطوات متسارعة — على الكورنيش، أنظر إلى الأمام، لا أتلفت، لا تجذبني حتى المشاهد التي تأخذني غرابتها.
لم يفقد الرجل إصراره على المراقبة والمتابعة، كل ما يمتلك من انتباه يتجه به ناحيتي، يراقب، يلاحظ، ربما تابع خطواتي.
ظللت على ملاحظتي لتصرفاته.
أشعر أن أمرًا سوف يحدث، لا أخمن طبيعته، ولا أعرف مصدره، أنا لم أرتكب جريمة لأحاسب عليها، هو يعلم براءتي، لكنه يحاول اتهامي بما لم أفعله. لم يعُد أمامه سوى التخلص مني، إبعادي عن طريقه، قد يلفق لي تهمة تؤذيني.
عرفت أنه كثير السؤال عني: متى أدخل القهوة؟ لماذا اخترتها بالقرب من البيت؟ من أجالس؟ ما نوعية الآراء التي أطرحها، أو أناقشها؟
لم يكن يرفع عينيه عني، عاودني الإحساس بالخوف من انكشاف لحظة أتوقعها، يهتف فيها بنبرة اتهام: هذا أنت.
تستعصي الكلمات، فلا أجد ما أرويه، حقيقة ما جرى، أحيا التوقع، وأنتظر اللحظة القاسية، أجدني دائمًا في حالة دفاع عن النفس، ألتقط البدايات في أفعال الآخرين، أتأمل المشاعر في داخل نفسي، أعزف — بحكم طبيعةٍ لا أقوى على مغالبتها — عن اتخاذ المواقف التي أُومِن بها.
قال المهندس طنطاوي: كل ما أطلبه أن تكتب لي — كل أسبوع — بضعة أسطر عما يجري في السنترال.
لم يجاوز صيغة الأمر، لا يضحك، ولا يبتسم، كأنه لا يجد وقتًا لذلك.
وأنا أحاول لملمة مشاعري: لا أخالط أحدًا من زملائي.
وأطرقت حتى لا تلتقي عيناي بعينیه: ولا أعرف كتابة التقارير.
– لا نطلب تقارير. نريد ملاحظات. كلمات مما تكتبها في أجندتك الصغيرة.
دفع لي بورقةٍ عليها أرقام: ادخل على هذه الخطوط، لا تنشغل بما في المكالمات، أبلغني بمن يكلم من.
وضرب على المكتب براحته: هذا كل ما أريد.
تداخلت نظرات الشك والإدانة، لم أدرِ إن فعلت ما يستحقُّ هذه النظرات؟
في داخلي رغبة للرد بما يسكته، أفتش عن الكلمات، تملأ فمي، لكن الشجاعة تخونني، فأظل صامتًا.
عانيت — لإحساسي بأني مراقب — ارتباكًا دائمًا، أتلعثم في الكلام، أتحسَّس أي تصرف، لا أجد الشجاعة التي أعبر بها عن رأي قد يثير ضيق محدثي.
استغرقتني الحيرة، إلى حد العجز عن فهم ما إذا كانوا يخططون لإدانتي، أم أني أتصرف بما يريب؟
يربكني الخصام لكل ما حولي، الأعين المتلصصة، والأفواه الهامسة، والآذان المتنصتة، والسعي بالوقيعة، والتلميحات، والغمزات، والأحاديث الجانبية.
أشعر بالأعين المتسللة في بدايات خطوط النداء الآلي، لا أراها، لكنها تراني، تحاول التقاط ما تجد فيه ذنبًا، تواجهني باتهام ارتكابه، عدد لي عبد البصير سلامة أسماء المعدَّات التي أبدى المهندس طنطاوي شكَّه في تعرضها للسرقة، لا أعرف أشكالها، ولا رأيتها من قبل.
لو أن أحدًا صدق التهمة، ومال إلى الإدانة.
أفكر في الفرار، لكن الحيرة تأخذني إلى طرق متقاطعة، ومتداخلة، ومسدودة.
توقف الأولاد في الساحة المواجهة لزاوية خطاب عن لعب الكرة، أدركت — من نظراتهم المستغربة — أنهم لاحظوا تحرك شفتَيَّ بكلمات، كأني أحدث مَن لا يرونه. كنت أعدُّ ما أفسر به للمهندس طنطاوي وقفتي خلف النافذة، حجب الزجاج أصوات المتظاهرين، لكن قبضاتهم المتوعدة، وصيحاتهم الغائبة، وشت بما يطلبون.
لم أكن أتصور أني سأصعد الدرجات الرخامية إلى الباب العريض للمرسي أبو العباس، أدخل الصحن الواسع، تعلوه قبة من الزجاج الملون، وتنيره نجفة هائلة مدلاة من السقف، وعشرات اللمبات المبثوثة في الجدران والزوايا، أميل إلى اليسار، الحاجز المعدني يحيط بالمقام ذي الغطاء الأخضر، أردد ما قالته لي أم عربي عاملة البوفيه من عبارات شكوى الظلم الذي نغص حياتي، دون أن أعرف له سببًا.
قلت ما لقنته لي أم عربي، ثم ألقيت بقميص — لم أتعمد اختياره — في أرضية المقام. كانت هي المصدر الذي أبوح له بما أعانيه.
داخلني قلق وخوف ومشاعر أخرى مبهمة. حدست أن الداعي لهذه المشاعر، هو الخوف من التأنيب والزجر والتعنيف والملاحظات القاسية، الأسى يلفني لأني أستنفد قدرًا هائلًا من طاقتي، حتى أخفي ما أعانيه عن الآخرين، تمنيت أن أترك البيت، أسير في الشوارع، أساوم باعة شارع الميدان، أجلس إلى زملاء العمل، وجلساء القهوة، والمصلين في المساجد، دون أن أستسلم للخوف.
قل ترددي على قهوة رأس التين، ولم أعد أخالط المترددين عليها، حتى مَن ألفت مجالستهم. أكتفي بالإنصات إلى ما يقولون، أكتم ما أستطيع أن أبديَ فيه رأيًا.
حين رويت لسعد ما أعانيه، أحنى رأسه — لحظات — ثم رفعها، واجهني بما نقل الخوف إلى داخلي.
أضاف إلى خوفي قول سعد في لهجة محذرة: توقع أن يلفقوا لك تهمة.
تظاهرت باللامبالاة، لكن الكلمات نقشت في نفسي تأثيرًا قاسيًا. تشابكت، واختلطت، مشاعر الإحباط والإخفاق، والإحساس بالظلم والضياع، وعدم الثقة والفشل، والفقد واليأس، واللاجدوى والخوف من المجهول.
حدجني سعد بنظرة اتهام: مشكلتك هي الافتقار إلى قوة الإرادة.
وأنا أغالب التوتر: هل أضرب الخلق؟
– أقصد افتقادك القدرة على اتخاذ القرار.
لم يترك لي وقتًا أبحث فيه عن الكلمات المناسبة، أضاف قوله: إذا لم تكن قادرًا في لحظةٍ ما على استخدام العنف، فأنت لا تستحق حياتك.
ونظر إلى رصات الكتب، وتناثرها داخل الحجرة: اقرأ لنفسك ولي.
وأشاح بيده: ليس لي في القراءة.
والتوت شفتاه باستياء: بدلًا من أن ننحي باللائمة على الآخرين … لماذا لا نراجع ما نفعله؟
تراجعت لاقتراب نظرته الغاضبة: لو أنك استبدلت بالقراءة حرصًا على أن تنال حقك … ربما ابتعدت عن متاعب الوظيفة الصغيرة.
أعرف أنه موظف إداري بكلية الطب، لكنه لم يكن يحدثني عن عمله، والمتاعب المماثلة لما أواجهه، لا أتذكر أنه طلب نصيحة.
أزمعت ألَّا أكون متسامحًا مع أحد، ولا حتى مع نفسي. الصح هو ما سأفعله، لا يعنيني رد الفعل، أتكلَّم بما حرص الخائف في داخلي على إسكاته، لا قوة في العالم تستطيع إرغامي على فعل ما لا أقبله، ما لا أحبه.
شردت في قول سعد: لماذا لا تبحث عن عقد عمل في الخارج؟
وأنا أغالب ارتباكي: مؤهلي متوسط.
واسترقت إليه نظرة متفحصة: كبرت على السفر.
– لم تبلغ الأربعين، والدبلومات مطلوبة.
قال لي المهندس باسم العقيلي: ما رأيك في القاهرة؟
– زحام!
– أقصد رأيك في العمل بالقاهرة؟
تهيَّأت للرد، لم أجد الكلمات التي أحتاجها: أنا؟!
– لدينا طلب من موظف يطلب العمل في الإسكندرية … ظروف عملكما متشابهة.
وداعب دملًا أسفل ذقنه: خذ قرارك.
لم أضيع وقتًا في الاستغناء عما لا أحتاج إليه، ومض في بالي حنين إلى فتاة لا أعرفها، ألتقيها في القاهرة، أحبها وتحبني، تحسن الإصغاء والفهم، ترفض المواقف المفاجئة والمتقلبة، تملك من الطيبة والحنان ما أتوق للعيش في ظله.
•••
لم يكن يوم وصولي إلى القاهرة يومًا جيدًا.
قال لي السائق: تاكسي.
كنت أريد «تاكسي» بالفعل، في يدي حقيبتان؛ حقيبة ثيابي الشخصية، وحقيبة الكتب التي اخترتها من مكتبتي، وثلاثة أكياس بلاستيكية. أقلني التاكسي إلى شارع الأهرام بمصر الجديدة. قبلت عرض الموظف الذي بادلني موضعي أن يتيح لي استئجار شقته في القاهرة.
قال السائق: عشرون جنيهًا!
أهملت نصيحة بألَّا أدفع أكثر من عشرة جنيهات.
الباب من الحديد المنقوش تعلو به درجتان عن الرصيف، تفضي السلالم — في المدخل — إلى طرقةٍ واسعة، لجدرانها أفاريز من المصيص، في المواجهة بابان متجاوران، إلى اليمين باب مغلق، على بابه لافتة باسم عبد العليم بكري، وقف البواب على مدخل ما بدا أنه حجرته. أشار إلى الباب المفتوح، على اليسار، عرفت أنه باب الشقة التي سأستأجرها، يلاصقها سلم يصعد إلى الطوابق العليا.
لم أحب اللون البمبي الذي اختاره النقاش لطلاء الصالة، فكرت في أن أشير عليه بلون آخر، صوته المحمل بالعنف، دفعني إلى كتم ما اعتزمت قوله.
حاولت — في الأيام التالية — أن أزيلَ ما على الجدران من بقايا طلاء وبقع وخطوط، وأزيل الغبار من زجاج النوافذ.