٣
ما الذاكرة؟
لماذا يستعيد الذهن صورًا دون أخرى؟
تجاهلت ما جرى، تناسيته، كأنه لم يكن، لكن اللحظة الوامضة أعادته: منار على الكنبة، ثنت ساقيها، قاربت ركبتيها من ذقنها، تدفس وجهها — بإلحاحي — في باطن الكنبة، هادئة، ساكنة، صامتة، تختار لحظة نهوضها: خلاص؟
أقول: خلاص!
لماذا تذكرت منار؟ لماذا ومضت صورتها في ذهني، وغابت صورة كوثر؟
فرضت علاقتي بمنار موقفًا ساكنًا، غابة كوثر السحرية امتلأت بالأشجار المتشابكة الأغصان والأوراق، صخب فيها انفلات الحواس والعناق والتأوهات والأنفاس اللاهثة.
أشرد في كوثر، تذكرتها فعلًا تاليًا لاسترخاء منار الهادئ المستكين، تدسُّ أنفها في الأرض، بينما النظرة المحدقة هي ما أكتفي به، حتى أدعوها إلى القيام.
رنوت إلى جسد البنت المستلقي على الكنبة، تمهلت نظراتي — بجرأة الثامنة عشرة — عند عنقها وأنفها وشفتيها، تشملني ارتجافة لملمس بشرتها.
كنت قد أدليت — لأول مرة — بصوتي في الانتخابات، أخذ الرجل بطاقة الاستفتاء، جرى بالقلم عليها، ودسها في الصندوق. غادرت مكان اللجنة وفي داخلي قرار ألَّا أعود ثانية إلى هذا المكان، أو ما يشبهه.
أشارت كوثر إلى ملابسي، فلم أنزعها. ظلَّت الملابس — عدا الحذاء الذي ألقيت به، وتركت الجورب — على جسدي.
أهملت مداعبتي لأجزاء من جسدها، تناولت يدها بين يدي، ضغطت عليها في ود، مسدت بشرتها، عركت — برفق — أذنها، تخللت شعرها بأصابعي، تهدل — في غير انتظام — على كتفيها، وحول رقبتها، لامست خدها، أسلمتني قدميها، دلكتهما، فسرت ما حدث — بیني وبین نفسي — بغياب الفهم.
هل تدوم اللحظة؟ هل تأذن لي بتكرار ما حدث؟
اللمعة في عينيها حفزتني إلى تقبيلها، ثم غابت اللحظة التالية، هل تتواصل قبلاتنا، أو أحاول التسلل إلى مواضع أخرى في جسدها؟
تمنيت — في استغراق اللحظة — أن تستمر بلا انتهاء، لا صلة لها بصحو أو نوم أو تأمل أو قلق أو خوف، أستعيد جلستي على كرسي في نهاية حديقة المنشية، فوقي شجرة تفرش الظل، أمامي كشك للسجاير، يقصده المترددون على المحكمة الكلية، ألوذ بنفسي، أخلو إليها، أنعزل عن العالم، أشرد في الصمت والإنصات والفراغ والأطياف التي لا أتبين تفصيلاتها.
المتعة التي تبقى لحظة، يراها أوسكار وايلد أفضل من الحسرة التي تدوم إلى الأبد. لن ينقضي العمر في لحظة ممتدة، لحظات السعادة نختطفها — في الأغلب — من معاناة الحياة.
لماذا لا أختطف لحظات السعادة؟
غابت نظرة كنت أحبها في عينَي منار، ليست تحريضًا ولا مغازلة، تشدني إلى طمأنينة أستريح لها، وأحبها.
قمت من جلستي، رفعت عينًا متسائلة: هذا هو؟
أعدت القول: هذا هو.
– ألا تريد شيئًا آخر؟
– لا … هذا كل ما أريد.
أهملت الاستغراب في ملامحها.
داخل صوتها غنج: عرفت أني سأكسب صديقًا جديدًا.
لم أكن أنا الذي دعوتها، اندفع سعد، يتقدمها إلى داخل الشقة: كوثر … صديقة.
حدست أنها ابنة الرجل ذي الجلباب الأبيض والشبشب، والسيدة التي أسدلت على رأسها، ومعظم جسدها، عباءة سوداء، لم أعرف أين تقيم الأسرة، ولا إن كان لها إخوة آخرون، أراها — في وقفتي خلف النافذة — إلى جوار العربة الصندوق، على ناصية ميدان المسافرخانة، تكومت فوقها فاكهة الموسم: البرتقال واليوسفي والبلح في الشتاء، والتفاح والمشمش والخوخ والبرقوق والبطيخ، وأنواع أخرى كثيرة في الصيف، تقف، وتجلس، بجوار العربة، بمفردها، أو تترك أحد الأبوين، تنتقل بين أبواب البيوت والدكاكين، أفسر ابتسامتها الواسعة المصاحبة لاتجاه نظراتها ناحيتي، أنها للترغيب في شراء ما تبيعه.
اتجهت إليها بنظرةٍ متأملة.
أول مرة أتأملها.
بدت متغيرة الملامح عن رؤيتي لها من فوق، بشرتها السمراء أميل إلى الصفرة، عيناها السوداوان تحرضان على ما يسهل فَهْمه. شعرها الناعم يتطاير مع حركة رأسها السريعة.
كانت كوثر هي التي تتكلم، لكنني أنظر إلى منار، أتأمَّل استرخاءها في الصمت السادر، أُصغي إلى صوتها الجميل: خلاص! أتمنى أن تمتد اللحظات بلا انتهاء.
لم أكن رأيت جسد فتاة عاريًا، قبل أن تنزع كوثر ملابسها، وتواجهني. أخذتني المفاجأة، ودعوتها، لم أتبين ما حدث إلا بعد أن أغلقت الباب وراءها.
ضبطت نفسي أستعيدها، أتخيلها عارية، لم يكن جسدها، وإنما جسد منار، غاب القوام الصبي، والعينان الواسعتان، والأنف الدقيق، أحاول استعادة ما كان.
عرفت أنها لم تخطئ فهم نظرتي، ربما أفصحت عيناي بما حاولت أن أداريه، أدركت أنها فطنت إلى ما بنفسي، فتملكني الارتباك، لم أعُد أنا الذي يتكلم، بل الرغبة المشتعلة داخلي، قالت عيناها ما لم تنطقه الشفتان، دعوة ينبغي أن أستجيب لها، أغادر مكاني، أتجه ناحيتها، لن أنتظر حتى تتحرَّك.
المشاعر كانت تداخلني باللذة، وأنا ألمس ما تصل إليه أصابعي من جسدها: الشعر، خلف الأذن، الوجنة، تحت الكتف، الساق، بطن القدمَين.
فاجأتني بتصرفها، جذبت البلوزة من أسفل، أطل ثدياها صغيرين، منتصبين، يغريان بالملامسة.
تحسست أصابعها الطويلة ساقي، فكت أزرار البنطلون، انتفضت واقفًا.
هذا ما لا أريده.
زمت شفتيها داخل فمي، احتوت بهما شفتي، غرقت فيما يشبه الجنون، تحققت الرجفة، فهدأت نفسي.
خلفت في فمي، وأنا أقوم عنها، ما يشبه زفارة السمك.
استوت واقفة، وسوت فستانها القصير.
أمعنت النظر — بجانب عيني — في ملاءة السرير، تأملت — بإحساس المفاجأة — نظرتها المبتسمة، الساكنة.
بعد أن قامت إلى الحمام، عاودت تبين الأثر. أربكتني المفاجأة، وإن حاولت أن ألملم مشاعري.
أثارني — بيني وبين نفسي — أنها لم تظهر اهتمامًا.
تجرأت بالقول: متزوجة؟!
هزت رأسها دون أن تغادر البسمة الساكنة شفتَيها.
وهي تفتح باب الشقة: عن إذنك يا سي مازن.
في دهشة: تعرفين اسمي؟
– سي سعد رساني على كل شيء.
نقلت نظراتها بين النقود في يدها، وبيني: هل تريدني ثانية؟
وأنا أفتح الباب: سأناديك من النافذة.
شعرت أن شيئًا ما انكسر داخلي، وأني لا أستطيع إصلاحه. لم يشغلني في العلاقة سوی تأمُّل البنت الممددة، ما حدث مع كوثر خطأ لن أكرره، عمق من موقفي الرافض ما لفني من شعور التقزز عقب انتهاء اللحظة، الفرجة وحدها ما أتوق إليه، الجسد الهادئ، الساكن، يخضع لنظراتي المحدقة. لا تبدي البنت اعتراضًا، لا تناقشني، لا توجِّه أسئلة.
قفز السؤال وأنا أجاوز جامع علي تمراز: ماذا لو اتهمتني كوثر بأني أول من دخل حياتها؟
تملَّكني خوف لمجرد التفكير أنها ستروي ما حدث لمن لا أعرفه، يُنقل ما روته — بزيادات — إلى الجيران، تتسع الدائرة بما لا أتوقعه، تحاصرني النظرات الساخطة، والرافضة، ربما واجهني الأذى، أو ما يصعب تصوره.
توقفت بعفوية، تلفت، كأني أتوقع من يلاحقني.
نقلت لسعد مخاوفي.
تمازج في نظرته التأنيب والسخرية: لا بد من وجود مشكلةٍ حتى نبحث عن الحل.
وزفر في نفاد حيلة: كما أرى لا يوجد في ما قلته مشكلة، ولد وبنت وحدهما داخل شقة … هل يؤمها للصلاة؟!
أذكر أني لم أكوِّن صداقات في مدرسة راتب باشا الابتدائية، ولا في مدرسة محمد علي الصناعية. لاحظ الطلبة حساسیتي، حاولوا النيل مني بعبارات ملمزة، وساخرة، اقتصرت صداقتي على سعد، أنا من قسم الكهرباء، وسعد من قسم الميكانيكا، أنست إليه لأنه يسكن في البيت المواجه، ويعاملني كصديق.
بماذا قدمني لها؟
لم أكلمه — ولا أي أحد — عن التصورات التي ملأت نفسي، سكنتني، أنصت إلى حكايات علاقاته، بنات من الحجاري والسيالة ورأس التين، يسترسل في الكلام، لا يقطعه، عيناه لا تطرفان، وابتسامته المستخفة ثابتة على شفتَيه، وإن بدا خده الأيمن دائم الارتجاف بحركةٍ عصبية، يثق أنه إذا أطال التحديق في عينَي فتاة، فإنها تقابله بنظرة استجابة، يعجز عن التحكم في مشاعره لرؤية فتاة جميلة، تتلفَّت نظراته حتى لا ينتبه أحدٌ إلى استحواذها عليه، عندما تتملكه الرغبة، يتعمَّد خفوت الصوت، ويستعير لهجة رقيقة، أُرجع إلى خلافات أبوَيه صعوبة التزامه بمسئوليات أسرته، يكتفي بالعلاقات الطياري. يفضل العيش بطريقته الخاصة، تستغرقه اللحظة التي يعيش فيها، لا شأن له بتوقعات، ولا تشغله نهايات الأشياء، ما دام كل شيء قائمًا، فليس ثمة ما يدعو إلى الخوف أو القلق، لا يعير اهتمامًا لما يقوله الآخرون، ولا تشغله الآراء التي تدينه، لا يحزن، ولا يغضب، ولا يلجأ إلى رد الفعل، لا يعاني مشاعر سلبية من أي نوع، كأنه يتقبل الإساءات، والكلمات الموبخة، وإن حملت كلماته تورية هادئة، يجيد الاتجاه بالحديث إلى المعنى الذي يريده، يحرص أن يعلو بصوته على الآخرين، يسيطر — بصوته الأجش المرتفع — على تلاغط الأصوات، إن احتد النقاش، فتش في ذهنه عن نكتة، أو دعابة، يخفف بها التوتر الذي ران على الجلسة، يثق في نفسه إلى حد الجرأة، وربما التعالي، يضايقني تلبُّسه روحَ المعابثة السخيفة، تلذُّذه بإلقاء الأسئلة القاسية، كَشْفه — بلا سبب — عما ينبغي ستره.
ساءني أنه شرد عن كلماتي، وواصل مَضْغ ما لم أتبيَّنه: ما هذا؟
اكتفى بالقول: أجرب.
اجتذبتني شخصيته، وإن لم أجد في تصرفاته الغريبة ما يدفعني إلى المحاكاة، تكررت تصرفاته، أعجز عن تقبلها، أو فَهْمها، أكتفي بالصمت لانتقاده إخفاقي في التعامل مع الآخرين، وعجزي عن كَسْب ودهم.
غمرتني راحة لأني نصحته أن يرجع عما اعتزمه لبنت من السيالة، هجرته بعد أن تحابَّا ما يقرب من السنة، اشترى زجاجة ماء نار ليقذفها بها في ظلمة حارة الشاروني، اعتاد تذكیري: نصيحتك أنقذتني من السجن!
يعاودني الإحساس بالراحة.
كنا نترافق وقت ما قبل الغروب إلى طريق الكورنيش، يملؤنا حب الفرجة لكل ما حولنا: الجالسين على المقاعد والسواتر الحجرية، صيادي السنارة والطراحة والجرافة، باعة الفريسكا والفستق والفشار والفول السوداني والترمس وكيزان الذرة، هسيس النخيل في امتداد الطريق، الطائرات الورقية الملونة.
يكرر أمنية لا تفارق خياله: يركب البحر إلى المواني البعيدة، يتزوج من امرأة في كل ميناء ينزل إليه، لا يطلقها، لكنه يترك المدينة في موعد رحيل الباخرة، ينسى — أو يتناسى — ما حدث، وإن تزوج في أول مدينة ترسو فيها الرحلة التالية.
آخر فسحتنا تمثال سعد زغلول، نصعد إلى القاعدة الجرانيتية، نتأمل ما حولنا: البحر، میدان محطة الرمل، زحام محطة الأوتوبيس، بوابة فندق سيسل الباعثة للتأمل، الرؤية الرمادية داخل التريانون، البناية المنفردة للغرفة التجارية، إن هطلت الأمطار، اتقيناها بالوقوف تحت مظلات المقاهي والكازينوهات في الناحية المقابلة للبحر، إن سخن الجو، اخترنا الوسيلة نفسها.
عرفت أنه لا يحب القراءة، ألاحظ سحبه الكتب الموضوعة على المكتب الخشبي الصغير، جوار السرير، يكتفي بنظرة غير متفحصة، ثم يعيد الكتاب.
ثاني یوم، فتحت الباب لصوت الجرس.
طالعتني كوثر.
وضعت في عيني نظرة محدقة، كأني أسألها عن سر عودتها، تجاهلت النظرة، ومضت إلى الداخل.
اطمأننت — بنظرة خاطفة — إلى إغلاق الشقة الملاصقة.
لم تفارقني كوثر منذ أغلقت الباب وراءها، حل الخوف في داخلي، لو أنها تنسب لي ما لا أعرفه، ما يورطني.
فارقتني الرغبة، أزمعت ألَّا يتكرر ما جرى بيني وبينها.
لكنها جاءت، ودعوتها إلى الدخول.
يلازمني الإحساس بالفراغ، كأن شيئًا ينقصني، لم يشغلني في العلاقة سوى تأمل البنت المستلقية، أو التحديق فيها، أعانق كوثر، لكن منار تحل بدلًا منها، أستعيد اللحظات الوامضة، يتداخل الفعل والملامح والكلمات، حتى تحتل الذاكرة تمامًا.
ألوذ بسريري عقب كل علاقة، ألملم أجزاء جسدي المبعثرة. وإن قاومت رغبة طاغية في أن أعاود ما كنت أفعله، ألامس ما تصل إليه يدي من جسدها، كأني أريد تذوقه.