٥
حتى ثالث يوم لسكني في الشقة الصغيرة، في الطابق الأرضي، من البناية ذات الطوابق الستة بشارع الأهرام، ظلت الشقة الملاصقة مغلقة، تصورت سفر سكانها خارج القاهرة، أو أنها بلا سكان.
صحوت — في الليلة الرابعة — على ترامي أصوات أمام الشقة، رأيت — من جانب الباب الموارب — سيدة ترتدي عباءة واسعة من الحرير، ذات كمَّين واسعَين، يخفيان يديها، وشابين، يحملان حقائب وصناديق كرتون إلى الشقة المجاورة.
أغلقت الباب دون أن أتبين الملامح جيدًا، شغلتني تصورات حول ساكني الشقة، هل هم كثيرو العدد؟ أو أنهم — لضيق الشقة — أسرة صغيرة، أو أنه ساكن وحيد — مثلي — يسكن بمفرده؟
– صباح الخير.
كانت العادة تأخذني دون أن ألتفت إلى الباب المغلق. وقفت السيدة على الباب الذي انفتح على وسعه: جار جدید؟
في تلعثم: إن شاء الله.
علت شفتيها ابتسامة: حمد الله على السلامة.
ثم وهي تتهيأ لدخول الشقة: اسمي جنات … خالتك جنات.
حين نظرت في عينيها، داخلني شعور بالألفة، تمتلك طلة آسرة، لفت شعرها بمدورة حمراء، بدت ممتلئة في الفستان الأبيض، زينت صدره بوردة من الكانفاه.
– أنا مازن … موظف بالتليفونات.
قالت في عفوية: لا أبناء لي … اعتبرني أمك.
أردفت لنظرتي المتسائلة: الزواج ليس شرطًا كي تحقق المرأة أمومتها!
استغربت نظرتي إليها، لم أستطع تخمين عمرها، هي بين الأربعين والخمسين، لكن تفصيلات الجسد، وملامح الوجه، غابت في منار التي انبثقت — بعد سنين طويلة — داخلي.
أول ما دخلت شقتي، اتسعت عيناها بنظرة دهشة، ثنت ذراعيها، وأمسكت بيديها جانبي وسطها: شقة ولَّا سويقة؟!
انعكس خلو الشقة من الأثاث في عينَيها بما يشبه الإشفاق، عدا تناثر الملابس والصحف والكتب المتناثرة، استند إلى الحائط فوتيل، أتمدد عليه وأنا أشاهد برامج التليفزيون في موضعه بين الحجرتين، في حجرة الجلوس تقابل الكرسيان والكنبة الأسيوطي، في الوسط ترابيزة خشبية مستطيلة، سطحها من الزجاج. وعلى الجدار صورة لمرسى القوارب في المينا الشرقية، اقتطعتها من مجلة ثقافية.
لم تدخل حجرة النوم، وإن أطالت نظراتها إلى السرير السفري، والكرسي المعدني، والدولاب ذي الضلفة الواحدة، والمكتب الصغير لصق الجدار.
وهي تمضي إلى الباب، ألقت — بجانب عينها — نظرة على المطبخ: الحوض الخالي، والأدوات الساكنة فوق الأرفف، وعلى الجدار: من يطبخ طعامك؟
المطبخ ضيق، يسع ثلاجة صغيرة، وبوتاجاز شعلتين، ورخامة بامتداد الحوض، ورفًّا للأوعية.
ترددت في الإجابة، معظم طعامي سندوتشات فول وطعمية من الشبراوي، خلف العمارة، أو جبنة بيضاء وزيتون وحلاوة من محال الكوربة، أكتفي — ظهر كل خميس — بوجبة خضار وأرز، في مطعم الإمفتريون، قد ألجأ إلى ما في الثلاجة من الجبن والحلوى والطعام المجمد، أزمعت أن أحتفظ براتبي من أول الشهر إلى آخره، خشيت الاعتذار، أو الرفض، أو المساعدة في هيئة من يمنح صدقة.
تذكرت تعبيرًا قرأته، وإن نسيت قائله: «العزلة شيء جميل، لكن من المهم أن تجد شخصًا ما يقول لك إن العزلة جميلة.»
عصر اليوم التالي، فتحت الباب لطرقات براحة اليد، مدَّت صينية، فوقها أرز باللبن وثلاث كعكات: من صنع يدي.
لم يعُد يمر يوم دون أن ألتقيها، تضغط على الجرس لأفتح الباب، أو تدفع الباب إن كان مواربًا، وتدخل، تجلس في أي موضع.
الشقة متطابقة — في مساحتها وشكلها — مع شقتي، الحجرتان المتلاصقتان في مواجهة الباب، تفصل الصالة الصغيرة بينهما وبين المطبخ والحمام، أشاهد — من وقفتي على الباب — أثاث حجرة نوم. أعرف من مقاعد الأنتريه البنفسجي في الحجرة المجاورة، أنها خصصت للجلوس، هذا هو المعنى الواضح، وإن لم تدعني إلى الدخول، تمضي إلى داخل المطبخ والحمام، فطنت إلى أن بداخل المطبخ بابًا يفضي إلى منور. تعود بما تقدمه لي، تلتقي الشقتان في مواجهة البنايات المقابلة، وإن فصل بينهما جدار من الطوب الأحمر.
لم تبلغ صداقتنا حد أن أبادلها الزيارة، أطرق بابها، فتأذن لي بالدخول. أتوقع طرقاتها في أي وقت، تدخل — بعفوية — إلى الصالة، تحرص على فتح الباب والنافذة، دفعًا — ربما — للظنون والتأويلات، تجلس — في الغالب — على الكرسي المجاور لباب حجرة الجلوس، ربما أرفقت جلستها بالقول: عزمت نفسي على فنجان قهوة!
لمحت شيئًا في ركن الصالة، نزعت فردة الحذاء من قدمها، واتجهت ناحيته، فاجأته بضربة دهسته: الصراصير! … مشكلة الأدوار الأرضية!
ما يلفت نظري في تعبيراتها، ضحكة رنانة، طويلة، تعلو فجأة، تنتهي ببحة متحشرجة، تثيرني.
شعرت — من انتظام أنفاسها — بوقفتها ورائي، تتأمل وقفتي إلى الجدار، أعلق — على مسمار ثبَّته فيه — خريطة لأحياء الإسكندرية.
– لماذا تركت مدينتك؟
أدرت رأسي: قد تجبرنا الظروف على ترك ما نحبه.
سألتني عن بحري، أسباب انتقالي من الإسكندرية، من هو سعد؟ لماذا لم تستكمل تعليمك؟ كيف تدبِّر حياتك؟ لماذا لا تصلي؟
ظلت صامتًا، خشيت أن يبين الارتباك في صوتي.
ومض في رأسي تشابك صورٍ ورؤًى: أذكر من أبي لومه الدائم لأمي أنها تطيل شعري، وتعقصه كالبنات، وتلبسني ملابس البنات، وتسرف في حنانها لي بما يغضبه، يقول لي المدرس: لو أن المدارس توافق على ما دون الصفر، فهي الدرجة التي تستحقها، أعتذر عن رحلات المدرسة إلى مطار الدخيلة، وحدائق النزهة، وحدائق أنطونيادس، وقلعة قايتباي، ومعهد علوم البحار بالأنفوشي، أهمل نظرة الاستغراب في عينَي أمي. نصائح أبي، يضمنها أسئلة: ألم أقل: لا تنظر وأنت تتكلم في عين من تكلمه؟ ألم أنبهك بألَّا ترفع صوتك؟ يعلو صوت سعد ناصحًا: لا تلقِ السنارة في الماء، دون أن تعد نفسك لجذب السمكة. أرهف السمع لترامي وقع أقدام أبي في الصالة، أدس «ألف ليلة وليلة» تحت الوسادة، أبسط في يدي كتاب المدرسة.