٦
حين يتقدم بنا العمر، فإن الحنين يشتدُّ إلى الماضي.
الزمن الحقيقي يختلف عن الزمن الذي نعرفه بالثانية والدقيقة والساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة والعقد والقرن إلى الدهر.
زمني الذي أطمئن إليه هو ما أحياه، وأتذكره.
لماذا استدعت رؤيتي لمها ما كنت نسيته من منار؟
حصلت من منار على ما لا أتصور أني سأحصل عليه من مها. ما كان طبيعيًّا في سنٍّ صغيرة، يصعب حدوثه، أو تصور حدوثه، في الكهولة.
التلبية وحدها ما أطلبه، الخضوع وكتم الأسئلة، لا أتوه في المدخل، وكيف أصل إلى اللحظة التي لا أجاوزها، ترضي ما بداخلي.
تمنيت أن أعاملها باعتبارها منار، أعادني إلى نفسي، إلى ما تمنيت فعله، أن مها ليست منار، السنوات متقاربة، لكن ما كنت أجده في منار يغيب عما قد أجده في مها. لم أحب منار، بمعنى أن حياتي تكتمل بها، فهي صغيرة، وكنت أصغر من أن أجدها في موضع الحبيبة، الجمال النائم هو ما أتوق إليه، لحظات نورانية، منفصلة عن العالم الذي يحيط بنا.
مها مجرد طفلة، لا تعرفني.
رمقتني بنظرة متسائلة، عند اقترابي منها، ربما أكثر مما يجب، نفضت تصوري للاستنكار، لصغر سنها.
هل تهبني البنت ما كانت تهبه لي منار؟
دفعني السؤال المفاجئ — في داخلي — للالتفات ناحية البنت.
هل توافق؟
حتى لو وافقت: كيف تواتيني الجرأة؟!
أنتبه لإيقاع خطواتها، ألفته عند نزولها من السلم الرخامي، أتابع انطلاقها نحو باب البيت، أبحث عما أذكره من منار، البنت التي أعادتها الذاكرة إلى حياتي، تكرر فتحي باب المنور، أتبين ما إذا كان شيء سقط من الطوابق العليا.
ظل الميل إلى تكرار ما فعلته منار كامنًا في ذاكرتي، أعرف أن مجرد التفكير في هذا الميل خطأ، لكنني لم أخلقه في نفسي، بل خلقه الله، هو الذي ثبت الصورة القديمة في ذهني، يلح في الاستعادة والتكرار. السر لا يصبح سرًّا إذا رواه الإنسان، أزمعت أن أحتفظ بالسر — هل هو كذلك؟ — يظل مودعًا في صدري، لا أبوح به.
شغلتني الفكرة، تضخمت في داخلي، تحولت إلى ما لا أقوى على مغالبته، في لحظة ما، لفني خوف أن أكون قد صرت مهووسًا بما لا أفهمه أنا نفسي، بما تغيب ملامحه، تسيطر على أفكاري وتصرفاتي، ونظراتي إلى الآخرين، إلى الأخريات.
تبعتها في زحام شارع إبراهيم اللقاني، عبرت تقاطعات میدان روكسي، حتى أول شارع الخليفة المأمون، مالت — من الجانب — في اتجاه الشارع الموازي لمترو مصر الجديدة.
قبل أن تميل إلى شارع المقريزي، نظرت خلفها، أدركت — من يدها الملوحة، وابتسامتها — أنها كانت تعرف سيري وراءها.
هذه الفتاة، وضعتها الظروف على طريقي لتبدل حياتي تمامًا، لتحرك في داخلي مشاعر كنت نسيتها، أو أنها تلاشت من ذاكرتي. أدركت أنها تسكن تفكيري، تخالط صورتها انشغالي بأشياء ضرورية.
الطبيعة الإنسانية ليست معدنًا ثابت الخواص، فتظل على حالها حتى النهاية. أستعيد الرائحة، أو أنها تظل في أنفي، وميض عينيها، صوتها الخافت كالهمس، جسدها الطفل، المكتمل التكوين.
تبينت أني لم أبتعد — رغم انقضاء السنوات — عن تلك الأيام البعيدة، أتكلم عن منار، علاقة السنين الفائتة، ما لا أذكره من السنين، وإن كنت أيامها في غير السحنة والشكل والمزاج.
بدا ذلك الموقف القديم الوامض، كأنه عقدة أعيش فيها، لا أستطيع أن أقاومها، أو أحلها، كلمة «خلاص» أتنبه لتناثرها حولي، تجتذب سمعي، تعيدني إلى منار، وجسدها المستلقي، وسؤالها.
تلحُّ على ذهني لأيام، ثم تختفي. أتصور أن الأمر انتهى، لكنها تعود بالإلحاح نفسه، أسلم نفسي لرؤى منار، في أوضاع حقيقية ومتخيلة، تتقاطع بالكلمة ذات الرنين: خلاص. أستعيد النظرة التي أحبها في عينيها، أنفها الدقيق، ذراعيها الدائمتي الحركة، تجتذبني الدوامات الواسعة، تعود بي إلى حيث بدأت.
أزمعت أن أترك ورائي كل ما حدث في الإسكندرية، أنساه كأنه لم يكن، أخطو في أرض لم يسبق لي السير فوقها، أعرف ناسًا غير الذين عرفتهم في الإسكندرية.
أعاني حرجًا في البوح بما أخفيه، بالسر الذي طال كتمه، وأخشى — لو تكلمت — تأثيراته.
نحن لا نختار ما ننساه، قد نتذكر أشياء تمنينا لو أنها سقطت من الذاكرة، وقد ننسى ما نعتبره ذكريات جميلة، رقدة منار الهادئة، المستكينة، أراها في صورة مجلة، مشهد ولد وبنت على شاشة التليفزيون، ترامي الكلمة التي كانت منار تتهيأ بها للقيام: خلاص.
أحاول إبعادها عن ذهني، لكنها تعاود الإلحاح. يظل طيفها، ملامحها، في نفسي، كأنها ثبتت في رأسي، لا تزايله.
أدرك نظرات الاستهجان التي ستحرقني، عندما أتحدَّث عن الجسد الذي أخذتني تكويناته، كهل يسيء إلى نفسه، وإلى صبية صغيرة، وضعها في غير سنها.
غلبتني الحيرة، لا أدرى: هل أتكلم؟ هل أحاول الاقتراب، أو أبتعد؟ هل يبدو ما أفعله طبيعيًّا، أو تصدني بما لا أتوقعه؟
أعاني الرغبة في لمسها، والخوف من رد الفعل، أخاف أن تبدي ما لا أتوقعه، ويؤلمني، لم تتوثق علاقتنا بما يجعل تغاضيها واردًا.
يتكرر نزولي إلى الطريق، أتباطأ — في عودتي — عند المدخل، الدرجات الرخامية الخمس، البسطة الممتدة إلى الأبواب الثلاثة، والسلالم الجانبية، أحدق في صندوق البريد، كأني أفتش عن رسائل لي، أعرف أن العنوان جديد، رسائل الهيئة أتسلمها في مدخل السنترال، أعيش التوقع أن تصعد مها من الشارع، أو ننزل إليه، لا أعد في نفسي كلمات أقولها، لا أسأل، ولا أبدي ملاحظة، مجرد أن أراها، أستعيد لحظات بعيدة، تصورت أني نسيتها. أرنو — في ميلي ناحية الشقة — إلى منور السلم، كأني أتوقع من تشغلني رؤيته.
أزمعت — لو أتيح لي لقاؤها — تبديل العبارة التي أعددت نفسي لقولها، أو عدم نطقها، أنت في سن ابنتي، أجتذبها بكلمات تزين لها ما أريد، الجرأة هي ما عكسته كلماتها وتصرفاتها، لكنها لم تلامس الغابة المشوقة لوطء قدميها، تصدني عبارات تؤلمني عفويتها، جدار تصنعه دون تعمد، يعروني العجز عن محاولة النظر من فوقه، أكتفي بصفو السماء، وخلوها من السحب.
لو أنها فطنت إلى متابعتي لها، ربما أخبرت أهلها بتصرفي، وربما وجدوا في التصرف ما يثير القلق.
هل أدعوها للاطمئنان من ناحيتي، أو أقنع نفسي بالمسافة التي تفصلنا؟
هل أعثر على الكلمات التي أجيب بها عن أسئلة — تدينني — لا أتوقعها؟!