٨
تبدلت الشوارع تمامًا، ألتقي المظاهرات في طريقي إلى السنترال، وعودتي منه، يعلو التلويح بقبضات الأيدي واللافتات والشعارات والهتافات، حاذیت شابًّا يعتلي كتفَي آخر، وانطلق صوته يسبق المتظاهرين بالهتاف: الشعب يريد إسقاط النظام!
أكتفي بإلقاء نظرة عابرة، ثم أواصل السير في اتجاه شارع الأهرام.
توالت التحذيرات في الراديو والتليفزيون من محاولات التظاهر، للابتعاد عن المظاهرات، في اختراقها للخليفة المأمون حتى قصر الاتحادية، خالفت — أحيانًا — سيري اليومي، أمضي في الناحية المقابلة لشارع الأهرام، أميل من شارع الكوربة حتى شارع الحجاز، أسير بحذاء سور الميريلاند، في اتجاه جسر السويس، يبدو السنترال في مدى الرؤية، فأمضي ناحيته، أعود إلى البيت من الطريق نفسه، إجازة يوم الجمعة أمضيها في السرير، لا أنزل منه إلا لقضاء حاجةٍ في المطبخ، أو الحمام.
اختزنت كمية من البقول والأرز والمكرونة، أودعت الثلاجة أطعمة أخشى فسادها، تغنيني عن مغادرة الشقة، تظل المظاهرات، وما تحمله من نتائج، بعيدة عن حياتي، يغلبني الملل، أتمدد في السرير، لا أقرأ، ولا أشاهد التليفزيون، أو أستمع إلى الترانزستور، أكتفي بالتحديق في السقف، أشرد في ما مضى، تسعة وثلاثين عامًا خلفتها ورائي، لم أحقق شيئًا ما تصورت أني سأحققه، أو أسير في اتجاهه.
لا أذكر الكلمات التي طلبت بها نصيحة الصيدلي، أسفل البيت. أعدت قراءة ما قاله: «تريبتزول.» لحقني صوته وأنا أميل إلى البيت: حبة واحدة قبل النوم.
لم يعد من الحكمة أن أغادر الشقة، ولا البيت، اقتصر الأمر على الاستجابة لطرقات جنات، أجد فيها الونس الذي أفتقده في الوحدة داخل الشقة، لم أعد أطيق الوحدة، ضاقت نفسي بها، طالت مدة قطع الإنترنت والتليفون المحمول، أستمع — عبر نافذة المنور — إلى حركة الطريق، التفصيلات شاحبة، لكنني — بالتخمين — أفسر ما يجري، أنتبه إلى اقتراب المظاهرة، تتلاشى الأصوات الهاتفة، أعرف ابتعادها، لا أتبين نوعية الشعارات، وإن أدركت خطورة ما يجري من أصوات قنابل المولوتوف، وطلقات الرصاص والخرطوش، ورائحة قنابل الغاز.
قالت جنات: تأخرت أمس … أين كنت؟
ووشى صوتها بالقلق: المحمول لا يرد.
وأنا أتحسس جيبي: نسیته!
– قلقتني عليك.
أرخيت عيني حتى لا تكشف ما أحاول مداراته: خطفت رجلي إلى ميدان التحرير.
عاودت ضرب صدرها: تريد الموت؟!
وتنهدت: كنت أظن أني ودعت القلق برحيل عبد العليم. أعدته لي أنت بما لم أتوقعه.
همست بتهوين: الميدان يشغي بالألوف.
وضعت ظهر يدها على جبهتي، تتحسسها: ماذا فعلت بنفسك؟!
– أنا لا أمتلك شيئًا أخشى فَقْده!
التمعت عيناها بالدمع: حياتك غالية.
أخفقت في العثور على كلمات أعبر بها عن امتناني لتصرفها، تمنيت أن أعانقها، تحركت في وقفتي تأهبًا للفعل، لكنني خشيت أن تجد في تصرفي ما يغضبها.
وأنا أنظر إلى اللمبة المدلاة من السقف: كما فعل بقية الناس.
فطنت جنات إلى ما أعانيه، رغم تصوري أني أجدت إخفاء مشاعري.
– في السماء نجمة تبشِّر بالخير.
ثم وهي تلمس بإصبعها التقطيبة بين حاجبي، كأنها تريد محوها: نراها في الليل إذا خلت السماء من الغيم.
وربتت كتفي: حان — فيما يبدو — زوال الغيم.
لست أعرف ما الذي اتجه بي ناحية الميدان.
أشعر أن شيئًا ما تغير يصعب تحديده، لكنني أراه في الحياة من حولي. لا أشتري الصحف، أتابع الأنباء من التليفزيون، أو في مناقشات السنترال، وفي ملاحظات الست جنات.
في شقتي، لم أكن أعرف ماذا تفعل المظاهرات خارج البيت. تترامى أصوات لا أحاول تبينها، أعرف أنهم يهتفون ضد مبارك، اعتدت كلمات المهندس عاطف غيث ضد الرجل في جلسات السنترال، حواسي كلها تتجه إلى الميدان الذي يغص بالبشر.
يرتبط الميدان في ذاكرتي بالمظاهرات: في ثورة ۱۹۱۹، ضد قوات الإنجليز عقب الحرب العالمية الثانية، مظاهرة الطلاب — بعد هزيمة ١٩٦٧ — ضد أحكام قادة الطيران، رفض حالة اللاسلم واللاحرب في ۱۹۷۲، انتفاضة الجوع في أوائل ۱۹۷۷، سماها السادات انتفاضة الحرامية. أحداث أخرى كثيرة، شهدها الميدان قبل أن أولد، عشتها، وإن لم أشارك فيها، آخرها ما يجري هذه الأيام ضد الرجل الذي رفض أبي — يوم ولادتي — أن يختار لي اسمه.
توالي الأحداث ألغى قناعات كنت قد اطمأننت إليها، بدت حقيقة يسهل تصديقها.
تذكرت — وأنا أميل إلى شارع إبراهيم اللقاني — أني لم أعد ألتقي مها، تسأل عن سقوط قطعة ملابس، تعبر باب الشقة المفتوح نحو السلم، أصادفها في الشارع، أزمعت أن أجد سببًا لسؤال جنات عن غيابها.
هل تركت أسرتها البيت؟
ترامت هتافات.
سرت إلى جانب الرصيف حتى تبتعد المظاهرة، تعرف العين المتابعة أني أسير بمفردي، الشوارع الجانبية، والبعيدة عن أطراف المظاهرة، خالية، والمحال القليلة — على الجانبين — مغلقة، وسينما هليوبوليس أوصدت الباب الجرار بالجنازير، وثمة وجوه تطل من النوافذ المفتوحة.
أخذني صوت المهندس عاطف غيث — داخل القاعة الواسعة — يعلو بالسؤال: هل بدأت النهاية؟
كان قد مضى أربعة أيام لم يجلس المهندس عاطف في مكتبه. قال فوزي النمر إنها إجازة عارضة، فطنت إلى أنه — ربما — ينزل ميدان التحرير.
قال المهندس عاطف غيث وهو يطلُّ على المظاهرات في شارع جسر السويس: إما أن تنجح الثورة، أو يضيع الأمل.
قال فيكتور المطيعي: ما حدث مفاجأة، وإن كنا ننتظره.
قال الحاج السيد البدوي صالح: ننتظره ولا نتوقعه.
ضرب المهندس عاطف غيث حافة المكتب بقبضة يده: ما حدث كان لا بد أن يحدث.
المدرعات في الميادين، وعلى نواصي الطرق. نحيت نظراتي عن عرض الممرضة الواقفة أمام سيارة الإسعاف بميدان رمسيس، أجدد دمي بتبرع لتر لمصابي المظاهرات، الجنود والدبابات في المسافة بين میدان عبد المنعم رياض وميدان التحرير، لفَّني ارتباك، بدت العودة إلى شارع الجلاء تصرفًا مناسبًا.
أغلقت أزرار البلوفر، أحاول اتقاء برد يناير، سرت — وحدي — بين آلاف المتظاهرين والجنود، وباعة البطاطا والفشار والساندوتشات والحلوى والبلح والسجائر، وأعلام مصر وأغطية الرأس والبالونات الملونة وعربات الفول والكشري والترمس، ولحمة الرأس والكسكسي وباعة السميط والعرقسوس، ونصبات الشاي، وصوانٍ عليها أكواب الزنجبيل، يفيد في نقاء الصوت ليسهل الهتاف، يملؤني الشعور بالغربة والضياع، بالخواء، أشبه بالبناء المحترق للحزب الوطني، كل ما كان في داخلي من مشاعر وأمنيات، انتهى إلى الخواء الذي يتمطى في البناء المطل على النيل.
ظلت يداي إلى جانبي، أثناء توزيع السندوتشات على المحتشدين، تشككت في أن تكون مسمومة، أعرف أنهم سيلجئون إلى كل الوسائل لإنهاء ما يجري.
أول مرة أشاهد زحام الميدان عن قرب، اختلاط الأصوات والروائح وما لا يسبق لي رؤيته.
الحشود مغايرة لما شاهدته في التليفزيون، زحام من البشر، لولا أن الناس يحشرون — يوم القيامة — عرايا، ما اختلف عن زحام الناس أمامي، وإن فر الناس إلى الميدان، الصورة العامة في التليفزيون بلا تفصيلات، حتى لو اقتربت العدسة. المشهد أمامي، يحفل بالنداءات والهتافات والإيماءات والأسئلة والكلمات المبتورة. ثمة من يطلون من الشرفات، يلوحون بالأيدي، أو يهتفون، أو يدخلون في مناقشات، وثمة من أخذ — بالكاد — جانبًا، وبسط جريدة، يصلي فوقها.
سرت في ظهري ارتعاشة، لما بدأ الشاب ذو البشرة الشقراء تمسيد ثيابي، لعله الخوف من أن يجد في جيوبي ما يشي بالخطر.
وجدت منفذًا إلى الميدان، بين الدماء المتجلطة وقطع الحديد والعِصِي المتكسرة والحجارة، وأعمدة الإنارة المنزوعة وبقايا الإطارات والسيارات المحترقة والصناديق الفارغة.
تقاطعت اللافتات بالعربية ولغات أخرى، ميزت منها الإنجليزية، وإن لم أعرف بقيتها.
قاومت التردد في اختراق الحشود الهائلة، دفعني المتظاهرون القادمون من الخلف، أسلمت نفسي للتدافع، صرت في قلب الحشود تمامًا، كأني ألقيت نفسي في بحر لا أرى آفاقه، أمواجه تبعد بي عن الشاطئ، تجذبني إلى الأعماق.
غمرني اهتمام لما يحيط بي، ما أنا في داخله، من الزحام والهتافات والشعارات، اختلاط الوجوه والأعلام، وأسماء ماسبيرو ومحمد محمود، ومجلس الوزراء والعباسية والخليفة المأمون، وأسياخ الحديد، والحجارة، وقطع الرخام المنتزعة من الأرض، والإطارات المحترقة، والدخان الخانق، وأوراق الصحف، وأكياس البلاستيك، وبقايا الطعام، والفضلات الآدمية، وكبسولات القنابل، والدماء المتجلطة، والروائح النفاذة.
كل ما حولي كأنه طاقة بخار مكتومة، تهم بالانفجار.
ظلت في داخلي مشاعر التوقع والقلق والخوف، أتصور الجسد البشري الهائل يتفتت في لحظة، يتحول كل شيء إلى فوضى، أواجه ما لا أتصوره، ولا قبل لي باحتماله.
انتفضت لأصوات طلقات مفاجئة، تكاثفت وسط الناس أمامي — في اللحظة التالية — سحابات من الدخان الكثيف، ما بين السواد والبياض، وصلني انتشاره بأسرع مما قدرت، أحسست بالدموع في عيني، واقتحم الدخان مسام جسدي.
ما صلة إسالة الدموع بالاختناق؟
كأن يدًا ضاغطة تقبض على عنقي، تكتم صدري، دارت بي الأرض، لم أعد أعرف أين أنا، ولا ما ينبغي أن أفعل، لا أقوى على التفكير، أو الحركة.
حاولت التراجع، لكنني اصطدمت بالأجساد المتلاصقة، المندفعة. تلفت، أبحث عن مكانٍ للنجاة، منفذ آمن للخروج.
عدلت عن محاولة النفاذ من بين الأكتاف، إذا وقعت على الأرض، فلن أفلت من دوس الأقدام.
شحبت الرؤية، التف كل شيء في غلالات كثيفة، كأن المتظاهرين أطياف يحوطها الغيم.
قال شابٌّ غابت ملامحه: القناصة يطلقون الرصاص من أعلى الجامعة الأمريكية.
انقطعت اللحظة عما قبلها، وبعدها، حل شيء بلا ملامح محددة، وبلا انتهاء، لم أستطع مغالبة الخوف، خوف هائل، مسيطر، تملكني تمامًا، كأن أحدًا يلاحقني، أحسست أن ساقي جمدتا في مكانهما، وأن لساني التصق بحلقي، ففقدت القدرة على النطق.
تعالى — فجأة — صوت رصاصات، أمسكت — بعفوية — ساعد الواقف جواري.
حين بدأ المتظاهرون — من حولي — في الفرار إلى الشوارع الجانبية، جريت بآخر ما عندي، لا أعرف إلى أين، أبواب البيوت والدكاكين — على الجانبَين — مغلقة، والنظرات تتسلل — بالفضول — من النوافذ المواربة.
اندفعت — بآخر قوتي — أجاوز إشارة الرجل ذي الجلباب نحو باب البيت، خشيت أن يكون الخطر ماثلًا خلف الباب الموارب.
وقفت متلفتًا – لا أصدق نجاتي من الموت — في الساحة المقابلة لدار القضاء العالي، أصداء طلقات الرصاص وقنابل الغاز، وسارينات سيارات الإسعاف، تترامى عبر الشوارع والبنايات.
حين وجدتني في الشقة — عقب عودتي من التحرير — تأملت ما جری.
قالت الست جنات للتأثر الذي عكسه خطاب مبارك: لم أصدق كلمة واحدة!
– ربما كان صادقًا.
– حتى ريجان وصفه بالكذاب.
واتسعت عيناها بالغضب: إن كان سيرحل … فلماذا لا يحدث ذلك الآن؟
التفتُّ ناحية صوت قناوي في وقفته على باب الحجرة: التقيت مظاهرة قادمة من الخليفة المأمون … اكتفوا بالنداء: ارحل!
بدَت عليه حيرة، وهو يكثر من إدخال إصبعه في فتحة أنفه، يتأمل الإصبع، ينفضه بإصبع أخرى.
– من يقصدون؟
صاحت جنات في عصبية: ألا تعرف أن مبارك هو المقصود؟!
قال في عدم فهم: الرجل لم يقتل … لماذا يطلبون عزله؟
وأنا أتحسس الكلمات، أخمن وقعها قبل أن تنطقها شفتاي: أسهل شيء إدانة ظلم مبارك.
هتفت في استنكار: لا بد أن نحاسبه على ظلمه؟
وشت نبرة صوتها بانشغالها فيما لم تظهره ملامحها: لا أبرئ المصريين من قبول تشويه طبيعتهم، وهي أن يرفضوا الظلم.
واتتني جرأة: للحاكم حق الطاعة.
علا صوتها بالانفعال: وواجب العدل.
عرفت أنها اعتبرت ما قلت تعاطفًا مع الرجل، قالت: لا تدافع عن الشيطان.
وحدجت عينَيَّ في صمت، كمن تختبر وَقْع كلماتها: فعل في أجساد الناس ما هو أفظع من الموت!
وفي صوتٍ يحمل نبرة إدانة: قد نستطيع تناسي الماضي لكننا لا نستطيع نسيانه.
خيل لي أني استمعت إلى حركة في المنور، هممت أن أفتح الباب، لكن يدي تركت المقبض، خفت أن أواجه ما يؤذي، ولا أستطيع مغالبته.
تركت الباب مفتوحًا، وتمددت على السرير، أرهف السمع لأصواتٍ تترامى من وراء الباب المغلق، عرفت — في الصباح — أن النوم سرقني، فغاب ما كنت أخافه.
أزمعت أن يظل باب الشقة — وأنا في الداخل — مفتوحًا، أصيخ سمعي لكل حركةٍ ناحية باب البيت، أو أطيل وقفتي أمام الشقة، أنصت إلى الست جنات فيما ترويه، أو أسأل قناوي عن حركة الشوارع حول مبنى الاتحادية: هل فتحت، أو لا تزال مغلقة؟
أحاول التأكد من عدم استرقاق السمع خلف الباب المغلق، أخشى المجهول، وغير المتوقع، كأني أفر من جريمة لا أعرف طبيعتها.
تداهمني — بلا سبب — هواجس ومخاوف، أفتح التليفزيون عن آخره، أضيء لمبات الشقة، حتى اللمبة فوق الباب الخارجي.
انتبهت على ضغطة الجرس.
كنت أتطلع إلى التليفزيون، وأجري على وجهي بمعجون حلاقة الذقن. لست من محبي النظر إلى المرآة، حتى حلاقة الذقن التي تشترط مواجهة المرآة، أمارسها في أي مكان. اعتدت إزالة الذقن دون أن أنظر إلى وجهي، أكتفي بتحسس المواضع الخشنة، وما أزيل من شعر.
اليوم إجازة.
الضغطة الثقيلة على الجرس، تمضي بي نحوه، في بالي — وأنا أفتح الباب — هيئة الرجل ذي السحنة الجامدة، يسأل عن سكان الشقة، والمترددين عليها، يراجع بطاقة الرقم القومي، يجول — بنظرة متأملة — في صمت المكان، آخر ما أعتاد سماعه، وأنا أتأهب لإغلاق الباب: أبلغنا بكل جديد.
هل لرنين الجرس صلة بوقفتي في ميدان التحرير؟ هل جاءوا لأخذي، كما فعلوا مع عبد العليم؟
تملكني التحفز، تأهبت لما تغيب ملامحه، ربما لم تَسِر حياتي بالكيفية التي أريدها، لكن الأمر يبدو قابلًا للمراجعة والتعديل، يجب أن أضع حدًّا لكل ما أعيشه، لكل ما يحيط بي، لم يعُد أمامي سوى دَفْن مشاعر القلق والخوف، وإهالة التراب عليها، أزمعت أن أبدو شرسًا، قاسيًا، أخيف الناس، أصدهم عني، أردعهم، أفعل ما لا يخطر على بال أحد، ولا توقع أن يصدر عني، طبيعتي المسالمة تمنعني من الفعل، يساعدني مظهري القوي على ادعاء القسوة، أعطي الأوامر بإيماءة أو بإشارة، لا أحد يناقش أو يسأل، يلبُّون ما أطلب في استجابةٍ صامتة، ألجأ إلى القوة الهائلة في داخلي، تملي تصرفاتي، تدفعني إلى التصرفات العنيفة والكلمات التي لا أتدبرها والعراك، أوقظ في أعماقي وحشًا أريده، مخلوقات الغابة تأكل نفسها، كل مخلوق يبادر بالتهام المخلوقات الأخرى، يدفع عن نفسه توقعات الأذى.
هذا ما ينبغي أن أفعله.
هززت رأسه أطرد النوم، ثم أعدت النظر لأتأكد من وقفة قناوي على مدخل الباب، قامته المتوسطة، الممتلئة، وبشرته البيضاء، المنمشة، وشعره الجعد.
– الشركة تريد الشقة.
أحسست بالكلمات على شفتَيَّ، متثاقلة، عاجزة: لماذا؟ هل حدث شيء؟
– ربما يريدونها لنشاطهم.
رفعت صوتي لأتخلص من الارتباك: والعقد؟
وهو يفرد كفَّه في قلة حيلة: إيجار جديد … يعتذرون عن عدم تجديده.
شعرت بالخوف يتسلل إلى داخلي، خوف غامض، لا أدري بواعثه، يستقر في أعماقي، تملكني الخوف، أحسست بتيبس شفتي. لم أكن واثقًا من قدرتي على التصرف بما يعيد كل شيء إلى موضعه، أشعر أني سأفقد شيئًا غاليًا، لن أستطيع استعادته.
لم أجد ما أقوله للرجل، اختلطت المعاني في رأسي، فغابت الكلمات، حاولت أن أسيطر على نفسي، أتماسك، لا يبدو عليَّ شيء مما بداخلي، أعرف أنه ينقل أوامر رؤسائه، شعرت أن جسدي يثقل، لا يطيعني، وما يشبه التنميل يسري في أطرافي، بدت كل الأشياء — أمام عيني — سخيفة، ومملة، وأني مثل طائر عاجز عن الطيران.
ألقيت نظرة شاردة — من وراء قضبان نافذة المطبخ — على الساحة الترابية الصغيرة، خلف البيت.
إلى أين؟
هل تفارقني جنات؟ كيف أحيا بدونها؟ هل يتاح لي السكن في شقة كأنها دنيا صغيرة، لا صلة لها بالعالم من حولها؟ جزيرة يلامس أطرافها موج البحر، وإن ظلَّت في عزلة عنه؟
جنات وحدها تملأ حياتي، الأسئلة المشفقة، الإنصات، العين التي تكشف ما بالنفس، تهون، أو تدين، أو تنصح بالفعل الصحيح؟
لا أتصور أنه سيأتي وقتٌ لا أراها فيه.
ماذا يمكن أن أعانيه أو أواجهه، لو لم تكن جنات في حياتي؟ لو أنها لم تقدم الود وكلمات النصح؟
غابت التصورات عن علاقة بيني وبينها، تلاشت، لا أتوق إليها، لكنني سأفتقد الفهم والإحساس الدافئ والحنان.
هل يختفي ذلك كله، فأعود إلى ما تصوَّرت أني فارقته، يحدث ما يقطع الهدوء الذي أعيشه في القاهرة؟
لم يكن قلقًا ولا خوفًا ولا يأسًا، هو أقوى من ذلك كله، شعرت أني فقدت ما يربطني بما حولي، بدت الحياة بلا معنًى، والدنيا كريهة، لا تحتمل.
فكرت في أن أفعل شيئًا، أي شيء، للتخلص مما أعانيه.
لم أقدر الاحتمالات ولا النتائج، بدا ما سأقدم عليه حلًّا وحيدًا، ينهي الإحباط والفشل والقلق والخوف والمشاعر التي تجعل الحياة مستحيلة.
عاودني الخاطر من قبل، أجد فيه خلاصًا من متاعب كثيرة، ما لا أستطيع التغلب عليه.
قفزت الفكرة إلى ذهني — ذات عصر — وأنا أميل من شارع إبراهيم اللقاني إلى شارع الأهرام، خاطرة وامضة تداخلت في انشغالي بإعداد ما تختزنه الثلاجة، جاءت الفكرة — بعد ذلك — في العديد من المواقف، وتلاشت، ثم عاودتني في مواقف أخرى، ألحت كأنها لن تفارقني، بدا العالم ضيقًا وسخيفًا.
كيف تفطن جنات إلى فعلتي؟
تطرق الباب، فلا أرد، يسألون في السنترال، تضيف إلى السؤال — وهي تضغط الجرس — قلقًا، تطل من نافذة المنور، تتأكد أني لم أفتح نافذتي المجاورة.
لن يحزن من يعرفونني، أو أنهم سيتأثرون قليلًا؛ لأن معرفتي بهم عابرة، صمتي في جلسات السنترال لن يخلف ما يستعيدونه.
حتى جنات، قد أسبب لحياتها ارتباكًا، وربما تغضبها فعلتي، أو يحزنها اختفائي من هذه الدنيا، تحزن لذلك الطارئ في حياتها، ثم تنسى رقدتي على طاولة التشريح في المستشفى، أو في مقابر الصدقة. ارتباكي الدائم قد يظل في ذاكرتها أيامًا قليلة، ثم تنسى.
تناولت حبات التريبتزول من فوق الكومودينو، فككتها، تأملتها على راحة يدي، أزمعت أن أهمل الإرشادات، حبة واحدة كل مساء، عشرين حبة أجرعها دفعة واحدة، وينتهي الأمر، لا منار ولا كوثر ولا فردوس ولا مها، ولا خوف أو قلق أو مؤامرات أو عنف أعجز عن مواجهته، لا توقعات بلا نهاية. حتى تحذيرات جنات ونصائحها، بلا قيمة، أشبه بالنصائح التي يردِّدها الشيخ لمن وسد التراب.
قربت الحبات من فمي، أذكر قول الصيدلي: حبة واحدة تكفي. أذكر تحذيرات الروشتة: لا يصرف، ولا يكرر صرفه، إلا بتعليمات الطبيب.
أغمضت عينَيَّ، حاولت مغالبة ارتعاشة الشفتَين، ثم أهملت تساقط الحبات من يدي.
مصر الجديدة – ديسمبر ۲۰۱۳