البحث عن رجل مجهول!
كان قرص الشمس النحاسي يختفي شيئًا فشيئًا خلف الأفق العربي، ولم يكن هناك صوت، كان هناك نوع من الصمت يغطي كل شيء، في الوقت الذي كان الشياطين يجلسون في الشرفة الزجاجية العريضة في المقر السري، وقد استسلموا تمامًا لهذه اللحظة الرائعة. بعد قليل اختفت الشمس تمامًا، ولم تترك خلفها سوى ذيول متعددة الألوان، بين البرتقالي والأحمر، الذي يتدرج في ألوانه المتعددة، حتى يصل إلى لون شفاف، لا يكاد يظهر، بعدها بقليل كانت هذه الألوان تختفي هي الأخرى، ليحل محلها لون رمادي، يصبغ كل شيء، في الوقت الذي أخذت فيه تفاصيل الأشياء تختفي هي الأخرى، ثم تتحول إلى كتلة رمادية ثم إلى كتلة تميل إلى السواد، حتى أصبحت سوداء. كان الليل يغطي كل شيء الآن، تحت عباءة الصمت الممتد … قالت «إلهام»: إنها لحظة شاعرية، لو أني أكتب الشعر، لكنت كتبت قصيدة عن الغروب، داخل هذه اللوحة الجميلة.
ابتسمت «زبيدة» وهي تقول: إن «فهد» يكتب الشعر … ولا أدري، لماذا لا يكتب شعرًا في هذه اللوحة الطبيعية التي تعجز فرشاة أي فنان عن رسمها!
كان «فهد» شاردًا وكأنه يفكر في شيء، إلا أن جرسًا متقطعًا خافتًا انتشل الجميع من لحظتهم الشاعرية …
فقال «مصباح»: يبدو أن الإجازة قد بدأت.
ابتسم «بو عمير» قائلًا: نعم، لقد تعبنا من طول الانتظار هنا.
وفي هدوء، كانوا يتسللون الواحد بعد الآخر، في طريقهم إلى قاعة الاجتماعات، فقد كان الجرس المتقطع يعني دعوة رقم «صفر» لهم. في دقائق قليلة كانوا جميعا يجلسون في القاعة الكبرى في انتظار تعليمات رقم «صفر». مرت دقائق دون أن يبدو أن شيئًا سوف يحدث سريعًا …
غير أن صوت رقم «صفر» جاءهم يقول: لا بأس من الانتظار قليلًا … إنني في الطريق إليكم!
ومع نهاية كلماته كانت الخريطة الإلكترونية تظهر. التقت أعينهم جميعًا فوقها. لم تكن أي تفاصيل قد ظهرت، لكنهم ظلوا معلقين أنظارهم نحوها، فهم يعرفون أن الخريطة هي دائمًا بداية كل مغامرة.
بعد لحظات ظهرت خريطة كاملة لآسيا. أكبر قارة بين قارات الدنيا الخمس. بعد ثوانٍ، أخذت أطراف الخريطة تختفي شيئًا فشيئًا، في نفس الوقت الذي كانت تتأكد فيه مساحة معينة عرفوا أنها «الهند»، فهي تتميز بهذا الشكل المثلث. بعد قليل، بدأت التفاصيل تظهر فوق خريطة «الهند»، الغارقة في مياه المحيط الهندي … لحظة أخرى، ثم خرج سهم أحمر، دار دورة كاملة فوق مساحة محددة فوق الخريطة. كانت المساحة يغطيها اللون الأخضر، فعرف الشياطين أن هذه هي صحراء «ثار»، وعلى حدودها لمعت دائرة تشير إلى «دلهي» عاصمة «الهند». وفي الطريق الغربي ظهرت دائرة أخرى أصغر، هي مدينة «جوبور». غير أن التفاصيل على الخريطة كانت غامضة، فهي لم تكن تعني أي شيء الآن، فقد تكون المغامرة في «دلهي» أو «جوبور» أو مياه المحيط، كما أنها يمكن أن تكون في الصحراء. هناك احتمال أيضًا، أن تكون هذه الأماكن كلها هي أرض المغامرة، وإن كان الشياطين قد استبعدوا ذلك.
مرة أخرى جاء صوت رقم «صفر» يقول: أعرف أنكم تريدون تحديد المكان. سكت لحظة، بينما كان صوت أقدامه يقترب منهم أكثر فأكثر، حتى توقف أمامهم تمامًا، رحَّب بهم ثم قال: إن مكان المغامرة هو صحراء «ثار»، وإن كانت هناك غرف عمليات للعصابة موجودة في «جوبور». لقد قصدت أن تكون الخريطة كاملة، حتى تعرفون حركتكم جيدًا. وحتى يكون لديكم فرصة التفكير …
سكت مرة أخرى، ثم قال: إن مغامرتكم الجديدة، لها خطوتان. خطوة أولى تحتاج فقط إلى واحد منكم، فإذا نجح تكون المغامرة قد بدأت، وساعتها نبدأ الخطوة الثانية وفيها تنضم مجموعة منكم إليه.
كان الشياطين يستمعون إليه بتركيز شديد، وعندما قال إن الخطوة الأولى تحتاج إلى فرد واحد، تمنَّى كل واحد منهم أن يكون هو صاحب الخطوة الأولى.
جاء صوت رقم «صفر» يقطع تفكيرهم: إن المغامرة غامضة تمامًا، فالعملاء لم يستطيعوا حتى الآن الوصول إلى تفاصيل كثيرة، إن ما لدينا من معلومات تقول: إن هناك خزانة مدفونة في صحراء «ثار». وهذه الخزانة بها خرائط سرية تحمل خطة الدفاع عن منطقة الشرق الأوسط.
سكت رقم «صفر»، في الوقت الذي بدأ فيه الشياطين يفكرون بسرعة؛ إن صحراء «ثار» تمتد إلى مسافات شاسعة، وما دامت المعلومات غير متوفرة، فإن الوصول إليها يكون صعبًا للغاية … إن لم يكن مستحيلًا … وهذه الخرائط السرية شديدة الأهمية ما دامت تحمل خططًا للدفاع عن الشرق الأوسط، وهذا يعني أن الحصول عليها شديد الأهمية.
مرة أخرى، تحدث رقم «صفر»: هذه الخرائط كانت معدة منذ الحرب العالمية الثانية، وعندما قامت الحرب، واشتعل العالم كله، اختفت الخرائط، غير أن أجهزتنا بالبحث عرفت أنها وُضِعت في خزانة، وهذه الخزانة مدفونة في رمال صحراء «ثار». لقد أخفتها جهة ما هناك، حتى تعود إليها بعد نهاية الحرب. لقد انتهى القائد العسكري الذي قام بإخفائها خلال الحرب، فظل مكانها مجهولًا؛ إلا أن عصابة «سادة العالم» عثرت على مفكرة القائد العسكري، الذي كان قد كتب فيها بعض الملاحظات عن الخزانة، واستطاعت أن تحدد مكانها.
سكت الزعيم، في الوقت الذي كان الشياطين قد أعملوا فكرهم مع كلماته، إلا أنه قطع عليهم التفكير عندما واصل كلامه، قائلًا: إن هناك من سيقوم الليلة من «باريس» في طريقه إلى مدينة «جوبور»، حيث توجد غرفة عمليات العصابة: إننا لا نعرف عن هذا الرجل شيئًا سوى موعد الطائرة، ورقم الرحلة، وهذا الرجل هو وحده الذي يعرف المكان المحدد للخزانة، وسوف يصل إلى «جوبور» حيث تبدأ عملية البحث في الصحراء. سكت قليلًا، ثم أضاف: إن الخطوة الأولى في المغامرة هي معرفة هذا الرجل، الذي لا نعرف عنه شيئًا، لا اسمه، ولا شكله، فإذا عرفناه، تبدأ الخطوة الثانية في المغامرة، فالمؤكد أنه لن يكون وحده في الصحراء …
مرت لحظات صمت كان الشياطين خلالها ينتظرون تحديد من يبدأ الخطوة الأولى، قال رقم «صفر»: سوف يقوم «أحمد» بمهمة الخطوة الأولى.
عندما سكت رقم «صفر» استقرت العيون كلها على «أحمد»، الذي ابتسم ابتسامة صغيرة.
قال رقم «صفر»: إن الطائرة أقلعت من «باريس» فعلًا ومنذ عشر دقائق، ورقم الرحلة هو٦٤٢. إن الوقت لا يزال أمام «أحمد» ليبدأ خطوته. وسوف نكون في انتظار أن يرسل إلينا لتبدأ الخطوة الثانية، فهو وحده الذي سيعرف، ماذا تحتاج المغامرة. سكت قليلًا، ثم أضاف: ليس عندي ما سأقوله، إلا أنني أتمنى ﻟ «أحمد» التوفيق في مهمته الصعبة، فهو سوف يتجه إلى المجهول، الذي لا يعرف عنه شيئًا وعليه أن يكتشفه.
وعندما سكت هذه المرة، كانت خطواته تبتعد حتى اختفت.
تحرك الشياطين حول «أحمد» الذي وقف، يقول: سوف يكون استدعاؤكم أسرع مما تتصورون!
وفي دقائق، كانوا جميعًا قد غادروا القاعة في طريقهم إلى حجراتهم، وكان أول من خرج هو «أحمد» الذي اتجه إلى حجرته ليعد حقيبته السحرية، وليسرع مغادرًا المقر السري، حتى يكون في انتظار ذلك المجهول الذي سوف يبحث عنه … في الحجرة فكر «أحمد» قليلًا قبل أن يخطو خطوته الأخيرة للخروج. كان يفكر في هذه المغامرة المثيرة، فهذه أول مرة تبدأ عملية بحث بلا معلومات.
عندما فتح باب الحجرة توقف وابتسم. لقد كانت هناك رسالة على شاشة التليفزيون، بإمضاء الشياطين، تقول: نتمنى لك التوفيق في المهمة التي نعرف أنها ليست صعبة عليك.
عاد مرة أخرى، وأرسل إليهم رسالة تقول: أشكر لكم ثقتكم. أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم. إلى اللقاء قريبًا. توقيع «أحمد».
بعد دقائق كانت البوابة الصخرية للمقر السري قد فتحت، في نفس اللحظة التي انطلقت فيها السيارة تضم لأول مرة «أحمد» وحده. وعندما أُغلقت البوابات بصوتها المكتوم كان الليل يحتضن السيارة التي كانت منطلقة كالصاروخ.
وعندما وصل «أحمد» إلى المطار كانت نصف ساعة ما زالت باقية حتى تصل الطائرة القادمة من «باريس». غادر السيارة إلى حيث بائع الجرائد، فاشترى بعض الجرائد، ثم جلس على أحد الكراسي، في انتظار الطائرة، استغرق في القراءة، بعد أن شمل الصالة الواسعة بنظرة سريعة، فهو لم يكن يريد منها شيئًا. إن مهمته محددة في الطائرة، حيث ذلك المسافر المجهول.
في إحدى الجرائد استوقفه مقال عن الحرب العالمية الثالثة. ابتسم وهو يقول لنفسه: إنها حرب أخيرة، فليست بعدها حرب رابعة؛ لأنها حرب الدمار الكامل للعالم كله!
كان المقال يتناول تسليح القوتين الأعظم، وما تملكه كل منهما من صواريخ عابرة للقارات، ورءوس نووية، وأجهزة إنذار مبكر، وأجهزة تجسس، والقوة التدميرية في كل سلاح، والوقت الذي تستغرقه الحرب، وآثارها.
فجأة، تردد في صالة المطار صوت مذيعته الداخلية تعلن أن الطائرة القادمة من باريس في الرحلة ٦٤٢ قد وصلت الآن، وأن على المسافرين إلى «دلهي» أن يتوجهوا إليها. أخذ جرائده، واتجه في هدوء إلى بوابة الدخول إلى أرض المطار. وفوق البوابة، وقعت عيناه على ساعة رقمية، وكانت تشير إلى الحادية عشرة مساءً.
اتجه إلى الطائرة، التي كانت تقف، وقد أضاءتها لمبات متناثرة فوق جسمها الضخم. لم يكن وحده المتجه إليها. كان هناك أيضًا بعض الركاب، وعندما استقر على مقعده نظر بجواره، ولم يكن أحد على المقعد. قال في نفسه: إن رفيقًا في السفر يمكن أن يسلي الطريق.
انتظر لحظات أخرى لعل أحدًا يصل إلى الكرسي الخالي إلا أن أحدًا لم يصل. بعد قليل قالت مذيعة الطائرة: إننا سوف نطير بعد ثلاث دقائق. نرجو من السادة الركاب أن يربطوا الأحزمة. وعندما انتهت الدقائق الثلاثة كانت الطائرة قد تحركت فعلًا، وما هي إلا دقائق حتى كانت ترتفع لتأخذ مسارها، وعندما استقرت قالت المذيعة: يمكنكم الآن فك الأحزمة.
كان «أحمد» ما يزال جالسًا وحده، ألقى نظرة سريعة على الركاب حوله، كانوا جميعًا قد استغرقوا في النوم، في الوقت الذي كانت فيه الطائرة قد خفضت الإضاءة وتركت كل راكب يضيء المصباح القريب منه، إن كان يريد ذلك. مضت نصف ساعة، وبدأ «أحمد» يشعر بالرغبة في النوم، إلا أنه كان يعرف أن مهمته يجب أن تبدأ الآن. قام من مكانه، متجهًا إلى دورة المياه في نهاية الطائرة.
كان يريد أن يعطي نفسه فرصة، أن يرى الركاب جميعًا، فقد كان مقعده في مقدمة الطائرة، كان يمشي ببطء، في نفس الوقت الذي كانت عيناه تمر بسرعة على وجوه الركاب الذين كانوا جميعًا يغطون في النوم.
عاد مرة أخرى إلى مكانه، ثم جلس. أسند رأسه على مسند المقعد، لكنه فجأة، رفع رأسه إلى اليمين، فقد كان هناك سهم يأخذ طريقه إليه.