المنظر الأول
(مع بدء الإضاءة التدريجية، يدخل الموكب (آدم والشجر) من يسار المسرح
وكأنما من باب رمزي للمدينة الغريبة؛ حيث البيوت والمباني تتراءى وقد بُنيت بأشكال
مقتبَسة من أشكال النباتات والزهور وأصناف الحيوانات الجميلة، كذلك كل متعلقات المدينة
من فوانيس إضاءة تنتهي بدل المصابيح بأزهار مختلفة الأشكال تمتص أشعة الشمس بالنهار
وتُضيء بالليل، وسائل المواصلات تقوم بها مركبات على هيئة طيور.)
الجميزة
(صوتها قد تغير وإن لم يتغير شكلها وأصبح صوت رجل، ونفس
الشيء حدث للأشجار الأخرى)
:
مهمتنا هنا انتهت.
آدم
:
وأنا أعمل إيه؟
التوتة
:
دي مسائل ما نعرفهاش.
آدم
:
أمال الأوامر اللي عندكم إيه؟
النخلة
(بصوت صبي مراهق)
:
لغاية هنا نسيبك.
آدم
:
تسيبوني ازاي؟
الجميزة
:
انتظر الأوامر.
آدم
:
أوامر إيه؟ مش كفاية انتظار؟
الجميزة
:
الوداع.
آدم
:
أرجوكم.
الجميع
:
الوداع.
(ويتركونه واقفًا ويستديرون خارجين.)
آدم
(يرمقهم ويقول بسخرية)
:
الوداع.
(تبدأ موسيقى على هيئة صوصوة عصافير وما إن يبدأ آدم ينصت إليها
ويستغرقه الإنصات حتى يُقبل كلب ضخم له رأس كلب وذيل خروف من خلف آدم، يمشي بضع
خطوات ثم فجأة يُطلِق هبهبة عالية يقفز لها آدم رعبًا ويَلتفِت إلى مصدر الصوت
ويبدأ يتراجع بظهره والكلب يتقدم وهو لا يزال يُهبهب هبهبة عالية مرعبة، ويستمر
آدم
في تراجعه ولكن الكلب يتوقف فجأة، ويكف عن النباح ويُحدق في آدم، آدم يتوقف هو
الآخر حائرًا ماذا يفعل وما هي الخطوة القادمة، فجأة يقف الكلب على ساقَيه
الخلفيتين ويعتدل تمامًا كأنه إنسان وهو يُقهقه قهقهةً عالية.)
الكلب الخروف
:
إنت خُفت؟
(آدم يهز رأسه بشدة غير مصدِّق ويستعد للنطق، يفتح فمه فعلًا
لكن لا يخرج عنه صوت.)
الكلب الخروف
:
دا انت لسة خايف، ما تخافش (يتقدم ناحيته فيبدأ آدم
يتراجع فورًا).
ما تخافش باقولك، الله، ح تقف ولَّا أهبهب لك تاني وأمشي لك على أربع (يقف آدم ويقترب الكلب وينكمش على نفسه، فيمدُّ الكلب يده
ويَخبطه على كتفه خبطة قوية).
بطَّل خوف ما تخلنيش أحس بتأنيب ضمير، أنا قلت أهزر معاك تقوم تقلبها جد،
وريني نبضك (يتحسس نبضه) لا حول الله، مية
وستين في الدقيقة، أنا آسف، آسف جدًّا، أرجوك سامحني لاحسن أعاقب نفسي بشدة
وارجع كلب.
آدم
(مقاطعًا)
:
لا لا لا، أرجوك، إوعى تعملها.
الكلب
:
الحمد لله، آدي انت نطقت.
آدم
:
طب روح بقى الله يسامحك.
الكلب
:
أروح فين إن شاء الله، هو أنا واقف ألعب؟ أنا واقف معاك أشتغل.
آدم
:
تشتغل إيه؟
الكلب
:
مرافق لغاية ما بسلامته يجي.
آدم
:
بسلامته مين؟
الكلب
:
هو مفروض صحيح إني ما أقولكشي، إنما ما دام خضيتك ح ابقى طيب زي المرحوم
أبويا الخروف وأقول لك، هما ها يخدوك قصر السندسي.
آدم
:
لازم دا القصر بتاع هي؟
الكلب
:
لا وانت الصادق، دا بتاع العالم.
آدم
:
العالم؟ يبقى مين ده؟
الكلب
:
أهو انت ح تضحَّكني أهو، الأستاذ العالم، حد ما يعرفوش؟
آدم
:
وياخدوني عنده ليه الأستاذ العالم ده؟
الكلب
:
أهي دي لا يمكن أقولها.
آدم
:
ح تقولها ولا أخللي ضميرك يأنبك تاني وأخاف؟
الكلب
:
وهي سر يعني؟ أقولها وأمري إلى الله، أصل العالم ده ما بيعوزشي حد لله في
لله، دا عمر ما حد دخَّل له شيء وطلع نفس الشيء، الفرخة تطلع متجوِّزة فار،
التعلب يطلع من عنده طيِّب زي الحمار، أمي الكلبة الوولف دخلت عنده طلعت حامل
من أبويا الخروف فيَّ.
آدم
:
بقي عشان كدة عايزني؟ بقى جايبني من آخر الدنيا عشان يعملوا عليَّ تجربة، أنا
العالم اللي باعمل تجارب ع الفيران، أبقى بجلالة قدري فار تجارب؟ دا مستحيل،
أنا راجع.
(يندفع آدم من حيث دخل المسرح.)
الكلب
:
إنت حاتقف مطرحك ولا أندهلك أمي؟ اعمل حسابك، هي لسه كلبة وولف زي ما هي
وعندها صحة تقرقش الزلط.
آدم
:
أنا راجع.
الكلب
:
يا امَّه (ثم يهبهب، تجيب على هبهبته هبهبة خشنة
مروعة من الخارج) سمعت؟
آدم
:
اعمل معروف أنا عندي عقدة من الكلاب، ترضى إن واحد زيي يبقى فار
تجارب؟
الكلب
:
ومين قال إنك ح تبقى فار؟ ما يمكن تبقى قط ولَّا نسناس أدي انت فيك شبه منه،
وبيني وبينك كله محصل بعضه، إنما تأكد إنك مش ممكن ح تخرج من عنده زي ما دخلت،
تعالى مكانك (يجذبه فيقاوم آدم) يا امه
(يهبهب فتُجيبه الهبهبة
السابقة).
آدم
:
يا سيدنا بقولك لك بخاف م الكلاب.
الكلب
:
يبقى ما تتحرَّكش من مطرحك.
(يَثبتان في مكانهما بينما تعود موسيقى العصافير تعزف حتى يظلم
المشهد علامة مجيء الليل ولا يبقى مضيئًا إلا أضواء المدينة المبعثرة.)
(من زاوية المسرح الداخلية اليمنى يظهر كائن سيريالي يعبق
برائحة الفل ويَنتقِل في خطو راقص بينما يشع بضوء داخلي متغير متعاقب له نفس وقع
الخطو، يتجه إلى حيث آدم واقف، آدم يتراجع مأخوذًا.)
الكائن
:
من فضلك ما تخافش … تسمَح ما تخافش.
آدم
:
أنا مش خايف.
الكائن
:
ما هو لو خفت مني حا اخاف منك … أقف وبطل خوف أرجوك.
آدم
:
أديني وقفت.
الكائن
:
أيوة كدة … أنا دلوقتي ابتديت أنا راخر اطَّمن.
آدم
:
إنت مرَّة ست ومرَّة راجل صوتُه رفيع، ومرة تخين.
الكائن
(بصوت طفل)
:
أبيه … بجد … أنا صوتي كدة.
آدم
:
الله، ومرة طفل … إنت … قصدي انتي … يوه، إنتو حكايتكو إيه بالظبط؟
(يسمع صوت مأمأة خروف.)
آدم
(للكائن)
:
وبتمأمأ كمان؟
الكائن
:
لأ، مش أنا ده.
(تأتي مأمأة أخرى يكتشف الاثنان أن مصدرها هو الكلب الخروف الذي
كان قد استسلم للنوم منذ أمد بعيد، والذي يصحو فجأة كالمستيقظ من كابوس.)
الكلب
:
لازم هرب، رحت في داهيه يا خروف الكلب، كدة يابا تعملها فيَّ وتجيني في الحلم
جعان وعايز برسيم وأقعد أدوَّر لك عليه لغاية ما أول عمل محترم أعمله في حياتي
يضيع.
آدم
:
أنا ما هربتش أنا أهه.
الكائن
(بمجموعة أصوات)
:
وأنا أهه جيت آخده.
الكلب
:
يبقى المهمة انتهت وسيبوني بقى أرجع أدور للمرحوم أبويا الخروف على برسيم
(يعود للنوم وهو يُمأمئ بخفوت).
آدم
:
لهو انت اللي جاي تاخدني قصر السندس للعالم؟
الكائن
:
وعرفت منين دا كله، دا أنا نفسي ما اعرفشي إلا أننا رايحين القصر بس، عرفت
منين؟
آدم
:
عرفت وخلاص.
الكائن
:
خلاص ازاي؟ دي لازم حيتعملها تحقيق.
آدم
:
خلينا فيك انت، إنت كام واحد في بعض؟ وشكلك ما له كدة؟ إيه النور ده وريحة
الفل اللي عبقت الدنيا من ساعة ما دخلت، إنت إيه؟ نبات ولَّا حيوان ولَّا من ده
على ده؟
الكائن
:
أنا الكائن الجديد، أنا أحدث كائن اتخلق هنا، أنا اتخلقت علشان آجي
آخدك.
آدم
:
اتخلقت ولَّا اتولدت؟
الكائن
:
اتخلقت.
آدم
:
اتخلقت يعني من ما فيش؟
الكائن
:
وهو فيه حاجة بتتخلق يا دكتور آدم من ما فيش؟
آدم
:
وحكيم كمان؟ وعارف أنا مين؟ اتخلفت ازاي بقى؟
الكائن
:
سقط شعاع من نور نجمة الفجر على زهرة فُل في لحظة كان بيغنِّي فيها كروان،
حصل بين التلاتة استلطاف وتواؤم وراحوا متجانسين على طول فاتخلقت أنا.
آدم
:
وحتى التزاوج هنا ممكن يحصل بين ٣ والدين؟
الكائن
:
احتمالات التواؤم والتجانس مالهاش حدود، دا أنا سايب أخويا اللي جه بعدي،
حالة تواؤم مع كائنة، حتة دين كائنة اتخلقَت من لحظة شوق تواءمت مع قطرة ندا
وشقاوة طفل وصدر حنون، تصور بقى لما أخويا يخلَّف منها ح يجيب إيه؟ كائنات
زمانية مكانية جمادية حيوانية مستقبلية ماضية ضوئية موسيقية ليها برضه ريحة
الفل.
آدم
:
أنا قطعًا لازم باحلم.
الكائن
:
ما افتكرش، أحلامك نفسها مش ممكن توصل للمدى ده.
آدم
:
ويا ترى حكمتك دي جبتها منين؟ من التلات والدين برضه؟
الكائن
:
لأ دي من جهدي أنا، قبل ما أجيلك فُت على مدرسة الحضارة.
آدم
:
الحضانة؟
الكائن
:
الحضارة بقول لك، وهناك سمعت التلات سيمفونيات اللي وصلوني للمرحلة التالتة
من المعرفة.
آدم
:
بتقول إيه؟
الكائن
(مواصلًا كلامه)
:
السيمفونية الأولى معزوف بيها تاريخنا، والتانية تسمعها تكسب كل معارفنا،
والتالتة بتحوي كل شيء عنكم.
آدم
:
عننا … قصدك مين؟
الكائن
:
عن جنسكم.
آدم
:
البني آدمين يعني سكان الأرض؟
الكائن
:
أيوة أو بالأصح إللي بيسموا نفسهم بني آدمين.
آدم
:
يعني انت دلوقتي عارف انتو مين، وجيتوا منين، من أنهي كوكب بقى جيتو؟ لازم من
مجموعة شمسية تانية.
الكائن
:
احنا جايين من الكوكب ده، من الأرض.
آدم
:
يعني المدينة دي بناسها وكائناتها ومخلوقاتها وكل الغرائب إللي فيها من
الأرض؟ إنت عايز تضحك على مين فينا؟
الكائن
:
أنا مش جاي أضحك، احنا ورانا مهمة والوقت أزف والمسافة بعيدة.
آدم
:
وراك أنت، أنا مش جاي، دوروا لكم على حيوان تجارب غيري.
الكائن
:
إنت قطعًا ضحية معلومات غلط، جبتها منين؟ أأكد لك أن حد حب يهزَّر معاك وحط
في دماغك كل الكلام ده، إنت جاي هنا عشان أعظم مهمة عُهد بها لبشر ومتصور إنك
جاي حيوان تجارب.
آدم
:
أمال جايبني ليه؟ لازم أعرف دلوقتي حالًا إيه المهمة اللي عمر ما عُهد بيها
لبشر دي قبل ما انتقل من مكاني.
الكائن
:
وإذا كان عشان تعرفها لازم تيجي معايا، تيجي ولا ما تجيش؟
آدم
:
ذنبي على جنبي أنا حا افضل ورا المجهول لما يجيب داغي، هي المسافة
بعيدة؟
الكائن
:
احنا حانخترق المدينة.
آدم
:
والمدينة كبيرة؟
الكائن
:
بالمشي تخترقها في أسبوع.
آدم
:
حا امشي تاني؟ دا لا يمكن، أنا الجزمة دابت من المشي، خلاص ما اقدرشي أتحرك
خطوة.
الكائن
:
ومين قال إننا حانمشي؟
آدم
:
أمال حانوصل ازاي؟ حانطير؟
الكائن
:
أيوة حانطير.
آدم
:
هو فيه طيارات؟
الكائن
:
ولزومها إيه؟
آدم
:
أمال حانطير ازاي؟
الكائن
:
إحنا حانطير.
آدم
:
إنت تطير معلهش، إنما أنا أطير ازاي؟
الكائن
:
زيك زي أي حاجة بتطير، تطير زي الفراشة ما بتطير زي العصفورة ما بتطير، زي
السحاب.
آدم
:
بس أنا بني آدم تقيل جسمه اتخلق للمشي، ما اعرفشي أطير.
الكائن
:
بسيطة، ما تعرفشي اعرف، طير.
آدم
:
يا ريت.
الكائن
:
لو عزت حاتطير.
آدم
:
كدة؟ أقول عايز أطير … أطير؟
الكائن
:
بالضبط كدة.
آدم
:
طب هه، أنا عايز أطير، نفسي موت أطير، شفت بقى … ولا حاجة حصلت.
(يكون قد ارتفع فعلًا عن الأرض.)
الله، دا إيه ده، دا أنا باطير فعلًا، أنا طرت، دا معقول ده؟ أنا
باطير.
(يكون قد بدا كما لو كان يرتفع في الهواء بتأثير الإضاءة
البنفسجية والكائن بجواره وبعد وصولهما إلى علوٍّ مناسب يبدآن يتجهان ناحية الزاوية
اليُمنى الداخلية للمسرح كما لو كانا يقطعان سماء المدينة التي تبدو أضواؤها أسفلهم
في خلفية المسرح التي تتحرَّك في الاتجاه المضاد.)
الكائن
:
شفت بقى المسألة سهلة ازاي.
آدم
:
سهلة إيه؟ ضروري عناصر من عندكم تدخلت، هو معقول أنا لوحدي أطير؟
الكائن
:
إوعى تآمن بكلامك ده لحسن تبص تلاقيك واقع مقطومة رقبتك، اللي انت مش قادر
تتصوره هو بجد الحقيقة، إنت بإرادتك بس طاير، ولو بطلت أو شكِّيت في إرادتك حا
تقع.
آدم
:
طب نغيَّر بقى الموضوع.
الكائن
:
بص اتفرج ع المدينة، احنا دلوقتي بالظبط فوق حي الطفولة، طفولة كل
شيء.
آدم
:
ألا بالمناسبة أنا من ساعة ما جيت هنا ما شفتش فيكو بني آدمين خالص، إنتو ما
عندكوش بني آدمين؟
الكائن
:
إزاي ما عندناش، أمال اللي عمل دا كله مين؟
آدم
:
طب هما فين أمال؟
الكائن
:
قلت لك أنا لسة جديد، أعرف للمرحلة التالتة بس.
آدم
:
بني آدمين م الأرض برضه، زينا زيهم؟
الكائن
:
هما بني آدمين، بس مش زيكم.
آدم
:
مش زينا ازاي، هو فيه بني آدمين تانيين؟
الكائن
:
طبعًا فيه … دول الجنس الإنساني الأرقى.
آدم
:
أمال احنا إيه؟
الكائن
:
إنتو الجنس الأقل رقيًّا.
آدم
:
احنا؟ اﻟ ٣٥٠٠ مليون بني آدم اللي ماليين الأرض، دول الجنس الأقل رقيًّا؟ فيه
غيرهم كمان جنس أرقى ما نعرفشي عنه حاجة؟ أرقى في إيه بقى؟
الكائن
:
لأنهم الإنسان، الإنسان الحقيقي.
آدم
:
أمال احنا إيه؟
الكائن
:
أنتم بشر صحيح، إنما دافعكم للحياة حيواني، البقاء عندكم للأقوى والأذكى
والأكثر إجرامًا، هم البقاء عندهم للأكثر إنسانية.
آدم
:
كلام غريب قوي، قصدك إيه بالإنسانية؟
الكائن
:
القدرة على التوافق والتعاطف والتواؤم والحب، دول النوع الأرقى اللي تطور من
الإنسان بتاعكم، زي الإنسان بتاعكم ما تطور من الحيوان.
آدم
:
مش قادر أصدقك قوي، التطور مستمر صحيح بس داخلنا إحنا، الإنسان الأرقى هو
إحنا برضه.
الكائن
:
مش ممكن يكون التطور داخلكم وإلا كانت القرود بقت الإنسان، التطور معناه خلق
نوع جديد خالص، وده اللي حصل فعلًا.
آدم
:
طب ما يبقى اتخلق فينا برضه؛ لأن احنا قادرين برضه على التواؤم والحب.
الكائن
:
مش صحيح، دا جنسكم مش قادر على حب نفسه حتى، ده هو الجنس الوحيد اللي تقريبًا
تلت أفراده بيقتلهم التلت التاني بينما التلت التالت قاعد يتفرج ومش مستنكر،
يعني في كدة أقل حتى من الحيوان، عمرك سمعت عن حمار قتَل حمار ولَّا ديب تربص
لديب وقتَله مع سبق الترصُّد والإصرار؟
آدم
:
بس مع كدة هو الجنس اللي عمَّر الأرض واكتشف قوانينها وسيطر على كل شيء
فيها.
الكائن
:
بس برضه للأسف هو اللي عمل كدة عشان يبتكر وسائل أذكى يحارب بيها بعضه، شايف،
آدي احنا بالضبط فوق المعبد.
آدم
:
المعبد؟ إنتو بتعبدوا إيه؟
الكائن
:
بنعبد بعض، كل شيء أو كائن فينا بيعبد الآخرين، سامع، دا أنا سامعهم بيغنوا،
دي باين الأغنية عليك، اسمع.
(تتناهى أصوات بعيدة تقترب، ترقص وتمرح وتردَّد الأغنية
التالية):
بالرقصة
بالضحكة
باللهفة
حيوا آدمنا،
حيوا الفارس.
•••
اليوم تجسد،
اللحظة جاء،
بالأمل الواسع جاء،
بالحب الدائم جاء،
بالعالم رحبًا جاء.
•••
في علاها تسعد هي،
في سماها تتقبل
من كل قلب نغمة،
من كل موجود إيمان.
•••
هي التي كانت،
هي من تدوم.
•••
بالرقصة
بالضحكة
باللهفة
حيوا آدمنا،
حيوا الفارس.
آدم
:
أنا الفارس والمُنقِذ؟ إيه الكلام ده؟ بيغنوا لي ليه؟
الكائن
:
وحياة «هي» ما أعرف.
آدم
:
أمال مين اللي يعرف؟
الكائن
:
مين عارف؟
آدم
:
هي «هي» الآلهة بتاعتكم؟
الكائن
:
إحنا ما عندناش آلهة.
آدم
:
أمال هي إيه؟
الكائن
:
الله أعلم.
آدم
:
ده مش معقول ده، أنا عايز حد أسأله ويُجاوبني، أنا قربت أتجنن.
الكائن
:
على العموم احنا قربنا نوصل، شايف النور اللي هناك ده؟ أهو ده قصر السندس،
نهاية رحلتنا، دلوقتي قلِّل الرغبة في الطيران، قلِّلها بس، مجرد قلِّلها،
واتبعني، احنا في طريقنا للهبوط.
(ستار)
المنظر الثاني
(صالة واسعة جدًّا، بكل سعة المسرح، مربعة أو دائرية تمامًا، عالية
الجدران، مفروشة بسجاد سميك أخضر كالسندس، فارغة تمامًا لا شيء فيها، مضاءة بضوء
مربع
ملون.)
(حين ترفع الستار نجد آدم واقفًا في منتصف الصالة تقريبًا في حالة ذهول يستمع إلى
نهاية لحن سيمفوني يبدو وكأنه يعزف من فرقة موسيقية غير مرئية تحتل الصالة.)
(يدخل العالِم نموذج لجمال سن الخمسين، مستقيم، جسده كالسيف، شعره مفلفل بالبياض
وكذلك ذقنه الكاملة الجميلة، يرتدي حُلَّة بيضاء ناصعة مقفولة عند الرقبة (كحلَّة
الصينيين) ويصفر بفمه نفس اللحن المعزوف حتى يَنتهي.)
العالم
:
عجبتك الموسيقى؟
آدم
:
أنا عمري ما سمعت حاجة بالشكل ده.
العالم
:
أصل مشترك في عزفها كل كائن حي أو غير حي موجود هنا، كل شيء كان في حالة
موسيقية عظمى ترحيبًا بك.
آدم
:
بي أنا؟ دا أنا عمري ما حد صفَّر لي حتى، إيه الحكاية؟ إيه الأهمية اللي
طلعتلي فجأة دي؟
العالم
:
دا أهمية كبيرة قوي، أعظم أهمية، أهمية عمر ما بشر حصلها.
آدم
:
كفاية بقى أرجوك، أنا مخي على وشك الانفجار، ده كتير قوي ده، أرجوك، إنت أول
بني آدم أقابله هنا، فأنت أولًا بني آدم صحيح؟ ولا حاجة تانية؟
العالم
:
مش باين عليَّ إني بني آدم؟
آدم
:
أنا عايز أتأكد، وكمان سؤال لو سمحت؟ إنت شبهنا خالص، فيا ترى أنت مننا بقى
ولا من الجنس الأرقى اللي بيقولوا عليه؟
العالم
:
يُدهشك إني أقول لك إني منكم.
آدم
:
يعني زيك زيي؟
العالم
:
زي زيك.
آدم
:
وهنا من زمان؟
العالم
:
من زمان قوي.
آدم
:
يعني أقدر أقول إني وصلت لشخصية ممكن أسألها وتجاوبني مش بتنفذ أوامر
وبس؟
العالم
:
من غير ما أبالغ في قيمتي الشخصية تقدر تعتبرني كدة.
آدم
:
طيب أقدر أسألك سؤال بايخ؟
العالم
:
اتفضل.
آدم
:
أنا صاحي وواعي ولا نايم وبحلم؟
العالم
:
أنت عندك شك إنك صاحي وواعي؟
آدم
:
ما هو اللي حيجنني إني ابتديت أشك في حواسي، أنا ما عنديش مانع أشوف الهوايل
إنما أبقى متأكِّد إني شايفها.
العالم
:
أؤكد لك إنك صاحي وواعي وفي كامل قواك العقلية.
آدم
:
مع احترامي لتأكيدك فأنا عايز دليل لا يَقبل الشك. (يعبث في جيبه ويستخرج سلسلة مفاتيح بها مطواة) الحمد لله المطوة
أهه.
(يغرس طرف المطواة في ظهر ساعده الأيسر ويَرفع وجهه
إلى أعلى ثم يسحبها بقوة فيَنبثق الدم ويصرخ): آه.
العالم
:
ليه تعمل في نفسك كدة؟ (يسرع إليه وبمنديل من جيبه
يُضمِّد الجرح ويَربطه) يعني لازم تتألم عشان تتأكد؟
آدم
:
لازم، الشك أفظع من الألم، أنا دلوقتي بس اتأكدت. (ينظر حوله) هو انتو في العالم الراقي ده لغيتوا الكراسي ولَّا
إيه؟
العالم
:
لغينا وجودها المستمر بس، إنما بإشارة يتوجد لك الكرسي اللي تحب تقعد عليه،
إيه الكرسي اللي بتفضَّل تقعد عليه؟
آدم
:
البانيو … أنا في حاجة ماسَّة لقَعدة البانيو.
(العالم يَبتسِم ويشير للحائط فينزلق منه بانيو.)
(يندفع آدم إلى البانيو ويتمدَّد فيه، وبعد أن يريح جسده
يقول):
وحضرتك مش ناوي تستريح؟ اتفضَّل اختار القعدة اللي تريحك.
العالم
:
أنا أفضل المرجيحة (يشير فتهبط مرجيحة من السقف، ثم
وهو يجلس عليها) أنا تحت أمرك، عندك أسئلة تانية.
آدم
:
إنتم عايزين مني إيه؟ وجايبيني هنا بالطريقة الغريبة دي ليه؟
العالم
:
إحنا جبناك؟
آدم
:
أمال أنا جيت لوحدي؟
العالم
:
طبعًا، مش انت اللي اخترت تيجي؟
آدم
:
فليكن أنا اللي جاي.
العالم
:
يبقى السؤال بقى احنا مش جبناك ليه، إنما حضرتك جاي ليه؟
آدم
:
والله عال، بقى بعد ده كله، بعد هوووه وعندك ميعاد العتبة وهي عايزاك، يطلع
الآخر أنا اللي لازم أعرف جاي ليه، أرجوك أنا مخي ما عدشي يستحمل، أنا في عرضك،
أنا حاسس إن النور بيصفَر، أنا فيه حاجة في دماغي بتصفَّر.
العالم
:
دي أعراض الجوع الشديد.
آدم
:
أنت ابن حلال فكَّرتني، دا أنا من الجوع نسيت إني جعان، أنا فعلًا حاسس
بأعراض الموت جوعًا.
العالم
:
يبقى أولًا تاكل، تحب تاكل إيه؟
آدم
:
أولًا أشوف أودة سفرة بعنيه، نروح السفرة الأول.
العالم
:
ونروح ليه، السفرة هي اللي تيجي.
(يشير لجزء من الحائط فيتحرَّك خارجًا على هيئة سفرة عليها اثنان سرفيس كاملان،
ينتفض آدم من مكانه ويقف عند طرف السفرة القريب منه، وحائرًا يتلفَّت ثم يندفع إلى
جزء من الحائط يَقبض عليه فيخرج على هيئة كرسي، يجلس وبسرعة يُحيط رقبته
بالفوطة.)
العالم
:
تحب تاكل إيه؟
آدم
:
يا سلام على ديك رومي بالخلطة مع النبيذ الفرنساوي.
العالم
:
بس كدة؟
آدم
:
دي البداية بس.
العالم
:
أنا بقى ح آخد شوربة خضار.
(آدم يتلفَّت حوله منتظرًا قدوم الشراب والطعام، خجلًا أن يسأل
أو يستعجل، العالم قد تركه لحيرته وانهمَك في شرب حساء وهمي من طبقه بالمِلعقة،
أخيرًا يتنحنح آدم فوق ظهر يده.)
العالم
:
آه … نسيت أقول لك … الأكل هنا زيه زي أي حاجة تانية خاضع لمجرَّد رغبة
الإنسان، الذرات اللي بتكون طعم الأكل بإرادتك تستدعيها.
آدم
:
يعني بعد الجوع ده كله آكل هوا؟
العالم
:
إن ما كنتش مصدق جرب، نفسك في إيه حالًا دلوقتي؟
آدم
:
قبل أي حاجة نفسي في كباية مية ساقعة جدًّا قزازها مضبب من كتر السقوعية،
الله الله، الله، دا بجد (يتكلم وكأنه يبلع الماء
ويستطعمه خلال كلامه) دا ميه بماء زهر زي ما بحبها بالضبط، دي
ساقعة بشكل، الله، دي سيلت على رقبتي، دخلت في عبي (يتململ ويكاد يقفز من لسْع الماء) كفاية ميه بقى، لايمونا على
صدر الديك، يا سلام، أما ديك، دلوقتي بس عرفت إننا كنا بناكل قبل كدة ديوك أبو
قردان، دا كأني عمري ما أكلت، عمري ما حسيت إن الأكل لذة بالشكل ده.
(يتركه العالم حتى يطفئ نوبة جوعِه الأول، وحين يبدو أنه
فعل.)
العالم
:
لسة حاسس إن النور بيصفَر والصوت بيزن في ودانك؟
آدم
:
دي كانت تخاريف الجوع.
العالم
:
أمال أنا بيتهيألي إن النور فعلًا بدأ يصفر وسامع صوت غريب بيزن على
طول.
آدم
:
تبقى لسة جعان، يا راجل كل، شوربة خضار إيه؟ خدلك كيلو كباب.
العالم
(مبتسمًا ومتأملًا جو الحجرة)
:
أنا أرجو أنه يكون من الجوع؛ لأنه لو ما كنش من الجوع يبقى معناه خطير
جدًّا.
آدم
:
أؤكدلك أنه من الجوع، بلاش المعاني الخطيرة دي وحياتك، أنا يدوبك رُوحي ردت،
أنا ما عادشي حتى يهمني انتو عايزينِّي ليه، إلا صحيح انتو عايزينِّي قوي كدة
ليه، أنا حموت من حب الاستطلاع.
العالم
:
بس قبل ما اقولَّك، لازم تكون اقتنعت معايا بشوية حاجات، إنت اقتنعت بالكلام
اللي قالهولك الكائن الجديد عن الجنس الأرقى؟
آدم
:
الحقيقة خدته على أد عقله، اللي أعرفه إن جنسنا هو أرقى الكائنات كلها وعمرنا
ما سمعنا إن البني آدمين نوعين، نوعنا، ونوع تاني أرقى.
العالم
:
إزاي ما سمعتش؟ إنتم مش عندكم قصة قابيل وهابيل؟ لما آدم خلف ولدين واحد غار
من التاني لأن ربنا قبل قربانه فقتله؟
آدم
:
ومن ما سمعشي عليها؟
العالم
:
كلنا سمعنا آه، بس حد فكر فيها، لو تأملتها شوية حتلاقي مين اللي قتل
التاني؟
آدم
:
قابيل قتل هابيل.
العالم
:
يعني اللي عاش هو القاتل، يعني الشرير وذريته هم اللي عاشوا بينما الطيب
المحبوب هابيل هو اللي انتهى وقتل.
آدم
:
دا معناها كدة صحيح.
العالم
:
وأخطر من كدة، يبقى معناها إن البشرية كلها من ذرية قابيل، إيه رأيك بقى لو
كان قابيل مش فرد إنما كان نوع وهابيل كان نوع، مش كان برضه يحصل اللي حصل
والنوع الشرير يبيد النوع الطيب وينفرد هو وذريته بالأرض؟
آدم
:
حسب الأسطورة آه.
العالم
:
وحسب الواقع برضه، المؤسف إن ده حصل فعلًا، المؤسف إن الجنس البشري اتخلق له
نوع أرقى فقام عليه نوعنا احنا وأفناه.
آدم
:
أمال ازاي بتقولوا إن المدينة دي عملها الجنس الأرقى؟
العالم
:
ده صحيح، المدينة دي عملتها قبيلة من الجنس الأرقى هربت من المذبحة من فجر
التاريخ وجت هنا وعملت المجتمع الإنساني الحقيقي.
آدم
:
مجتمع تاني غير مجتمعنا؟
العالم
:
مجتمعنا مجتمع حيوانات أذكيا جدًّا، المجتمع اللي عملوه قائم على أساس تاني،
الحيوان وعى بذاته بس فأحب ذاته، الإنسان وعى بكل شيء فكان لازم يحب كل شيء
ابتداءً من نفسه، بالقدرة على استقبال الحب وإعطاؤه، مش بذكاؤه، قدر يعرف ويدرك
أسرار الكون والطبيعة مباشرة مش عن طريق الذكاء إنما عن طريق الاندماج، وقدر
يوصل إنه يبقى مركز ومايسترو للحب في الكون زي الشمس ما هي مصدر النور.
آدم
:
لو بس الواحد يقدر يشوف حد منهم كان صدق، كل اللي باسمعه كلام في كلام، فين
الكائنات دي؟
العالم
:
للأسف انقرضوا همَّ رخرين.
آدم
:
إزاي بقى انقرضوا وهمَّ بعيد عن أي عدو؟
العالم
:
لأن زي ما كان اتجاه وجودنا إحنا إننا نبقى أكتر وأكتر وكان اتجاه وجودهم
إنهم يبقوا أندر وأندر، ومع كدة كانوا مستمرين في محاولة إصلاح جنسنا إحنا
وتغيير طبيعته الحيوانية، جيل ورا جيل كانوا بيبعتوا كتير منهم لينا يتقمصوا
شخصيات من جنسنا، كل الرسل والشعراء والمصلحين، كل الفن والموسيقى، كل الحاجات
اللي لولاها كانت حياتنا بقت صحراء قاحلة من الحقد، كان مصدرها هُمَّ، وكان
أصحابها بينتهوا وبيلاقوا نفس مصير الخير في مجتمع لا بقاء فيه إلا للشرير
الأقوى، انقرضوا أو كادوا.
آدم
:
كادوا ازاي؟
العالم
:
لأن اللي باقي من النوع الأرقى ده كائن واحد، آخر كائن، أو بالضبط «هي» اللي
طال شوقك عشان تعرف هي مين!
آدم
:
طب وليه هي رفضت إنها تنقرض؟
العالم
:
أنا.
آدم
:
إزاي انت؟
العالم
:
لأني على آخر لحظة قدرت اكتشف وجود النوع الأرقى ده وأنقذها من مصير جنسها
التعس، الله، دا النور فعلًا بيصفَر، مش شايف النور بيصفر؟
آدم
:
الحقيقة مش شايف.
العالم
:
طب اسمع كدة، مش سامع نشاز؟
آدم
(مصغيًا)
:
أبدًا.
العالم
:
دي أول مرة حاجة زي دي تحصل هنا، دي لو حصلت تبقى كارثة، دا معناها احتلال،
معناها مصدر الحب بيقِل، أو على الأقل بيبتعد، بقى معقول «هي» تهجر المدينة
وتسيبنا؟
آدم
:
وإذا هجرتها يعني يحصل إيه؟
العالم
:
دي يبقى ولا يوم القيامة، كل الظواهر والكائنات اللي انت شايفها تتجمِّد
وترتد ويرجع كل شيء كما كان، إنت أصغر مني بكتير وحواسك أحَد، أنا مُعتمِد على
حواسك، إنت متأكد إن ما فيش تغيير.
آدم
:
أنا مسئول، خلينا في المهم، بقى انت اللي اكتشفت الجنس الأرقى ده؟ لازم حضرتك
بقى عالم أنثروبولوجي؟
العالم
:
أبدًا، أنا أصلًا مش عالم.
آدم
:
أمال انت أصلًا إيه؟
العالم
:
قاتل.
آدم
:
قاتل؟!
العالم
:
أنا قابيل الحقيقي اللي قتَل أخوه.
آدم
:
أنا شبعت … سفرة دايمة (يخلع الفوطة ويغادر السفرة
ويخبط عليها فتعود إلى مكانها، وكذلك يخبط على البانيو، ويجلس على طرف
الكرسي المتبقِّي من السفرة جلسة تحفز).
يا شيخ خضيتني، أنا افتكرتك قتلت أخوك بجد.
العالم
:
ما أنا قتلته بجد، كان أبويا وأمي بيحبوه أكتر مني، وكلهم صدَّقوا إنه غرق في
البحر وما حدش أبدًا شك إني غرقته، ومن يوميها من سن تسع سنين وأنا قاعد أسأل
نفسي: إزاي قتلت أخويا وقتلته ليه، وعلشان أعرف الجواب درست واتعلمت وفضلت لما
بعد عشرين سنة اكتشفت إني قتلته لأني من جنس مش هو الإنسان، وإن لازم فيه جنس
إنساني أرقى عايش وموجود بس المشكلة نتصل به ازاي، كونت جمعية اسمها جمعية
تحضير الإنسان وبالتدريج والحماس وبكل ما نملك من قوة على الحب والتخلص من
الحقد قدرنا نكوِّن قطب حب جذب كائن من الجنس الآخر، طلع إنه «هي» وإنه آخر
سلالة هذا الجنس.
آدم
:
أقول لك إيه؟ بين الحقيقة والخيال حاجز رقيق اسمه المعقول، وأنا بجد عايز
أصدقك حتى لو شكيت في المعقول ده، أنا حاسس لأول مرة معاك إن فيه بين الحقيقة
والخيال انسجام كامل، ولو ماكنشي الحقيقة كدة فالأحسن إنها تكون كدة،
وبعدين؟
العالم
:
كان لا بد أمنع انقراض الجنس ده بأي وسيلة، وعشان كدة جيت هنا، وبعد طول
تفكير ما بقاش قُدامنا إلا حل واحد: أن يتم تزاوج بين هي وبين كائن من جنسنا
احنا فيه كل الصفات المناسبة؛ بحيث أن الناتج عن جوازهم يَصلح أب لجنس تالت
جديد، جنس، لا هو ملاك ينقرض، ولا شيطان يستشري.
آدم
:
حل معقول جدًّا وسهل كمان.
العالم
:
معقول جدًّا آه، إنما سهل مش سهل أبدًا، دا أصعب من الصعب، إزاي تلاقي بين
حوالي ألف مليون راجل في العالم، الشخص المناسب؟
آدم
:
مشكلة صحيح، أمال عملتو إيه؟
العالم
:
دلوقتي الصوت بقى واضح جدًّا، سامع؟
آدم
(مستمعًا)
:
الظاهر إن فيه حاجة بتزن فعلًا.
العالم
:
ده مش زن، دا أكيد اختلال في نظام التواؤم، والمؤكَّد أن النور بقى أصفر، مش
شايف صفاره؟
آدم
:
دا زي ما أكون دايخ م الجوع.
العالم
:
التواؤم بيتفكك، هي قطعًا بتبتعد.
آدم
:
يمكن ابتعاد مؤقت.
العالم
:
ما اعتقدش، ده ابتعاد مستمر، دا لازم بدأ من زمان من قبل ما تمر حنة ترتكب
خطيئتها، لو كان التواؤم كامل ساعتها ما كانش ممكن تتمرَّد بالشكل ده.
آدم
:
طب بس أرجوك، قدامنا وقت طويل نتناقش فيه، أنا دلوقتي عايز أعرف قدرتو فعلًا
توصلوا للشخص المناسب؟
العالم
:
أعتقد إن الوقت قدامنا مش بالطول اللي انت فاكره، بيتهيألي وقتنا محدود
جدًّا، أيوة وصلناله.
آدم
:
وطلع مين؟
العالم
:
الحلقة نمرة ستة في عمر صفة الذكاء، إنت عارف إن جنسنا وحدته مش البني آدم
الواحد، إنما وحدته هي الصفة زي الذكاء أو الفن أو قوة الذاكرة، كل صفة عمرها
مكون من أعمار متتالية، بتتولد في شخص وتكبر في ابنه وهكذا لغاية لما تظهر في
الجيل السابع ويسمُّوا الشخص عبقري.
آدم
:
ومين بقى الحلقة نمرة ستة في عمر صفة ذكاؤه؟
العالم
:
إنت، إنت أنسب واحد واللي حييجي بعدك مش قبل ميت سنة، تكون هي فقدت القدرة
على الإخصاب.
آدم
:
أنا؟ مين قال إني أذكى وأحسن واحد؟
العالم
:
احنا مش بندور على الأذكى والأحسن، احنا بندور على اللي لما يخلِّف يخلِّف
الأذكى والأحسن.
آدم
:
أما حاجة غريبة، طب والتزاوج يتم ازاي بقى؟
العالم
:
لازم يتم في أقصى درجات الحب وإلا ما ينفعشي ولا الجنين يتكون.
آدم
:
طب الحب دي مسألة مش في إيدينا.
العالم
:
ما اعرفشي ازاي تحصل إنما لازم ننجح، دي فرصة البشرية الأخيرة وفرصة الجنس
التالت ولا يمكن تفشل.
آدم
:
طب هي فين أمال؟ ممكن أشوفها؟
العالم
:
يا ريت ليها وجود زي وجودنا محدود ومعروف، هي كانت بتتجسِّد لي على هيئة
نفرتيتي اللي باحبها.
آدم
:
طب وما تتجسدشي لك على هيئة واحدة عايشة ليه؟
العالم
:
لأنها إذا عملت كدة يكون التجسد نهائي وما تقدرشي ترجع.
آدم
:
يعني أنا لازم أتخيل واحدة باحبها قبل ما أحبها؟ دا كلام ده؟! إزاي حا اعرف
أعمل كدة؟
العالم
:
إنت أملنا ومنقذنا ولازم تعرف.
آدم
:
طب ما دام كدة المسألة تزاوج وحب ما كانشي ممكن استدعى بطريقة ألطف؟
العالم
:
الطريقة دي كانت لازمة عشان تحدث في شخصيتك آخر اللمسات اللي احنا
عايزينها.
(فجأة يعلو الصوت النشاز بشكل واضح ويتبدَّى ضوء أصفر قوي
يصفرُّ له كل شيء.)
العالم
(وكأنما يُحدِّث الكون كله بصوت مرٍّ مستغيث)
:
يا كل ذرات هذا الكون وجزيئاته … يا كل أحيائه وغير أحيائه، أهيبوا معي ﺑ
«هي» أن تعود، أو حتى للحظات تُفكِّر فينا، بكل ما تملكون من قدرة أطلقوا
استغاثة الحب الأخيرة.
(تتصاعَد الاستغاثة على هيئة نغمة موسيقية لاهثة.)
(شيئًا فشيئًا يبدأ الضوء الأصفر يَنقشِع وكذلك الصوت.)
آدم
:
دي باينها رجعت، دي حاجة مرعبة، بقى أنا عليَّ إني أحب كائنة زي دي تقدر تغذي
مدينة بالحب، أرجوك قوللي أعمل إيه؟
العالم
:
من ناحيتي أنا، أنا مهمتي انتهت، أنا بلغت، وانت بقيت المسئول الحقيقي، اللهم
بلغت، اللهم فاشهد.
آدم
:
البلاغ تم صحيح، إنما لازم أعرف حا اقابلها ازاي وفين وإمتى، وازاي أستدل
عليها أو تستدل عليَّ؟ دا كله لسة ما بلَّغتوش.
العالم
:
وازاي أبلغ حاجة ما اعرفهاش، دي علاقة إنسانية يا ابني، أول علاقة بين جنسين
هائلين من جنس الإنسان، كل اللي أقدر أقولهولك إنها مش حتظهرلك إلا إذا أحست هي
إن حاجتك ليها بقَت أكتر من حاجتك لأي شيء آخر، للحياة نفسها.
آدم
:
وازاي دا يحصل بس؟
العالم
:
دا بيتوقف عليك، من دلوقتي بقت مسألة بينك وبين نفسك.
آدم
:
بعد دا كله تبقى مسألة بيني وبين نفسي؟
(يفرك كفَّيه بقلق عظيم.)
نفسي أعيط.
العالم
(بابتسامة طيبة)
:
دي بداية مبشِّرة فعلًا … أنا دلوقتي حاسس …
(فجأة يتوقف عن الحديث ويظلُّ على نفس وضعه بنفس ابتسامته
وتعبيره وتحديقه تجاه آدم، وقد مات كمَن انقطع عنه فجأة تيار الحياة وتحوَّل إلى
تمثال.)
(يحدق آدم تجاهه باستغراب ثم بقلق، ثم يندفع إليه ويمسك بيده
ويتحسسها ويقول وكأنما لنفسه):
آدم
:
بالسهولة دي؟ وفي تمام صحتك كدة؟
(ثم وكأنه يفطن إلى أمرٍ فاته، ينحني راكعًا أمام العالم
ممسكًا بيده بكلتا يدَيه ومخاطبًا إياه وكأنه لا يزال حيًّا):
أرجوك … اغفر لي وسامحني … أنا حالًا بس فهمت … فعلًا كان لازم تموت عشان
أصدقك.
(ثم ببطء يعود للوقوف ويتطلع إلى السماء، وفي نفس اللحظة يكون
الصوت الرنان النشاز قد عاد والضوء الأصفر قد انصبَّ بقوة وغمر المسرح.)
آدم
:
ساعدني يا رب … امنحني كل ما منحْتَه لرسلك.
(يظهر عشماوي على الباب، بينما في الخارج يدوِّي صوت عربة،
يَنطلِق آدم ناحيته ويخرجان، ويبقى المسرح فارغًا إلا من جسد العالم وهو فوق
المرجيحة يتأرجح في الهواء بينما الصوت يعلو والضوء الأصفر يغمق أكثر وأكثر حتى
يستحيل إلى ظلام ويتوقف الصوت، ثم ببطء يُسدل الستار.)
(ستار)