مُقدمة للطَّبعة الثَّانية
لَمْ أَكَد أعود من أوروبا سنة ١٩١٩م حتى حدث أنَّ الطَّبعة الأولى من هذا الكتاب قد نفدت، وأنَّ كثيرًا من النَّاس يرغب فيه، وأنَّ من الخير أنْ أُعيد لهم نشره، وكنت أود لو أجبت إلى ذلك، ولكنِّي جعلت أُرجئ هذا من وقت إلى آخر رغبة في أن أُعيد النَّظر في الكتاب فأغيِّر وأبدِّل؛ لأنِّي كنت وما زلت أعتقد أنَّ فيه فصولًا وأقسامًا تحتاج إلى التغيير، لا لأنِّي رجعت عن رأيي فيها بل لأنَّ هذا الرأي مُوجز مُختصر يحتاج إلى شيء كثير من البسط والتفصيل.
فالمقالة الخامسة من هذا الكتاب مع أنَّها ألمت بأمهات المسائل من الفلسفة العلائية شديدة الإيجاز تحتاج إلى أن يُفصَّل القول فيها تفصيلًا يفي بما بينها وبين حكمة الهند وفلسفة أبيقور من صلة أعتقد الآن أنَّها لا تقبل الشَّك، ولا تحتمل النزاع.
وفي المقالة الثَّالثة ألوان من الإيجاز في وصف الآثار الأدبية لأبي العلاء كنت أود لو استبدلتها بشيء من الإطناب، ولكنِّي جعلت ألتمس الوقت فلا أجده؛ إذ كانت الجامعة، وما اضطرتني إليه من درس التَّاريخ اليوناني، والاجتهاد في نشر شيء من الآثار اليونانية قد أخذت عليَّ وقتي، ولم تُتح لي الفراغ لأبي العلاء.
أخذ النَّاس يطلبون الكتاب، وعلمت أنِّي لن أجد في هذه الأيام ما أنا في حاجة إليه من وقت لتغيير ما أريد أن أغيِّره، فلم أرَ بُدًّا من الإجابة إلى طبع هذا الكتاب على صورته الأولى مرجئًا تغييره وتفصيله إلى وقت آخر.
ولقد أعلم أنَّ ناسًا قرءوا هذا الكتاب، فدُفِعوا أو اندفعوا إلى نقده بعلم وبغير علم، مُخلصين وغير مُخلصين، ولقد كنت أود لو وجدت فيما كتبوا شيئًا يستحق أن يُسطَّر ويُناقَش، ولكنِّي آسف الأسف كله؛ لأنِّي لم أجد فيما كتبوه إلا شتمًا وسبًّا، وإلا طُرقًا في الفهم معوجة، ومناهج في التفكير عتيقة، فمن علي لنفسي وللقراء ألَّا أضيع الوقت في العناية بذلك ومناقشته. وما زلت أنتظر نقد الناقد المخلص لا يدعوه إلى نقده إلا حب العلم والرغبة في الإصلاح، فأمَّا هذا الذي يبغضك ويحقد عليك فيتخذ النَّقد سبيلًا إلى إيذائك والنيل منك، فخليق بك أن تتركه وشأنه، وأن تنصرف عنه إلى ما ينفع ويفيد.
إذن فأنا أُعيد نشر هذا الكتاب في سنة ١٩٢٢م على صورته في سنة ١٩١٤م، لا مغيرًا ولا مبدلًا، وأنا أرجو أن أُوفَّق إلى تكميله، ولو أنِّي ضمنت مُواتاة الزمان لوعدت القراء بألا يمضي عليهم زمن طويل حتى يكون بين أيديهم كتاب جديد فيه درس مفصل لرسالة الغفران، ولكنَّ التَّوفيق بيد الله يمن به على من يشاء.