مصادر الكتاب
تنقسم المصادر التي رجعنا إليها في هذا الكتاب قسمين متمايزين؛ الأول: ما رجعنا إليه في تحقيق الحياة الخاصة بأبي العلاء، وما يتصل بعلمه وأدبه وفلسفته. والثاني: ما رجعنا إليه في تحقيق بعض المسائل الفلسفية، أو التاريخية، أو الأدبية، التي اضطررنا أن نعرض لها؛ ليكون فهم حياة أبي العلاء محققًا ميسورًا.
القسم الأول
فأمَّا القسم الأوَّل من هذه المصادر، فله عيبٌ مشتركٌ بين جميع كتبه ومؤلفاته، لا يشذ عنه كتاب، ولا يخرج منه مُؤلَّف، وهو قلة التحقيق والقصور عن بلوغ الغاية منه؛ فليس فيمن كتب عن أبي العلاء من القدماء والمحدثين، ومن العرب والفرنج، مَنْ دَرَسَ آثار الرجل درسًا مستقصى يمكنه من أن يحكم عليه حكمًا صحيحًا قاطعًا، لا سبيل إلى الشَّك فيه.
ومن هنا تناقضت هذه الكتب فيما بينها تناقضًا شنيعًا، بل وقع التناقض في الكتاب الواحد غير مرة، وإنَّما تتفاوت هذه الكتب بمقدار ما بين مؤلفيها من التفاوت، فيما أخذوا به من نصيب قليلٍ أو كثير من التحقيق التاريخي، ومن كثرة الرِّواية وحسن الاطِّلاع، وجودة المنهج في الترتيب وتنسيق البحث، وأكثر ما يظهر التفاوت بين كتب العرب والفرنج، ونحن مشيرون إلى هذه الكتب إشارةً مفصلة.
المصادر العربية القديمة
المصادر العربية الحديثة
تمتاز هذه المصادر بشيءٍ من الميل إلى المنهج التاريخي الحديث في تحقيق ما نعرض له من شأن أبي العلاء، ولكنَّ هذا الميل — على نقصه في هذه المصادر جميعًا وبُعده عن نِصَابه المعقول — يتفاوت فيها قِلَّةً وكثرة، كما يتفاوت صحة وفسادًا، فمنها «تاريخ آداب اللغة» للمرحوم جورجي زيدان بك، وكذلك مجلة الهلال. ولهذين المصدرين مَزيَّة اطلاع صاحبهما على ما كَتَبَ الفرنج في تاريخ أبي العلاء، ولكنَّ المرحوم جورجي زيدان بك، على كثرة اطلاعه وجودة بحثه، لم يستطع أن يسلم من عيبين: أحدهما قَهْريٌّ يُعذر فيه؛ وهو بُعده عن الروح التاريخي الصحيح؛ لأنَّ الرجل لم ينشأ نشأةً علمية مُنظمة، وإنَّما هو عصاميٌّ — في العلم — إنْ صحَّ هذا التَّعبير. الثاني: العجلة والإيجاز، وإنَّما اضطره إلى ذلك ميلُهُ إلى الإحاطة بكل شيء والكتابة في كل شيء، وإلى أن تكون كُتبه أقرب إلى ما يُسمونه دوائر المعارف منها إلى كتب البحث والتمحيص، ويُوشك أن يكون المرحوم جورجي بك فيما كتب عن أبي العلاء — لا سيما في الهلال — صدى للأستاذ مَرْجُليوث.
ومنها: «تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي» للأستاذ أحمد عمر الإسكندري، وفي هذا الكتاب نزوع إلى المنهج الحديث في تاريخ الآداب، ولكنَّ صاحبه لم يُوفَّق إلى إصابة هذا المنهج، ولم يستطع أن يَخْلص من أغلال المتقدمين، الذين إنَّما كانت كُتبهم في الآداب صُحُفًا من الثناء والتقريظ.
ومنها: «عقيدة أبي العلاء» لحسين فتوح أفندي، وهو كتاب صغير اقتنع فيه صاحبه خطأً بنُسك أبي العلاء وتورعه، فكاد يُلحِقه بأصحاب الكرامات، والكتاب يخلو من كل فقةٍ تاريخي، وليس له حظٌّ من التحقيق.
ومنها: «تاريخ أبي العلاء» للشيخ محمد حلمي طمارة، وقد أراد صاحب هذا الكتاب أن يُنصِف الرجل، ويُبيِّن وجه الحق في فلسفته ودينه، غير منحازٍ إلى المسلمين ولا إلى الملحدين، ولكنَّه لم يستطع أن يصل إلى هذه الغاية، فاضطر إلى أن يتلطف لرجال الدين، الذين هم أساتذته في مدرسة القضاء، فزجَّ بأبي العلاء بين المسلمين زجًّا يظهر فيه تكلف الأزهريين وتأول الفقهاء.
وكل هذه الكتب قديمها وحديثها، ليست في حقيقة الأمر من التَّاريخ في شيء، وإنَّما هي مصادر للتاريخ، ومن الواضح أنَّ بين التَّاريخ ومصادره فرقًا بعيدًا.
تنفعنا هذه الكتب حين نريد أن نُؤرِّخ حياة أبي العلاء، أو رأي النَّاس فيه، كما تنفعنا آثار المصريين القدماء حين نريد أن نُؤرِّخ أحدَ الفراعنةِ، من حيث هي مصادر خالصةٌ للتَّاريخ، من غير أن تظفر من الفقه التاريخي بالحظِّ الموفور.
المصادر الفرنجية
هذه المصادر هي التي يصح أن نُسمِّيها تاريخًا حقًّا؛ لأنَّ لها من التَّاريخ كل خصائصه وكل مناهج البحث عنه، لولا أنَّ كُتَّابها قد شاركوا كُتَّاب العرب في أنَّهم لم يُنعِموا درس آثار أبي العلاء، وليس فيهم من استقصى قراءة اللزوميات وسقط الزند؛ ولذلك عُمِّيَت عليهم فلسفة الرجل وعقيدته، وكثيرٌ من الحقائق التاريخية التي تتصل بحياته، ثم هم إلى ذلك، أعجز من أن يفهموا لغة أبي العلاء حق فهمها؛ لبُعدهم عن أسلوبه الغريب وتعمقه الشديد، على أنَّهم حين درسوا رسائله استطاعوا أن يستخرجوا منها أكثر ما يستطيع المؤرخ أن يستخرجه من مصدر تاريخيٍّ شديد الغموض.
من هذه المصادر: الإنكليزيُّ والفرنسي، ولا نذكر الألماني؛ لأنَّ جهلنا باللغة الألمانية، حال بيننا وبين ما كُتِب فيها من طرائف البحث عمَّا للعرب من أدبٍ وتاريخ.
المصادر الإنكليزية
من هذه المصادر: مُقدمة الأستاذ مرجليوث لرسائل أبي العلاء التي ذكرناها آنفًا، وهي على جودتها وحسن طرائقها في البحث والترتيب، وكثرة ما قرأ مؤلفها من كتبٍ، وقاسى من عناء، لم تخلُ من نقصٍ ظاهرٍ نحن مُبيِّنُوه، ودالُّون عليه في مواضعه من هذا الكتاب، ومنها «تاريخ اللغة العربية» للكاتب نيقلسن، وقد ترجم فيه لأبي العلاء ترجمةً مختصرة، توشك أن تكون صدى لما كتب مرجليوث، ولكنَّها مع ذلك تنم عن اطلاع صاحبها على ما كتب الألمان عن أبي العلاء، ولا سيما «فون كريمر»، ومنها المجلة الأسيوية الإنكليزية سنة ١٩٠٠م وسنة ١٩٠٢م، وهي مفيدةٌ كل الفائدة فيما يتصل «برسالة الغفران».
المصادر الفرنسية
القسم الثاني
هذا القسم كثيرٌ مختلف؛ لأنَّنا نرجع فيه إلى كل ما علمنا وقت درسنا لأبي العلاء وقبله، من تاريخ العرب وآدابهم وفلسفتهم، في أيام بني العباس، ولكنَّا نسرد منه أسماء الكتب التي رجعنا إليها وقت الدرس، والتي لا بد لأي باحثٍ عن عصر أبي العلاء، من أن يتخذها إمامًا.
فمنها: تاريخ ابن الأثير، وابن خلدون، وأبي الفداء، والنجوم الزاهرة لأبي المحاسن، وتاريخ حلب لكمال الدين بن العديم، ومسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار لابن فضل الله العمري، وتاريخ الهند، وكتاب الآثار الباقية للبيروني. ويُرجَع إلى هذه الكتب في تحقيق الحياة السياسية والاجتماعية لعصر أبي العلاء، ومنها: الأغاني، ويتيمة الدهر للثعالبي، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والكامل للمبرد، وكتاب الصناعتين، وديوان المعاني لأبي هلال، والموازنة بين الطائيين للآمدي، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني. ويُرجَع إلى هذه الكتب في تحقيق الحياة الأدبية لهذا العصر.
ومنها: الفهرست لابن النديم، ومروج الذهب للمسعودي، وتاريخ اليعقوبي، وطبقات الأمم لابن صاعدٍ الأندلسي، ويُرجَع إليها في تحقيق الحياة الفلسفية لهذا العصر.
ومنها: المواقفُ للقاضي عضد الدين، ومحاضرات الأستاذ «سانتلانه» التي ألقاها بالجامعة المصرية، والمِلَل والنِّحَل للشهرستاني، والفصل لابن حزم، أو يُرجَع إليها في تحقيق المذاهب الفلسفية لأبي العلاء.
ومُعجم البلدان لياقوت الحموي، والمسالك والممالك لابن حوقل، وإليهما رجعنا في بعض المسائل الجغرافية.
أما كُتُب أبي العلاء نفسه، فظاهرٌ أنَّها أوفر المصادر نفعًا، وأجلها خطرًا.