المقالة الخامسة
إذا سمع النَّاس أبا العلاء، لم يفهموا منه إلا رجلًا ملحدًا، فإذا سألتهم عن علة إلحاده، وعما أخرجه من الدين وحشره في الملحدين، رووا لك أبياتًا في اللزوميات، تنطق بإنكار الشرائع، والغَضِّ من الأنبياء. وهذا القدر هو كل ما عرف النَّاس من فلسفة أبي العلاء، ولسنا نرتاب في أن تعصب الفقهاء ورجال الدين على أبي العلاء، هو الذي نشر هذه الأبيات في الناس، وجمع حول صاحبها تلك الشُّبَه الكثيرة، التي جعلته في رأي الأجيال المختلفة من أهل الجحيم، غير أنَّ ما يتصل بالدين من شعر أبي العلاء، ليس شيئًا بالقياس إلى الفلسفة العلائية، التي تناولت أطراف العلم الإنساني، وبحثت عن المظاهر العلمية للإنسان في حياته الخاصة والعامة. ولو أنَّ فلسفة أبي العلاء عُرِفت للناس كما هي ودُرِّست في مدارسهم درسًا مفصلًا، لكان للرجل في آرائهم حالٌ غير هذه الحال.
تعصُّب الفقهاء عليه، وسوء رأي الدينيين فيه، وتلك الحِيَل التي اتخذها ليخفي على النَّاس آراءه، هي التي حالت بين العقول وبين فلسفته، فجعلته مجهولًا للتاريخ، والمؤرخين على السواء.
مجهول من التاريخ والمؤرخين، وإنْ كثر الكتاب عنه قديمًا وحديثًا من العرب والفرنج؛ فإن الذين كتبوا عنه من العرب، لم يحفلوا إلا بذكائه وذاكرته، ولغته، وإلحاده، يروون فيها الأعاجيب، ويتندرون في وصفها بالأفاكيه، من غير أنْ يحفلوا بمادة هذا الذكاء، ومصدر هذا الإلحاد، وكذلك الذين أرَّخوه من الفرنج، لم يستطيعوا أنْ يفهموا فلسفته؛ لغموض ألفاظه وأساليبه من جهة، ولغموض الكتب والأسفار التي أُلِّفت في الفلسفة الإسلامية عامةً من جهة أخرى، على أنهم قد سبقوا المسلمين إلى شيءٍ من البحث عن فلسفة الرجل، وإنْ لم يصلوا منها إلى ما يشفي الغليل. ولعلنا أول من استطاع أنْ يفصِّل الفلسفة العلائية تفصيلًا يظهر النَّاس على أسرارها ودقائقها، وينزلها من عقولهم منزلة الشيء الواضح المفهوم. لعلنا أول من ظفر بذلك، ونحن نرى هذا الظفر نجحًا عظيمًا، وفوزًا مبينًا، وإنْ كانت لنا أماني نرجو أنْ نظفر بها يومًا ما، وهي رد فلسفته كافةً إلى مصادرها، ونقد هذه الفلسفة نقدًا يميز حقها من باطلها، ويفرق بين الخطأ فيها والصواب.
هل أبو العلاء فيلسوف؟
لفظ الفيلسوف كلفظ الأديب ولفظ العالم، مبهم غامض الحدود، فمن النَّاس من يفهم منه الخارج على الدين، ومنهم من يدلُّ به على من يبتدع الجديد، ومنهم من يطلقه على من يدرس كتب الفلسفة درسًا علميًّا، فإذا قيل إنَّ أبا العلاء فيلسوفٌ، ضاع الرجل بين هذه المعاني المختلفة؛ لذلك لم يكن بدٌّ من أنْ نحدِّد معنى خاصًّا لهذا اللفظ، حين نطلقه على أبي العلاء.
مهما يكن أصل هذا اللفظ في اليونانية، ومهما تكن معانيه عند المسلمين، فإنا نفهم منه رجلًا درس العلوم الطبيعية، والإلهية، والخلقية، درسًا علميًّا متقنًا، وبسط سلطانها على حياته العلمية، وسيرته الخاصة، فلم يكن تناقض بين هذه العلوم وبين أعماله. وكذلك كان الأقدمون من فلاسفة اليونان يفهمون هذا اللفظ، فالرجل الذي أتقن هذه العلوم، ولكن حياته تناقضها، فهو يعرف الفضيلة ويناضل عنها، ولكنه لا يصطنعها في سيرته، ليس بالفيلسوف عندنا الآن، وإنما هو عالم بالفلسفة. والرجل الخيِّر يؤثر الفضيلة ويحرص عليها؛ لأن نفسه قد فُطِرت على ذلك من غير أنْ يكون متقنًا لهذه العلوم، ليس بالفيلسوف عندنا الآن أيضًا، وإنما هو رجلٌ خيرٌ فحسب، فإذا جمع بين هذين الطرفين فأجاد الحكمة علمًا وعملًا؛ أي بحث عن حقائق هذا العالم، وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، فهو الذي نفهمه في هذا الكتاب من لفظ الفيلسوف أو الحكيم.
إذا صح هذا فما قدمنا في المقالة الثانية من سيرة أبي العلاء وأخلاقه، وحياته في منزله وبين الناس، ومن درسه للفلسفة في أنطاكية وطرابلس وبغداد، يدلُّنا على أنه قد كان فيلسوفًا حقًّا، كما سيدلنا على ذلك درسنا للزوميات.
منشأ فلسفته
مع أنَّ الإنسان مفطورٌ على حبِّ البحث، والرغبة في الاستطلاع، فإن الحياة وأطوارها قد تصرفه عن مقتضى هذه الفطرة، وتقنعه بنتائج ما لغيره من البحث، فينفق أيامه مقلدًا في علمه وعمله جميعًا، فإذا رأيت رجلًا نَجَمَ من بيئةٍ اجتماعيةٍ ما، فخالف هذه القاعدة، وشذَّ عن هذا القياس، وأبى إلا أنْ يكون مستقلَّ العلم والعمل، منبعثًا في حياته وآرائه عن نفسه وشخصيته، فاعلم أنَّ مؤثراتٍ خاصةً قد أحاطت به، فمنعت الوراثة والخمود من أنْ يُفسِدا فطرته، ويفنياها فيما ألف الاجتماع الذي يعيش فيه. ولقد رأينا أبا العلاء يخالف عادة قومه، فيسلك في حياته طريقًا خاصًّا، وكذلك في درسه وعلمه، بل هو لم يرضَ أنْ يكون مستسلمًا لمألوف الاجتماع، حتى لم يستطع أنْ يجاريهم في شيءٍ كل النَّاس يُجارَى فيه؛ لاعتزازه بسلطان الوراثة والوجدان والقوة السياسية، وهو الدين، فَلِمَ خالف أبو العلاء قومه، وسلك طريقه الخاصة في الحياة؟ وبعبارةٍ موجزةٍ: لِمَ كان فيلسوفًا؟
من المحقق أنه لم يسلك هذه الطريق مختارًا، وإنما خضع في سلوكها لأسباب قاهرة دفعته إليها، فلم يجد عنها مزحلًا، ولم يُطِق لها ردًّا. هذه الأسباب تبينها لنا المقالة الأولى والثانية، فقد عرفتَ أنه أنفق حياته نهب المصائب والآلام، وأنَّ الحياة العامة في عصره كانت سيئةً رديئةً، من الوجهة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والخلقية والدينية أيضًا، وأنه كان ذكيًّا، صادق الفطنة، قويَّ الحسِّ، دقيق الملاحظة. فإذا اجتمعت تلك الأسباب كلُّها أنتجت من غير شك رجلًا يحب أنْ يدرس الأشياء، ويتعرف عللها ونتائجها، ويتقي شرها ما استطاع، وهذه هي حال أبي العلاء.
شعر أبي العلاء في اللزوميات، يدلنا على أنه إنما تأثر في اندفاعه إلى طريقه الخاصة، بسوء الحياة العامة، فهو يذُمُّ الحياة السياسية، فيقول:
ويذُمُّ الحياة الدينية، فيقول:
ويذُمُّ الحياة الخلقية، فيقول:
ويقول:
ثم يذم أهل عصره عامة فيقول:
ثم يعتزل النَّاس ويأمر باعتزالهم، فيقول:
فأنت ترى أنَّ فلسفة أبي العلاء، لم تكن إلا نتيجة ما أطاف به من أحوال عصره، ومن الواضح أنَّ هذه الأحوال لم تزد على أن زهَّدته في الحياة، وحملته على التفكير والدرس، وأنَّ هذا الدرس وذلك التفكير، هما اللذان أنتجا له كثيرًا من آرائه الخاصة في الفلسفة على اختلاف فنونها.
مصادر فلسفته
للفلسفة العلائية مصادر مختلفةٌ، أهمها الحياة نفسها، فإن أبا العلاء قد درس حياة قومه درسًا مستقصى، انتهى به إلى نقد كثير من الأخلاق والعادات، ومن الأطوار والآداب التي لم ترُقه، كما يدل على ذلك عامة شعره في اللزوميات.
ومنها الفلسفة اليونانية التي قدَّمنا الإشارة إليها غير مرة في المقالة الأولى والثانية، وقد درسها أبو العلاء في أنطاكية واللاذقية، ثم أتقن درسها في بغداد.
ومنها الفلسفة الهندية، وقد أشرنا في المقالة الثانية إلى أنَّ أبا العلاء إنما عرف هذه الفلسفة ببغداد، وأنَّ هذه الفلسفة قد كانت لها حياةٌ خاصةٌ في العراق وبلاد الفرس في أواخر القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس، حين فتح الله بلاد الهند على محمود بن سبكتكين المشهور بيمين الدولة، فقد كان هذا الفتح علة انتشار الآراء الهندية المختلفة في بلاد المسلمين، كما كان هذا الفتح علة انتشار الإسلام في بلاد الهند، وقد رأينا أبا الريحان البيروني يؤلف الكتب المتقنة عن الهند، فكتب كتابه المعروف بتاريخ الهند، وكتب كتابه المسمى:
على أنَّ الفلسفة الهندية، عُرِفت للمسلمين قبل هذا العصر من طريقين مختلفين: أحدهما الاتصال الاقتصادي بين المسلمين وأهل الهند، ولا سيما منذ فُتِحت السند في أيام بني أمية؛ فإن تقارض المنافع الاقتصادية بين شعبين ينقل إلى كل منهما آراء صاحبه على يد التجار، وأصحاب الأسفار.
الثاني: الكتب الهندية التي تُرجِمت للمسلمين أيام المنصور في الأخلاق؛ ككتاب كليلة ودمنة، وفي النجوم؛ ككتاب السند هند، وفي الأساطير، كبعض القصص المحفوظة في كتاب ألف ليلةٍ وليلةٍ. وقد ظهرت آثار العلوم الهندية عند المسلمين فيما كتب الجاحظ والمسعودي وغيرهما، وأخص ما اشتهر به أهل الهند في فلسفتهم الزهد، واطراح الحياة المادية ليتصلوا بالإله — كما قدمنا في المقالة الأولى — وهم معروفون برحمة الحيوان وتقديسه وبإحراق الميت بعد موته، وسترى أنَّ هذه الفلسفة الهندية لم تؤثر في الفلسفة النظرية لأبي العلاء فحسب، بل كانت أشد الأشياء تأثيرًا في حياته العملية أيضًا.
ومنها الفلسفة الفارسية وقد عُرِفت هذه الفلسفة للمسلمين منذ بدأ اختلاط العرب بالفرس يشتدُّ في أيام بني أمية، وظهرت الكتب الفارسية مترجمةً أيام العباسيين بفضل ابن المقفع وبني نوبخت، وإنما أخذ العرب عن الفرس الأخلاق، والسياسة، والنجوم، والأقاصيص. وأبو العلاء قد قرأ الفلسفة الفارسية في الكتب، وعاشر الفرس، وخالطهم أشدَّ المخالطة حين رحل إلى بغداد، حتى دخلت ألفاظ فارسيةٌ في شعره، فقال في اللزوميات:
فهذه القافية فارسيةٌ، قالوا: إنَّ معناها نعم، وهي ممالة الألف في لغة الفرس، كما حدثنا بعض الفارسيين؛ ولذلك أمال أبو العلاء قصيدتين وردت فيهما هذه الكلمة.
ومن مصادر الفلسفة العلائية كتب الدين على اختلافه؛ فإن أبا العلاء قد درس الإسلام، واليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وناقش هذه الديانات كلها في اللزوميات. فأما الإسلام فقد درسه في بلده منذ نشأ، وأما اليهودية والنصرانية، فقد رجحنا أنه بدأ درسهما في اللاذقية، وأما المجوسية فلا شك في أنه لم يُحسِنها إلا حين ارتحل إلى بغداد؛ وذلك لأنا لا نجد آثارها في شعره ونثره، قبل فراقه الشام.
من هذه المصادر المختلفة تكوَّن المزاج الفلسفي لأبي العلاء، فكان مختلفًا متباينًا، بمقدار ما بين مصادره من التباين والاختلاف. ولسنا في حاجة إلى أنْ ننص على أنَّ الكلام والتصوف من مصادر الفلسفة العلائية؛ فقد قدمنا أنَّ كلا هذين العلمين ليس إلا مزاجًا ائتلف من الفلسفة اليونانية وأصول الإسلام.
أصوله الفلسفية
نريد بهذه الأصول القاعدة التي اتخذها أبو العلاء طريقًا إلى بحثه عن الأشياء لا يتجاوزها ولا يتعداها. ونحن نعلم أنَّ اليونانيين والمسلمين من بعدهم، يختلفون أشدَّ الاختلاف في أصول العلم، فأما اليونانيون فمنهم من يرى أنَّ العقل هو المقياس الصحيح للعلم، فما رآه حقًّا فهو حقٌّ، وما رآه باطلًا فهو باطلٌ، قالوا: والعقل يستمدُّ علمه بالأشياء من المحسات التي تقع على الأشياء الجزئية، فتنقل صورها إلى النفس حيث يعمل العقل في تجريد هذه الصور وتحليلها، وردها إلى أصولها العامة التي تتألف منها قضاياه. وهذا مقدار يتفق عليه من أثبت الحقائق من فلاسفة اليونان كافة. وهناك طائفةٌ أفلاطونيةٌ، قد أشرنا إليها في المقالة الأولى، ترى أنَّ العقل يستمدُّ علمه بالأشياء من مصدرٍ آخر غير الحس، هو الإشراق الذي شرحناه عند الكلام على التصوف.
فأما السوفسطائية، فقد أنكروا الحقائق حين لم يستطيعوا أنْ يجزموا بصحة ما ينتهي إليه العقل من نتائج البحث، فهم لا يعترفون بالإشراق، وهم يرون الحسَّ كثير الخطأ، كثير الاختلاف، كثير التغير من حينٍ إلى حينٍ، فلا يستطيعون أنْ يثقوا بما يُنقَل إليهم من صور الأشياء؛ لذلك اتهموا العقل الإنساني، وأنكرت طائفةٌ منهم الحقيقة إنكارًا تامًّا، وطائفة أخرى رأت أنَّ الحقيقة شيءٌ يتغير بتغير الأشخاص والأطوار، فما تراه أنت حقًّا، فهو كذلك، وما أراه أنا حقًّا فهو كذلك، وإنْ كان الرأيان فيما بينهما متناقضين. ووقف غورغياس مع أصحابه موقف الشك، فلم ينكروا الحقائق ولم يثبتوها، وهم الذين عُرِفوا عند المسلمين باللاأدرية. وقد كان لهذه الطوائف من السوفسطائية، وأصحاب الشك سلطانٌ عظيمٌ على العقول اليونانية في أواخر القرن السادس، وأوائل القرن الخامس قبل المسيح، فنشأت فلسفة سقراط لمحاربتها، واستطاعت أنْ تقبض سلطانها عن العقول، أما عامة الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين فيثبتون الحقائق، ولكن المتكلمين يُضِيفون إلى المصادر التي يستقي العقل منها علمه مصدرًا آخر، هو الشرع الذي يأتي به النبي المرسل من عند الله، ولهم في تقديم بعض هذه المصادر على بعض خلافٌ كثير؛ فالأشعرية يؤثرون الشرع ويُقدِّمونه؛ لأنه قد جاء به الصادق المعصوم، عن الله الذي أحاط بكل شيء، فهو للصواب أكفل، وبالحق أجدر. والعقل يخطئ في أحكامه؛ لأن مصادره — وهي المحسات — يصيبها الخطأ، ويختلف عليها الضعف والقوة.
قال المعتزلة: فإنا لا نعرف الشرع ولا نصدقه إلا إذا قامت عليه من العقل حجةٌ واضحةٌ ودليلٌ صحيح؛ فالعقل أحق أنْ يقدم لأنه أس الشرع ودعامته، ولولا إيثار العقل وتقديمه لما استطاع نبي أنْ يأتي بمعجزةٍ على أنها ملزمة لخصومه تصديقًا؛ ذلك أنَّ المعجزة لا تؤدي إلى تصديق النبي إلا بوساطة مقدمة عقليةٍ تقع كبرى في القياس المنطقي عند الاستدلال، فيقال: هذا أمرٌ خارقٌ للعادة، وكل أمر خارقٍ للعادة فهو من عند الله؛ فهذا من عند الله. فبهذا القياس تثبت المقدمة الأولى التي يأتلف منها، ومن مقدمةٍ عقليةٍ أخرى قياس يثبت صدق النبي، فيقال: هذا مبلغٌ عن الله قد أتى بالمعجزة، وكل من هو كذلك فهو صادق، فلهذا صادق. فأنت ترى أنَّ العقل قد عمل في تأليف هذين القياسين عملًا غير قليلٍ، وعلى هذين القياسين تقوم الشريعة، وبهما يثبت الدين، فلو أنكرنا العقل أو قدمنا الشرع عليه، للزم أحد أمرين: إما أنْ يبطل الشرع؛ إذ لا مثبت له، وإما أنْ يثبت الشرع بالشرع، وهو باطل لما فيه من الدور الصريح.
فأين يقع الأصل النظري لأبي العلاء من هذه المذاهب؟ أما الفرنج فكثير منهم يرى أنه سوفسطائي شاكٌّ في كل شيءٍ، وأما المسلمون فلم يعرض لهذا الموضوع منهم أحد — فيما نعلم — إلا الذهبي، والأستاذ الإسكندري، وكلا الرجلين قرر أنه شاك. وأكثر الذين ينتصرون لأبي العلاء يثبتون أنه رجل مسلم سني، وأن ما في كلامه مما يشير إلى خلاف ذلك فمكذوبٌ، أو موهم يجب تأوله والتأمل فيه. والذين يثبتون له الشك لا يزيدون بذلك تقرير حقيقةٍ علميةٍ في فلسفة الرجل، وإنما عجزوا عن إثبات إسلامه، وضنُّوا به على الإلحاد، فوقفوه موقف الشكِّ الذي يُرجَى أنْ يغفره الله ويعفو عنه. والواقع أنَّ أبا العلاء لم يتخذ لنظره الفلسفي مذهب أهل السنة، ولا مذهب السوفسطائية وأصحاب الشك، ولا مذهب المعتزلة أيضًا.
ذلك أنه لا يؤمن إلا للعقل وحده، فخالف بهذا أهل السنة؛ لأنهم يقدمون الشرع على العقل، وإنْ آمنوا به، وخالف مذهب المعتزلة؛ لأنهم على تقديمهم للعقل يتخذون الشرع لنظرهم أصلًا ودليلًا يعتزون ويلجأون إليه، وخالف مذهب السوفسطائية؛ لأنهم يتهمون العقل فلا يؤمنون له، ولا يعتمدون عليه، وإذن فهو يرى رأي الفلاسفة النظريين من اليونان والمسلمين في الاعتماد على العقل خاصة.
فإذا أردت إثبات ذلك فاللزوميات ناطقةٌ به غير مرة؛ ذلك أنه يقول بمعرض الردِّ على الباطنية:
فانظر، كيف نفى الإمامة عن كل شيء إلا العقل، غير أنَّ من اليسير على معترضٍ أنْ يقول: إنَّ قرينة الردِّ على الإماميَّة الذين يؤمنون بالإمام المعصوم، ويرجون ظهوره آخر الزمان تدل على أنَّ هذا القصر إضافي؛ أي لا إمام سوى العقل بالقياس إلى مذهب الإمامية. وهذا القصر الإضافي لا يستلزم ألا يكون الشرع إمامًا لأبي العلاء كالعقل. ومثل ذلك أنْ تقول: زيد شاعر. فيجيبك مجيبٌ: لا شاعر إلا عمرو. فهو لم يُرد نفي الشعر عن بكرٍ وخالدٍ، وإنما نفاه عن زيدٍ خاصة. ومع أنَّ هذا الاعتراض في نفسه متكلفٌ، فإنا نقبله ولا نتكلف الرد عليه، بل نبحث عن دليل آخر في اللزوميات يكون ناطقًا بأن أبا العلاء لم يذهب مذهب الحصر الإضافي في هذا البيت، وليس هذا الدليل عنا ببعيدٍ؛ فإن أبا العلاء يقول:
فهذا الحصر حقيقي، لم يُضَفْ إلى شيء، وهو تصريح بأن الرجل لا يأتم إلا بعقله، فأما قوله: سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدًا. فإن لفظ «جاهد» يعين أنه لا يريد الاتباع المطلق الذي لا حكم للعقل فيه، إنما يريد اتباعًا يهديه إليه العقل، وتأخذه به البصيرة. على أنَّ أبا العلاء قد نفى الشك في هذا الموضوع، فقال في ذم أهل الدين:
فهذان البيتان لا يدعان شكًّا في أنَّ الرجل ما كان يرضى أنْ يأتمَّ بغير العقل، وهو قد ذمَّ الأشعري فيمن ذمَّه من المتكلمين في رسالة الغفران، فقال: «والأشعري إذا كشف ظهر نمي، تلعنه الأرض الراكدة والسمي، إنما مثله مثل راعٍ حُطَمَة، يخبط في الدهماء المظلمة، لا يحفل علامَ هجم بالغنم، وإنْ يقع بها في الينم، وما أجدره أنْ تأتي بها سراحين، تضمن لجميعها أنْ يحين!»
أبو العلاء، وإنْ رأى أنْ يتخذ العقل إمامه في البحث عن الأشياء، لم يستطع أنْ ينتحل له العصمة، ولا أنْ يزعم قدرته على الإيصال إلى اليقين المطلق، بل حفظ للشك حقه في الدخول على ما أثبته العقل، وعلل ذلك بأطراف ما يعلله به المحدثون من الدارسين لعلم النفس، وهو أنَّ العقل ليس في نفسه جوهرًا مستقلًّا عن هذه الحياة المادية استقلالًا تامًّا، بل هو بها متأثر ولها خاضعٌ. ومن هنا اختلفت أحكامه، فأثبت الشيء ثم نفاه، وأوجبه ثم سلبه، وفي ذلك يقول:
فاختلاف الإنكار والمعرفة على النفس ليس له مصدر إلا تأثرها بالحياة المادية، ويقول أبو العلاء في الشك أيضًا:
فأنت ترى أنه على اعترافه بالشكِّ قد أثبت اليقين، فلم يرتب في صحة انتساب الفتى إلى أمه، وإذن فالحكم عنده مستيقن ومشكوك فيه، ويقول في الشك أيضًا:
فهذا البيت يثبت أنه قد يصغر عن إدراك اليقين في بعض المسائل لقصور عقله، أو لقيام الموانع بينه وبين ما يريده. ولأبي العلاء أبياتٌ عمَّمَ فيها الشك وجعله مطلقًا، فظن الذين لم يفقهوه أنه إنما يريد نفي الحقائق، ولو فطنوا لمغزى الرجل لعرفوا أنه لا يعمم الشك إلا في مسائل الغيب، فأما عالم الشهادة، فلا يبسط أبو العلاء ظلَّ الشك عليه، فمن ذلك قوله:
فهذان البيتان لا يتناولان إلا ما يُضمرُ الغيب من المخبآت.
من هنا نعلم أنَّ أبا العلاء لم يكن من أهل الشك، ولا من الذين يتخذون الشرع لهم في الاستدلال إمامًا، وإنما هو من الذين لا يثقون إلا بالعقل، فإذا وثقوا به فلا يستسلمون إليه. وقد كان أبو العلاء أشد النَّاس اتهامًا للأخبار ورفضًا لها، فهو لا يؤمن بالتواتر، ولا يراه حجةً؛ لأن هذا التواتر لا يستطيع أنْ يسلم من مطاعن العقل، وفي ذلك يقول:
فانظر إليه كيف رفض الكتب الدينية كافة، وجعلها أباطيل ملفقةً لا تُثبِت ولا تَنفِي باطلًا، ومصدر هذا أنَّ أبا العلاء كان سيِّئ الظن بالماضي، ولا سيما إذا بعد العهد به؛ ولذلك يقول:
ثم هو يسيء الظنَّ بالقدماء، ويرى أنهم كانوا ينتحلون الأنباء لاكتساب العيش، فيقول:
ويقول:
ولذلك شك في أكثر ما روت الكتب السماوية والأخبار التي توارثها الناس، فلم يؤمن بأن آدم شخصٌ حقيقيٌّ، فقال:
ولعل قائلًا يقول: كيف أعرضتم عن قوله: ولا أدين بما قالوه؟ فجواب هذا السؤال يأتي بعد قليل.
إذا كان أبو العلاء لا يرى الخبر أصلًا من أصول الاستدلال العقلي، فقد خالف عامة المتكلمين؛ فإنهم يجعلون الخبر الصادق أصلًا من أصول العلم؛ لأن الشرائع والديانات تقوم على الأخبار، وقد نصَّ أبو العلاء على خلافه للسوفسطائية، فقال:
ومهما يكن من شيء، فإن لأبي العلاء آراء ثابتةً قد استقر عليها حياته كلها لم ينكرها ولم يشك فيها، وحسبك بذلك برهانًا على أنه لم يكن شاكًّا ولا سوفسطائيًّا.
أخذه بالتقية
أبو العلاء كان سيئ الظن بالناس، شديد الحذر منهم، فكان يحتاط أشد الاحتياط في إظهار آرائه التي تخالف ما اتفقوا عليه. ولقد كنا نرى هذا الرأي منذ أمدٍ بعيدٍ قبل أنْ ندرس اللزوميات درسًا موفى، ولكنا كنا نتهم رأينا؛ لأن التَّاريخ لم يعطنا دليلًا عليه. فأما الآن وقد درسنا اللزوميات من قريب، فما نشك في أننا كنا موفقين.
ذلك لأن أبا العلاء يخبرنا غير مرةٍ بأنه يرى التقية ومداراة الناس، ويذهب مذهب المجاز في إظهار آرائه، وإنَّ في نفسه سرًّا لن يظهر النَّاس عليه؛ لأنه يخشى منهم الأذاة، وفي ذلك يقول:
ويقول:
ويقول:
ويقول:
ويقول:
موضوع فلسفته
تناول أبو العلاء بفلسفته ما تناول غيره من الفلاسفة، فبحث عن العالَم وما فيه، وبحث عما وراء المادة، وبحث عن السياسة والأخلاق، وأطوار الاجتماع، ونحن مُقسِّمون فلسفته تقسيمًا يُسهِّل علينا درسها من غير أنْ تتشتت وتتفرق.
- الأول: الفلسفة الطبيعية، أو العلم الأدنى.
- الثاني: الفلسفة الرياضية، أو العلم الأوسط.
- الثالث: الفلسفة الإلهية، أو العلم الأعلى.
- الرابع: الفلسفة العملية.
ولسنا نرى بأسًا من أنْ نتخذ هذا التقسيم إمامًا لنا في درس فلسفة أبي العلاء، مع شيءٍ من التفصيل في بعض الأقسام.
الفلسفة الطبيعية
تناول أبو العلاء من الفلسفة الطبيعية في اللزوميات البحثَ عن المادة، والزمان والمكان، وتناهي الأبعاد. ونحن نذكر آراءه في هذه الموضوعات مُفصَّلة.
المادة
يرى أبو العلاء رأي الفلاسفة في أنَّ الأجسام تأتلف من مادةٍ قديمةٍ خالدةٍ، وصُوَرٍ تختلف عليها. وله في إثبات ذلك كلامٌ كثيرٌ في اللزوميات، قد افتن فيه وأورده في صورٍ مختلفةٍ، فقال:
وإنما يريد بالأربعِ القدمِ العناصرَ الأربعة، وقال:
فأثبت بهذين البيتين قِدَم العناصر، وقال:
وقال:
وقال:
فأثبت بهذه الأبيات وغيرها اختلاف الصُّوَر على المادة، مع بقائها هي في نفسها، ورجوعها إلى أصلها من حينٍ إلى حينٍ. وقد وصف أبو العلاء المادة بالخلود، كما وصف العناصر بالقِدَم، فقال:
بهذا يظهرك على أنه يرى قدم المادة وخلودها، ولا يرى رأي المتكلمين من المسلمين، في حدوثها وتركيب الأجسام من الأجزاء التي لا تتجزأ.
الزمان
أما الزمان، فأبو العلاء يرى قِدَمه أيضًا كما يرى قِدَم المادة، وفي ذلك يقول:
وقال:
وقال:
والفلاسفة يختلفون في تعريف الزمان اختلافًا كثيرًا، ولكن أبا العلاء يُعَرِّفه تعريفًا جمع بين الظرف والصحة، فيقول: إنه كونٌ يشتمل أقلُّ جزء منه على عامة الموجودات. بذلك عرَّفه في رسالة الغفران، وبذلك عرَّفه في اللزوميات، فقال:
فالزمان بهذا التعريف ليس حركة الفلك، بل هو أعم منها، وإذا فهمنا هذا الفهم لم يلزمنا القول بأنه يحدث إنْ ثبت حدوث الفلك؛ لأنه على هذا التقدير أعم وأشمل من العالَم، بل من كلِّ عَالَم — كما يقول. ولما فهم أبو العلاء الزمان هذا الفهم، لم يستطع أنْ يتصوَّر الإله في غير زمانٍ، فقال الأبيات المشهورة:
المكان
عرَّف أبو العلاء المكان، فقال:
فعرف المكان بخاصَّته، وهي استقرار ذاته، وكذلك وصف الزمان في هذا البيت بخاصته وهي أنه غير قار الذات — كما يقول الفلاسفة — ثم وصفهما في بيت آخر، فقال:
فوصفهما بالإحاطة بكل ما تدرك العقول، ثم نفى عنهما اللون، ونفى عنهما الحجم، وكل هذه آراء الفلاسفة.
ومن هذا تعلم أنه يرى قدم المادة والزمان والمكان وخلودها.
تناهي الأبعاد
كان أبو العلاء لا يؤمن بما اتفق عليه المتكلمون من انحصار العالم وتناهيه؛ وذلك أنَّ المتكلمين حين سلكوا في إثبات الإله طريق حدوث العالم، وأنه مسبوقٌ بالعدم اضطروا إلى أنْ يقولوا بانحصار الزمان وغيره من الموجودات، فقالوا بتناهي الزمان والمكان، وما اشتملا عليه. أما أبو العلاء، فإنه لما سلك مسلك الفلاسفة وقال بقدم المادة والزمان والمكان، لم يلزمه القول بتناهي الأبعاد، فقال:
وقال في البيت السابق:
وقال:
فأنت ترى من هذا أنَّ أبا العلاء قد استمد فلسفته الطبعية من فلسفة اليونان، فوافقهم في العناصر وقدمها، والزمان والمكان وخلودهما، وأنهما غير متناهيين، ولما لم يكن بدٌّ من أنْ يتصور العقل وجودًا لا تشغله هذه الكواكب والأفلاك؛ أي لا يشغله هذا العالم الذي نقدر فيه الزمان بحركة الفلك. قال أبو العلاء فيما سبق به هذا العالم:
وإنما أراد بهذا البيت أنه لا بد من وجود قد سبق النور؛ أي قد سبق الكواكب التي هي مصدره، وهذا الوجود لم يخلُ من زمان؛ أي من كونٍ ما، وقد سُمِّي هذا الزمان مظلمًا لأنه لا نور فيه. وربما خُيِّل إلى بعض النَّاس أنَّ في هذا البيت تلميحًا لمذهب الذين يعبدون الظُلْمَة؛ لأنها أقدم الأشياء، ولكنا لا نرى هذا الرأي؛ لأنا لا نعرف في الروح الفلسفي لأبي العلاء ميلًا إلى هذا المذهب.
فلسفته الرياضية
لم يتناول أبو العلاء من الفلسفة الرياضية العدد والمقدار؛ لأن حياته لم تؤهله ليكون مهندسًا أو حاسبًا، وكذلك لم يتناول الهيئة من جهتها العلمية؛ لأن ذهاب بصره يحول بينه وبين الرصد، وإنما نظر في النجوم نظر الفلاسفة من اليونان، فبحث عن قدمها وخلودها، وعن تأثيرها في هذا العالم. فأما قدمها وخلودها فالراجح في اللزوميات أنَّ أبا العلاء يراهما، فيعتقد أنَّ النجوم قديمةٌ، وأنها خالدةٌ، وفي ذلك يقول:
ويقول:
ويقول:
فهذه الأبيات الكثيرة التي قدمناها تدلُّ على أنه لا يشك في خلود الكواكب، وإنما يرتاب فيما يحدث به الفلاسفة والعامة من أنَّ لها عقلًا وحسًّا، وفيما امتلأت به الأساطير من أنها تتصاهر فيما بينها وتتزاوج.
وأبو العلاء يجزم ببطلان ذلك، فلا يشك في أنَّ الكواكب أجرامٌ جامدةٌ لا حس فيها ولا حياة، وأنَّ ما يتحدَّث به النَّاس عنها من ذلك أساطير انتحلها الأقدمون يستهوون بها القلوب، ويستخِفُّون بها الألباب. على أنه يشك في خلودها بعض الشك، فيقول:
فترى أنه ينكر قدمها وخلودها، ويثبت لها الحدوث وإمكان الفناء، فإذا شئنا أنْ نحقق أمر هذه الأبيات، فهي لا تخلو من إحدى اثنتين: فإما أنْ يكون أبو العلاء قد انتحلها انتحالًا ليخفي بها أمره على الناس، وإما أنْ يكون قد ذهب بالقدم الذي نفاه مذهب القدم الذاتي؛ أي إنها ليست قديمةً خالدةً بذاتها، وإنْ كانت قديمةً بالزمان.
ذلك أنَّ الأصل الذي اتخذه أبو العلاء في فلسفته الطبيعية، يلزمه أنْ يثبت للكواكب قِدمًا ما؛ لأنه أثبت قدم المادة، وأثبت قدم الزمان والمكان، وإذا كانت الكواكب مادةً فهي قديمةً من غير شكٍّ، وأقصى ما يمكنه أنْ يتأول به إنما هو نفي القدم عن صورتها وحركاتها، فكأنه يرى فيها رأيه في الكائنات المادية التي تختلف عليها الصور المتباينة، ومادتها في نفسها قديمةٌ أزليةٌ. وما يشك أبو العلاء في تأثير الكواكب، وأن لها عملًا ما في حياة هذا العالم، غير أنَّ بينه وبين فلاسفة اليونان في ذلك فرقًا؛ فإن فلاسفة اليونان — ولا سيما أفلاطون — يزعمون أنَّ تأثير الكواكب مصدره أنَّ المبدئ الأول أودعها نفسًا حية وأنابها عنه في تدبير العالم المادي. أما أبو العلاء فيؤمن بهذا التأثير ويجحد تلك النفس، ويرى أنه تأثيرٌ طبعيٌّ لم يصدر عن إرادةٍ ولا عقلٍ، وليس له علةٌ إلا القوة الطبعية المنبثَّة في الكواكب انبثاثها في غيرها من الموجودات. وفي ذلك يقول أبو العلاء:
ويقول:
فهذه الأربع هي العناصر، وهذه السبعة هي الكواكب السيارة، وهذه الاثني عشر هي البروج، وأبو العلاء يريد أنَّ العناصر خاضعةٌ في التئامها وافتراقها لتأثير حركة الكواكب.
وكان أبو العلاء يرى تعظيم الكواكب وإجلالها في غير فتنةٍ ولا صبوة، فليس بينه وبين الصابئة في هذا الرأي شبه، وإنما يحبها كأنها آياتٌ ينبغي أنْ يعتبر بها الحكيم، على أنه لم يترك أنْ يتخذها طريقًا إلى السخرية بالخلفاء والملوك من قريش، فقال:
وكلنا يعلم أنَّ بني فهر لفظٌ عامٌّ يشمل بيت الخلافة والنبوة معًا، ويقول أبو العلاء في تعظيم الكواكب:
فانظر كيف بنى تعظيم الكواكب على أنَّ الله قد عظَّمها، ورفع منزلتها. وعلى الجملة فكلُّ ما تحصَّل لأبي العلاء من الفلسفة الرياضية أنَّ النجوم قديمةٌ خالدةٌ، وأنها مؤثرةٌ في العالم تأثيرًا طبعيًّا، وأنها مجردة من الحس والعقل والنفس، التي يسميها الفلاسفة النفس الفلكية، وأنَّ تعظيمها حق من حيث هي آيةٌ للعبرة والفطنة، وأنَّ ما امتلأت به الأساطير من أخبارها، وما نسبته إليها من الزواج والمصاهرة، ومن الحرب والقتال، إنما هو بطل ومين. فأما ما عدا ذلك من أنواع العلم الرياضي، فلم يعرض له؛ لأنه لا قدرة له عليه.
والآن وقد أنتج لنا البحث أنَّ أبا العلاء في فلسفته الطبيعية والرياضية يوناني النزعة، فلننتقل إلى فلسفته الإلهية لنرى بأي مصدرٍ تأثرت، ونحن مُقسِّمون هذه الفلسفة ثلاثة أقسامٍ؛ الأول: ما يتعلق بالإله خاصة. والثاني: ما يتعلق بالصلة بينه وبين العالم. والثالث: ما يتصل بالرسل والشرائع.
الفلسفة الإلهية: الإله
أنتج بحثنا عن الفلسفة الطبيعية والرياضية لأبي العلاء، أنه يرى قِدَم المادة والزمان والمكان والنجوم وألا تناهي للأبعاد، وهذا رأي العامة من فلاسفة اليونان، وهم يرون معه وجود الإله وأنه واجبٌ بذاته، وأنه لهذه الموجودات علةٌ، وأنَّ هذه الموجودات ملازمةٌ له كما يلازم المعلول علته.
ومن هنا كان قولهم بقدم العالم، فإنهم إذا أثبتوا أنَّ الله واجبٌ بذاته لزمهم أنه موجودٌ أزلًا، وإذا أثبتوا أنَّ الأشياء صدرت عنه صدور المعلول عن علته لزمهم القول بقدم الأشياء؛ إذ كان المعلول مقارنًا للعلة في الوجود الخارجي، وإنْ تأخر عنها في تصور العقل. ومن هنا، لم يكن رأي الفلاسفة في قِدَم العالم ووجود الله متناقضًا ولا مضطربًا، وإذ كان أبو العلاء قد سلك طريقهم في الفلسفة الطبيعية والرياضية، فهو قد سلك طريقهم أيضًا في الفلسفة الإلهية، فأثبت الله وأقرَّ به، وقال:
واللزوميات ممتلئةٌ بما قال أبو العلاء في إثبات الله، وتمجيده ووصفه بما ينبغي أنْ يُوصَف به من صفات الكمال، وليس في اللزوميات إنكارٌ لله ولا موهم إنكارٍ له، وإنما فيها بيتٌ واحد يحتاج إلى شيء من البحث، وهو قوله:
فربما كان ظاهر هذا البيت يوهم أنَّ أبا العلاء لا يعرف الإله ولا يثبته، وأنه إن اعترف به في كتبه فإنما يفعل ذلك ابتغاء مرضاة النَّاس واتقاء سخطهم، على قاعدته من اصطناع التقية والحرص على الاحتياط.
ذلك شيء يمكن أنْ يدل البيت عليه، ولكن رُوحَ أبي العلاء في حياته المادية، وفيما كتب من المنظوم والمنثور ينفيه كل النفي، ويأباه أشد الإباء، وإذن فليس ينبغي أنْ يُفهَم من هذا البيت إلا أنَّ الرجل يجهل كُنْهَ الإله وحقيقته، ولا يستطيع أنْ يُحدِّده تحديدًا منطقيًّا، ولا أنْ يُجلِّي ماهيته للناس، ثم هو يخشى أنْ يقول ذلك وأنْ يُعلِنه؛ لأن عامة النَّاس وجمهورهم لا يستطيعون أنْ يفقهوا مغزى هذا القول، ولا أنْ يفرقوا بين من لا يعرف الله ومن لا يعرف حقيقته، وإنْ كان الحق الذي لا شك فيه، وقد اتفق عليه أهل الديانات والفلسفة، أنَّ الحقيقة المنطقية لله — عز وجل — لا يمكن أنْ تُفهَم، ولا أنْ يعرفها العقل معرفةً مفصَّلةً.
ذلك لأن حقيقة الله أمرٌ قد انقطعت بيننا وبينه أسباب التحديد المنطقي، فإنا إنما نُحدِّد الشيء إذا ارتسمت صورته في أنفسنا، وخضعت لعقولنا، فحللناها إلى أجزائها الخاصة والمشتركة، ثم لاءمنا بين هذه الأجزاء، فكان لنا من ذلك الحد. ومن الواضح أنَّ الصور التي تخضع لهذا التحليل ينبغي أنْ تكون محسوسةً حسًّا ظاهرًا أو باطنًا، وأنْ تكون بحيث تستطيع إحدى وسائل العلم بالجزئيات أنْ تنقل صورتها إلى أنفسنا، وقد جل الله عن أنْ يكون كذلك، فهو لا يدركه حسٌّ ظاهرٌ، ولا حسٌّ باطنٌ. وإنما الذي يُدرَك آثارٌ تشير إلى وجوده، وتدل على ثبوته، فأما حقيقته فقد انقطعت بيننا وبينها الأسباب.
على ذلك لا بأس على أبي العلاء أنْ يُعلِن جهله حقيقة الله ما دام يعلن علمه بوجوده، غير أنَّ من الحق علينا أنْ نبحث عن الأوصاف التي أسندها أبو العلاء إلى الله — عز وجل — بعد أنْ أثبت وجوده؛ لنعرف نزعته، أفلسفية هي أم إسلامية؟ فأول ما يلقانا به أبو العلاء من ذلك إثباته القدرة العامة الشاملة لله، وهو مقدارٌ يتفق عليه المسلمون والفلاسفة، بل عامة أهل الديانات السماوية، ويقول في ذلك أبو العلاء:
فانظر كيف بسط سلطان القدرة الإلهية على ما في هذا العالم من دقيقٍ وجليلٍ، لم يستثنِ شيئًا.
ثم يلقانا أبو العلاء في أبيات القدرة ببيت آخر إسلامي الروح، فيقول:
فالبيت الأول لا يعدو قولَ الله — عز وجل: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ إلى آخر السورة؛ لأنه يثبت الوحدانية، ويثبت القدرة بلفظ القرآن فيقول: «فما له في كل حال كفاء» وهو قول الله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ، ولأبي العلاء في النص على الوحدانية بيت لا يحتمل الشك ولا التأويل، وهو قوله:
وكذلك يقول حين يعرض للأمر بالعزلة:
فأنت ترى أنَّ أبا العلاء إسلامي النزعة يونانيها، فيما أثبت لله من القدرة الشاملة والوحدة المطلقة، وهو كذلك فيما أثبت له من صفة الحكمة في البيت الذي قدمناه:
غير أنَّ أبا العلاء يفارق المسلمين، ويوافق من اليونانيين أرستطاليس في إثبات أنَّ الله — عز وجلَّ — ساكن غير متحركٍ ولا منتقلٍ، فأما المسلمون فينزهون الله عن أنْ يُوصَف بالسكون والحركة؛ لأن السكون عجزٌ ولأن الحركة عرض، وكلاهما عليه محالٌ، وأبو العلاء قد نص على ذلك، فقال:
من العسير أنْ نثبت أو ننفي موافقة هذا الرأي لمذهب المتكلمين من المسلمين؛ لأنه غامضٌ غموضًا شديدًا، فهم لا يستطيعون أنْ يقولوا: إنَّ الله منتقل؛ إذ الانتقال يحتاج إلى حيِّز، والحيِّز على الله محالٌ. والانتقال حركة، والحركة عرض، والأعراض لا تقوم بذات الله. وليس يصح أنْ يُقال: إنَّ الله ساكنٌ؛ لأن السكون عجز، والعجز عليه محال، ولأن هذا الخلق في نفسه لا يمكن أنْ يصدر عن سكون مطلق. وكأن الحرص على تنزيه الله — عزَّ وجلَّ — عن هذه الأوصاف اللغوية القاصرة هو الذي جعل مذهب المتكلمين غامضًا. أما أبو العلاء فقد نص على السكون كما نص عليه أرستطاليس، فينبغي أنْ يرد عليه من الاعتراضات ما ورد على المعلم الأول من فلاسفة اليونان حين نفى الحركة عن الله؛ فإن العلة الأولى إذا كانت سكونًا مطلقًا لم يمكن أنْ يصدر عنها العالم؛ إذ إصدار العالم على مذهب الفلاسفة عامة، وأرستطاليس خاصة، ليس إلا إصدار معلول عن علةٍ، وهذا الإصدار حركة من غير شكٍّ؛ فإن زعم أرستطاليس أنَّ العالم لم يزل، وأن ليس بين وجوده وبين وجود الله ترتيبٌ ذهني ولا خارجي لزمه القول بتعدد الواجب، وهو محال، وبأن الإله لم يُوجِد العالم، وإنما وُجِد وحده، وإذن فما عمل الإله وما قيمته؟! كل هذه الاعتراضات وردت على أرستطاليس فلم يستطع لها ردًّا. على أنَّ هنا اعتراضًا آخر؛ فإن العالم متحرك من غير شكٍّ، فمن أين له هذه الحركة؟! لا يمكن أنْ تكون من الله؛ لأنه غير متحرك وفاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن أنْ تكون من ذات العالم؛ إذ ليس في العالم شيءٌ إلا وهو مستند إلى الله، فلم يبقَ لمذهب أرستطاليس قيمة منطقيةٌ؛ ولذلك اضطر تلاميذه أنْ يعدلوا عن مذهبه، فمنهم من ترك الإلهيات جملةً، ومنهم من ذهب مذهب الهنود، وفيثاغورس في وحدة الوجود، كما قدمنا في المقالة الأولى.
غير أنَّ للبحث في هذا الموضوع مجالًا، فإنا لم نُبيِّن معنى الحركة التي نفاها أرستطاليس وأبو العلاء عن ذات الله، ونحن نعلم أنَّ للحركة في رأي أرستطاليس معنيين متباينين: أحدهما الحركة المادية، وهي الكون في زمانين في مكانين. وبعبارةٍ واضحةٍ: هي الانتقال من حيزٍ إلى حيزٍ في آنين مختلفين. فلا شك في أنَّ هذه الحركة منفيةٌ عن الله؛ لأنها لو ثبتت له لأخضعته للزمان والمكان ولجعلته جسمًا، فأصبح ممكنًا وهو واجبٌ، هذا خلف. الثاني من معنى الحركة: كون ما هو بالقوة أمرًا فعليًّا. ولا شك في أنَّ هذا لا يقتضي حيزًا، ولا جسمية، ثم لا يقتضي زمانًا بالمعنى الذي يُفهَم من هذا اللفظ، وهو حركة الفلك. ومن الواضح أنَّ ذات الله لا يصح أنْ تتصف بهذه الحركة؛ لأنها لم تكن قوةً فصارت فعلًا، وإنما هي مخرجة الأشياء من القوة إلى الفعل. وقد نص أرستطاليس على أنَّ الله فِعْل محض؛ أي إنه ليس شيئًا كان قوةً فصار فعلًا؛ لأن هذا يقتضي التغير، والتغير عليه محال. فلم يبقَ بدٌّ من القول بأنه فعلٌ محضٌ، وهو يساوي القول بأنه حركةٌ محضةٌ، والحركة لا توصف بالحركة؛ لأن وصف الشيء بنفسه ضروري العبث. وإذا كان حركةً محضةُ، لم يلزم أرستطاليس أنْ يكون سكونًا ولا ساكنًا فلا يلزم العجز ولم يلزمه البحث عن مصدر ما في العالم من الحركة؛ لأن الله هو مصدرها؛ إذ هو الحركة في نفسها. ولنلاحظ أنه لا يريد بالحركة إلا المعنى الثاني، وهو الفعل المحض؛ أي التحقق الثابت في الخارج. ومن هنا لا تَرِد على أرستطاليس تلك الاعتراضات السابقة. فلنبحث عن بيت أبي العلاء لنعرف أيدلُّ على أنه قد فقه الحركة، كما فقهها أرستطاليس أم لا؟
لا شك في أنَّ الحركة التي نفاها أبو العلاء عن الله، إنما هي الحركة المادية، بدليل أنه قد أثبتها للكواكب، ونفاها عن الله، فقال:
والشهب إنما تنتقل من حيِّز إلى حيِّز، وهذا الانتقال مُحال على الله من غير شك، فلم يبقَ ريبٌ في أنَّ أبا العلاء موافقٌ لأرستطاليس أتم الموافقة، فهل هو مع ذلك موافقٌ للمسلمين؟
لم ينصَّ المسلمون على شيء من هذا؛ لأنهم لا يعترفون بهذه الحركة التي يراها أرستطاليس، ولا يعرفون إلا الحركة المادية، فإذا التمسنا موافقة أبي العلاء للمسلمين في هذا الأمر، فإنما نلتمس موافقة فقهه الكلامي لما اتفقوا عليه من تنزيه الله، وذلك شيءٌ لا شك فيه؛ فإن المتكلمين من أهل السنة والمعتزلة، مهما يكثر بينهم الجدال واللجاج لا ينكرون أنَّ الله موجودٌ في الخارج؛ أي إنه فعل، وهو ما يقول به أبو العلاء وأرستطاليس. والمعتزلة خاصة ينفون الصفات، ويقولون: إنَّ الله هو عين صفته؛ فهو وجودٌ محضٌ، وذلك عين ما يقوله أبو العلاء وأرستطاليس. فخرج أبو العلاء من هذه المعركة إسلامي النزعة في الحقيقة وفقه الكلام، يونانيها أيضًا. فلنبحث عن غير ذلك مما شذَّ فيه أبو العلاء عما اتفق عليه المسلمون.
لم يستطع هذا الفيلسوف أنْ يتصور وجودًا خارج الزمان والمكان؛ فجزم بأن الله في زمان ومكانٍ، وزعم أنَّ من خالف ذلك فليس له عقلٌ، وفي ذلك يقول مناظرًا للمسلمين وعامة المتدينين من أتباع الرسل:
فهذا الكلام يستظرفه الأديب ويستظرفه الشاعر؛ لرقة لفظه، ودقة ما فيه من السخرية والاستهزاء، ولكنه يغيظ المتكلم ويؤذي صاحب التنزيه؛ لأنه يصف الله في ظاهره بما لا يلائم فقه الدين، وأصول الكلام. غير أنا لا نستطيع أنْ نمر بهذه الأبيات من غير أنْ نفقهها، كما فعل الذين كفَّروا بها أبا العلاء، فإن الرجل لم يكن مشبهًا ولا مجسمًا، وروحه الإلهي يدلُّ على أنه لا يشك في الله، وعلى أنه حسن الرأي فيه. والحق أنك إذا لاحظت ما قدمنا من رأي أبي العلاء في الزمان، رفعت كثيرًا من ثِقَل اللوم الذي وُجِّه إليه؛ فإن أبا العلاء لا يعرف الزمان بأنه حركة الفلك، حتى يلزم من قوله بأن الله في زمان أنْ يكون وجوده مقيسًا بحركة الفلك، وهو المحال الذي يفر منه المتكلمون عامة، إنما يرى أبو العلاء في الزمان معنى ربما ضاقت اللغة عن التعبير عنه، ولم يكن من ألفاظها ما يدلُّ عليه؛ فالزمان موجودٌ عنده قبل الفلك، إنْ صح أنْ يُسبَق الفلك بوجودٍ؛ لأن أبا العلاء يرى قِدَمه. وإنما يريد بالزمان مجرد الاستمرار ذي الصورة الواحدة الذي لا ينقسم إلى ليلٍ ولا نهارٍ، ولا يُقاس بشهرٍ ولا عامٍ، ولا تختلف فيه الفصول من حَرٍّ وبردٍ، ومن خريفٍ وربيع. يريد استمرارًا لا نستطيع أنْ نفسره إلا بأنه ظَرفٌ يحتوي على كل موجودٍ، حتى الليل والنهار اللذين نسميهما نحن زمانًا. وهذا الزمان الذي ذهب إليه أبو العلاء لا يستطيع أنْ يشك فيه إنسانٌ، بل إنَّ اعتقاده جزء من مكونات العقل الإنساني؛ فإنك لا تستطيع أنْ تتصور وجودًا أو ثبوتًا إلا إذا تصورت فيه البقاء والاستمرار، قليلًا أو كثيرًا، من غير أنْ تقيس هذا البقاء والاستمرار بالدقائق والساعات. وهذا الرأي في الزمان هو الذي رآه «استورت مل» الفيلسوف الإنجليزي، وأثبت قِدمه وأنه لا أول له، فإذا فهمنا الزمان بهذا المعنى، لم نستطع أنْ ننفي مقارنته لوجود الله؛ فإن نفي هذه المقارنة نفي للوجود نفسه؛ إذ الوجود في نفسه استمرار، وهذا الاستمرار هو الذي يسميه صاحبنا زمانًا. ويدلك على أنَّ الزمان الذي ذكره أبو العلاء في هذه الأبيات ليس هو الزمان الذي يفهمه المتكلمون قولُ أبي العلاء في قصيدة أخرى:
فانظر إليه، كيف لم يقس وجود الله بمضيٍّ ولا استقبال، ولو كان يريد زمان المتكلمين لحكَّمهما فيه، ولسلَّطهما عليه.
فأما المكان فلا شك في أنَّ أبا العلاء لا يريد به معنىً من هذه المعاني الضيقة التي ذكرها المتكلمون والفلاسفة؛ فإن المكان عند هؤلاء لا يمكن أنْ يتجاوز العالم. ومن ثم اختلفوا في إمكان الخلاء في هذا العالم واستحالته، واتفقوا على إمكانه خارجه، وقد عرفت أنَّ أبا العلاء يرى عدم تناهي الأبعاد، وإذن فهو لا يرى للعالم داخلًا وخارجًا — كما زعم الفلاسفة والمتكلمون. وإذا لم يكن للعالم عند أبي العلاء حدٌّ ولا نهايةٌ، فلا شك في أنه لا يستطيع أنْ يتصوَّر وجود الله خارج هذا العالم؛ إذ ليس العالم عنده خارجٌ، وإذن فالله موجودٌ في العالم والعالم مكانه. وليس في هذا عليه بأسٌ؛ لأنه لم يفسر المكان بالحيز، فيلزمه أنَّ الله جسم، ولم يقل بانحصار العالم، فيلزم أنَّ الله محصورٌ، إنما قال بعالمٍ لا يتناهى، وبمكانٍ لا يتناهى، وإله في هذا العالم لا يتناهى أيضًا، وليت شعري! أي شيءٍ على أبي العلاء في ذلك بعد أنْ نُسلِّم له قوله بعدم تناهي الأبعاد؟!
إنما تنزَّه الله عن الزمان والمكان؛ لأن فيهما تحديدًا لذاته من جهةٍ، وتسليطًا للإمكان عليها من جهةٍ أخرى، فإذا فهمنا الزمان والمكان — كما فهمهما أبو العلاء — لم نرَ عليه بأسًا من أنْ يعتقد أنَّ الله مقارنٌ لهما، وليس ينبغي أنْ يُتَّهم رجلٌ قال ذلك بالكفر، فإنه لم يُقصِّر في تنزيه الله، وإنما ينبغي أنْ يُناقَش في إثبات ما ذهب إليه من رأيه الخاص في الزمان والمكان. فإن صحَّ له هذا الرأي فقد صحَّت له عقيدته، وإنْ لم يصحَّ فقد كان الرجل مخطئًا في تصوره، وعلى هذا الخطأ في التصور قام خطؤه في الاعتقاد. وليلاحظ القارئ أنَّ مكاننا في هذا البحث إنما هو مكان المؤرخ ليس غير، فنحن نحكي رأي أبي العلاء، ونقارن بينه وبين غيره من آراء القدماء والمحدثين، وقد ظهر لنا إلى الآن أنه يوافق المسلمين في فقه التوحيد، وإنْ خالفهم في ظواهر ألفاظه. وعلى هذه العقيدة التي قررها أبو العلاء في الزمان ذكر في بيتٍ واحدٍ قِدَم الله وقِدَم الزمان معًا، فقال:
فجعلهما قديمين، ولكنه آثر الأدب والتنزيه، فقيَّد قِدَم الزمان بكونه مضافًا إلى الأنام، وظن أنه بهذا التكلف والتحيُّلِ يستطيع أنْ يلهينا عن روحه الفلسفي، ولكنه لم يستطع ذلك؛ إذ اضطر إلى الإشارة إلى قِدَم العالم، بل إلى قِدَم النوع الإنساني نفسه، فقال:
الجبر
أظهر آراء أبي العلاء في الفلسفة الإلهية الجبر؛ فإن حياته المادية وشعره في اللزوميات ينطقان به ويدلَّان عليه، لا يحتملان شكًّا ولا تأويلًا، بل إنه قد نَصَّ في مقدمة اللزوميات على أنه لم يؤلف هذا الكتاب مختارًا، وإنما ألفه بقضاء لا يعرف كنهه. وقد ذكر الجبر في اللزوميات أكثر من مائتي مرة، يثبته ويناضل عنه، ويبسط سلطانه على الحياة العملية للأفراد والجماعات، فمن قوله في الجبر:
فانظر كيف أثبت ما قدمناه في أول المقالة الثانية، من أنَّ الإنسان يدخل هذه الدنيا كارهًا، ويخرج منها كارهًا، ولو خُيِّر ما اختار، ويقول أبو العلاء:
فانظر إليه: كيف جعل الله يدبر مقادير تصيب من تصيبه بقدر، وعن حركتها التي أثبت لها المصادفة، يسعد قومٌ ويشقى آخرون، ويقول:
فقد أثبت الجبر في الدخول إلى الحياة والخروج منها، وسأل عنه فيما بين هذين سؤال المستيقن به، الباتِّ لرأيه فيه، وقال:
فلم يبقَ شك بعد هذه الأبيات في أنَّ رُوح أبي العلاء في الفلسفة الإلهية جبري لا يعرف الاختيار، ولا يطمئن إليه، على أنه يقول:
فزاد في هذه الأبيات على أبيات الجبر أمرين؛ أحدهما: نفي التكليف، والآخر أنه يرى الجبر ويؤمن به، ولكن الورع ينهاه عنه. ولو صدق لقال: إنَّ خوف النَّاس هو الذي ينهاه، ويقول أيضًا:
ويقول:
ويقول:
فهذا المقدار القليل من الشعر الجبري في اللزوميات يكفي لإثبات الروح الجبري لأبي العلاء واضحًا جليًّا، فهل أبو العلاء في عقيدة الجبر يوافق نزعة المسلمين؟ الجبر قديمٌ عند الفلاسفة وكثير من أهل الديانات، ومصدر الإيمان به شيئان: أحدهما أنَّ الاختيار لا يتفق مع القول بأن هذا العالم مبنيٌّ في حركاته الاجتماعية والفردية للإنسان وغير الإنسان على العلل والأسباب، وأنَّ كل شيءٍ في هذه الحياة إنما هو نتيجةٌ لشيءٍ كان قبله، ومقدمةٌ لشيء يجيء بعده، فإذا صحت هذه القضية — وقد فرغت الفلسفة من إثباتها منذ أمدٍ بعيدٍ — لم يكن للاختيار موضعٌ في هذا العالم.
ذلك أنَّ هذا الاختيار إما أنْ يكون متصلًا بما قبله وما بعده اتصال العلة بمعلولها، والنتيجة بمقدمتها أو لا. فإن تكن الأولى فهو الجبر؛ إذ لا يمكن أنْ يتخلف المعلول عن علته، ولا أن تحول النتيجة عن مقدمتها، وإذن فادعاء الاختيار ليس إلا غرورًا. وإنْ تكن الثانية فقد بطلت القضية التي قدمناها، وأصبح العالم ملعبًا تختلفٌ فيه المصادفات، وهو ما لا شك في بطلانه. إذن فليس من الجبر محيد، ولا عن الاضطرار مزحل.
المصدر الثاني من مصادر الجبر الإيمان بشمول القدرة والعلم الإلهيين؛ فإن شمول القدرة يقتضي ألا يكون في هذا العالم شيءٌ إلا إذا تعلقت به قدرة الله، فإذا فعل الإنسان شيئًا فإما أنْ يكون مختارًا فيه أو غير مختار، فإن يكن مختارًا فهذا الفعل واجبٌ، وإنْ لم تتعلق به قدرة الله. وهو باطلٌ؛ لأنه يهدم أصل القدرة، وإنْ يكن غير مختارٍ فهو الجبر الذي لا شك فيه. إذن فالدين والفلسفة يتظاهران على إثبات الجبر وإقامة الأدلة عليه، فإذا بحثنا عن الحياة العملية ولا سيما بالقياس إلى أبي العلاء، عرفنا أنها تنتج الجبر أيضًا؛ فإن الرجل يلقى في هذه الحياة ألوانًا من الخير والشر ليس له في اكتسابها يدٌ، وإنما ساقتها إليه أحوال لا يملكها. ومن هنا لهج العامة بالركون إلى الله والاعتماد عليه، وهم لا يفهمون من هذا اللفظ ما يفهم الفقيه في الدين، إنما يريدون أنَّ هذه الحياة مسيرةٌ ليس لعمل النَّاس فيها تأثير، فالمرء لاقٍ فيها حظه، سواءٌ أعمل أم لم يعمل. وفي الحقِّ أنَّا لو حللنا قُوى الإنسان النفسية لم نجد عن الجبر مندوحةً؛ فإن هذه القُوى متأثرةٌ في نفسها بأشياء لا يملكها الفرد ولا الجماعة؛ فالرجل لم يُوجِد نفسه وإنما أوجد غيره، وهو لم يكوِّن قواه وإنما كُوِّنت له. وللزمان والإقليم فيها تأثيرٌ عظيمٌ، وللبيئة الاجتماعية تأثيرٌ أعظم، وللعادات والأخلاق الموروثة تأثير لا يكاد يُقدَّر، والحوادث الطارئة تصرِّفُها كما تريد، وتصوغها كما تشتهي. فمن أين يأتي للإنسان حظه من الاختيار، إلا أنَّ الاختيار وَهْم قد ملك النَّاس منذ كانوا وهم على الخضوع له مجبورون.
من الجبر ما يتعلق بالأشخاص، ومنه ما يتعلق بالجماعات فأحوالك الخاصة، وظروفك التي تكتنفك — محدثة كانت أو قديمة — تحدد لك طريقك في الحياة، وكذلك الظروف والأحوال التي تكتنف الجماعات. ومن الواضح أنَّ الفرد والجماعة لا يملكان لهذه الأحوال والظروف تغييرًا ولا تبديلًا، فإذا كانت هذه الظروف مصدرًا لآلامٍ كثيرة، كالتي أحاطت بأبي العلاء أزالت عن نفسه سلطان الغرور، وأظهرتها على حقيقة أمرها، فعرفت أنها لم تؤثر حياةً ولا موتًا، ولم تختر ما هي فيه من سعادةٍ ولا شقاء، وهذا هو الذي كان من أمر أبي العلاء، كما تبينه لك المقالة الثانية من هذا الكتاب، فلم يختر أبو العلاء ذهاب عينيه ولا فقد أبويه، ولا إصفار يده من المال، ولا إباء نفسه للسؤال، وإنما كل هذه أمورٌ محتومة قد حُمِلت على الرجلِ فاحتملها من غير ما اعتراضٍ ولا نكيرٍ. غير أنَّ اعتقاد الجبر إذا تأثرت به النفس أدى إلى ألوانٍ من مخالفة المألوف في العادة والدين، فقد اضطر أبو العلاء إلى أنْ يجهر بإنكار التكليف أحيانًا، فيقول:
فانظر، كيف جعل عقاب صاحب الكبيرة ظلمًا حين أثبت الجبر، وقد ذهب في بيتٍ آخر إلى أنَّ الإنسان لا يستحق ذمًّا ولا حمدًا؛ لأنه مجبر، فقال:
فهذا كلامٌ يدل على أنَّ أبا العلاء حين رأى الجبر لم يفرق بين الإنسان وبين غيره مما اشتمل عليه هذا العالَم، ولكنه لو بسط سلطان الجبر قليلًا لعرف أنَّ ما ينال الإنسان من مدحٍ أو ذمٍّ، ومن إحسانٍ أو إساءةٍ، ليس في الحقيقة أمرًا اختياريًّا، وإنما هو أمرٌ جبري. فكما أُجبِر الإنسان على أنْ يحسن ويسيء، أُجبِر على أنْ يحمد الحسن ويذم القبيح، بل على أنْ يتصور هذا حسنًا وهذا قبيحًا. وإذا كنا قد قررنا أنَّ المرء مجبرٌ على أنْ ينتحل لنفسه الاختيار، كان من الواضح أنه مجبرٌ على أنْ يضيف إلى نفسه آثار هذا الاختيار المنتحل، فإذا بسطنا سلطان الجبر إلى هذا الحد — وهو كذلك في نفس الأمر — لم يُتَّهَم جبري بمخالفة دين ولا بالخروج على شريعةٍ.
وعلى الجملة، فإن طائفة الأحوال التي اكتنفت الحياة المادية والمعنوية لأبي العلاء قد اضطرته إلى أنْ يتصوَّر الجبر بالصورة التي قدمناها، وأنْ يتخذ منه اعتراضاتٍ على التكليف، تجعل لخصومه سبيلًا عليه.
الروح
ليس لأبي العلاء في الروح رأيٌ ثابتٌ، فقد ذهب فيه مذهبين مختلفين: أحدهما مذهب أفلاطون، وهو أنه جوهرٌ مجرَّد، قد أُهبِط إلى هذا البدن ليُبتَلى فيه، ثم هو عائدٌ بعد الموت إلى العالم العقلي؛ فمعذبٌ أو منعمٌ بما بقي فيه من تذكار ما كان له في الحياة، من إساءةٍ وإحسان. وفي ذلك يقول:
ويقول:
فهذا صريحٌ في مذهب أفلاطون. والثاني مذهب الماديين من قدماء الفلاسفة، وهو أنَّ الروح نارٌ يُخمِدها الموت، وفي ذلك يقول:
فهذا نصٌّ صريحٌ على أنَّ الروح نار يخمدها الموت. ومع أنَّ أبا العلاء قد أكثر من ذكر المذهب الأفلاطوني، ولم يذكر المذهب المادي إلا قليلًا، فنحن نميل إلى أنه كان يرى رأي الماديين في بعض أطواره، فإنه لو كان يرى رأي أفلاطون، لما شك في بعث الأرواح ولسهل عليه أنْ يؤلف بين هذا البعث وبين البعث الذي يراه الدين، وسترى أنَّ أبا العلاء إلى إنكار البعث أقرب منه إلى إثباته، على أنَّ لأبي العلاء رأيًا في الروح يؤكد ميله إلى مذهب الماديين؛ فإن أفلاطون يرى أنَّ الروح خيرٌ، وأنَّ الجسم والمادة هما مصدر الشر، وأما أبو العلاء فيرى على العكس من ذلك، أنَّ الخير هو الجسم، وأنَّ الشرير هو الروح، وفي ذلك يقول:
فانظر كيف وضع الجسم موضع الطبع المجتهد؟ وكيف أسند الجناية إلى الروح والإثمار إلى الأغصان التي لا روح فيها، كأنه يقول: إنَّ الجسم مصدر الخير، وإنَّ الروح مصدر الشر والجنايات. وقد أثبت للروح في أبياتٍ أخرى أنها مصدر الفساد المادي، وعلة ما يصيب الأجسام من الانحلال، مع أنَّ أفلاطون يرى أنَّ الروح قديمٌ خالدٌ. وفي ذلك يقول أبو العلاء:
على أنَّ أبا العلاء قد شكَّ في أمر الروح بعد الموت حين كان يرى رأي أفلاطون، فسأل نفسه: هل تحس الروح بعد الموت كما كانت تحس في الحياة؟ أما أفلاطون فيرى أنَّ الموت يقوِّي ما للروح من حس بالأشياء وظهورٍ عليها، وفي ذلك يقول أبو العلاء:
ومما يؤيد ميله إلى رأي الماديين أنه شك في أنها من النار أم من الهواء، فقال:
ولم يكتفِ بذلك، بل سأل نفسه هل يصحب عقله روحه بعد الموت؟ وقال: إنْ يكن ذلك حقًّا — أي كما يقول أفلاطون — فخليقٌ بها أنْ ترى الأعاجيب، وإلا يكن حقًّا فخليقٌ بي أنْ آسف. وفي ذلك يقول:
التناسخ
عرفنا رأي أبي العلاء في الإله، والجبر، والروح، وهي أهم ما يبحث عنه العلم الإلهي. ولا بد لنا من أنْ نشير بالإيجاز إلى رأيه في التناسخ، ثم في بقية ما وراء المادة من الجن والملائكة، لننتقل من ذلك إلى رأيه في النبوات.
أبو العلاء عرف التناسخ ودرسه، وأشار إليه في سقط الزند، وفي الرسائل واللزوميات، ورسالة الغفران. والتناسخ معروفٌ عند العرب منذ أواخر القرن الأول، والشيعة تدين به، وببعض المذاهب التي تقرب منه؛ كالحلول والرجعة. وليس بين أهل الأدب من يجهل ما كان من سخافات السيد الحميري، وكثير في ذلك. ولما تُرجِم كتاب كليلة ودمنة، وفيه قصة الناسك والفأرة، وهي قصةٌ تمثل مذهب الهنود في التناسخ، شاعت بين النَّاس حتى نُظِمت في الشعر؛ فروى أبو العلاء في رسالة الغفران بيتين نسبهما إلى بعض النصيرية، فقال:
ثم كثر علم العرب بهذا المذهب وغيره من مذاهب الهند، حين اشتدت الصلة بينها وبين بلاد المسلمين، على يد محمود بن سبكتكين — كما قدمنا — فكان النَّاس يتخذون من أخبار الهند وعجائب دينهم طرائف يتندرون بها في المجالس، ويتفكهون بها في الأسمار، كما ترى ذلك في رسالة الغفران ص١٥٣. غير أنَّ أبا العلاء لم يرَ التناسخ ولم يرضه، بل ذمَّه وشنَّعه في رسالة الغفران، وفي اللزوميات، فقال:
والظاهر أنَّ عقل أبي العلاء لم يؤيد التناسخ، فرفضه وأعرض عنه.
الجن والملائكة
أبو العلاء أنكر الجن والملائكة في اللزوميات نصًّا، فقال:
وقال:
ورسالة الغفران مملوءةٌ بالسخرية المؤلمة من الجن والملائكة جميعًا. وقد قدمنا أنه نظم الشعر في رسالة الغفران على ألسنة الجن الذين دخلوا الجنة، فقال — وإنما يريد الهزء والسخرية:
وهي قصيدةٌ طويلة ملئت بالغريب، واشتملت على ما شاع في النَّاس من أخبار الجن (ص٧٩). على أنَّ أبا العلاء لم ينكر قدرة الله على خلق أجسامٍ نورانيةٍ، ليست بلحمٍ ولا دمٍ، فقال:
وفي هذا البيت من السخرية شيء كثير.
النبوات
أبو العلاء كان منكرًا للنبوات، جاحدًا لصحتها، وقد نص على ذلك في اللزوميات صراحةً غير مرةٍ، فطورًا يثبت أنها زورٌ، وطورًا يجعلها مصدر الشرور، وافتن في ذلك افتنانًا عجيبًا، فلم يكتفِ بإنكار النبوات، حتى أنكر الديانات عامة، وزعم أنها للعقل مخالفةٌ، وعن شرعته صادفةٌ. يسلك في ذلك مسلك التورية مرةً، والتصريح مرةً أخرى، فيقول:
ويقول:
ويقول:
ويقول:
ويقول:
ويقول في التعريض بالإسلام خاصة:
ويقول في التعريض بالنبي ﷺ:
ويقول في ذلك معرضًا بقصة خيبر:
ويقول:
ويقول:
وانظر إلى السخرية في قوله:
ويقول:
وانظر إلى تعريضه بالإسلام:
ومثل هذا كثيرٌ منبثٌّ في اللزوميات، لم نشأ أنْ نسرف في روايته اتقاء الإطالة، وخشية الإملال، وهو يَدُلُّ على أنَّ روح الرجل لم يكن روح مؤمنٍ بالنبوات، ولا مصدقٍ للأنبياء، وإنْ كان قد آمن بالله واطمأن إليه. وقد فرغ المتكلمون من إثبات النبوات وإقامة البرهان عليها، وليس بنا أنْ نتناول الرد على أبي العلاء، والدفاع عن النبوات؛ فإنا لم نضع هذا الكتاب في الكلام وإنما وضعناه في التاريخ، إنما يعنينا أنْ نتعرف المصادر التي ألقت أبا العلاء في هذا الجحود؛ فإن الرجل لم يختر الخروج على الأنبياء، وإنما تلك عقيدةٌ لزمته كارهًا؛ لأسبابٍ ما نظن أنها خفية أو غامضةٌ، فقد بيَّنا أنَّ الحياة الدينية كانت في عصر أبي العلاء سيئة شديدة القبح، وكذلك الحياة الخلقية وغيرها من ألوان الحياة العامة. وتدلنا المقالة الأولى على أنَّ الحياة الخاصة لأبي العلاء، كانت مملوءةً بالهموم والأحزان، وأنَّ النَّاس ما كانوا يُقصِّرون في الإساءة إليه، فلا جرم كره ما اتفقوا عليه من سياسةٍ ودينٍ، ومن أخلاقٍ وعاداتٍ، وهو بعد قد قرأ فلسفة اليونان والهنود، وهم لا يؤمنون بالنبوات ولا يعترفون بالأنبياء، غير أنَّ الخطأ الذي وقع فيه كارهًا من غير شك، هو أنه حمل على الدين ذنب أهله، وعاب الشرائع بآثام أصحابها.
وقد تكون العقيدة في نفسها طاهرة نقيةً، حتى إذا مازجت النفوس الفاسدة، وخالطت القلوب المريضة، لم تنتج نتائجها الطبيعية، ولم تؤدِّ إلى ما يمكن أنْ تؤدي إليه من طيب الأغراض. وليس هذا عيبها، وإنما هو عيب النَّاس الذين انتحلوها، فلم يحسنوا الرعاية لها، ولا الحرص عليها.
وكثرة الاختلاف الذي كان بين أهل الأديان، ولم يزل بينهم إلى الآن، وأدى إلى كثيرٍ من الحروب والغارات قد بغَّضت أبا العلاء في الديانات، وقد كان من حقه ألا يبغضها، فليست هي التي أثارت الحروب، وإنما أثارتها الأهواء والشهوات.
أبو العلاء على ذمه للأديان وسخطه عليها، قد مدح الإسلام خاصةً وفضَّله على الأديان عامةً، فقال:
وقد مدح النبي ﷺ وشريعته بقصيدة خاصة في اللزوميات مطلعها:
ويقول في آخرها:
ولكنه مع ذلك لم يمتنع عن إنكار شيءٍ من أحكام الشريعة والاعتراض عليها، فقال في إنكار الدية وقطع يد السارق:
وقال في إنكار ما في القرآن من تقسيم فرائض الميراث:
أبو العلاء قد خصَّص في لزومياته أشعارًا لمناظرة الفرق المختلفة، فعاب على النصارى قولهم بصلب المسيح، وعلى اليهود امتلاء توراتهم بالأكاذيب، وعلى المسلمين الدية والحج والميراث، وعلى المجوس عبادة ما لا يعقل.
ثم التفت إلى الفِرَق الخاصة، فعاب على المعتزلة كثيرًا من آرائهم، ولم يرَ أن تُخلِّد الذنوبُ صاحبَها في النار، وشنَّع الصوفية ولا سيما في رسالة الغفران، وذمَّ الإمامية والقرامطة أقبح ذم، وأنكر انتظار الأولين للإمام المغيب، وإباحة الآخرين للمنكرات. وفي ذلك يقول:
ولو أنا ذهبنا نحصي ما قال أبو العلاء في مناظرة الفرق الخاصة، لطال القول ولتجاوزنا الاقتصاد.
البعث
لا يشكُّ أصحاب الديانات في البعث، ولا يمتري المسلمون في حشر الأجسام. بذلك نطق القرآن الكريم في كثير من آياته. فأما الفلاسفة الماديون فينكرونه جملة، وأما الفلاسفة الإلهيين من اليونان — ولا سيما الأفلاطونية — فينكرون حشر الأجسام، ولا يؤمنون ببعث الأرواح كما نفهمه نحن من الدين، ولكنهم يقولون بخلود الروح، وأنها تنتقل بعد الموت إلى عالمها العقلي، فتشقى أو تسعد بتذكار ما صنعت في الحياة، ولا بد عندهم من أن تعود إلى صفائها بعد المحنة، فلما نُقِل هذا المذهب إلى المسلمين، صبغه الفلاسفة منهم صبغة الإسلام، فسموا رجوع الروح إلى عالمها العقلي بعثًا. أما أبو العلاء فقد اضطرب رأيه في البعث اضطرابًا شديدًا، فمرة أثبته، فقال:
ويقول:
وتارة ينكره نصًّا، فيقول:
قال الأستاذ الجليل الشيخ محمد المهدي في محاضرته التي ألقاها عن أبي العلاء بالجامعة:
وليس هذا البيت عندي بدالٍّ على إنكار البعث، فإن أبا العلاء قد ذهب فيه مذهب التشبيه القديم الذي ذكره الشاعر في قوله:
يريد أبو العلاء أنَّ الزجاج إذ حُطِّم لم يلتئم، فأما الأجسام فإنها تلتئم بعد البلى.
ونذكر أنَّا راجعناه في ذلك فطالبنا بالدليل على أنَّ أبا العلاء كان يعرف إمكان أنْ يُعاد سَبْكُ الزجاج، ولم يقنعه ما ذكرنا من أنَّ إعادة سَبْكِ الزجاج كانت معروفةً في عصر أبي العلاء، بل أراد — وله الحق فيما أراد — أنْ نأتي له بنص من كلام أبي العلاء على أنه كان يعرف ذلك. فها نحن أولاء نورد له اليوم النص الصريح على أنَّ أبا العلاء قد كان بذلك خبيرًا، فمن ذلك قوله في اللزوميات:
وقال:
على أنَّ أبا العلاء لم ينفِ البعث في هذين البيتين وحدهما، بل نفاه أكثر من ستين مرة في اللزوميات. ومن أشنع قوله في ذلك ما رواه القفطي وياقوت، وهو:
وتارة يقف أبو العلاء في أمر البعث موقف الشك، فيقول:
وتارة يجزم بمذهب أفلاطون في الروح، فيقول:
ثم يعود إلى الشك في هذا المذهب، فيقول:
ومهما يكن من شك أبي العلاء أو انتحاله الشَّكَّ في البعث، فإنه لا يرتاب في قدرة الله عليه، وفي ذلك يقول:
ويقول:
ولقد يدلُّ ما قدمناه على أنَّ الروح الفلسفي لأبي العلاء في الطبيعيات والرياضيات، يوناني خالص، وأنه في الإلهيات يونانيٌّ كثيرًا وإسلاميٌّ قليلًا. فهذا الروح الفلسفيُّ يثبت لنا أنَّ أبا العلاء، إنْ لم يكن قد أنكر البعث إنكارًا تامًّا، فقد شك فيه شكًّا شديدًا. وإذ قد فرغنا من فلسفته الإلهية فلننتقل إلى فلسفته العملية وهي آخر ما لفلسفته من الأقسام.
الفلسفة العملية: أصل الإنسان
قدَّمنا في هذه المقالة أنَّ أبا العلاء كان يتَّهِم الأخبار، ولا يُصَدِّقها إلا إذا أيَّدها عقله، مهما كان مصدرها ومهما أيدتها صحة الرواية ونصوص الدين؛ لذلك شك في أب الإنسان، فقال:
ثم جزم بذلك، فقال:
ولعله لاحظ أنَّ ما بين أجيال النَّاس من الاختلاف في اللغة والعادة والدين، بل في الشكل والصورة، يمنع أنْ يكونوا مشتقين من سنخ واحد. وهذا هو مذهب الباحثين من علماء الفرنج في هذه الأيام؛ فإنهم يعتقدون أنَّ كل جنس من البشر نوع برأسه، لم يجمعه مع غيره من الأجناس أبٌ وأم، وهو يخالف ما اتفق عليه القدماء، ودلت عليه نصوص الشرائع السماوية، إنْ فهمت من غير تكلف ولا تأويل. على أنَّ أبا العلاء لم يلبث أنْ شكَّ في هذا أيضًا، فظن أنَّ آدم إنما هو شخص من أشخاص الأساطير، فقال:
وقد قدمنا أنَّ التَّقِيَّة وحدها هي التي أنطقت أبا العلاء بقوله: «لا أدين بما قالوه.»
غرائزه
لم يُعْنَ أبو العلاء من غرائز الإنسان إلا بما يتصل بالأخلاق، وقد أكثر البحث وأطال التفكير، فلم ينتج له ذلك إلا أنَّ الإنسان شريرٌ بطبعه وأنَّ الفساد غريزةٌ فيه؛ ولذلك لم ينتظر له إصلاحًا، ولم يرجُ لأدوائه شفاء. ولا شك في أنَّ الآلام التي بلاها في حياته، والآثام التي رآها في عصره، هي التي قوَّت في نفسه هذا الرأي، حتى ملأ شعره ونثره، ولم تكد تخلو منه قصيدةٌ في اللزوميات. وعلى هذا الرأي بنى أبو العلاء سيرته الخاصة، فآثر العزلة والانصراف من الاجتماع، وقد افتنَّ أبو العلاء في وصف الإنسان باللؤم افتنانًا كثيرًا، فقال:
ويقول:
ويقول:
وانظر إليه: كيف ذم النَّاس في معرض محاورته للغراب، فقال:
وقد تمنى أبو العلاء لو أنَّ الإنسان لم يُوجَد؛ لأنه شريرٌ مفسدٌ في الأرض، فقال:
الدنيا
لم يكن رأي أبي العلاء في الدنيا بأحسن من رأيه في الإنسان، فقد كان لها قاليًا، وعليها زاريًا، ومن لؤمها وخستها اشتقَّ لؤم الإنسان وخسته، وقد اتخذ أمَّ دفر كنيةً لها، فلم يزل يقرعها من اللوم بكل قارعةٍ، حتى أصبح وإنه لأكثر الشعراء ذمًّا للدنيا. ومحاولة الاستدلال على ذلك من شعره، ضربٌ من الإطالة، فإن الرجل لم يُعرَف بخصلةٍ أظهر من ذم الدنيا، على أنه لم يُخلِها من الخير، ولكنه جزء ضئيلٌ بالقياس إلى ما فيها من الشر، وفي ذلك يقول:
العدم
لذلك كره أبو العلاء الوجود وآثر العدم، وتمنى للوليد ألا يُولَد، وللحي أنْ يفنى، فقال:
وقد أكثر من ذلك حتى تجاوز القصد. ومن هنا، رأى أنَّ من الواجب اتقاء الوجود، والاجتهاد في قطع سلسلته بالإعراض عن النسل، الذي هو الحافظ لهذا الوجود. وقد عدَّ أبو العلاء النسل جنايةً على الأبرياء؛ لأنه إلقاء لأولئك الأبناء في بيئةٍ مملوءةٍ بالشرور، قد كانوا بنجوةٍ عنها لو لم يُولَدوا، وفي ذلك يقول:
وقد قدمنا أنه لما مات أوصى أنْ يُكتَب على قبره:
فهذا معناه، يريد أنه بالموت قد فارق هذه الحياة التي لقي فيها الهموم والأحزان، وأنواع الآلام والمصائب، ولولا أنَّ أباه قذفه إلى هذه الدنيا، لما أحسَّ آلام الحياة، ولا حسرات الموت. على أنه لم يشأ أنْ يشاطر أباه هذه الجناية، فقضى حياته عَزَبًا من غير نسلٍ ولا زواج. وقد فصَّل أبو العلاء أدلته المختلفة على وجوب العقم، فقال يصفُ النساء:
فانظر، كيف بالغ في ذلك، حتى استحسن من وأد البنات ما حرَّم الله ونهى عنه الدين. ومن هذا يُعلَم أنَّ أبا العلاء، لم يذهب في بغض النسل مذهب الزهاد من الهنود، الذين إنما كرهوا النسل اجتنابًا للذات الحياة، وإنما ذهب أبو العلاء مذهب من يحب نفسه فيؤثرها بالخير ما استطاع، فقد رأى النسل مصدر ألمٍ وشقاءٍ للوالد والولد جميعًا، فذمَّه وزهد فيه.
الزواج
من الطبيعي إذا أعرض أبو العلاء عن النسل، أنْ يُعرِض عن الزواج؛ لأنه سبيله، ولأن فيه شرورًا أخرى ذكرها غير مرةٍ في اللزوميات، يعرفها من قرأ تائيته التي نظمها في ذمِّ النساء، ومطلعها:
على أنه قد نهى عن الزواج نصًّا، فقال:
وذلك جاءه من سوء ظنه بالنساء، واعتقاده أنَّ العفَّةَ والإحصان فيهن نادرةٌ. ولعل هذا الرأي هو المزدكية التي أشار إليها الذهبي في ترجمته لأبي العلاء، ونسب شيئًا منها إلى رسالة الغفران؛ لاشتمال هذه الرسالة على ألوانٍ من إباحة القرامطة يرويها رواية الساخط عليها. وفي اللزوميات ما يُؤيِّد ميل أبي العلاء في بعض أطواره إلى الاشتراكية في النساء، فهو لا يُفرِّق في حكم العقل بين ابن الحرة وابن الزانية، فيقول:
ويقول:
وسترى أنَّ مذهب أبي العلاء في الأخلاق لا ينافي هذا الرأي. والعجب أنه حكم المنفعة المطلقة في الزواج، فكان نصيحًا مخلصًا حين نصح للناس في أمره، فقد رأى أنَّ الزواج شرٌّ على الرجل؛ لأنه يكلفه مؤنًا وأثقالًا فنهاه عنه، ورأى الزواج خيرًا للمرأة؛ لأنه يرفع عنها أثقال الحياة، فأمر والدها أنْ يلتمس لها الزوج، واضطره ذلك إلى تناقض يقول فيه:
فلما فرغ لنفسه، ولم ينظر في المسألة نظرًا اجتماعيًّا، كره الزواج فعاش ولم يتزوج، وأعلن إعجابه بسيرة الرهبان، فقال:
المرأة
رأي أبي العلاء في المرأة قبيح؛ لأنه يسيء بها الظن في جميع أطوارها، ويرى أنَّ تُقطَع الأسباب والوسائل بينها وبين الحياة العامة؛ إذ هي لا تصلح منها لشيءٍ، فأما العلم فقد حظره عليها، فقال:
وإذ لم يكن للناس كافة أنْ يطيعوا أمر أبي العلاء في ذلك، بل لا بد من أنْ يهم بعضهم بتعليم المرأة، فقد ألح في ألا يدخل عليها من المعلمين، إلا الشيخ الفاني، أو العجوز الهالكة، فقال:
وفي هذه التائية وصف لحال المرأة، ما نظن أنَّ شاعرًا بلغ منه مبلغ أبي العلاء، وهو يدل على أنه كان أتقن درس حالها في عصره أي إتقان، وقد تشدد أبو العلاء في الحجاب، فقال:
ونهى المرأة عن الحج وعن شهود الجماعات، غير مرة في اللزوميات.
الأخلاق
نظلم أنفسنا ونظلم القارئ، إنْ أحببنا أنْ نُفصِّل ما تناول أبو العلاء من الأخلاق في اللزوميات؛ فإن ذلك يستغرق كتابًا يعدل هذا الكتاب بأسره، وإنما سبيلنا أنْ نبيِّن قاعدته التي بنى عليها رأيه في الأخلاق. هذه القاعدة — فيما نعتقد — هي قاعدة اللذة التي وضعها أبيقور الفيلسوف اليوناني. وربما وقع هذا الاسم من القلوب موقعًا غريبًا بالقياس إلى أبي العلاء؛ فإن النَّاس لا يفهمون من أبيقور إلا رجلًا مستهترًا باللذات، متهالكًا عليها، فأين هذا الرجل من أبي العلاء؟! غير أنَّ الدارس المستقصي لفلسفة هذا الحكيم اليوناني وحياته، يرى أنَّ الفرق بينه وبين أبي العلاء لم يكن عظيمًا. كان هذا الحكيم يرى أنَّ من حق الإنسان أنْ يحصِّل كل ما استطاع تحصيله من اللذات، على ألا تنتج له من الآلام ما يرجحها ويزيد عليها، وإذ كانت اللذة في هذه الحياة إنما تئول إلى ألم مضاعف، فلا جرم انتهى أبيقور إلى رفض اللذة عملًا؛ لأنه لم يستطع أنْ يُحصِّلها خاليةً من الألم. ورأى أنَّ الألم القليل تعقبه راحة النفس وصحة الجسم، خيرٌ من اللذة الكثيرة يعقبها الألم والشقاء؛ لذلك أنفق حياته في مثل حال أبي العلاء من الزهد والقناعة، فكان لا يأكل إلا الشعير، ولا يلبس إلا خشن الثياب، ثم بقي أصله الفلسفيُّ وأخذ بعض تلاميذه بظاهر رأيه، فانهمكوا في ملاذهم. ومن هنا، ذُكِر الرجل بالإسراف في طلب الملذات.
أبو العلاء يرى رأي أبيقور هذا، كما تدلُّ عليه اللزوميات في مواضع كثيرةٍ، نجتزئ منها بقوله:
فليس من الغريب بعد ذلك أنْ يشير أبو العلاء بالاشتراكية في النساء. فمن أراد أنْ يعرف رأيه في الفضائل المفصَّلة، فليرجع إلى الطوال من قصائده، في باب التاء والميم والنون من اللزوميات.
السياسة
سُخْطُ أبي العلاء على ما رأى وقرأ من ظُلْم الملوك والأمراء، دعاه إلى التفكير في مصدر السلطة التي أُتِيحت لهم، فلم يرَ لها مصدرًا إلا الأُمَّة التي استأجرت حكامها ليقوموا بمصالحها العامة، فأيُّ تجاوزٍ لهذه القاعدة يقع فيه الحكام كافٍ لمقتهم والتعاون عليهم، وهو أحدث الآراء الإفرنجية في الحكم، وفيه يقول:
ومن هنا نعلم أنَّ أبا العلاء لا يرى الملك ولا وراثته، وإنما يرى الانتخاب والبيعة — كما يراها الجمهوريون. فأما سخطه على القدماء والمحدثين من الملوك، فكثيرٌ في اللزوميات، وقد روينا بعضه فيما سبق.
الاقتصاد
اغتر بعض النَّاس بقول أبي العلاء:
فظن أنَّ أبا العلاء اشتراكيٌّ، يرى مذهب الاشتراكيين من الفرنج، وهذا نوعٌ من الغلو لا نحب أنْ نتورط فيه؛ لأنا لا نعرف الرأي المفصَّل لأبي العلاء في تقسيم الثروة، وإنما نعرف أنه كره انقسام النَّاس إلى الفقراء والأغنياء، فقال:
وتمنى أنْ يشترك النَّاس في النِّعْمَةِ كما اشتركوا في البؤس، فقال:
وحمد الزكاة وحث عليها، فقال:
وأحَبَّ المساواة وأمر بها، فلم يفرِّقْ بين سَيِّدٍ وعبدٍ، فقال:
بل لم يُفرِّقْ بين النَّاس وإنْ اختلفت أديانهم، وليس يهمه أنْ يكون الرجل مسلمًا أو مجوسيًّا ما دام يفعل الخير، وفي ذلك يقول:
«ولزمزمة هينمة المجوس على الطعام.»
تكريمُ الجسم بعد مَوْتِه
إذا مات الإنسان لم يحفل بجسمه أبو العلاء، ولم يرضَ تكريمه، بل يرى أنْ يُوارَى في التراب، أو أنْ يُفعَل به أي شيءٍ، فإنه لا يحس ولا يتألم، وفي ذلك يقول:
وقد أنكر على النصارى وضع موتاهم في التوابيت، فقال:
وقد استحسن أبو العلاء غير مرةٍ تحريق الهند موتاهم وأحبه، وفي ذلك يقول:
وبهذه السنة الهندية، أخذ الفيلسوف الإنجليزي سبنسر الذي مات في هذا القرن، فأوصى بتحريق جسمه وأُنفِذت وصيته.
الحيوان
أخذ أبو العلاء عن أهل الهند تحريم الحيوان وما يخرج من الثمرات، وقد فصلنا ذلك في المقالة الأولى، وحسبنا أنْ نورد الآن ما قال فيه من الشعر، فمن ذلك قوله:
ولأهل الهند في هذا الموضوع وغيره من موضوعات الزهد والنسك كلامٌ كثيرٌ، يُراجَع في الملل والنِّحَل للشهرستاني، وفيما كتب سلامون عن أبي العلاء، ولما شاعت هذه القصيدة عن أبي العلاء وانتهت إلى مصر، كانت المناظرة التي رواها ياقوت بين أبي نصر هبة الله بن عمران داعي الدُّعاة، وبين أبي العلاء في تحريم الحيوان. ومن قرأ هذه الرسائل، لم يَشُكَّ في أنَّ أبا العلاء إنما كان يدافع الرجل مدافعة، ولا يريد مناظرته؛ فقد زعم أنه ترك الحيوان وهو يعتقد أنه مباح، وأنَّ ذلك تجاوز عما أباح الله له زهدًا وورعًا، مع أنَّ شعره يدل على تحريمه أكل الحيوان، ثم اعتذر بفقره، فلما عُرِضت عليه الثروة رفضها، ولم يزل داعي الدعاة يلحُّ عليه، حتى كانت بينهما مشاكسة مات بعدها أبو العلاء بقليل.
والصوم عن الحيوان مذهب معروف، شائع بين كثير من فلاسفة الغرب الآن. وأبو العلاء أرفق النَّاس بالحيوان وأرحمهم له، فإذا أحببت أنْ تتبين ذلك، فارجع إلى محاورته للديك والجمل والشاة ونحوها.
العزلة
شعر أبي العلاء وسيرته يدلان على أنه كان يؤثر العزلة، وإنْ لم يُوفَّق إليها — كما قدمنا — وليس أبو العلاء أول من اخترع العزلة أو رغب فيها، بل هي مذهبٌ قديمٌ معروفٌ، ولا سيما عند أهل الهند. والقول في فضل العزلة أو ذمها معروفٌ مشتركٌ بين الناس.
خصائصه الفلسفية
من هذه المقالة التي فصَّلناها في فلسفة أبي العلاء، تعرف أنَّ المسلمين لم يعهدوا بينهم في قديمهم وحديثهم فيلسوفًا مثله، قد جمع بين الفلسفة العلمية والعملية، ثم بينهما وبين العلم واللغة. وأبو العلاء هو الفيلسوف الفذ الذي التزم ما لا يلزم عند المسلمين في سيرته ولفظه، فحرَّم الحيوان والتزم النبات وأبى الزواج والنسل، وأراد اعتزال الناس. ولأبي العلاء — مع أنه من أصحاب اللذة — شدة غريبةٌ في رفض الخمر. فقد حرمها من جهاتٍ ثلاث: من جهة العقل والصحة والدين. وألَّف في ذمها كتابًا خاصًّا سماه «حماسة الراح». وأبو العلاء هو الفيلسوف الفذ الذي أنكر النبوات، واعترف بالإله وعرض بالتكليف، وعارض القرآن وهزئ بشيءٍ من أحكامه، ثم بقي مع ذلك سالمًا لم يصبه أذى في نفسه إلى أنْ مات. فإذا سألت عن علة هذه السلامة فإنا نحصرها في ثلاثة أشياء؛ الأول: مهارته في الاحتياط وإخفاء الرأي — وقد قدمنا القول في ذلك. الثاني: أنَّ أكثر أيامه كانت أيام اضطرابٍ سياسي بين حلب ومصر والروم، فلم يفرغ له الحكام. الثالث: أنَّ الدولة التي غلبت على حلب أيام فلسفته، وهي دولة بني مرداس، كانت دولة بدوية خالصة، لا تحفل بمثل هذه الموضوعات ولا تفكر فيها، وإنما كل همها القهر والسلطان.
على أنَّ أبا العلاء كان يدفع الحكام عنه، بكتب في اللغة يعنونها بأسمائهم، فيتخذ له بذلك منهم أصدقاء، ولم يقصر هذا على حكام المرداسية، بل فعله مع الدزبري، فألف له كتابًا خاصًّا وهو نائب الفاطميين الذين يكرههم أبو العلاء؛ لذلك سَلِمَ من الأذاة الدينية في القرن الحادي عشر للميلاد، مع أنَّ أمثاله من الفلاسفة الفرنج، كانوا يُقتَلون ويُعذَّبون في القرن السادس عشر في أوروبا. وهذا ما دعى سلامون إلى العجب الكثير.
هذه خلاصة ما أحببنا أنْ نكتب عن أبي العلاء، وعن أدبه وعلمه وفلسفته، لا يفرغ منها القارئ حتى يتجلى له القرن الرابع والخامس واضِحَيْن، ولسنا نزعم أننا وُفِّقنا فيها إلى الكمال في التأليف، ولا إلى ما يقرب من الكمال، وإنما نعتقد أنا لم ندع جهدًا في البحث والتنقيب، وفي التعليل والاستنباط إلا بذلناه. ولسنا نحمد أبا العلاء ولا نذمه؛ لأن قاعدتنا في تأليف التَّاريخ لا تسمح لنا بذلك — كما قدمنا في تمهيد الكتاب — وإنما نرجو أنْ نكون قد مثلنا بهذا السِّفر صورة حيةً من صور المسلمين في عصورهم الماضية، تدعو إلى العظة والاعتبار. وعلى الله وحده نحتسب ما لقينا في ذلك من الجهد والعناء، وإليه نفزع في التماس المعونة والتوفيق.