المدارس الفلسفية الإسلامية
(١) مدرسة الكندي
لم يظهر في الإسلام مدارس فلسفية منظَّمة تفتح أبوابها للطلبة كما كان الحال في أكاديمية أفلاطون أو «لوقيون» أرسطو، أو حديقة إبيقور؛ وإنما ظهرت على معنى الصحبة والأتباع وتقليد المذهب. وهذا على عكس مدارس الفقه واللغة والتفسير والحديث، التي أُنشئت منذ القرن الخامس الهجري، وانتشرت في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ورُتِّب لها الأساتذة والكتب والجِرَايات، وأُقيمت لها أبنيةٌ خاصة؛ وعلة ذلك أن الفلسفة كان يُنظر لها بعين الارتياب، واتُّهم المشتغلون بها بالكفر والإلحاد، فلم يكن يتسنَّى للدولة أن ترعاها.
ثم إن الفلاسفة الإسلاميين لم يكونوا فلاسفةً فقط، بل اشتغل معظمهم بالطب أو الرياضيات، ثم اتصلوا من ذلك بالفلسفة، ولم تنقطع صلتهم بالطب أو بالرياضيات، فكانوا حكماء وأطبَّاء في آنٍ واحد. وكانت هناك مدارس طبية ملحقة بالبيمارستانات يتخرَّج فيها الأطبَّاء. ولكن حديثنا أساسًا عن المدارس الفلسفية، فأين كانت تلك المدارس؟ الأرجح أن الفلاسفة كانوا يعقدون تلك المدارس، والأصح أن يُقال «المجالس» في دُورهم، ولم يكن عدد أتباعهم كبيرًا، بل بضعة نفر.
ومن هذا القبيل مدرسة الكندي، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي، فيلسوف العرب، وأحد أبناء ملوكها؛ لأن كندة كانوا ملوكًا على اليمن. تولَّى إسحاق بن الصباح إمارة الكوفة في خلافة المهدي والهادي والرشيد، وولد ابنه يعقوب بالكوفة سنة ١٨٥ هجرية، وبها تعلَّم القراءة والكتابة والنحو والعربية والفقه وعلم أصول الدين، ولكنه انصرف عن علم الكلام إلى علم الطب والفلك والرياضة والفلسفة، وشارك النقَلة في الترجمة، وكان يُصلح الكتب المترجمة بأسلوبه العربي الفصيح، وفسَّر كثيرًا من كتب أرسطو، وألَّف كتبًا مبتكرةً جعلت مؤرِّخي الفلسفة الإسلامية يصفونه بأنه فيلسوف العرب. وقد نبغ في خلافة المأمون والمعتصم، وكان مؤدِّب أحمد بن المعتصم بالله، وعاش زمان المتوكل، وتُوفي سنة ٢٥٥ هجرية.
إن الكندي فيلسوفٌ على الحقيقة، جدير بهذا الاسم، ويُعَد استمرارًا للتعليم الإسكندراني الذي ورثه العرب بعد نقله إلى اللغة العربية، بعد أن دفع هذا التراث دفعةً قوية، وطعَّمه بالديانة الإسلامية موفِّقًا بين الدين والفلسفة.
وقد عاصر الكندي المترجمين، حتى قيل إنه أحد أربعة من حُذَّاقهم، والثلاثة الآخرون هم: حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، وعمر بن الفرخان الطبري. والحق أنه لم يكن مترجمًا بمقدار ما كان مصلحًا للتراجم الغثَّة، وكان إلى ذلك مقتبسًا للفكر اليوناني يُلخِّصه ويأخذ زبدته، وكان يصطنع مترجمين من السريان ينقلون إليه ما يُريد من كتب، ومن المعروف أن الذي كان يُترجم لحسابه يُسمَّى «أسطاث». وكان الكندي يعرف اللغة السريانية معرفةً جيدة، وألَّف بهذه اللغة رسالةً صغيرة. أمَّا معرفته للغة اليونانية فمشكوك فيها.
وله مؤلَّفاتٌ غزيرة بلغت زُهاء مائتين وستين كتابًا ورسالةً في شتَّى فنون المعرفة؛ من منطق ورياضيات وفلك وموسيقى وعلوم طبيعية وميتافيزيقا وأخلاق وسياسة وكيمياء وغير ذلك؛ ممَّا يجعلنا نقول إنه كان فيلسوف الحضارة العربية في القرن الثالث الهجري. ومعظم كتبه كان يُوجِّهها إمَّا للمعتصم، أو لأحمد بن المعتصم، أو لبعض الإخوان والتلاميذ، الذين كانوا يستفسرون عن مسائل، تُعد الرسالة ردًّا على تلك الأسئلة. ومعظم الرسائل الباقية بين أيدينا تجري على هذا النحو من السؤال والجواب، ممَّا يُؤكِّد أن الكندي لم يكن مترجمًا ناقلًا، بل كان مفكِّرًا أصيلًا حصل المعارف السابقة وتمثَّلها، ثم أبدى رأيه بعد ترجيح وجهة نظر على أخرى، وإضافة آراء جديدة. ونضرب مثالًا لذلك برسالة يُجيب فيها عن ثلاث مسائل مختلفة، الأولى: لِمَ صار البخار يجمد في الجو؟ والثانية: عن الصحو والغيم. والثالثة: إذا كانت الأعداد بلا نهاية، فهل يمكن أن تكون المعدودات بلا نهاية. وليس من الضروري أن يكون السائل قد تراسل فعلًا مع الكندي؛ إذ لعله قد باحثه، وكانت نتيجة المباحثة تقييد هذه الرسالة. وكذلك كان يفعل مع تلميذه أحمد بن المعتصم بالله، ولذلك جاءت رسائله ذات هيئةٍ تعليمية مرتَّبة.
ويبدو أن الكندي كان يستقبل تلاميذه في داره، حيث كان يقتني مكتبةً واسعةً من أكبر المكتبات، حتى سُمِّيت بالمكتبة «الكِندية». ولهذه المكتبة قصةٌ جديرة بالرواية؛ إذ كان محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر في أيام الخليفة المتوكِّل يكيدان كل من ذُكر بالتقدُّم في معرفة، فدبَّرا على الكندي حتى ضربه المتوكِّل، ووجَّها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها، وأفرداها في خزانة سُمِّيت «الكِندية»، واسترجع الكندي مكتبته فيما بعدُ حين رضي عنه المتوكِّل.
ومن تلاميذه أبو العباس أحمد بن محمد الخراساني، كان ممن ينتمي إلى الكندي، وعليه قرأ، ومنه أخذ. ومنهم ابن كرنيب أبو أحمد الحسين بن أبي إسحاق بن إبراهيم الكاتب، وكان يُعَد من جملة المتكلِّمين. ومنهم علي بن الجهم، وكان من الشعراء المختصين بالمتوكِّل. وعدوا منهم كذلك جماعةً باسم نفطويه، وحسنويه، وآخرون على هذا الوزن.
وطريق المعرفة عند الكندي إمَّا حسي، وإمَّا عقلي، أو هما معًا. ولا بد مع ذلك من أمور أربعة يتبعها طالب الفلسفة؛ وهي الطلب والبحث والأداة والزمان. فالطلب سعي إلى غاية، والبحث تفتيش عن الخفايا، والمعرفة ثمرة البحث، والبحث نتيجة الطلب. وأدوات البحث الرياضة والمنطق. والزمان داخل في كل فعل إنساني، على عكس العلم الإلهي الذي «يتم بلا طلب، ولا تكلُّف، ولا بحث، ولا بحيلةٍ من الرياضيات والمنطق، ولا بزمان». ويُهمُّنا من هذه الأمور الأربعة الرياضة والمنطق.
فقد ورث العرب فلسفة أفلاطون كما ورثوا فلسفة أرسطو، وكان أفلاطون يعتمد في الفلسفة على المنهج الرياضي، وكان أرسطو يعتمد على المنطق. ولمَّا كان الكندي فيلسوفًا رياضيًّا في المحل الأول، فلا عجب أن يجعل الرياضة مدخلًا لا بد منه لتعلُّم الفلسفة. وفي ذلك يقول بعد ذكر كتب أرسطو التي يحتاج الفيلسوف التام إلى اقتناء علمها، إنه يجب اقتناء علم الرياضيات قبل ذلك؛ «فإنه إن عَدِم أحد علم الرياضيات التي هي علم العدد والهندسة والتنجيم والتأليف (أي الموسيقى)»، وإن طالب الفلسفة إذا لم يُحصِّل العلوم الرياضية تحصيلًا وافيًا؛ فلن يتسنَّى له معرفة الفلسفة معرفةً صحيحة.
لذلك كان العلم الرياضي، مع أنه أوسط في الطبع، إلَّا أنه أول في التعليم.
ولكن فلاسفة العرب بعد الكندي لأنهم اتجهوا وجهةً مشَّائية، فقد اتخذوا من المنطق أداةً لتعلُّم الفلسفة، كما هي الحال عند الفارابي وابن سينا فيما بعد.
ويُعَدُّ الكندي أول مصنِّف للعلوم عند العرب، وهو صاحب قسمة العلوم قسمين؛ دينية وفلسفية، وتبعه في هذا التقسيم سائر الذين صنَّفوا العلوم ابتداءً من الفارابي إلى ابن خلدون. والذي دفعه إلى إضافة العلوم الدينية أن الإسلام جاء بعلومٍ لا غنى عنها؛ مثل علم النبوة وعلم أصول الدين، وما يتصل بهما من فقه وحديث وتفسير وغير ذلك.
وقد شقَّ الكندي طريق العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى، وكان يُعَد في العصر الوسيط أحد ثمانية من كبار علماء الفلك في العالم في ذلك الزمان. اشتُهر في أوروبا بكتبه التي تُرجمت إلى اللغة اللاتينية، والتي لا يزال بعضها موجودًا.
وهو صاحب أول مدرسة موسيقية في الإسلام، من الناحية النظرية. وقد وضع رسائله في الموسيقى لفائدة المتعلِّمين، وبيان طريقة تعلُّمهم. يقول في إحدى رسائله عند الكلام على طريقة جسِّ الأوتار: «وهو سبيل ومدخل إلى التعليم، والألف للأصابع في التنقُّل على الدساتين، فإن من استعمل ذلك وأحكمه وأسرع فيه، قبل أن يقصد إلى التعلُّم؛ كان أسرع للقبول، وسهلت عليه محاكاة الأستاذ …»
وعلى الرغم من البحث النظري في الموسيقى وأصولها وحسابها الرياضي، فإن الكندي يرى أن فنون تعليم الموسيقى «موجودة عند أهل هذه الصناعة، وأخذها عنهم، وتعلَّمها منهم نظرًا، أسرع وأقرب إلى الفهم منها من الكتاب.»
وقد عُنِيَ الكندي بالفنون العملية التي تُشكِّل حضارة الأمة من الناحية المادية، ولذلك اشتغل بالكيمياء، وما يتصل بالكيمياء من أصباغ وأحماض. وليس ببعيد أنه كان يُجري في داره تجارِب كيميائية. وله رسالة في السيوف تدل على معرفةٍ وثيقة بصناعة الحديد والصلب، استمدَّها من الاختلاط بأرباب هذه الصناعة؛ وهذا كله يُثبت أن الفلسفة في ذلك العصر لم تكن منعزلةً عن المجتمع وحاجاته والرغبة في العمل على رُقيِّه وتقدُّمه.
ويتلخَّص مذهبه الفلسفي في أمرَين يستهدفان غرضًا يُريد الوصول إليه؛ أمَّا الغرض فإثبات «الواحد الحق» وهو الله سبحانه. ولمَّا كان الإسلام يرمي إلى إثبات الوحدانية، وأن الله «الواحد» مبدع العالم من عدم، وكانت الفلسفة في صميمها تبغي معرفة الإله «الواحد» الحق، فلا منافاة بين الدين والفلسفة، أو بين الحكمة والشريعة. وليس الاشتغال بالفلسفة كما يتهمها رجال الدين كفرًا؛ إذ لا يوجد في الدين ما ينص على تحريمها وكفرها.
والأمر الثاني محاولته التوفيق بين أفلاطون وأرسطو. وقد رأينا أن ذلك التوفيق بدأ بالإسكندرية، وعند أفلوطين وفرفريوس بوجه خاص. ولكن جوهر فلسفة أفلاطون التي تؤمن بالمثل أصلًا للموجودات، يُخالف جوهر فلسفة أرسطو التي تُعَد فلسفة وجود قبل كل شيء، وتُخالف جوهر فلسفة أفلوطين التي تعتمد على «الواحد»، وتصدر عنه الموجودات بسلسلة من «الفيض». ولم يستطِع الكندي أن يحل هذه المشكلة، وأن يدمج فلسفة الوجود وفلسفة «الواحد» في مذهب جديد يُوفِّق بينهما. وهذا ما فعله الفارابي فيما بعد.
صفوة القول: لم يكن الكندي رئيسًا لمدرسة في بغداد بالمعنى المقصود من مدرسة عبارة عن بناء يشتمل على حُجرات يجري فيها التعليم بطريقةٍ منظَّمة؛ إذ كانت تلك المدارس لأسباب تاريخية وقفًا على النصارى وملحقةً في الأغلب بالأديرة، بعد انتقال الفلسفة والعلوم من الإسكندرية إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى حران، وإلى «جُنْدَيسابور»، ومنها إلى بغداد؛ ولذلك قال الدكتور مايرهوف في بحثه عن انتقال التعليم من الإسكندرية إلى بغداد: إن «الكندي الذي عاش آنئذٍ في بغداد، وكان أول فيلسوف مسلم، لم يكن يُدير أي مدرسة، وإنما كان يُعطي دروسًا خاصة.»
استطاع الكندي أن يبرز كفيلسوف، وأن يرتفع عن مجرَّد اتباع الكتب المترجمة، وأن يخلق في بغداد جيلًا من التلاميذ، ولم يكونوا كثيرين، أشهرهم ثلاثة هم: ابن كرنيب الذي كان صاحب مدرسة في بغداد، وأحمد بن الطيب السرخسي، وأبو زيد البلخي.
أمَّا الذي اشتُهر بين العرب حتى سُمِّي المعلِّم الثاني، فهو الفارابي.
(٢) مدرسة الفارابي
أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي. وُلد ٢٥٩ هجرية، وتُوفي ٣٣٩. والفارابي نسبةً إلى مدينة فاراب بين حدود فارس وتركيا. انتقل إلى بغداد وتعلَّم بها الفلسفة على شخص يُسمَّى يوحنا بن حيلان، فأتقن المنطق، وانتهى به المطاف إلى بلاط سيف الدولة الحمْداني، فخدمه، ولازمه، وتُوفي بدمشق سنة ٣٣٩ هجرية. سُمِّي المعلِّم الثاني في أكبر الظن؛ لأنه أدخل صناعة المنطق عند العرب، باعتبار أن أرسطو — صاحب المنطق — هو المعلِّم الأول. وقد طُعِن على الكندي وقيل إنه يجهل المنطق، ولا يعرف بوجه خاص صناعة التحليل، أو البرهان، وأن الذي ذلَّل المنطق، ويسَّره، وفسَّره، هو الفارابي. والحق أن الكندي كان رائدًا شق الطريق، وكان يُكابد في وضع المصطلح العربي المقابل للمصطلح اليوناني، وقد هجر كثيرًا من المصطلحات التي وضعها، ولم تستقرَّ في الواقع إلَّا زمان الفارابي، الذي يُعد صاحب الفضل في استقرارها. وأيضًا فإن الكندي — كما ذكرنا — لم يكن يؤمن بالمنطق أداةً أولى لتحصيل الفلسفة، وآثر عليها الرياضيات؛ لذلك لم يكن يعنيه كثيرًا أن يتعمَّق في صناعة المنطق، على الرغم من أن ثبت مؤلَّفاته يدلُّ على أنه فسَّر معظم كتب أرسطو المنطقية.
وللفارابي كتبٌ كثيرة معروفة؛ منها آراء أهل المدينة الفاضلة، وإحصاء العلوم، وتحصيل السعادة، والتنبيه على سبيل السعادة، والجمع بين رأيَي الحكيمَين، وغير ذلك من الرسائل المطبوعة. وله من الكتب المخطوطة الشيء الكثير، إلَّا أن معظمها مفقود، وكتابه الموسيقى الكبير تحت الطبع في الوقت الحاضر.
ثم إنه لم يتعلَّم على يوحنا بن حيلان فقط، بل على أبي بشر متَّى بن يونس أيضًا. وذكر ابن خَلِّكان كيفية اتصاله بأبي بشر، وتعلُّمه منه، بما يُوضِّح كيف كان يُجري التدريس، قال: «ولمَّا دخل بغداد، كان بها أبو بشر متَّى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخٌ كبير، وكان يقرأ الناس عليه فنَّ المنطق، وله إذ ذاك صيتٌ عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق، وهو يقرأ كتاب أرسطوطاليس في المنطق، ويُملي على تلامذته شرحه، ولم يكن في ذلك الوقت مثله في فنه. وكان حسن العبارة في تآليفه، لطيف الإشارة، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذليل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلَّا من أبي بشر. وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته، فأقام أبو نصر كذلك برهة، ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفًا من المنطق. ثم إنه قفل راجعًا إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطوطاليس، وتمهَّر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها.» من هذا يتضح أن أبا بشر متَّى بن يونس كان رئيس مدرسة في بغداد، ولكنه لم يكن هو الذي ابتدعها، بل تعلَّم على غيره في سلسلةٍ متصلة من التعليم الفلسفي.
ولكي نفهم موضع الفارابي في هذه السلسلة، يحسن أن نتتبَّعها من بدايتها بالإسكندرية، وذلك عن روايةٍ نقلها ابن أبي أُصيبعة في طبقات الأطبَّاء عن كلامٍ للفارابي في ظهور الفلسفة، وأنه كان زمان اليونانيين حتى أرسطو، ثم انتقل إلى الإسكندرية في حكم البطالسة حتى كليوباترا، ولمَّا استولى الرومان على مصر، استنسخوا الكتب الموجودة بالإسكندرية، وأصبح للفلسفة موضعان للتعليم؛ أحدهما في روما، فلمَّا انتصرت النصرانية زالت مدرسة روما وبقيت الإسكندرية، وانتقل منها التعليم إلى أنطاكية واستمرَّ بها إلى أن بقي «معلِّم واحد، فتعلَّم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حران، والآخر من أهل مرو. فأمَّا الذي من أهل مرو، فتعلَّم منه رجلان؛ أحدهما إبراهيم المروزي، والآخر يوحنا بن حيلان. وتعلَّم من الحراني إسماعيل الأسقف، وقويري، وسارا إلى بغداد، فتشاغل إسماعيل بالدين، وأخذ قويري في التعليم. وأمَّا يوحنا بن حيلان، فإنه تشاغل أيضًا بدينه. وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها. وتعلَّم من المروزي متَّى بن يونان (أي يونس) … وقال أبو نصر الفارابي عن نفسه إنه تعلَّم من يوحنا بن حيلان إلى آخر كتاب البرهان.»
وإذا كنَّا قد عرفنا طرفًا من طريقة أبي بشر، فإن الغموض يلفُّ شخصية يوحنا بن حيلان. ويبدو أن تأثُّر الفارابي بأبي بشر كان أعظم. وقيل إن الفارابي كان أصغر سنًّا من أبي بشر، ولكنه كان أحدَّ ذهنًا، وأعذب كلامًا؛ وسبب ذلك أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السرَّاج النحوي، فيأخذ عنه النحو، ويأخذ عنه ابن السرَّاج المنطق.
ولسنا ندري إلَّا النزر اليسير عن طريقة الفارابي في التدريس. ويمكن استخلاص هذه الطريقة من ثبتِ كُتبه الوارد في طبقات الأطبَّاء لابن أبي أُصيبعة؛ فقد كان الفارابي قصير النفَس في التأليف، وكتبه تعاليق. ويبدو أنه في التأليف كان يستغرق زمنًا طويلًا؛ لأن كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة بدأ في تصنيفه ببغداد، «وحمله إلى الشام في آخر سنة ثلاثين وثلاثمائة، وتمَّمه بدمشق في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وحرَّره، ثم نظر في النسخة بعد التحرير، فأثبت فيها الأبواب، ثم سأله بعض الناس أن يجعل له فصولًا تدل على قسمة معانيه، فعمل الفصول بمصر سنة سبع وثلاثين …» ويُهمنا في هذا الخبر أن جماعةً من التلاميذ سألوه أن يُرتِّب الكتاب، ولكن من الصعب معرفة أسماء هؤلاء التلاميذ. ويبدو كذلك أن الفارابي كان يضيق بالكتابة، ويستحسن الإملاء على تلاميذه، من ذلك أن له كتاب «شرح كتاب البرهان لأرسطوطاليس، على طريق التعليق، أملاه على إبراهيم بن عدي، تلميذ له بحلب.» ومن ذلك أيضًا كتاب يُسمِّيه ابن أبي أُصيبعة «كلام أملاه على سائل سأله عن معنى ذات ومعنى جوهر، ومعنى طبيعة.»
وأعظم تلاميذه يحيى بن عدي المنطقي، إليه انتهت الرئاسة ومعرفة العلوم الحِكَمية في وقته. قرأ على أبي بشر متَّى، وعلى أبي نصر الفارابي، وهو نصرانيٌّ يعقوبي، تُوفي ٣٦٤ﻫ. كان مترجمًا عن السريانية، ومعظم مؤلَّفاته في المنطق. وعن طريق يحيي بن عدي، تسلسلت المدرسة المنطقية في بغداد، فرأسها أبو الخير الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار، وُلد ٣٣١، فيلسوف وطبيب، ومنطقي، وله شروح وتعليقات على أورجانون أرسطو. ثم أبو علي عيسى بن إسحاق بن زرعة، نصراني يعقوبي، له ترجمات لبعض كتب أرسطو، والإسكندرانيين. ثم عبد الله ابن الطيب، تلميذ ابن الخمار، فيلسوف وطبيب، اشتغل بالبيمارستان العضدي، جمع بين الطب والفلسفة، شرح ميتافيزيقا أرسطو وكتبه المنطقية، واتصل بالمراسلة مع معاصره ابن سينا.
لا نود أن نُحصي أسماء كل الفلاسفة الذين اشتُهروا ببغداد، وأخذ بعضهم عن بعض، فهذا أمر يطول، وفي القدر الذي ذكرناه كفاية لتوضيح مدرسة بغداد الفلسفية، والتي كانت تقوم على منطق أرسطو وشرح كتبه المختلفة في الطبيعيات، والإلهيات، والأخلاق والسياسة، وتهذيب الكتب الطبية والرياضية المأثورة عن مدرسة الإسكندرية.
ولا غرابة أن يدور المذهب الفلسفي حول آراء الفارابي، الذي اعترف له بالرئاسة في الفلسفة، حتى سمَّوه المعلِّم الثاني. ويمكن تلخيص هذه الآراء في أمور ثلاثة؛ المنطق، وتسلسل الوجود ﺑ «الفيض»، ونظرية الاتصال.
أمَّا المنطق، فهو أداة الفكر، ومعيار النظر، منزلته من الفلسفة منزلة علم النحو من اللغة، إلَّا أن النحو يُعنى بالألفاظ، على حين يُعنى المنطق بالمعاني. وقد أثَّر الفارابي في الفلسفة الإسلامية من جهة المنطق ثلاثة أنواع من التأثير؛ الأول: حسن صياغة العبارة المنطقية، ممَّا يجعلها مقبولةً مفهومة. والثاني: العناية بالتحليلات الثانية؛ أي البرهان، بعد أن كان السابقون لا يتجاوزون التحليلات الأولى؛ أي القياس. والثالث: دخول المنطق في علم الكلام، حتى أضحى بعد القرن الخامس الهجري جزءًا من مباحثه.
وأمَّا تسلسل الوجود صدورًا عن «الواحد»، فإنها نظريةٌ مزج فيها الفارابي بين «الفلسفتَين»؛ أي بين أفلاطون وأرسطو، وكذلك أفلوطين، فأصبحت النظرية مستقيمةً لا تعتمد على أساسَين هما الوجود و«الواحد»، بل على أساس واحد مداره أن الوجود هو «الواحد»، وعن الموجود الأول صدرت جميع الموجودات؛ «على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر.» صدر عن الموجود الأول العقل الأول، ثم يصدر عنه العقل الثاني، وهكذا إلى نهاية العقول العشرة. والعقل العاشر هو الذي يحكم عالم الأرض، عالم الكون والفساد، والعناصر الأربعة. وإنما كانت العقول عشرةً لأنها تُحرِّك الكواكب والأفلاك، وهي بحسب علم الفلك اليوناني المتأخِّر عشرة.
هذه النظرية مشتقة أساسًا من الأفلاطونية المحدثة، وتحل مشكلة المادة القديمة عند أرسطو؛ لأن الهيولى في هذا المذهب متصلة بوحدة وجود مع الموجود الأول، وهذا يتعارض تمامًا مع الإسلام القائل بالخلق من عدم. وقد رأينا أن الكندي كان أقرب إلى روح الإسلام حين نادى بالخلق، بل إنه يستعمل مصطلحًا أدقَّ من معنى الخلق، وهو الإبداع. فلمَّا شاعت فلسفة الفارابي عن طريق مدرسته، وعن طريق ابن سينا فيما بعد، لم ينقطع هجوم أهل السُّنَّة على الفلاسفة، حتى رفع الغزالي لواء الحملة عليهم في تهافته.
والمقصود بنظرية الاتصال؛ اتصال عقولنا بآخر العقول المتسلسلة عن «الواحد» وهو العقل العاشر. وإذا تيسَّر لنا الاتصال بالعقل الفعَّال؛ أمكن الاطلاع على كل علم بطريق «الفيض» عن الأنوار الإلهية. ويتصل الفيلسوف بهذا العقل بطريق «البحث النظري»، ويتصل النبي أو الولي بطريق «المخيِّلة» التي تقبل الإلهامات في الرؤيا الصادقة أو في اليقظة على هيئة الوحي. وبهذا المسلك وفَّق الفارابي بين الحكمة والشريعة؛ لأن الحقائق الدينية والحقائق الفلسفية كلاهما ثمرة «الفيض» الإلهي؛ إمَّا عن طريق المخيِّلة أو النظر والتأمُّل.
(٣) مدرسة ابن سينا
مدرسة الفارابي وهي مدرسة بغداد — وقد عُرفت بهذا الاسم — كان معظمها من النصارى، بدأت بأبي بشر متَّى ويوحنا بن حيلان، وبلغت أوجها عند الفارابي وتلميذه يحيى بن عدي، وكانت تُعارض مدرسة الكندي معارضةً جوهرية، منهجًا وموضوعًا.
وتحدَّث عن الفارابي وأعلن رأيه فيه، على الرغم من أنه حلقة في سلسلة المدرسة البغدادية، كما رأينا من قبل. قال ابن سينا: «وأَّما أبو نصر الفارابي، فيجب أن يعظم فيه الاعتقاد، ولا يجري مع القوم في ميدان، فيكاد أن يكون أفضل من سَلَف من السَّلف.»
وقد خلَّف لنا ابن سينا سيرة حياته بقلمه، ثم أكملها تلميذه، أبو عُبيد الجوزجاني، فتيسَّر بذلك معرفة كثير من دقائق حياته العلمية، وطريقته في التدريس، وكيف كان ينصب مجلس التعليم. وهو الشيخ الرئيس، أبو علي، الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، وُلد ٣٧٠ﻫ، وتُوفي ٤٢٨ﻫ. والشيخ تدل على الأستاذية، والرئيس إمَّا لأنه تولَّى رئاسة الوزارة، والأغلب أنه لقب يدل على أنه رئيس الفلاسفة. أبوه من بَلْخ، وانتقل إلى بخارى في أيام الأمير نوح بن منصور، وتعلَّم في بخارى وهو صبي النحو والعربية والقرآن والأدب. وكان أبوه يجتمع في داره بداعي الإسماعيلية، فسمع منه حديث النفس والعقل والفلسفة والهندسة، ثم تعلَّم حساب الهند من رجل يبيع البقل. وقرأ على الناتلي المتفلسف المنطق والهندسة والفلك، وتعلَّم الطب بنفسه، ورجع إلى العلوم الفلسفية فقرأها على نفسه، وانتهى إلى كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، فلم يفهم منه شيئًا حتى اشترى كتاب الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة؛ فانفتح له مغاليق ذلك الكتاب. وعالج نوح بن منصور فأُعجَب به، وأدخله مكتبته فاطَّلع على نفائسها وحفظ ما فيها عن ظهر قلب. وتنقَّل في مدن فارس حتى بلغ جرجان حيث قصده الجوزجاني، الذي ألحَّ عليه أن يهتم بالتصنيف، ويشتغل الجوزجاني بالضبط.
وفي جرجان اشترى له أبو محمد الشيرازي دارًا، وأنزله فيها، وكان الجوزجاني يختلف إليه فيها، ولعلَّه كان يستقبل غيره من الطلبة، وهناك أملى على الجوزجاني كتاب المبدأ والمعاد، وأول القانون، وكثيرًا من الرسائل. وانتقل إلى الري واتصل بخدمة مجد الدولة، ثم خرج إلى قزوين ومنها إلى همدان، واتصل بشمس الدولة، وتقلَّد له الوزارة.
في هذه الفترة التي تولَّى فيها الوزارة، ألَّف كتابَيه العظيمَين وهما؛ الشفاء في الفلسفة، والقانون في الطب. قال الجوزجاني يصف مجلسه: «فكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم، وكنت أقرأ من الشفاء نوبة، وكان غيري يقرأ من القانون نوبة. فإذا فرغنا حضر المغنُّون على اختلاف طبقاتهم، وهُيِّئ مجلس الشراب بآلاته. وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمةً للأمير.» وكان من عادة ابن سينا الإملاء في الأغلب، وفي بعض الأحيان كان يكتب نسخةً في الموضوع الذي يلتمسه السائل.
ولمَّا كثر تلاميذه، وذاع صيته، «رسم الأمير علاء الدولة ليالي الجُمعات مجلس النظر بين يدَيه، فحضره سائر العلماء على اختلاف طبقاتهم، والشيخ في جملتهم، فما كان يُطاق في شيء من العلوم.»
ولم يذكر الجوزجاني وهو يُدوِّن سيرته أيَّ اسم من تلاميذه، وبخاصة تلميذه أبو الحسن بهمنيار الذي لازم الشيخ الرئيس في مجلس تدريسه أثناء تولِّيه الوزارة لشمس الدولة. وقد وصف لنا مجلسه وصفًا أدق، قال: «حضرت أنا وجماعة من تلامذة شيخنا الرئيس بُكرة سبت مجلس درسه الشريف، فاتفق أن ظهر منَّا في ذلك اليوم فتور عن إدراك ما كان يُحقِّقه الشيخ، فقال لنا: كأنكم صرفتم بارحتكم في التعطيل! فقلنا: نعم. كنَّا أمسِ مع جمع من الرفقة في نزهة، فلم يتيسَّر لنا مطالعة الدرس، ومراجعة ما كنا فيه. فلمَّا سمع ذلك الشيخ تنفس الصُّعَداء وفاضت عيناه بالدموع، وقال: إنما أسفي على أن اللاعب بالحبال قد يبلغ أمره في لعبه الذي هو من الملَكات الجسمانية إلى حيث تتحيَّر في غرابة علمه عقول ألف ألف عاقل. ولكنكم لمَّا لم يكن عندكم للحِكَم والمعارف الحقة مقدار ومنزلة؛ آثرتم البطالة واللهو على اكتساب العلم والفضيلة، فلم تقدروا على أن تُنزلوا المَلَكة الروحانية من أنفسكم منزلةً يتحيَّر فيها جهلة الزمان.» وتُوفي بهمنيار سنة ٤٥٨ هجرية، وأهم ما ألَّفه من الكتب «التحصيل» يشرح فيه فلسفة ابن سينا.
ومن تلامذة بهمنيار، أبو العباس اللوكري، كان عالمًا بأجزاء علوم الحكمة، دقيقها وجليلها، وعنه انتشرت علوم الحكمة في خراسان. ثم تتلمذ له أفضل الدين الغيلاني، وأخذ عن الغيلاني صدر الدين السرسخي، تُوفي ٥٤٥ هجرية، وأخذ عن السرسخي فريد الدين داماد النيسابوري، وهذا الأخير أستاذ نصير الدين الطوسي، آخر تلاميذ هذه المدرسة السينوية، وشارح كتاب الإشارات للشيخ الرئيس، ومجدِّد التعليم الفلسفي والرياضي، وصاحب حلقة جمعت كثيرًا من طلبة الفلسفة والعلوم الهندسية والعقلية، تُوفي ٦٧٢ هجرية. وتمتد مدرسة الطوسي حتى تبلغ ذروتها عند ميرادماد (١٠٤١ﻫ) في أصفهان وتلامذته.
فما هي تعاليم المدرسة السينوية؟
الحق أنها امتداد لآراء الفارابي، إلَّا أن ابن سينا كان أوسع عبارةً وأكثر شرحًا. ولقد كان طبيبًا أكثر منه فيلسوفًا، وكان كتابه القانون في الطب المرجع في أوروبا اللاتينية حتى أوائل القرن الثامن عشر. وقد تأثَّرت فلسفته بطبه في اصطناع المنهج التجريبي الدقيق. أمَّا في الفلسفة، فإن الشفاء يُعَدُّ موسوعةً فلسفيةً تشمل المنطق، والطبيعيات، والرياضيات، والإلهيات، بحسب ما رتَّبه أرسطو، أو بحسب الفلسفة المشَّائية، فهو يحذو حذو المعلِّم الأول وشُرَّاحه مع التأليف بين الآراء المختلفة، والتوفيق بينها. وأثره في المنطق لا ينكر، ولا شك أنه مسئولٌ عن إذاعة المنطق بحالته الراهنة في العالم العربي، حتى إن كتاب البصائر النصيرية في علم المنطق، والذي حقَّقه ونشره الأستاذ الإمام محمد عبده، وكان يقوم بتدريسه، يُعَد تلخيصًا أمينًا لآراء الشيخ الرئيس.
وأثره في الإلهيات لا يقلُّ عن أثره في المنطق. والمقصود بالإلهيات، أو العلم الإلهي، ما نُسمِّيه اليوم بالميتافيزيقا. تحدَّث فيه عن الواجب، أو واجب الوجود، وعن تسلسل الموجودات عن الواجب، وعن العلل. فواجب الوجود هو الموجود الذي متى فُرض غير موجود عرض منه محال. وممكن الوجود هو الذي متى فُرض غير موجود أو موجود لم يعرض منه محال. وقد مرَّ بنا أن الكندي كان يصف الله بأنه الحق، وأن الفارابي كان يصفه بأنه «الواحد»، وهنا نرى نظرة ابن سينا وجوديةً ومنطقية؛ فالله هو واجب الوجود لذاته، والواجب مفهوم منطقيٌّ يُقابل المستحيل، ويتوسَّط الممكن بينهما. والموجود هو حجر الزاوية في الفلسفة المشَّائية، على حين أن «الواحد» كما رأينا فوق الوجود في فلسفة أفلوطين.
أي إن الفرق بين المعلِّم الثاني والشيخ الرئيس أن الفارابي يجنح إلى الأفلاطونية، على حين يميل ابن سينا إلى المشَّائية. وليس هذا هو الفرق الوحيد بين الحكيمَين وبين المدرستَين؛ لأن ابن سينا اصطنع في آخر حياته فلسفةً أخرى خلاف المشَّائية، التي بسطها في الشفاء وفي النجاة، هي التي يُسمِّيها الفلسفة المشرقية، كما تتمثَّل في الإشارات. والفلسفة المشرقية إشراقية، صوفية، متأثِّرة بالمشرق في فارس.
وقد فطن الغزالي (٤٥٠–٥٠١ هجرية) لِما في آراء ابن سينا من خطر على الإسلام، فكتب «تهافت الفلاسفة» يُكفِّرهم في عشرين مسألة، على رأسها القول بقدم العالم، وعدم علم الله بالجزئيات، ونفي المعاد. ولم يستطِع ابن رشد في «تهافت التهافت» أن يُقنع الجمهور بعدم صحة هذه التهم، وانتهى الأمر بالفلسفة إلى الانزواء، ودخلت في مباحث علم الكلام الذي أصبح يُسمَّى علم التوحيد.
•••
أشرنا إلى أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جدَّد مدرسة ابن سينا، فاشتغل بالمنطق ورجع إلى كتبه القديمة، كما أنه في «رسالة التوحيد» سلك مسلك الشيخ الرئيس في إثبات «الواجب». ولكن محمد عبده لم يكن ملخِّصًا لابن سينا أو شارحًا لآرائه، بل كان صاحب مدرسة فكرية تدعو إلى تجديد النظر الديني بالعودة إلى الإسلام في منابعه الأولى، وإلى إصلاح المجتمع عن طريق إصلاح الدين والأخلاق والفكر، والخروج على التقليد والجمود، وإلى تحكيم العقل والفطرة السليمة. وكان محمد عبده قد أخذ هذا الاتجاه الحر الجديد من جمال الدين الأفغاني، الذي يُعد بحق رئيس المدرسة.
وأخذ عن محمد عبده مصطفى عبد الرازق، الذي استطاع أن ينشر تعاليمه الفلسفية في الجامعة المصرية حين عُيِّن للتدريس فيها سنة ١٩٢٧م، وعندئذٍ أصبح تعليم الفلسفة موجودًا في مدرسة ثابتة ويُدرَّس من فوق منبر جامعي. وخلاصة رأي الشيخ مصطفى عبد الرازق أن المسلمين كانت لهم فلسفة أصيلة لا هي يونانية، ولا هي فارسية وهندية، ويمكن التماس هذه الفلسفة في أصول الفقه. وهذه النظرية ليست جديدةً مبتكرةً كل الابتكار؛ لأن كثيرًا من المفكرين في الإسلام لم تنقطع معارضتهم للفلسفة، وبخاصة للمنطق باعتبار أنه أداة البحث فيها، ولابن تيميَّة كتاب هام في نقد المنطق اليوناني.
ولكن تيَّارات العصر الحديث لم تكن تسمح بالعزلة عن الأفكار المعاصرة، وعن الفلسفات الأوروبية التي نشأت في أوروبا منذ القرن السابع عشر على يد ديكارت في فرنسا وبيكون في إنجلترا، ثم في القرن الثامن عشر على يد كانط في ألمانيا، فكان لا بد للفلسفة العربية المعاصرة أن تأخذ في الاعتبار هذه الفلسفات الوافدة من الغرب، والعمل على التوفيق بينها وبين تراثنا الفلسفي الموروث.
وكاتب هذه السطور يعتز بأنه كان تلميذًا لمصطفى عبد الرازق بالجامعة المصرية، قرأنا عليه البصائر النصيرية في المنطق، ولباب الإشارات لابن سينا في محاضراته. ولازمته بعد ذلك طول حياته، وعليه قمت بتحضير رسالتي، ثم انتقلت إلى التعليم بالجامعة، متابعًا روح المدرسة العقلية الحرة التي بدأها جمال الدين، ثم محمد عبده، ثم مصطفى عبد الرازق.